مجلة حكمة
ميرتشا إلياده

أعرف ما أومن به، لكن ما أومن به عصي على القول في كلمات: حوار مع مؤرخ الأديان والمفكـر ميرتشا إلياده / ترجمة: أحمد الزناتي


في سنة 1978 نـشر الصحفي كلود هنري-روكيت كتابًا مهمًا يشتمل على مجموعة من اللقاءات التي أجراها مع مؤرخ الأديان والمفكّر  والكاتب الروماني الأشهر ميرتشا إلياده ونشرها في كتاب حَمل عنوان: Ordeal By Labyrinth وتناول فيها ميرتشا إلياده مُجمل آرائه حول الأديان والأساطير وعلاقتها بالأدب وبحياته الشخصية.

وُلد ميرتشا إلياده في بوخارست في التاسع من مارس سنة 1907، ودَرَس في كلية الآداب بجامعة بوخارست حتى سنة 1928، ثمّ سافر بعدها إلى “كلكُتا” لدراسة اللغة السنسكريتية والفلسفة، ثم سافر إلى لندن وإلى شيكاغو. إلى جانب شهرته الطاغية وإسهاماته في مبحث تأريخ الأديان والفلسفات الروحية القديمة وتأليف موسوعة تاريخ الأديان أعماله الموسّعة الأخرى حول الأساطير، مارسَ ميرتشا إلياده الكتابة الإبداعية وألّف عددًا من الأعمال الروائية المهمة، من أهمها رواية الغابة المُحرمة وشباب بلا شباب وليالٍ بنغالية، كما كتب اليوميات والمذكرات الشخصية.

على المستوى العام طالما نُظر إلى ميرتشا إلياده كشخصية مثيرة للجدل بسبب ميوله السياسية، إذ اتهم بتعاطفه مع الاشتراكيين القوميين في ألمانيا ونظام الدوتشي الإيطالي (شأنه شأن مواطنه إيميل سيوران) وقد رُمي بتلك التهمة بسبب إخلاصه القوي للحرس الحديدي الروماني (حِــراك يميني معاد لـ الماركسية)، ودعوته إلى “رومانيا مؤمنة” تنبذ الإلحاد، وتأليف رواية “الغابة المُحرمة” التي تكلّم فيها عن البطل الذي آوى ناشطًا يمينيًا من بطش الحكم الشيوعي في رومانيا، ووصلت التهم إلى حدّ الطعن في مصداقية إنتاجه العلمي ووصمه بالإغراق في الشاعرية والنأي عن الحياد والدعــوة المبطّنة إلى ضرورة العودة إلى حظيرة الإيمان الديني وهي التُهم نفسها التي طالما وُجهت إلى كارل جوستاف يونج وجوزيف كامبل بسبب توجهاتهم السياسية/ الإيديولوجية.

في السطور التالية ترجمة نص الحوار الأخيرة المنشور في الكتاب المشار إليه.


كلود هنري-روكيت: بروفيسور ميرتشا إلياده: طالما قارنتَ الحياة- حياتكَ تحديًدًا- بمتاهـة. ماذا بوسعك أن تقول اليوم حـول معنى هذه المتاهة؟

ميرتشا إلياده: المتاهة هي خـطّ دفاع، وأحيانًا شيء أشبه بـحصن سحري مُشيّد لـحراسة مـركز ما، أو كـنـز ما، أو مـعـنـى ما على نحو ما نرى في أسطورة ثيسيوس[1]. حيث يُمـثّـل دخول المتاهة طقس استهلال الحياة. وتسكن هذه الرمـزية كل مخلوق قُيَّض له المرور بمحـن عديدة في مسار رحلته إلى مركـز نفسه الحقيقي، إلى ذاتـه، أو إلى “أتمان   Atman” كما يُسميه الهندوس[2].

مـرّت عليَّ أوقات عديدة تنبهتُ فيها إلى أنني كنتُ على وشك الخروج من المتاهـة أو بلوغ المخرج عبر الخيط، وكان يتملكّني شـعور باليأس والقمع والضياع. بالطبع لم أقل إلى نفسي حينذاك: “أنا تـائه وسط المتاهة”. إلا أنني في النهاية كنتُ مملوءًا بشعـور قوي بـخروجي منـتـصرًا من قلب المتاهة. لا بد أن كل إنسان قـد مـرَّ بهذه التجربة. لكني ينبغي أن أضيف أن الحياة ليست متاهة وحسب، بل هي امتحان ومـحنة لا يتوقفان أبدًا.

