مجلة حكمة
ماركس الحريكة الميثاقية إرنست جونز صديق

كارل ماركس إرنست جونز: صديقٌ من الحركة الميثاقية – تييري درابو / ترجمة: محمد حمد النيل


مقدمة المترجم (الحركة الميثاقية، وإرنست جونز، وماركس)

اعتبر ابن خلدون أن الفكر المرتبط بعلم التاريخ وبعلم الاجتماع “فن العمران” هو فكر تاريخي، بمعنى أنه فكر غير ثابت ،يتخذ في كل زمن أشكالاً وصيغاً ومفاهيم تتلاءم وتتطابق مع حاضرها، وعندما نقول زمن فنحن لا نحسب الزمن بكونه ماضي سحيق أغبر بل نتعاطاه بأصغر الوحدات الزمنية. الأمر وما فيه أننا كيسار يطمح للتخلص من شَلله الذي دام عهداً طويلاً لسنا  بحاجة إلى فرض تحولات فكرية عما ورثناه فحسب بل بحاجة أيضا لمراجة تاريخية تتضمن قراءة أنماط التحولات التي حدثت لحركات الفكر الماركسي والتحولات التي وجب حدوثها على مختلف منحنيات التاريخ، لنخلص إلى صورة أشمل في فهم أثر التاريخ في الفكر وتشكلاته الآنية، فإذا عدنا إلى لحظات التصدع في مختلف الحركات حول العالم نجد أنه تنازع داخلي بين أجيال أو طبقات الحزب نفسه فمن الأمثله على تنافر الأجيال هو الخلاف في الحزب الشيوعي العراقي بين شبابه وشيوخه الذي عارضوا تحالف الحزب مع التيار الصدري، وقد يبدو هذا الخلاف لوهلة خلافاً سياسياً، ولكنه في حقيقة الأمر خلاف نظري تاريخي بين الفئتين في فهم تناقضات البنية المجتمعية وطرحها على الصعيد السياسي، وهناك الخلاف الطبقي كما حدث في الحزب الشيوعي السوداني في انقلاب الرائد هاشم العطاء عام 1971 وقد سبقه جدلٌ كثيف في اروقة الحزب إلى أن قادت برجوازيته الصغيره هذا الانقلاب ومن بعدها سقط اليسار السوداني في غيبوبة ، هذه التشققات هي نتيجة لسبات طويل في نفس المنحى الفكري الذي يعيد نفسه باستمارار إلى أن يُكسر هذا الروتين بعاصفة قد تبقي وراءها الحميد وقد تبقي الخبيث، فما حدث في المجر مثلا في حزب العمال كان اسوأ مما آل إليه الأمر في السودان فالفجوة بين الأجيال خلقت تياراً شبابياً أهوج، وقد كان تأسيس هذا الفرع  للحزب عام 1964 محل ترحيب. فالمظاهرات الأولى المناهضة للأسلحة النووية والتي جرت في عيد القيامة مطلع الستينيات قد أدت إلى تسييس أغلب الأعضاء الجدد في الحزب. وكان هذا “الشباب النووي” قد صُنف في كثير من الأحيان في خانة أقصى اليسار، إلى أن احتل هذا المكان في النهاية بالفعل، إلا أن ذاك التحالف بين الجيل الشاب والجيل القديم في حزب العمال لم يدم طويلاً: إذ انفتحت في ستينيات القرن الماضي هوة بين الأجيال في اليسار المتشدد أيضاً، فالحرس القديم لم يقبل بـ “عجلة الشباب وتعجرفه” ـ لذلك حُلت الأفرع الشبابية للحزب ومست تلك التجربة حزب العمال السويسري أيضاً ، لماذا جاءت هذه النهاية السريعة؟ بعد عصر ستالين وبعد غزو السوفيت للمجر حاول كل من المنشقين في الشرق والاشتراكيين في الغرب البحث عن حلل جديدة للاشتراكية. فالكثير من الأشخاص الذين كانوا سيرسلون في الفترة حول 1968 إلى موسكو مكافأة لهم على قناعاتهم كانوا سيعادون من هناك على الفور. ولقد تعمقت الاختلافات: فهؤلاء المنظِّرون لليسار الجديد لم يعودوا يرون المصانع كأدوات رئيسية للقهر، وإنما كانت برأيهم هي وسائل الإعلام: فالنضال، كما كتب الفرع الشبابي لحزب العمال بزيورخ في ميثاق تأسيسه، يجب أن يتم على الصعيد “الفكري والثقافي (أي الأيديولوجي)”. ويجب ألا تكون الأزمة الاقتصادية وإنما تلك “الأزمة الفكرية والوجودية للسويسري العامل والمعاصر” وتحول النقد اليساري إلى نقد للثقافة، وكانت لحظة انحطاط اليسار الجديد هي عندما تحمّس هذا اليسار للتّنانير القصيرة بتعبير دافيد أوجستير ، الذي حدث أن فرض التحول قد كبت سنيناً عديدة فولدت تحولات ومسارات مشوهة في غير موضعها ونحن هنا بهذا الصدد لندرس التحولات التي حدثت لماركس نفسه بين عقود حياته، اتسم كارل ماركس بالمرونة الفكرية طيلة حياته فقد بدأ هيغلياً في بداية مشواره الفلفسي ثم اعتنق اثناء اعداده لبحث الدكتوراه الفلسفة المادية، وتَعَرف بعد ذلك في فترة إقامته في باريس على أفكار الاشتراكيين الفرنسيين مثل سان سيمون، وشارل فوريي، وبيير جوزيف برودون وبعد أن كتب الأخير فلسفة البؤس إعتزله ماركس راداً عليه بكتابه بؤس الفلسفة بعدما رافق إنجلز والذي أصر عليه على توجيه فلسفته ناحية الإقتصاد وعلمه الإنجليزية ليقرأ سميث، هكذا كان ماركس يغير مساراته ويلائم أفكاره من حين لآخر فلعلنا نواكب يسارنا بقليل من مرونة ماركس.

