مجلة حكمة
التفكير الفلسفي التفكير عند الطفل

هل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟ – مايكل بريتشارد


  • مقدمة

حققت الفلسفة دخولها الرسمي في مناهج الولايات المتحدة بصورة نموذجية على مستوى الكلية. ويطرح عدد متزايد من المدارس الثانوية مقدمة للفلسفة، في الغالب في مواد معينة من الأدب للطلاب الذين سيلتحقون بالكلية. وفي أوروبا، وكثير من الدول الأخرى، من الشائع جدًا وبصورة أكبر أن تجد الفلسفة في مناهج المرحلة الثانوية. ومع ذلك، فإن الفلسفة قبل مرحلة الثانوية تبدو غير شائعة نسبياً في العالم. وقد يشير هذا إلى أن التفكير الفلسفي الجاد لا يصلح لمرحلة ما قبل المراهقة. وهناك سببان يمكن تقديمهما لقبول هذا الرأي. أولهما: أن التفكير الفلسفي يتطلب مستوى من النمو المعرفي الذي – كما قد يعتقد المرء – يتجاوز فهم مرحلة ما قبل المراهقة. وثانياً: أن منهج المدرسة مكدس بالفعل بالمواد، وطرح موضوع مثل الفلسفة لن يشتت فحسب ذهن الطلاب عما يحتاجون تعلمه، وإنما قد يشجعهم أيضاً على أن يصبحوا متشككين بدلاً من أن يكونوا متعلمين. ومع ذلك، فإن كلا هذين السببين يمكن الاعتراض عليهما، وسيتم التطرق إليهما تباعاً.

  • هل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟

تشير النظرية الشهيرة لـ (جان بياجيه، 1933م) حول التطور المعرفي إلى أن معظم الأطفال قبل عمر 11 أو 12 سنة غير قادرين على التفكير الفلسفي. وفي اعتقاده أن هذا يعود إلى أن الأطفال – قبل هذا العمر – لا يستطيعون “التفكير حول التفكير” – وهو نوع أعلى من مستوى التفكير الذي يتصف به التفكير الفلسفي. ويشمل هذا المستوى “التشغيلي الرسمي” للتطور المعرفي التفكير التناظري حول العلاقات مثل: “الدرّاجة بالنسبة إلى مقودها كالسفينة إلى دفتها”، حيث “آلية التوجيه” هي العلاقة المشابهة. (غوسوامي، ص21). ومع ذلكـ توجد مجموعة قوية من البحوث النفسية تشير إلى أن وصف بياجيه يقلل بشكل كبير من القدرات الإدراكية لدى الأطفال (أستينغتون، 1993م – غوبنيك وآخرون، 1999م – غوبنيك، 2009م).

         أما الفيلسوف (غاريث ماثيوز) فقد قطع شوطاً بعيداً في ذلك وناقش بإسهاب أن (بياجيه) عجز عن أن يرى التفكير الفلسفي الظاهر لدى كل طفل قام بدراسته. ويقدم (ماثيوز) عدداً من الأمثلة الرائعة عن الحيرة الفلسفية لدى أطفال صغار جداً. فمثلاً:

  • (تيم) البالغ من العمر ست سنوات: بينما كان منهمكاً في لعق الإناء سأل: “أبي، كيف يمكن أن نتأكد من أن كل شيء ليس حلماً؟” (ص1).

  • (جوردان) البالغ من العمر خمس سنوات: عند ذهابه للنوم في الساعة الثامنة مساءً سأل: “إذا ذهبت إلى الفراش للنوم في الساعة الثامنة وصحوتُ في الساعة السابعة صباحاً، كيف أتأكد حقاً من أن العقرب الصغير للساعة قد دار مرة واحدة فقط؟ هل يتعين عليّ السهر طوال الليل لمراقبته؟ وإذا نظرت بعيداً حتى ولو لبرهة فلربما يدور العقرب الصغير مرتين” (ص3).

  • في أحد الأيام قام (جون إدغار) (أربع سنوات) بأول رحلة له بالطائرة، وكان قد اعتاد رؤية الطائرات وهي تقلع وتصعد في السماء ثم تختفي تدريجياً في الفضاء. وعندما توقفت الطائرة عن الصعود وظهرت إشارة السماح بفك حزام المقعد، التفت جون إلى والده وقال بنبرة صوت يعلوها الارتياح الشديد، وإن كانت مشوبة بالحيرة: “إن الأشياء لا تصبح في الحقيقة أصغر في الأعلى هنا” (ص4).