كلود هنري-روكيت:وهـل وصلتَ إلى مركز ذاتك؟

ميرتشا إلياده: شعرتُ مرات عدّة أنني بلغتُ مركز ذاتي وتعلّمتُ الكثير من وراء ذلك، لأني عرفـتُ نفسي وقتها، ثم ما لبثت أن فقدتُ معرفتي بنفسي من جديد. وهذه أحوالنا: لسنا ملائكة ولا أبطالًا خارقين. فحالما نصل إلى مركز ذواتنا، تكتسي نفوسنا بثراءٍ روحي ويـتـسّـع وعينا ويزداد عُــمقًا، ويغدو كل شيء واضحًا وذا غاية ومعنى، لكن الحـياة تمضي بنا قدمًا فتزجُّ بنا إلى قلب متاهة جديدة وإلى مواجهات جديدة وإلى اختبارات جديدة. على سبيل المثال المحادثات التي أجريناها معًا قادتني إلى دخول متاهة من نوع آخر.

كلود هنري-روكيت: لقد تكلّمتَ للتوّ عن لحظات “تعرّفك على نفسك”. يذكّرني هذا بكلام أهل التصوف أو رهبان الزِن، حيث ينبغي للمرء التأمل في الوجـه الذي كان له قبل ميلاده أو أن يتدبّر الملاك الساكن فيه سـرًا. أي وجـه امتلكته في لحظة تعرفك إلى نفسك الحقيقية؟ أم هل تفضل الصمتَ إزاء هذه النقطة تحديدًا؟

ميرتشا إلياده: نعم أفضل الصمت.

 

 

 

كلود هنري-روكيت: شـرحتَ في يومياتك حالة اليقـظــة المفاجئة التي أنارتْ وعيك يومًا، ولحظة الانتباه إلى حقيقة حياتك وإلى مسارها ومدى عُمقها

ميرتشا إلياده: كانت حالة اليقظة هاته واحدة من التجارب التي خبرتها عـدة مرات، وهي التجربة التي يتحتم على الإنسان خوضها لو أراد العثور على ذاته مجددًا ولو أراد إدراك مغزى وجوده في الدنيا. نعيش حياتنا، إجمالًا، على شكل حلقات منفصلة. ذات يوم وبينما كنتُ أسير إلى جوار المعهد الشرقي في شيكاغو، تنبهتُ فجأةً إلى طبيعة التسلسل الكامن طوال هذه المرحلة التي بدأت في فترة مراهقتي، ثم تلا ذلك سفري إلى الهند ولندن والأماكن التي ارتحلتُ إليها كافة. إنها تـجربة مُـواسية للنفس، إذ تشعر أن وقتك لم يذهب سدى وأن حياتك لم تذهب أدراج الرياح، وأن لحظات حياتك ما تزال موجودة، حتى اللحظات التي تخيلتَ أنها بلا أهمية أو طواها النسيان مثل فترة تأديتي للخدمة العسكرية.

كلود هنري-روكيت: أو لم يكن فيها ما يسوؤكَ؟

ميرتشا إلياده: ربما أستطيع رؤية عديد من الأخطاء أو مواطن القصور أو الإخفاقات. لكن لو قصدتَ شيئًا يسوؤني؟ بمنتهى الأمانة: كـلا. ربما لم أسمح لنفسي أن أرى الأشياء التي أساءتْ إليَّ.

كلود هنري-روكيت: كيف تنظرُ إلى مُجمل أعمالك اليوم؟

 

 