 ففي هذا المقال نلمح انتقال فكرة ماركس تجاه احدى القضايا الهامة لدول الجنوب وهي الإمبريالية، وهنا نشير إلى أن الهم النظري لماركس هو دراسة الرأسمالية وتحليلها بكشف قوانين عملها، فهو لا يتعرض للقضية بشكل مباشر إلا من باب توضيح بعض الوجوه في تطور الرأسمالية، فهو يحاكم الرأسمالية في كتاباته من وجهة نظر الرأسمالية نفسها، أما مسألة الكولونيالي ومعالجة مشاكلها فهي تقع على وجهة نظرنا كمواطنين في دول الجنوب، ولكن هذا على صعيد الدراسة النظرية اما ماركس السياسي وحتى الصحفي فقد بذل الكثر تجاه قضية التحرر من الاستعمار وعلى الرغم من أن هذا المقال ذو طابع قصصي إلا أنه يفيدنا بلمحات عن حياة ماركس.


ماركس وصديقٌ من الحركة الميثاقية

الصداقة التي جمعت كارل ماركس مع الشاعر العمالي الراديكالي إرنست جونز،. قادته للإيمان بضرورة مناهضة الإستعمار كخطوة ضرورية للتغلب على الرأسمالية.

في فيلمه The Young Karl Marx ، يعرض المخرج راؤول بيك مشهدًا يقوم فيه فرنسي مجهول من أصل أفريقي بإبداء امتعاضه خلال أحد خطابات بيير جوزيف برودون في باريس.  على عكس ما أظهره التجمع العمالي المحيط به،يقطع الرجل الأسود الذي يرتدي ملابس وقبعة أنيقة  الخطيب لفترة وجيزة لحثه على التحدث عن الحرية ليس فقط للحرفيين الذين كانت صناعتهم مهددة بشكل متزايد من قبل الصناعة ، ولكن أيضًا لما دونهم من الطبقة الدنيا من البروليتاريين – الحفاريين، والميكانيكيين وصاهري المعادن “يصرخ”.

 يجلس ماركس وشريكته في الحياة والفكر “his co-thinker” ، جيني ، بجوار هذا المواطن الملون citoyen de couleur ، كلاهما ينظران بسعادة بسبب ملاحظته النقدية لأب الأناركية الفرنسية.

