مجلة حكمة
الديمقراطية كابلي

الديمقراطية بدون وساطة وعودة الحشد لفيروتشيو كابيلي

الكاتبتوفيق نوري

ينطلق فيروتشو كابلي من معطى أساسي يسم الحياة السياسية المعاصرة، يتمثل في ما تشهده السياسة  من تغيرا عميق في العالم بأسره. إذ ثمة ظاهرة تؤكد هذا الطرح بدون منازع، ففي كل الاستحقاقات الانتخابية نلحظ صعوداً لتشكيلات سياسية جديدة مقارنة بأحزاب القرن العشرين، يتعلق الأمر بالنزعة الشعبوية. يتحدد الامتداد الجغرافي لاكتساح الشعبوية في المجال السياسي في أوربا الشرقية، و في أمريكا اللاتينية حيت تم انتخاب بولزانو في البرازيل، و في آسيا مع انتخاب بطل لعبة الكريكيت بباكستان، و أما في الفلبين فقد انتخب ديتريت الذي قامت حملته الانتخابية على تقديم وعود باجتثاث مروجي المخدرات.

لقد أضحت الشعبوية السياسية، في نظر كابلي، ظاهرة عالمية/ شاملة في زماننا اليوم. فسواء لتحقيق الخير العام أو الشر/ الخير الخاص، فقد اكتسحت الشعبوية السياسية كل البلدان حيث يوجد نظام سياسي قائم على التعددية الحزبية. لكن المسألة التي أثارت حيرة الملاحظين هي أن الشعبوية السياسية لم تغز فقط البلدان الحديثة العهد بالديمقراطية، والبلدان التي بها ديمقراطيات هشة، بل امتد انتشارها إلى الغرب الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية. يحدد كابلي مصداقية هذا الحكم في ما حدث في بريطانيا سنة 2016، حيث سيصوت الشعب لصالح خطة البريكسيت، و بعدها بستة أشهر صوت الأمريكيون للميلياردير دونالد ترامب، مكذبين كل التوقعات، و استطلاعات الرأي التي لم ترشحه للفوز. وقد حدث الأمر نفسه في إيطاليا بصعود التيارات السياسية الشعبوية.

  يحدد كابلي علامات تميز الشعبوية السياسية جوهرياً عن التشكيلات السياسية الحزبية للقرن العشرين. ففي مقابل النجب تستدعي كل الشعبوبات، و بدون استثناء، شعباً موحداً و خالصاً. يتعلق الأمر بشعب مختلف كلياً عن «Demos»؛ أي عن مجموع المواطنين. إن الشعب في المرجعية الشعبوية يتغير في علاقته بالحالة العامة، بحسب التوصيف السردي المبتذل الذي يقدمه الزعيم الشعبوي. يمكن لهذا التوصيف السردي لمفهوم الشعب مثلاً أن يتقاطع مع الشعب الكادح، المختلف أنتروبولوجياً عن طفيليات الجنوب، أو أن يتقاطع من جهة ثانية مع المواطنين المختلفين عن الطبقة السياسية الفاسدة. و عليه فإن كل زعيم سياسي شعبوي و كل توصيف سردي يحدد معنى خاصاً للشعب، إلا أنه في كل الحالات يظل هذا الشعب في مقابل النخب المستبعدة و الأنانية. تلتف كل الشعبويات السياسية -في نظر كابلي- بالتساوي حول زعيم ليس له منازع، يتعرفون على ذواتهم في شخصه. فبالمقارنة مع الزعماء السياسيين للقرن العشرين، يعتبر الزعماء الشعبويون بمثابة آباء روحيين؛ إنهم أسياد حزبهم، إذ أنهم لا يؤسسون مجموعات للتسيير الحزبي، و لا يدعون لإقامة مؤتمرات، فضلاً عن أنهم يركزون كل السلط بين أيديهم. يتحدثون عن كل شيء، يقولون أي شيء، وهو ما يشهد عن نزوع طبيعي إلى “اللحظية” و الوجود في كل مكان. إنهم لا يمتلكون نصوصاً نظرية كأطر مرجعية، و لا يتقدمون بحجج مكتوبة. فهم يتفكرون ذواتهم أو بالأحرى يفكرون مع ذواتهم و يقترحون مع ذواتهم باعتبارهم تجسيداً لصوت الشعب.