         لقد حصل ماثيوز على كثير من حكاياته من أصدقاء كانوا يعرفون اهتمامه بالتفكير الفلسفي لدى الأطفال. وليس من النادر أن يواجه الكبار ذوي الاهتمام بذلك مثل هذه النماذج في حياتهم.

         ولكن قد يُعترض بأن هناك حاجة لأكثر من مثل هذه الحكايات لإظهار بأن الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي الجاد. وكل ما يلزم هو دليل على أن الأطفال يستطيعون المناقشة الفلسفية “المستمرة”. ويقدم ماثيوز (1984م) أمثلة توضيحية على هذا الأمر أيضاً. وعندما كان يجتمع مع مجموعة من الأطفال أعمارهم من 8 – 11 سنة كان يستخدم المثال التالي لعمل قصة للمناقشة:

    «وجد (إيان) (6 سنوات) – مما زاده تكدراً وغمّاً – أن ثلاثة من أطفال أصدقاء والديه قد احتكروا مشاهدة التلفزيون، وأبعدوه عن مشاهدة برنامجه التلفزيوني المفضل. وكان يسأل أمه وقد غلبه شعور بالإحباط: “أمي. لماذا وجود ثلاثة أطفال أنانيين أفضل من وجود طفل أناني واحد؟”» (ماثيوز، 1984م، 92-93).

         وأثارت هذه القصة نقاشاً حيوياً حيث علق الأطفال على لا مبالاة هؤلاء الأطفال الزوار، وأظهروا الرغبة في التوصل إلى حل يمكن أن يُرضي جميع الأطفال الأربعة، وبينوا أهمية احترام حقوق الآخرين، وكيف يمكن أن يشعر المرء لو كان في مكان (إيان). ثم طرح ماثيوز أسلوباً قد يكون نافعاً: “ماذا عن هذه الحجة: إنه لو تركنا هؤلاء الأطفال الثلاثة يحصلون على ما يريدون فإننا سنجعل ثلاثة أطفال سعداء بدلاً من طفل واحد فقط؟”. وكانت إحدى الإجابات أنه ليس من العدل أن يحصل ثلاثة أشخاص على ما يريدون على حساب الرابع. وأشعل هذا نقاشاً حول العدل تطرق إلى اهتمامات أكثر تحديداً حول العمر النسبي للأطفال، وما إذا كانوا أصدقاء أو إخوة أو غرباء، وما نوع البرامج التلفزيونية المتعلقة بالموضوع.

         ولا شك أن جزءاً من تفسير قدرة الأطفال واستعدادهم للاستمرار في نقاش مطول حول ظروف إيان يكمن في أنهم قد واجهوا تحديات مشابهة. ومع ذلك، أظهر الأطفال فهماً تصورياً متطوراً جداً لقضايا قائمة، وهو ما يمكن للمرء أن يتوقعه من الأطفال متى ما دُعوا إلى التأمل في تجاربهم الخاصة.

التفكير الفلسفي

         إن قصصاً حول هؤلاء وأعمارهم يمكن أن تقدم فرصاً للأطفال لكي يناقشوا أراءً شديدة الأهمية بالنسبة إليهم. فكّر في هذا المثال المأخوذ من رواية ماثيو ليبمان (ليزا، 1983م)، حيث هناك هاري وصديقه تيمي اللذان يذهبان إلى نادي الطوابع للمتاجرة في الطوابع. وبعد ذلك، توقفا لتناول بعض المثلجات (آيسكريم) ولكن تيمي اكتشف أنه لا يوجد معه نقود. فعرض هاري شراء المثلجات له وقال تيمي إنه سيشتري له (لهاري) في المرة القادمة. وبينما كانا يغادران المحل قام أحد زملاء تيمي في الفصل بعرقلة تيمي فقام تيمي بإسقاط كتب الزميل من المائدة على الأرض. وبعد أن هرب تيمي وهاري من مكان الحدث تحدثا عما حدث لهما:

    «”لم يكن من الممكن أن أجعلهم يفلتون من ذلك”، علّق تيمي عندما وجدا أن لا أحد يلاحقهما وأن باستطاعتهما أن يبطآن جريهما حتى يمشيان بدلاً من الركض: “لم يكن عليه أن يخرج قدمه”. ثم أضاف: “بالطبع لم يكن عليّ أيضاً أن أفعل ما فعلت. ولكن وكما قلت من قبل فإن إسقاط كتبه كان عملاً عادلاً”.