 من المؤكد أن المشهد لا ينسى ، لأنه ليس لماركس بل لشخص أسود – ربما تم ربطه بشكل مباشر أو من قبل الاستعمار والرق – الذي يحض برودون على حمل مفهوم الطبقة العاملة بما في ذلك بروليتاريا المصنع. لم يتحول النقاش في المشهد بشكل صريح إلى مسألة البروليتاريين اللذين يعانون من العنصرية والمستعبدين في العالم الإستعماري ضمنيا ،  لأن المقصد ومن خلال شخصيته السوداء ، يذكرنا بيك أن ماركس كان يعيش حينها ويفكر من قلب إمبراطورية استعمارية ، حيث لا تزال الممتلكات الخارجية تهيمن عليها العبودية العرقية ،وأن هذا هو السياق الأكبر الذي شَكل لا محالة تكوين الطبقة العاملة في النواة الحضرية.

 

لكن في الفيلم كما في التاريخ ، لم يكن ماركس الباريسي منشغلاً فكريا وسياسيا بالاستعمار والرق. لذا لم يجعل بيك ماركس يتحدث مع المحاور الأسود ، الذي إتفق معه في النظرة ، ولكنه اتجه إلى برودون ، وقدم له نقداً شديد اللهجة. هذه البقعة العمياء الاستعمارية التي كشف عنها المخرج الهايتي في تفكير ماركس الشاب لم تكن مجرد خصوصية شخصية. إنما عكس سياسة الطبقة العاملة التي اكتشفها وتبادلها  في المقاهي والصالونات والمآدب في باريس  Ville Lumière بين عامي 1843 و 1845.

 هذا لا يعني أنه بالضرورة قد كان مؤيدًا للعبودية.  على الرغم من دعم جميع الاشتراكيين الفرنسيين البارزين ، من برودون و لويس بلان إلى بيير ليرو ، القضية الاستعمارية في أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر كوسيلة لحل ما يسمى بـ “السؤال الاجتماعي” و تصدير الاشتراكية في الخارج. لذا فإن الدعوة والقتال من أجل تحرير المظلومين في الجزائر أو غوادلوب لم يكن مصدر قلق ملح لسياساتهم، وبالتالي ، لم يصبح مصدر قلق ملح للبروليتاريا “المجردة abstract” proletariat” التي قرر ماركس على أكتافها ، في مخطوطاته في باريس ولاحقًا في البيان الشيوعي ، تفويض مهمة الإطاحة بالرأسمالية.

بدأت الأمور تتغير عندما انتقل ماركس إلى لندن. إن انغماسه في ثقافة مختلفة للطبقة العاملة ، ولا سيما ارتباطه الوثيق بالشاعر  التشاركي الراديكالي العمالي إرنست جونز ، الذي كان المفتاح لتوسيع نظرته.

 

راديكاليْ لندن

بالكاد استقر غبار الثورات في أوروبا  عندما حط ماركس في لندن في أواخر أغسطس 1849 بعد طرده من فرنسا من قبل النظام المحافظ الجديد، قبل عام ، حاول الجناح الثوري للحركة الميثاقية chartism – أول حركة جماهيرية في إنجلترا مدفوعة بالطبقة العاملة – إعطاء الناس القاطنين شمال القناة ربيعهم الخاص*.

في أوائل يونيو 1848 ، ألقى إرنست جونز خطابًا مثيرًا في شرق لندن ، معلناً للحشد أن ضربة الحرية يجب أن توجه أولاً في أيرلندا ، داعياً إلى تحريرها من عبودية بريطانيا.وقد اعتقل على الفور وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين، وسرعان ما تم وضع الخطط بين الراديكاليين الميثاقيين لإثارة تمرد مسلح في العاصمة ، وإخراج جونز من حجز الشرطة ، والإطاحة بالحكومة ، وإنشاء جمهورية.

من بين المتآمرين كان ويليام داولينج وتوماس فاي ، وهما من المناضلين الأيرلنديين الأحرار ، والميثاقي الأسود ويليام كوفاي ، وهو ابن عبد من غرب الهند.وهكذا كان للمؤامرة بعد أطلسي عميق ، وقد نجحت، كان بإمكانهم إحياء تقاليد التمرد الحضري الطويلة لـ “البروليتاريا المتنافرة” “motley proletariat”في جميع أنحاء حوض المحيطات ، كما تعقب المؤرخان بيتر لاينبو وماركوس ريديكر في كتابه هيدرا ذات الرؤوس العديدة The Many-Headed Hydra.