ميرتشا إلياده:  أجامل نفسي فأقول إنني ما زلتُ غارقًا في كتبي وما زال ينتظرني عمل كثير. ولو أراد أحد الحُكم على ما كتبتُه حتى هذه اللحظة فعليه أن ينظرَ إلى أعمالي في مُجملها. ولئن كانت أعمالي تنطوي على أي قيمة أو أهمية، فذلك مـعزوُّ إلى أعمالي كوحدة كُلية. في النهاية فإن رجلًا مثل”بلزاك” ليس محصورًا في روايتي “الأب جوريو” أو “ابن العـمّ بــونس” وحسب، بل إن بلزاك هو “الملهاة الإنسانية” أيضًا. وغـوته ليس “فاوست” وحسب، بل إن أعماله في مُجملها هي ما تمنح “غوتـه” معنى. وعلى النحو نفسه فلو واتتني الشجاعة على مقارنة نفسي بهؤلاء العمالقة فإن مُجمل أعمالي فقط هـو المحدد لـقـيمتها ومغزاها. الحقيقة أنني أحـسد من يحـقـّــقون أنفسهم عبر كتابة قصيدة واحدة رائعة أو رواية واحدة عظيمة. إنني لا أحسد  عبقرية “رامبو” أو “مالارميه” فقط، بل أحسد أيضًا عبقرية “فلوبير”، فكيانه بالكامل مُجسّد في كتابه “التربية العاطفية”. لكنني للأسف لم أستطع قط تأليف كتاب وحيد يمثّل ذاتي تمثيلًا كليًا. لا شك أن بعض أعمالي مكتوب بطريقة أفضل من غيرها، وبعضها الآخـر أمتن سبكًا وأشد وضوحًا، بينما يعاني غيرها بكل تأكيد من أوجـه التكرار والإخفاق.

لكني أعود فأقول مجددًا: لا يُمكن لأحـد الوقوف على معنى حياتي وأعمالي إلا بالنظر إلى كُليتها وشموليتها. وهي مهمة شاقة على كل حال، لأن بعض كُتبي مكتوب باللغة الرومانية ومن ثمّ غير مُتاح للعالم الغربي، وبقيتها مكتوب بالفرنسية ومن ثمّ غير مُتاح للناطقين باللغة الرومانية.

كلود هنري-روكيت: في رأيك..هل تعتقد أن هذه الحوارات ساعدتكَ على تكوين نظرة بانورامية لحياتك؟

ميرتشا إلياده: صادفتني عقبات عديدة على مدار حواراتنا[3]، لا على مستوى اللغة وحدها، بل على المستوى الباطني أيضًا. والسبب أنني استحضرتُ مجددًا لحظات مهمة من حياتي ومن فترة شبابي. وكانت أسئلتك في بعض الأوقات محفزّة على إعادة التفكير في بعض المسائل. أجـبـرتني أسئلتك، بشكل أو بآخر، على استدعاء مساحات شاسعة من حياتي. هـل كانت أكبر من اللازم؟ ربما.

وهنا مكمن الخطر، إذ لا يجب على المرء النفاذ إلى أعماق كل كلمة يقولها. على كل الأحوال أنا مهتم بقراءة الحوارات بعد الانتهاء من نسـخِــها. لأنني أتــعرف إلى نفسي في كلامي بشرط التوكيد على نقطة واحدة وهي كوني لم أجِب عن أسئلتكَ إجابات واضحة مُحددة. يجب أن تؤخـذ إجاباتي على علّاتها: أي باعتبارها إجابات مؤقــتــة مرهونة بظروفها. ويظل كل شيء مفتوحًا، وربما تحتاج جميع الأسئلة إلى الإجابة عنها من جديد. صحيح أن إجاباتي صادقة لكنها ليست مُكتملة. فما زال في مقدوري إضافة أشياء والتوكيد على أخرى.

وهذا ديدن هذه الحوارات. أعتقد أن يونسكو [أوجين] قـد جـرّب شعورًا مشابهًا حينما أجرى سلسة مماثلة من الحوارات. نعم، كل الملفات ما تزال مفتوحة. علاوة على ذلك، ومثلها مثل أية تجربة غير متوقعة، أشعر أن نظرتي إلى الأمور قد تغيرتْ قليلًا، وازدادتْ عمقًا لتضم بين جناحيها أشياء جديدة لم آلفها من قبل.

أفكّر في أشياء مثيرة للاهتمام لم تكن لتخطر ببالي قبل أسابيع من الآن. كنتُ أعلم حينما بدأتُ سلسلة الحوارات أنني سأقول أشياء بعينها، لكنها لم تكن قط الأشياء التي جالتْ ببالي اليوم. أرى المستقبل فاتحًا ذراعيه: هذه هي الصورة التي تطاردني الآن.