    وكان (هاري) يرى أن “الأمر ليس تماماً الشيء نفسه إلى حد ما”، إلا أنه لم يستطع فهم لماذا. وقال أخيراً لـ (تيمي): “إن الهدف من ناديك للطوابع هو تبادل الطوابع. ولذا فإنك عندما تعطي شخصاً طوابع يُفترض أنك ستعيد شيئاً، تماماً كما لو أن شخصاً أقرضني مالاً فيُفترض مني أن أعيده. ولكن لو أن شخصاً خدعك خدعة قذرة فهل ستفعل الشيء نفسه معه؟ لستُ واثقاً جداً من ذلك”.

    فاحتج تيمي قائلاً: ولكن لا بد أن انتقم لنفسي. لا يمكن أن أجعله يفلت بذلك. يجعلني أتعثر هكذا من دون أي سبب”.

    وبعد ذلك بفترة وجيزة التقيا بـ (ليزا) و (لورا). وأخبر هاري الفتاتين ماذا حدث ولماذا هو مرتبك. وعلّقت ليزا قائلة: “هذا يذكّرني بما حدث في العام الماضي عندما كنا نتعلم كيف أن بعض الجمل يمكن قلبها وتبقى صحيحة، بينما هناك جمل أخرى عندما تقلبها تُصبح خطأ”.

    “نعم”، قالها هاري موافقاً لها. “ولكن هنا وجدنا قاعدة. ولكن ما هي القاعدة هناك؟”. رفعت ليزا شعرها الطويل بحيث أصبح متدلياً فوق كتفها الأيمن، وقالت: “يبدو أن هنالك أوقاتاً عندما يكون من الصواب إعادة ما أخذناه وأوقاتاً أخرى عندما يكون ذلك خطأ. ولكن كيف لنا أن نعرف ذلك؟” (ليزا، ص23-24)».

         إن هذه الصفحة هي دعوة لاستكشاف الفروق الأخلاقية الدقيقة “للمعاملة بالمثل”، ماذا يمكن لمجموعة مكونة من أطفال أعمارهم من 10-11 سنة أن يقولوا حيال ذلك؟ هذه عينة من نقاش استمر 30 دقيقة حول كلام ليزا دار بين مجموعة في الصف الخامس. (بريتشارد، 1996م). وعلى الرغم من أن المجموعة كانت تناقش أفكاراً فلسفية مرة في الأسبوع بعد انتهاء المدرسة على مدى الشهور العديدة الماضية، إلا أنهم لم يُناقشوا هذه الفقرة. وبشيء من التحفيز من المعلم أثار الطلاب الأسئلة التالية وتابعوها بحماس:

  • ما المحتمل حدوثه عندما ننتقم؟ هل هذا سيبدأ فقط سلسلة طويلة من محاولة “الانتقام للنفس” التي لا يريدها أي أحد (فيما عدا ربما البادئ بذلك)؟

  • هل الانتقام يحقق فعلاً “الثأر للنفس”؟ هل يمكننا حتى أن نفهم ماذا يعني (الانتقام للنفس)؟

  • هـل من الصواب في الحقيقة الرد على الخطأ بالمثل؟ هل هذه محاولة لعمل صواب بعمل خطأين؟

  • ما هي البدائل التي قد توجد لمحاولة (الثأر للنفس)؟ وماذا سيحدث إذا اكتفيت بتجاهل شخص يحاول أن يبرز على حسابك؟

  • متى يكون الدفاع عن النفس أفضل استراتيجية؟

  • هل هناك فرق بين محاولة (الثأر للنفس) ومحاولة (تلقين شخص درساً)؟

  • كيف يكون الرد بالمثل مختلفاً عن: (أ) تبادل السلع، (ب) سداد دين، (ج) رد الجميل، (د) عمل صنيع لأحد، (هـ) عدم عمل صنيع لأحد إلا إذا عمل صنيعاً لك؟