تم اكتشاف المؤامرة وإحباطها بشكل استباقي حدث هذا عندما داس ماركس على أرصفة نهر التايمز. كان إرنست جونز محتجزًا منذ ما يقرب من عام ، وكان كوفي ودولينق  وفاي وثلاثة متآمرين آخرين في طريقهم إلى “العبودية” كعقوبة مدى الحياة في أستراليا. ضعفت الحركة الميثاقية بشكل خطير ، لكن تقاليدها السياسية الراديكالية استمرت في العيش.

بقيادة محرر صحيفة عصامي ، بحار سابق وزعيم الديمقراطيين الأخوين جورج جوليان هارني كانت الحركة الميثاقية في طريقها إلى الإحياء من خلال جناحها اليساري. بعد استخلاص الدروس من هزيمة الثورة في إنجلترا ، كان هارني يعيد تنظيم الميثاقية كحركة مستقلة للطبقة العاملة على أساس اشتراكي جديد – “الميثاق والمزيد  ” “charter and something more” ، أو كما ذهب الشعار.

ماركس ، الذي قطع العلاقات مع الألمان من الرابطة الشيوعية التي مقرها لندن كان معجباً بصحيفة الجمهورية الحمراء لهارني وانضم إلى دائرته بحماس عام 1850.في نوفمبر من ذلك العام ، نشرت صحيفة هارني ، الجمهورية الحمراء ، الترجمة الإنجليزية الأولى للبيان الشيوعي. في هذه الأثناء ، تم إطلاق سراح إرنست جونز من السجن واستأنف نشاطه كميثاقي  بالانضمام إلى حركة هارني ، حيث صادق ماركس.

 

ماركس وجونز

 كان إرنست جونز وماركس يبلغان من العمر اثنين وثلاثين عامًا عام 1850 ، وكلاهما كانا ألمانيين بالولادة. ولد جونز في عائلة أرستقراطية بريطانية في برلين وتلقى تعليمه هناك حتى البلوغ ، لم يكن بإمكان جونز التواصل بطلاقة بلغة ماركس الأم فحسب ، بل يمكنه أيضًا مشاركة جزء من ثقافة مشتركة معه ، مما ساعد على تعزيز صداقتهما. وسرعان ما جمعهما العمل السياسي .

تأثر ماركس بسرعة ببراعة جونز الخطابية. حضر محاضرات وخطب إرنست جونز عدة مرات بين عامي 1850 و 1851 ، حيث كان الأخير يقوم بجولة في إنجلترا لإعادة بناء القاعدة للحركة الميثاقية. ومن وجهة نظر ماركس ، كان جونز آنذاك “الممثل الأكثر موهبة واتساقًا وحيوية للحركة الميثاقية” ، مما دفعه إلى تولي دور القائد الفعال داخل الهيئة الميثاقية، عندما قرر جونز إطلاق صحيفته الأسبوعية الخاصة به ، ملاحظات إلى الشعب ، في مايو 1851 ، لم يتردد ماركس في تقديم نفسه كمساهم .

كان ماركس يكسب بعد ذلك دخله الرئيسي كرئيس مراسلي أوروبا  لصحيفة نيويورك ديلي تريبيون ، لكن المساهمة بكتابته في جهاز صحافي للحركة الميثاقية كان وسيلة للتواصل مباشرة مع الحركة العمالية البريطانية، كتب مقالين في صحيفة الملاحظات ، كلاهما عن ثورات 1848 في فرنسا ، وشارك في كتابة ستة مقالات أخرى على الأقل مع إرنست جونز ، بالإضافة إلى ذلك ، وكما اعترف لاحقًا لإنجلز ، كان ماركس مسؤولًا عن تقديم التوجيه والمساعدة المباشرة المزعومة في كتابة جميع المقالات الاقتصادية التي ظهرت في مجلة جونز الأسبوعية بين 1851 و 1852 ، والتي بلغت أكثر من ثلثي جميع المقالات المنشورة فيه .

هذا الانخراط غمر ماركس في بيئة فكرية جديدة ، تختلف عن سابقاتها ، وبالتالي تعلم الكثير من الأفكار والآراء السياسية للحركة الميثاقية ، بما في ذلك معاداة الإمبريالية “anti-imperialism”.