يبرز كابلي الميزة الثانية التي تجعل مختلف نماذج الشعبويات السياسية تتوحد في روح واحدة يمكن تسميتها ب «اللاسياسة»، و التي تتحدد في أن قوة هذه الشعبويات السياسية على اختلاف ألوانها تستمد من الوسواس القهري الذي يوحي الزعيم الشعبوي بأنه مستهدف في شعبه المختار، الأمر الذي يحفز خياله على اختراع أعداء يظلون دائماً و أبداً موضعاً للشجب؛ إن الشعب في الشعبوية السياسية يتحدد دائماً في تعارض مع عدو معين. حتى و إن لم يبدي الأخير معارضة راديكالية، يقتضي الأمر اختراع عدو آخر. هذا العدو الجديد سواء أكان من الإسلاميين أو المهاجرين يقدم ككبش فداء تثار ضده ضغائن الشعب و مخاوفه.

  يرصد كابلي مظاهر التغير الجوهري في السيناريو السياسي الناجم من صعود الشعبويات السياسية، حيث تتجلى هذه المظاهر في انجرار البلدان إلى حملات انتخابية دائمة، لأن الديماغوجيا السياسية تتجنب أي نوع من مواجهة للأفكار، و تتحاشى كل شرح مفصل للبرامج. و عليه فإن السيناريو العمومي يرسم إنشاءات مختزلة و عدوانية تهيمن على عقول الشعب. فمن جهة و بفضل عودة سريعة للماضي، لا نجد في الإنشاءات الشعبوية طوباويات متعلقة بالزمن الحاضر، نجد فقط طوباويات الأمس. حيث يسقط الرأي العام ضحية للافتتان بالأيام الخوالي. كما أن نبرة عاطفية تتكشف على نطاق واسع، فالزعيم الشعبوي ينزع إلى استدعاء الأمم الماضية التي يعتريها حس الاعتزاز بالهوية الثقافية المتجانسة، و الإثنية النقية المفتقدة.

إن حشد القرن الواحد و العشرين، من وجهة نظر كابلي، إنما هو “حشد إعلامي” بامتياز، حيث تركب الحشود موجة الفقعات الإعلامية من غير أن تمتلك القدرة على اتباع مسار محدد و دقيق المقصد. تحتد لهجة الحشد الإعلامي بخصوص الأسئلة الاستثنائية، و يمكنه أن يمنحها طابعا جذرياً بكل بساطة . تعتري الحشد أمزجة تهيمن عليه و توجه سلوكه كفقدان الشعور بالأمن، الخوف، الضغينة. لذا نجد أن القادة المعاصرين ينشرون داخل هذا للحشد، إنهم مقاولو الخوف الدين يمتلكون قدرة على اختراع كبش الفداء و إهدائه كوجبة للرأي العام، و للتأكيد على هذا المعطى يستدعي صاحب المقال دروس غوستاف لوبون باعتبارها دروسا يتم إحياؤها من قبل القادة الشعبويين عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعرض للأمزجة الأكثر أولية للحشد حيث التماهي مع الزعيم و التبعية له، في مقابل كراهية العدو. يتسم خطاب الحشد الإعلامي بالتجذر إذ تكون مداخلاته قطعية بدون وساطة، و تصدر عن مناقشاته أحكام متطابقة؛ فلا وجود لاختلافات أو فروق بين الآراء المتشابهة و المتقاربة. بالإضافة إلى ذلك تبرز فعالية الاستعمال التقني الدقيق للأنظمة الخوارزمية في استثمار ملفات مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتم تقسيمهم و تصنيفهم إلى مجموعات تواصلية متجانسة. بعد ذلك تتم مساعدة المجموعات المترددة على نشر و مضاعفة تلك المجموعات التواصلية ذات الصدق عبر التلاعب بالمعلومات. فتكون النتائج حول المناقشة العمومية هائلة لصالح تلك التي التي يغلب عليها طابع الابتدال و التفاهة عوض المناقشة العقلانية للأفكار.