  • هل يمكن أن تساعدنا هنا “القاعدة الذهبية”؟ ماذا تعني “القاعدة الذهبية”؟ هل هي قاعدة “جيدة”؟

         إن المناقشات المدروسة والثاقبة مثل هذه ليست بأمر غير عادي بالنسبة إلى الأطفال الذين أُعطوا الفرصة لكي يُناقشوا. وقد أثير هذا النقاش بسبب رواية للأطفال. ولكن يمكن استخدام مواد الفصل المعتادة للطلاب أو الأعمال الفنية وتجارب التفكير الفلسفي أو حتى الأخبار اليومية لإثارة مناقشات فلسفية ذات اهتمامات أخلاقية.

         وحتى لو أقر المرء أن الأطفال قادرون تماماً على الانخراط في مناقشات مطولة لمفاهيم “أخلاقية” مرتبطة بتجاربهم الخاصة بهم، فماذا عن الأفكار الفلسفية الأقل ارتباطاً بشكل مباشر بشؤونهم العملية؟ فيما يلي هنا توضيح يبدأ بمنطق وينتهي بفلسفة خارقة للطبيعة. والجملة الصحيحة التي تقول (جميع أشجار البلوط هي أشجار) تُصبح جملة غير صحيحة إذا عكسناها. وكذلك، عبارة (الجزر كله هو خضار). هل يمكن أن نقول إن (كل) جملة صحيحة تبدأ بلفظ (كل/جميع) تصبح غير صحيحة عند عكسها؟

         ومنذ بداية الصف الثالث على الأقل، يجد الأطفال وبسهولة استثناءات. وقد يسأل كثير من الناس: وماذا عن (جميع النمور نمور)؟ وهناك آخرون قد يردون أن هذه جملة (مملّة) ويقدمون كبدائل عبارات مثل (جميع الأرانب البرية أرانب) أو (جميع الأمهات لديهن أطفال). وبشيء من التشجيع الضئيل النسبي يمكنهم أن يأتوا بتعريفات جيدة لأشكال هندسية ويفرقون بينها من خلال تعريفات مقترحة لا يمكن عكسها. فعلى سبيل المثال: عبارة “(جميع المربعات هي مستطيلات) هي صحيحة ولكنها عندما تُعكس لا تصبح كذلك”. أما عبارة (جميع المربعات هي مستطيلات بجوانب متساوية) فإنه يمكن عكسها.

         وعلى الرغم من أن دراسة المنطق تعتبر بصورة تقليدية جزءاً من الفلسفة، فإن المتشككين قد لا يجدون تأملات الأطفال حول قواعد المنطق مثيرة للاهتمام كثيراً من الناحية الفلسفية. (بالطبع بعضهم قد يقول هذا أيضاً عن المنطق الأولي في فصول الكلية). وقد يعترضون بأنه ليس بذلك المختلف عن الرياضيات الأساسية والنحو. وسواء كان هذا تقييماً عادلاً أم لا فإنه بالنسبة إلى كثير من الأطفال ليس إلا خطوة صغيرة تبعد عن المنطق تجاه ما وراء الطبيعة (المتافيزيقيا). وهنا مثال من فصل بالصف الرابع حيث قد تم السؤال عما إذا كانت الجمل الصحيحة التي تبدأ بـ (كل/جميع) تصبح دائماً غير صحيحة عند عكسها؟ (بريتشارد، 1996م). وبعد اقتراح العبارات المعتادة (جميع النمور “هي” نمور) (جميع الأرانب البرية أرانب)، سأل أحد الطلاب: ماذا عن (جميع الأجوبة لها أسئلة) وعن (جميع الأسئلة لها أجوبة)؟ ولحسن الحظ توقف المعلم لبرهة لبحث هذا الأمر مع الفصل. فسأل: (هل جميع الأجوبة لها أسئلة؟). فأجاب الطلبة: (بالتأكيد وإلا فلن يكون بإمكاننا أن نقول لدينا (إجابة).