 

الميثاقيون ضد الإمبراطورية

 من خلال تعاونه الصحفي وشراكته السياسية مع إرنست جونز ، وخلافا لسنواته الباريسية ، ربط ماركس نفسه بحركة عمالية لها تاريخ طويل في مقاومة الغزوات الاستعمارية ، وتمتد إلى القرن السابع عشر منذ  عهد الديقرز والليفلرز (Diggers and Levellers)*  وتمتد إلى القرن الثامن عشر عبر اليعاقبة”Painite Jacobins”* ،في خمسينيات القرن التاسع عشر ، كان جونز بلا شك أكثر المدافعين ثباتًا وحماسًا عن هذا التقليد في إطار الحركة الميثاقية . أرسلته معاداته للاستعمار إلى السجن عام 1848 ؛ وتعمق هذا الموقف بعد خروجه منه .

بدأ إرنست جونز من زنزانته بكتابة الشعر ك “العالم الجديد ، قصيدة ديمقراطية”. افتتحت الملحمة العدد الأول من صحيفة ملاحظات إلى الشعب  Notes to the People ، وأصبحت أشهر نص لجونز. إنها تتصور ثورة عالمية اندلعت في الهند التي تحتلها بريطانيا ، حيث تقول :

 

يتدفق سيل عنيف من حقوق الشعب

 وجنود سيبوي ، يستيقظون ، فرقة وراء فرقة

 تذكروا أخيراً أن لديهم وطن!

 

تنتشر العاصفة الثورية المضادة للاستعمار بجوار أفريقيا وتنتقم من انتهاكات الرق في أعقابها ، مستحضرة أرواح الثوريين الهايتيين.

 

في أعماق الجنوب المحترق تظهر سحابة ،

 الغضب المشتعل لأربعة آلاف سنة ،

 مهما كان اسم نزوة التاريخ ،

 مور ، عفريت ، أثيوبيا ، نيغرو “زنجي” ، ما زالت هذه الأسماء تعني عبد!(*)

 

وأخيرًا ، تجتاح الثورة في إفريقيا أمريكا الوسطى والجنوبية ، حيث أطاح المتمردون بقرون من الحكم الإمبراطوري الإسباني نيابة عن الشعوب الأصلية المحتلة.

 

اضحكي يالمكسيك!

وصفقي بيرو!

مونتيزوما القديمة كسر الشفق من خلالك .

أعيدي إضاءة مصابيحك ، ياراهبة الشمس الفقيرة !

ربما ترى عمل بيزارو* وقد عفا عليه الزمن.

 

لقد علمت تجربة المقاتلين في لندن الراديكالية إرنست جونز أن المعركة من أجل الميثاق كانت متداخلة مع التحرير من العبودية”abolitionism” ومعاداة الاستعمار”anti-colonialism” ، وأن الطبقة العاملة كانت عالمية ومتعددة الأعراق، لكن الهزيمة الساحقة في 1848-1849 واللامبالاة السياسية التي تسببت بها في بريطانيا وفي جميع أنحاء أوروبا أعادت ترتيب النضالات.لأنه يعتقد الآن أن الهجوم الثوري العالمي في خمسينيات القرن التاسع عشر الرجعي لن يبدأ من قبل العمال في أوروبا ولكن من قبل الجماهير المضطهدة في المستعمرات.

لم يسبق لماركس أن تعاون بشكل وثيق مع شخص لديه مثل هذه الآراء المعادية للاستعمار. وكمساهم وقارئ لصحيفة الملاحظات ، لم يكن بإمكانه أن يفوت قصيدة “العالم الجديد” لجونز أو عموده “مستعمراتنا” ، الذي ندد بالإمبريالية البريطانية وحاول حشد القراء من الطبقة العاملة لدعم حركات المقاومة ضد الحكم البريطاني في الخارج.

تم نقل هذا الخط التحريري إلى صحيفة ورقة الشعب ، التي أطلقها إرنست جونز في مايو 1852 ، لتحل محل صحيفة” ملاحظات إلى الشعب ” ويصبح العضو  الصحفي الرئيسي للحركة الميثاقية، واصل ماركس تعاونه التحريري والصحفي في الأسبوعية الجديدة ، حيث ساهم بما مجموعه خمسة وعشرون مقالة ، أعيد نشر بعضها من صحيفة نيويورك ديلي تريبيون.