  بعد وقوف كابلي على مظاهر النزعة الشعبوية في السياسة، وامتدادها الجغرافي، و كذا سماتها الأساسية و تأثيرها في شبكات التواصل الاجتماعي. يطرح السؤال حول ما الذي أدى إلى حدوث هذه الظاهرة السياسية؟ إجابة عن هذا السؤال يرى كابلي أن الأمر يتعلق بتحول ابتدأت وثيرته منذ مدة طويلة، ليصل الآن إلى مرحلة الذروة. فقد بدأ هذا التحول ينضج شيئا فشيئاً، لكن معالمه لم تتبدى بوضوح إلى في السنوات الأخيرة. و بإيجاز نلامس اليوم النتائج غير المتوقعة لهذا التحول الكبير المتولد عن العولمة و التقدم المتسارع للعلم و التكنولوجيا مع هيمنة الفكر الليبرالي الجديد، حيث تراجعت الوظيفة التنظيمية للدولة. لقد أدى هذا التحول إلى نتائج مدمرة: غياب الوساطة، الوحدة اللإرادية، فقدان القصد و المعنى. فكثير من الروابط الاجتماعية تفككت، و البنيات المدعمة استهدفت في وجودها، و أما النزعة الفردانية فتفشت بين صفوف الجماعات، وسادت مشاعر الاغتراب و الخوف من مستقبل مجهول العواقب.

لعل أبرز نتيجة يقف عندها كابلي هي غياب الوساطة. فإذا كان للديمقراطية الحديثة تاريخ ليس بالطويل نسبياً، فقد نشأت بداية كديمقراطية برلمانية نخبوية، لتتحول مع القرن العشرين إلى ديمقراطية منظمة، حيث دعمت بهيئات وسيطة؛ أي بأحزاب و بشبكة جمعوية قوية تمكن من خلق دينامية النقاش العمومي. فإن التحول الحاصل الموسوم بصعود النزعة الشعبوية قد دمر تلك الوساطة و ما تترتب عنه، حيث أصبح كل فرد يطالب بحق المشاركة الفورية و المباشرة في المناقشة العمومية، و بحق الإعلان عن رأيه بخصوص أي قضية مستعملاً ضمير المتكلم. تلك إذن هي الديمقراطية بدون وساطة.

  في سياق التعبير عن مخاوفه بخصوص مستقبل الديمقراطية، يشير كابلي إلى خيبة الأمل التي أصابت المنخدعين بالجدة الذين تحدثوا عن صفحة جديدة للديمقراطية، حيث انطفأت أنوار أفراحهم، و شرعوا في التساؤل بقلق حول نهاية الديمقراطية التمثيلية و المنظمة. إن المآل القادم، في نظر كابلي، لمآل مجهول بسبب انحلال هيئات الوساطة، فهو يتوقع أخطاراً عميقة؛ فتحت ضربات اللحظية و الاختزال بدأت الديماغوجيا في طور الانتصار، في الوقت الذي يدفع تحطيم الهيئات الوسيطة إلى البحث المهووس عن التماهي بين المواطن المنعزل و بين الحشد، و إلى ارتماء الأفراد في بعد الإنسان القوي.