         واستمر المعلم في السؤال: وماذا عن الجملة الأخرى؟ هل تعتقدون أن جميع الأسئلة لها أجوبة؟، وما تلا بعد ذلك كان عبارة عن فيضان من الردود:

  • الطالب # 1- “هل توجد حياة في مركز الشمس”؟

  • الطـالـــب # 2- حتى لو كان ليس بمقدورنا الذهاب إلى هناك لمعرفة الإجابة، فالسؤال ما زال له إجابة.

  • الطالـب # 3- كم عدد ذرات الرمل الموجودة على سطح الأرض؟

  • الـطـالب # 4- هناك رقم محدد حتى بالرغم من أننا لا نعرف ما هو.

  • الطالـب # 3- ستبددها الريح جميعاً وتنثرها حول المكان وسوف نحصيها أكثر من مرة.

  • الطـالب # 5- هناك الكثير مما لا يمكن إحصاؤه.

  • الــطالب # 6- كم عدد ذرات الرمل الموجودة في جميع الكواكب؟

  • الطـالب # 7- كم عدد الأشجار الموجودة في كوكب الأرض؟

  • الطالـب # 4- هذا أسهل من ذرات الرمل، فيمكننا أن نعدّهم.

  • الطـالب # 7- في الوقت الذي تقوم فيه بعدّهم يكون بعضها قد سقط على الأرض وبعضها الآخر قد بدأ في النمو.

  • الــطالب # 8- هل جعل الإله الزمن يبدأ؟

  • الطـالب # 9- أنت تقصد “إذا” كان هناك إله فهل جعل الزمن يبدأ؟

  • الطالب # 7- هل للفضاء حدود؟

  • الـطـالب # 5- ماذا يمكن أن يحدث إذا ذهبت إلى نهاية الفضاء وحاولت أن تمد يدك إلى الخارج؟ وإذا لم تستطع فما الذي يمنعها من ذلك في الخارج؟

  • الطالـب # 6- ربما أن الذي منع يدك موجود في الداخل. قد لا يوجد أي “خارج”.

التفكير الفلسفي

         وخلال مناقشة هذه الأسئلة بدا أن الطلاب كانوا يجتهدون في الانتقال في الإجابة من الأسئلة الصعبة – إن لم تكن مستحيلة – بسبب قيودنا “العملية”. (أي: عدم التأكد من أن ذرة رمل معينة لم يتم عدها) إلى الأسئلة التي (من حيث المبدأ) يتعذر الإجابة عليها. وأخيراً سأل أحد الطلبة وقد علقت إحدى الذرات في وجهه: “هل سينتهي الزمن؟” وأوضح أن “المشكلة” هي إذا لم ينته الزمن لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يؤكد أنه كان كذلك.

         وهنا مثال توضيحي آخر حول مدى سرعة تحول النقاش حول المنطق إلى نقاش لقضايا فلسفية عميقة (بيتشارد، 1985م). فهذه مجموعة من طلاب الصف الخامس يفكرون في عبارة (كل الناس حيوانات). وعرض أحد الطلبة هذا الأمر كمثال آخر لجملة صحيحة أصبحت غير صحيحة عند عكسها. واعترض (جيف) على كون جملة (كل الناس حيوانات) غير صحيحة. ومضى (تشيب) في وضع تصنيف أحال الناس، إلى جانب الفيلة والنمور، ووضعهم تحت عنوان (الثدييات) والثدييات تحت مسمى (حيوانات) والحيوانات تحت مسمى (كائنات حية). وواصل (جيف) اعتراضه:

  • تشيب: “ماذا يعني (ناس) يا جيف؟ أخبرني فقط ماذا يعني (ناس)؟ لا يمكنك الإجابة عن هذا السؤال أليس كذلك؟”.

  • جيف: بل أستطيع.

  • تشيب: من تكون أنت؟

  • جيف: شخص.

  • تشيب: ماذا يعني (شخص)؟

  • جيف: أحد حي.

  • تشيب: أحد حي يمكن أن يكون حوتاً.

  • جيف: أنا قلت: “أحد”، ولم أقل “حيواناً”.

  • تشيب: يمكنك أن تراجع كل كتاب هناك في المكتبة… كل كتاب عنا…

  • لاري: أريد أن أعرف لماذا أخذ كل واحد يستشيط غضباً من موضوع صغير.

  • ريتش: نحن “نفكر”! ولهذا نحن هنا.