أعلن العدد الأول من صحيفة ورقة الشعب عن وجهة النظر المناهضة للاستعمار بهذه المناشدة للعمال:لقد نظرنا ، وبشكل صحيح للغاية ، إلى مصالح الديمقراطية الأوروبية. سواء كان ذلك لنا ، لنلقي نظرة على نضالاتنا الاستعمارية “. بعبارة أخرى ، كان التحرر من الحكم البريطاني في المستعمرات هو ذراع التحرر البروليتاري في القلب الرأسمالي.

يمكننا فقط أن نتساءل عما فكر به ماركس أو قاله لجونز. قبل أربع سنوات في البيان ، اعتبر هو وإنجلز الإمبريالية الغربية كقوة تقدمية ومفيدة تجذب المجتمعات المتخلفة إلى الحضارة البرجوازية. وها هو الآن يتعاون مع شخص لديه رأي مخالف ،وهو وضع دفعه نحو ما كان يمكن أن يدركه تدريبه الهيغلي كموقف للنقد الجوهري، بمعنى ، النقد الذي يخضع ويأخذ بعين الاعتبار المقدمات نفسها لوجهة نظر متنافسة من أجل تجاوزها بالجدلية.

 أول إشارة للتأثير الجدلي لمعاداة إرنست جونز للاستعمار على تفكير ماركس وُجدت في مقاله في نيويورك ديلي تريبيون عام 1852 “الميثاقيون” “The Chartists”.حيث يستشهد بأحد خطابات جونز التي تدين انتهاكات وإكراه الحكم البريطاني في سريلانكا.بعد عام من هذا النص المحوري ، دخلت الهند إلى رادارهم الصحفي ، وصار واضحاً أن ماركس أصبح جزءًا من المجتمع الفكري الميثاقي الذي انجذب إليه واستوعبه.

 

مبادرة مقاومة الاستعمار

 المناقشات التي دارت في البرلمان حول تجديد ميثاق شركة الهند الشرقية من عام 1852 حتى عام 1853 ، والتي كشفت تفاصيل عن كيفية حكم الهند وإدارتها، دفع جونز وماركس إلى تحويل تركيزهما إلى المستعمرة الشرقية البعيدة. وبالطبع ، لا يمكن فصل دورهم الصحفي عن السياسي الذي بلغ تلك النقطة.

كتب جونز أولاً سلسلة من المقالات في صحيفة ورقة الشعب التي نددت بالحكم البريطاني في الهند كنهب مباشر قانوني للسكان الأصليين . في تلك السلسلة المنشورة في مايو 1853 ، يشير إرنست جونز إلى الهند باسم “أيرلندا الشرق” ، حيث لم ينتج عن عقود من “البربرية البريطانية” ، كما وصف الحكم البريطاني أي تقدمًا بل كان بؤسًا شديدًا. كان من المعتاد نقد الميثاقيون للإمبراطورية لعكس الخطاب الاستشراقي السائد للإمبريالية وإلقاء الوصف البربري لا على الدول المُستعمرة بل على الحكم البريطاني.

لكن جونز ، مثله مثل أي ميثاقي آخر وبما يتماشى مع المنظور الذي تم صنعه في قصيدة “العالم الجديد” ، ذهب إلى أبعد من ذلك ودافع عن الاستقلال الهندي ، متمنياً أن ينقلب جيش الجنود الهنود – المعروف باسم السيباويون sepoys – ضد الحكم البريطاني ويطلقون لهيب حركة تحرير وطنية. في مقال لاحق ، ربط جونز استغلال العمال البريطانيين بالقمع الاستعماري للسكان الهنود ، مكررًا أن الهند المستقلة كانت حاسمة في صراعها الطبقي الداخلي.

 

كان ماركس يتقارب نحو حجج مماثلة. وبانتقاله من الأسلوب الشامل للبيان الشيوعي ، تقر مقالاته في صحيفة نيويورك ديلي تريبيون بأن الإمبريالية البريطانية لم تحقق التقدم والحضارة في الهند ولكن حققت الموت والدمار.وقد استخدم أيضًا تشبيه “أيرلندا الشرق” لتصوير الهند ، وهو مؤشر على أن إرنست جونز كان مرتبطًا بتطور تفكيره “المتعدد الخطوط”.