 كلود هنري-روكيت: لابد أن الأمر اقتضى مقدرة عظيمة للتمكن من إنجاز كل ما أنجزته على مدار حياتك. من أين تأتي بهذه القدرة؟ أي حافز دفعك إلى إنجاز هذا الكم الهائل من الأعمال؟

ميرتشا إلياده: لا أعرف، لنقل إنها مشيئة القَدر

كلود هنري-روكيت: طالما أرجأتُ سؤالي عن قضية “الألوهية”، لحدسي المسبق بإعراضك عن الإجابة

ميرتشا إلياده: صحيح: فهذا النوع من القضايا مهم بالنسبة إليَّ شخصيًا وكذلك بالنسبة إلى القاريء المهتم. والحقيقة أن قضية الألوهية، بما لها من أهمية مركزية، جديرة بألا أمرّ عليها مرور الكرام بكلمتين عابرتيْن. لكني أومل مقاربتها ذات يوم في عمل بحثي مقاربة ذاتية ومترابطة.

كلود هنري-روكيت: هل هذا الإعراض الصامت عن مناقشة قضية “الألوهية” هو نتيجة رفضك أن تؤدي دور المعلّم الروحي؟

ميرتشا إلياده: لا أعـد نفسي مُعـلمًا روحيًا أو “جورو” بأي شكل من الأشكال، بل أشعر أنني حتى لستُ “مرشدًا”، فأنا مجرد رفيق، رفيق درب المسافرين معي في الرحلة، وهذا، مرة أخـرى، سبب تردّدي في مقاربة بعض القضايا الجوهرية مقاربة عابرة ارتجالية. أنا أعرف ما أؤمن به، لكن ما أومن به عصي على القول في كلمات.

كلود هنري-روكيت: طالما تكلّمتَ على “الحقيقي“..

ميرتشا إلياده: صحيح.

كلود هنري-روكيت:  ما الحقيقي بالنسبة إليك؟ ما تعريف “الحقيقي” عندك؟

ميرتشا إلياده:  وهـل بالإمكان تعريف “الحقيقي” بـهـذه السهولة؟ أنا لا أستطيع تعريف الحقيقة. يبدو لي “الحقيقي” شيئًا “بديهيًا” غير محتاج إلى تعريف، فإن لم يكن الحقيقي “بديهيًا” فمن المؤكد أنـه يحتاج إلى برهان دامغ.

 

كلود هنري-روكيت:  هل وجدتَ عونًا عند القديس أوغسطين حينما قال: “لو سألني أحـد ما الوجود فلن أعرف، وإن لم يسألني  فــ..”.

ميرتشا إلياده مُكملًا العبارة: “وإن لم يسألني حينها سأعرف ما الوجود”. نعم..نعم.. هذه هي الإجابة الصحيحة.

 


الهوامش:

[1] ثيسيوس: شخصية من الأساطير الإغريقية وأحد ملوك أثينا الأسطوريين. تطوّع في أحد مغامراته لقتل المينوتور (نصف الإنسان/نصف الثور) وسافر في سفينة سوداء ووعدَ أباه إذا قتل الوحش سيعود بأشرعة بيضاء وعندما وصل وقعت الأميرة أرياني في حبّه وساعدته في الخروج من متاهة المينوتور عن طريق طرف الخيط الموجود في أول المتاهة فيهرب من “كريت” بعد نجاحه في مهمته (المترجم).

[2]  أتمان: يراد بها في الأدبيات الهندوسية روح العالم، أو مبدأ الحياة أو الروح المطلقة أو نفس الكون الفعلية التي تتخلل كل شيء لمصطلح المستخدم للدلالة على النفس الباطنة هنا هو أتمان، وهذه كلمة تستخدم فلسفيًا لتدل على نفس الإنسان الخفية والدفينة باعتبارها متميزة عن جسده وأعضائه الحسية والعقلية؛ أي إنها تشير إلى النفس المنزهة وليس إلى النفس العملية (Jiva) التي تتطور خصائصها العقلية والنفسية داخل الجسم وتكون معلومة من خلال الخبرة الحسية (المترجم).

[3]  الحوار كما أشرتُ واحد من بين حوارات مُطولة ضمّها الكتاب المنوّه إليه في البداية (المترجم).