  • إيمي: هل لدى أحد منكم موسوعة هنا بحيث يمكننا أن نبحث إما عن حيوانات أو ثدييات أو أشخاص؟

  • جيف: نحن جميعاً بشر. ولذلك إذا رآنا ذلك الشخص من المريخ فإنه سيقول: “انظروا، هناك بعض الكائنات البشرية”. ولن يقول (انظروا، توجد بعض الحيوانات هناك).

  • مايك: إن أهل المريخ – إذا كان يوجد منهم أحد – سيقولون: (انظروا إلى تلك المخلوقات غريبة المظهر)، أو شيئاً كهذا. هم لا يعرفون “ما” نحن”. ولا يعرفون أي شيء عنا. [ثم واصل مايك كلامه وعاد الآن إلى التمييز الذي قدمه جيف في البداية]: إذا كان شخصاً فإنك تقول (أحد). وإذا كان حيواناً فستقول: (شيء). أحد يعني (إنسان).

  • تشيب: توجد حياة. أليس كذلك؟ وبعد ذلك تنطلق متفرعاً من هناك. لديك حيوانات ونباتات وأي مادة أخرى – كما تعلم جزيئات وما شابه. والآن تذهب إلى الحيوانات وتتفرع من هناك: ثدييات، برمائية زواحف وغير ذلك. ثم تتفرع ويكون لديك كل هؤلاء البشر من نوع خاص. هل هذا صحيح حتى الآن يا جيف؟

  • جيف: استمر في الكلام فقط.

  • تشيب: حسناً، أنا لا أريد إلا معرفة ما إذا كنت موافقاً حتى الآن.

  • جيف: واصل حديثك فقط. إنني لن أغير رأيي. هذا كل ما في الأمر… لستُ بحيوان، أنا إنسان وأريد أن أبقى كذلك.

  • تشيب: أنت “نوع” من حيوان.

  • جيف: “لن أذهب إلى د. جيكل وأقول له: “مرحباً. حوّلني إلى حيوان…”.

  • إيمي: الإنسان نوع من حيوان، مثل الطير. وذلك يختلف عن الفيل مثلاً. فالطير يختلف عن الفيل. ونحن نختلف عن الطير. ومايك يقول إننا لا ندعو الكلب شخصاً أو أحداً. ولكن قد يكون هناك أحد قريب جداً في الواقع من حيوانه الأليف ويعتبره جزءاً من الأسرة.

التفكير الفلسفي

         واستمر النقاش لعدة دقائق أخرى. وعندما تفرقت المجموعة علّق أحد الطلبة أمام آخر قائلاً: “لو شئنا لكان بإمكاننا أن نناقش لساعات طويلة!” فردّ الآخر: “ولأيام طويلة”. وصارت هذه المجموعة من الأطفال تلتقي أسبوعياً بعد المدرسة في المكتبة العامة المحلية ثم عادت في الأسبوع التالي بموسوعة لحسم المسألة. وبعد عدة دقائق من النقاش سأل المعلم التلاميذ ما إذا كانوا يعتقدون أن جميع ما هو مذكور في الموسوعة صحيح:

  • إيميلي: بعض الأمور لسنا على ثقة منها. ويمكن للموسوعة أن تذكر كل كلمة عن كيفية تشكّل النظام الشمسي، ومن المرجح أن تقول كان هناك غبار كثيف يدور مثل دوامة. ولكننا لسنا متأكدين من ذلك ولذا فإنه قد يكون غير صحيح.

         ثم سأل المعلم ما إذا كان على الموسوعة في مثل هذه الحالات أن تذكر قائلة (نحن غير متأكدين).

  • مايك: إنها ستقول (فرضية) – أي تخمين.

  • كيرت: إنها ستقول (نحن غير متأكدين بعد).

         وهكذا احتفظ النقاش بحيويته الفلسفية. واستمرت هذه المجموعة المعينة في الالتقاء طوال العام الدراسي كله تناقش مجموعة واسعة من المواضيع الفلسفية ويشمل ذلك: العلاقة بين العقل والمخ، وأوجه الاختلاف (والتشابه) بين الأحلام والواقع، والمعرفة بالعقول الأخرى، والمعرفة الذاتية والعلاقات بين الأدلة والمعرفة.

التفكير الفلسفي لدى الأطفال