علاوة على ذلك ، أدان ماركس في مقالته الشهيرة في 8 أغسطس 1853 ، “النتائج المستقبلية للحكم البريطاني في الهند” ، وكتب أن الحكم البريطاني في الهند مثال على “البربرية المتأصلة في الحضارة البرجوازية” وصقلها بعبارات تتفق مع الوصف المجازي الميثاقي للإمبراطورية.في نفس المقالة ، اعترف من خلال خطاب جديد مناهض للاستعمار بأن تحرير الهند يمكن أن يحدث إما من انتفاضة الطبقة العاملة في بريطانيا ، أو من حركة تحرر ذاتي بقيادة الجماهير المُستـَعمرة نفسها. كان هذا تحولًا كبيرًا في تفكير ماركس لأنه ، لأول مرة ، حدد سيناريو منح الشعوب الاستعمارية بمبادرة التغيير الاجتماعي الثوري ، وهو موقف يتوافق تمامًا مع موقف جونز.

في عام 1854 ، دعم ماركس تنظيم إرنست جونز الشعبي الذي أدى إلى إنشاء جمعية عمالية وطنية – ما يسمى ببرلمان العمل – في مانشستر. وفي أبريل 1856 ، حضر مأدبة أقيمت للاحتفال بالذكرى الرابعة لورقة الشعب ، حيث ألقى كلمة الافتتاح. وكما أخبر إنجلز ، فإن خطابه يهدف إلى تعزيز مكانته كعضو ومساهم في الحركة الميثاقية. وبنفس الروح القتالية ، نزل ماركس إلى الشارع في وقت لاحق من ذلك العام وشارك في مظاهرة دعم الميثاقي جون فروست ، الذي عاد من عقوبة العبودية.

وهكذا ، بينما كانت الثورة المعادية للاستعمار على وشك الاندلاع في الهند ، استمر نشاط الحركة الميثاقية في احتلال مكان مهم في حياة ماركس.

 

الشبح الهندي

 في ربيع عام 1857 ، كان هناك حديث عن تمرد في الجيش الاستعماري الهندي بقيادة جنود سبوي ثوريين وقد بدأت بريطانيا بتصفيتهم . على الفور ، اهتم ماركس وجونز بالحدث. فما تخيلوه نظريًا قبل أربع سنوات كان يقف أمامهم بلحمه ودمه ، فلم يترددوا في احتضانه.

وبينما أنتجت الصحافة البريطانية روايات تشوه المتمردين وتسخر منهم ، اتبع ماركس وجونز مسار تحقيق صحفي منحرف ولكنه متقارب .منذ البداية ، تعاطفوا مع معاناة السكان الهنود وشجبوا الحكم البريطاني في المستعمرة ، وكلاهما طمح إلى حتمية تحول التمرد إلى حركة تحرير وطنية أوسع نطاقا.كما أصروا على النشاط الذاتي والعقلانية السياسية للهنود المستعمرين كعامل حاسم في تشكيل مسار الأحداث.ويرى ماركس ، مثل إرنست جونز ، أن التمرد هو شبح جديد يطارد أوروبا ، حيث يمكن أن يسبب أزمة تفتح فرصة لهجوم عمال جدد . وكتب ماركس بحماس إلى إنجلز: “الهند هي الآن أفضل حليف لنا”.

طوال صيف وخريف عام 1857 ، صنع جونز مقاربة وكتب عن الانتفاضة من خلال المجاز الميثاقي عن العدالة الجزائية retributivism. وهي فكرة مستوردة من المسيحانية الدينية وتعني أن التاريخ مدفوع بعملية عدالة متأصلة يتم من خلالها تصحيح الأخطاء التاريخية من خلال الانتقام. وهكذا ، أكد في 4 أغسطس 1857 على أن “آثام الأمم لابُد أن يزورها القصاص”.وأن التمرد الهندي كان “مثالاً لافتًا على هذا التوازن التعويضي في التاريخ، هذه هي” وكالة الانتقام”التي وضعها إلى جانب حركات التحرير في بولندا والمجر وإيطاليا.