  يرى كابلي أن ظهور الشعبويات السياسية – إذا ما أخضعناه لمحك النظر الفكري- ينم عن أزمة و انسداد أفق الطرق التقليدية للتمثيلية الديمقراطية. الأمر الذي يقتضي التمعن بالجدية اللازمة في الأسباب التي من أجلها أدت الليبرالية الجديدة إلى تصحير الحياة الديمقراطية و نقل السلط إلى السوق المالية، و بالتالي عبدت الطريق لهمجية الاحتجاج الشعبوي. لكن حتى و لو كانت هذه التأملات البنيوية للديمقراطية أكثر أهمية، فإن المسألة الأكثر استعجالاً تتعلق بالسؤال: إلى أين ستذهب الحشود التي هي الآن في طور احتلال المجال الإعلامي؟ و كيف ستتطور هذه الديمقراطية غير المسبوقة و التي هي بدون وساطة؟ لقد أصبحت مظاهر و مسلكيات النزعة الشعبوية في المجال السياسي مقلقة شيئاً فشيئاً. الأمر الذي جعل بعض الشارحين ينحتون مفهوم «la démocrature»، عبارة جديدة تولدت عن التناقض بين الديمقراطية و الديكتاتورية الذي أفرزه احتلال الشعبوية للمجال السياسي. هل يعني هذا الوضع أن المستقبل القريب سيكون خال من الرحمة و التعاطف؟ في هذا السياق يشير كابلي إلى أن ما نستطيع قوله بيقين هو أن الشعبوية السياسية قد برهنت دائماً على امتلاكها قدرة كبيرة على مقاومة الضغط، الأمر الذي يحتم عليها أن تتحول إلى كائن سياسي غريب في الجسم السياسي الغربي الراهن.

 تأسيساً على تحليله للوضع الذي تعيشه الديمقراطية بدون وساطة و هيمنة النزعة الشعبوية، و توقعاته للأخطار التي ستترتب عن هكذا وضع، يحث كابلي من باب المسؤولية والواقعية السياسية أولئك الذين يأملون في مقاربات أخرى ألا يستهينوا بالصيرورات التي تكتنف ظاهرة الشعبوية السياسية في الزمن الراهن، و انعكاساتها على مستقبل الديمقراطية المنظمة. كما ينبه أولئك الذين يريدون تجنب الانحراف مع الحشد مع خطر التورط في الانسياقات الممكنة مع الديمقراطية المجردة من الوساطة، سيكونون قد أحسنوا صنعاً إن هم ابتدأوا بمناقشتها جدياً، و إلا فإن هذه المهمة لا يمكن أن تكون فيما بعد إلا تعبيراً عن معنى الترهل الفكري و الانحطاط المذنب.

 من خلال وقوفنا على مضامين مقالة كابلي، يتبين أن الرجل قد أسعفته العدة المنهجية و المفهومية لعلم النفس السياسي باعتباره علماً يكشف عن الكيفية التي يتوسط بها الإدراك و العاطفة البشريان لإحداث أثر للبيئة في الفعل السياسي. فقد قادته دراسته للشعبويات السياسية من خلال فحص سلوك و أمزجة كل من القادة الشعبويين و الحشود، و إبراز الصلات القائمة بينهم، إلى تبين الآثار السلبية المترتبة عن صعود النزعات الشعبوية على مصير الديمقراطية التي أضحت بدون وساطة، أو على مصير الاجتماع السياسي بعامة. يبدو أن تحليل كابلي للنزعة الشعبوية و آثارها شكل لديه رؤية تشاؤمية ناجمة عن المبالغة في تقدير الانعكاسات السلبية للشعبوية على مستقبل الديمقراطية. يجد حكمنا هذا على النتائج التي توصل إليها كابلي أساسه في المشهد السياسي الغربي الذي يتسم بمقاومة تبديها القوى الديمقراطية في تجارب انتخابية مختلفة، و التي شهدنا إحداها في نهاية سنة 2020 عند خسارة الشعبوي دونالد ترامب، إنه حدث يشي باستشعار المواطنين للخطر القادم من الشعبويات السياسية، مما يحملهم على القيام برد فعل ضدها في العملية الانتخابية.


 

*Association Lacanienne Internationale (A.L.I.) Rhône Alpes | « Feuillets Psychanalytiques »

2019/1 N° 4-5 | pages 43 à 49

ISBN 9782491099015

 *Ferruccio Capelli: Après des études littéraires à l’Université, Ferruccio Capelli a été nommé Directeur de la Casa della Cultura à Milan La Casa della Cultura est réputée comme étant un Centre de réflexions et de débats de la gauche politique intellectuelle de l’Italie du Nord L’autre trait remarquable de cette institution est qu’elle a accueilli à plusieurs reprises nos Colloques de psychanalyse à Milan.