بعد أسبوع ، كتب ماركس “الثورة الهندية” لصحيفة نيويورك ديلي تريبيون ، حيث أدرك أن التمرد الهندي يجسد جدلية ،دينامية اجتماعية تحويلية مماثلة لما مرت به أوروبا الغربية – وهذا انعكاس كامل لموقفه الأولي فيما يتعلق بالشرق، قال:

(هناك شيء في تاريخ البشرية مثل القصاص. ومن قواعد الانتقام التاريخي أن صكه لا يصوغه المجني عليه بل الجاني نفسه. وأول ضربة تلقاها الملك الفرنسي كانت من النبلاء وليس من الفلاحين. ولن تبدأ الثورة الهندية مع  “الفلاحين  ، المعذبين ، المشوهين والعراة  من قبل البريطانيين ، ولكن مع السيباويون ، المرتدون الملابس، والآكلين الطعام والمدللون من قبلهم) .

من المذهل كيف أن عبارات إرنست جونز تتسلل إلى نثر ماركس  ، مما يشير إلى بصمة دائمة للميثاقية على تفكيره مع ظهور التمرد الهندي. بالتأكيد دفعت الانتفاضة المناهضة للاستعمار في الطرف الآخر من الإمبراطورية البريطانية ماركس إلى مراجعة موقفه ودمج الاستعمار في مفهومه المادي للتاريخ.

 

لكن يبدو أن ماركس من المحتمل جدًا أنه استمد  هذه اللمحة من جونز من أجل المضي بها إلى الأمام ، حيث وجد في تدوينه لنقاشاته الممتدة منذه عهد طويل مع رفيقه والتي تجاوزت العداء الثنائي القياسي في البلدان الرأسمالية الأساسية للبرجوازية مقابل البروليتاريا لتشمل استمرار حركة مناهضة للاستعمار تقلب الحكم الإمبراطوري رأسا على عقب.

بحلول ذلك الوقت ، بدأ إرنست جونز يفكر في إمكانية تشكيل ائتلاف انتخابي مع المعسكر البرجوازي الراديكالي من أجل الفوز بالامتياز للعمال. وبالتأكيد أصيب ماركس بخيبة أمل من هذه الخطوة ، مما دفعه إلى أن ينشق عن جونز في عام 1858، وإن كان ذلك الاشقاق مؤقتاً فقط. ومع ذلك ، كانت هذه الخيبة تجاه الجانب السياسي ، ولم يقل بأي حال تقدير ماركس لجونز الكاتب والناقد الاجتماعي ، كما يشير تماثل تعاطيهما الصحفي حول التمرد الهندي.

إلى حد كبير ، شكلت خمسينيات القرن التاسع عشر عقدًا ميثاقيا لماركس اللندني ، لقد تعلّم طيلة هذا العقد من شراكته مع جونز ، وبصورة أعم ، من تجربته داخل الحركة الميثاقية، وعندما إنقضى ذلك العقد ، ربما يكون ماركس قد خاب أمله بسياسات جونز ، لكن الأهم من ذلك هو تحوله الفكري ، بفضل جونز ، أنه رسخ نفسه بثبات على مسار مناهض الاستعمار و سيستمر في تشكيل مشروعه السياسي الأساسي في السنوات التي تلت هذا العقد.

 

المصدر


(*) حركات متطرفة نشأت في فترة الحرب الأهلية الإنجليزية.

الليفلرز Levellers وهم الداعون لإلغاء الفوارق الإجتماعية – الديقرز Diggers : كانوا من الجماعات الاشتراكية الأوَل ودعوا إلى إتاحة الأراضي للجميع للزراعة وما شابهها “المترجم”

(*) كانت حركة سياسية في بريطانيا العظمى وايرلندا تهدف إلى إرجاع الملك الكاثوليكي المخلوع جيمس الثاني من أسرة ستيوارت

(*) “يقصد الكاتب بالربيع ” الثورة”، لأن تلك الثورات سُميت بربيع الشعوب” “المترجم” .

(*) الشيخ العفريت فنان تونسي من أصل يهودي واسمه الحقيقي أيسران إسرائيل روزيو “المترجم”

(*) المورو أو المور والجمع الموريون أو موروس مصطلح ذو استخدام شعبي وعامي يطلق على كل سكان شمال أفريقيا أي المنطقة المغاربية” المترجم”

(*) فرانشيسكو بيزارو فتح إمبراطورية الإنكا وأسس مدينة ليما عاصمة بيرو الحالية “المترجم”