مجلة حكمة
التحيز الغربي كليلطو

الوعي بالتحيز الغربي عند عبدالفتاح كيليطو وانعكاساته على المثاقفة الأدبية: (لن تتكلم لغتي) أنموذجاً

الكاتبحامد بن أحمد الإقبالي

يعتبر التحيز المعرفي والنقدي إحدى الرؤى الأحادية لدى الثقافة الغربية ضد بقية أمم العالم وحضاراتهم، ولأنه ينطلق من رؤية التفوق على الآخرين، فإنه بالضرورة يستعلي عليهم انطلاقاً من هذه الرؤية، بل ويتعامل معهم وفقاً لهذه الفكرة العنصرية، وأظهر هذه الإشكالات التي تسفر عن نفسها واضحة ؛ بروز التحيز الفكري في القراءة الأدبية للنصوص والأشكال الأدبية العربية، فهي ليست قراءة حيادية لتلاقح الأفكار، واستنباط المعارف وكشف اتجاه الذائقة الأدبية، بل هي منهج فلسفي متكامل له تصوراته الخاصة وأنساقه المضمرة التي تتوارى خلف الكتابات والنتائج والاستخلاصات، مما يتوجب معرفة أبعادها وتجلياتها في سبيل المحافظة على الهوية والتثاقف الإيجابي.

  أَولى الناقد عبدالفتاح كيليطو معظم مؤلفاته: الكتابة عن السردية العربية الكلاسيكية، هدف من خلال ذلك مواجهة التحيز الأدبي والنقدي الغربي، الذي هيمن على الأدب العالمي وهمّش خصوصيات الشعوب وأذواقهم الأدبية وأساليبهم النقدية، ليعيد الاعتبار الأدبي إلى الأدب العربي القديم، ويحثّ الباحثين على تمثلها ودراستها من جديد. فـ التراث العربي يمثل له الامتداد الطبيعي للتاريخ والعقيدة والحضارة، فيلتقط منه ما حدث في ذاكرته وينقله إلى الأجيال المعاصرة، ومن هذا المنطلق تعتبر الكتابة في التراث العربي واستلهام شخصياته الأدبية، مثل كتابات الجاحظ، ومقامات الحريري والهمذاني جزءاً حيوياً يشغل فكر كيليطو، وهو بهذا الاستدعاء التاريخي يمهد لوضع هذه الكتابات نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الأدب في العصر الحديث، لأن خصائص الثقافة الحديثة التي تمثلها أوربا اليوم تتصف بالعلمانية والحداثة، وهذا يعني ضرورة التخلي عن الأفكار القديمة والتخلص من رواسب التفكير في حال الرغبة في الدخول إلى بوابة الثقافة العالمية.

تمحورت القضايا النقدية التي اشتمل عليها كتاب (لن تتكلم لغتي) حول ثلاث مسائل، المسألة الأولى: وهي التحيز الغربي ضد المنجز الأدبي العربي القديم والتي لا تحتكم إلى معيار محدد أو ما يقوله النص الأدبي، والمسألة الثانية: إعادة الاعتبار للأشكال الأدبية القديمة لاسيما المقامات التي تمثل حقيقة السرد العربي، ونفض الغبار عنها وتقديمها بصورة تحليلية معبّرة عن النسق الاجتماعي والثقافي إيماناً بقيمة لغته وليس فخراً مجرداً، المسألة الثالثة: كشف النسق المضمر للتحيز الأدبي الغربي الذي يصوغ أفكار الأديب العربي من أجل (المطابقة) مع الآخر، وهذا يظهر في المزامنة التاريخية في تدوين الأحداث، كما تظهر في العلائق المعرفية في ربط الإبداع الأدبي العربي بأسباب التميز الغربي.

لم يكتف كيليطو برفض التحيز المعرفي عند أدباء الغرب، بل حتى كشف أشكاله في الدراسات التي قاموا بها على الأدب العربي وظهرت فيها تحيزاتهم ضد المنجز الأدبي، فهو يراها أحكام غريبة وتخلو من الإنصاف في الحكم على النص الأدبي، واستعرض تجربة المستشرق الغربي: أرنست رينان في دراسة المقامات العربية، التي صُبغت بنوع من التناقض وعدم اليقين، وغياب الشروط العلمية والجمالية لقراءة نص المقامات، فهو لم يقدم أراء وأحكام تتسم بالموضوعية “يحاول رينان قبل كل شيء أن يرسم خطاً فاصلاً بين فضائين متناقضين أوربا والشرق، القطيعة تامة من فضاء لآخر، والانفصال حاسم “([1]).

  كان كيليطو مجاهداً في إعادة السيرة الأولى للأدب العربي، حينما كانت شمس العرب تسطع على الغرب وعلى غيرهم من الأمم، لذلك فإن محاولاته لم تقتصر على كتاب (لن تتكلم لغتي ) بل إن دراساته النقدية والأدبية مسكونة بهذا الهاجس الفكري، لذلك حينما اهتم بدراسة المقامات ؛ هذا النص السردي التراثي، قال مبرراً ذلك:” ونعتقد أنه آن الأوان للانكباب على المقامة التي ظلت أمداً طويلاً معروضة في متحف يعلوها الغبار شيئاً فشيئاً ومن حين لآخر، كان يذهب سائحون أو مواطنون لتأملها نافضين برؤوسهم باستياء أو نافخين صدورهم بكبرياء، ماذا نصنع بالهمذاني والحريري”([2]).

يحاول كيليطو في كتاب (لن تتكلم لغتي) بيان النسق المضمر للتحيز للأدب الغربي الذي يصوغ أفكار الأديب العربي ويعيد نظمها من جديد دون أن يشعر صاحبها، فتتشكل نسخة أدبية غربية في قالب عربي ويضرب لذلك مثالاً بالمنفلوطي الذي تحول إلى ناقل أمين للأدب الفرنسي، فيما يبدو للناس أنه أحد المناهضين لهذه الثقافة المريبة، كما يتطرق إلى صعوبة المثاقفة، في ظل تعذر وجود الخطوط المعرفية المشتركة،  من العقائد، والتاريخ، والأدب، والجغرافيا مع الآخر، فلا سبيل إليها إلا بالمزامنة التاريخية والعلائق المعرفية، فالمزامنة تكون بتحوير التاريخ العربي إلى التاريخ الغربي، والعلائق المعرفية تحدث بريط أدب المشرق وشخصياته بأدباء الغرب في ذلك العصر، وهي أشبه بحركة ترجمة ثقافية، أما الاعتراف بالريادة الأدبية والفرادة الأسلوبية، فلا بد دونها من اعتساف حقائق التاريخ من أجل البحث عن (الأثر الأوربي) على حركة الأدب العربية بأي مشيئة كانت، فكتاب الساق على الساق للشدياق نقد لمجتمع الشرق الأدنى، متأثرٌ برايلي، كما لا بد من البحث عن أوجه (المطابقة) لا الاختلاف من أجل الاعتراف بالأدب العربي، فالجاحظ تكمن براعته في وجود الشبه بمونتيني، ورسالة الغفران للمعري قريبة الفكرة من الكوميديا الإلهية، وهي آراء مبنية على اختزال عجيب واحتقار دفين كما يرى كيليطو، وهذا ما انعكس على الأدباء العرب وألقى بظلاله على تراثهم النقدي والأدبي، فتجد المتلقي أديباً كان أم ناقداً أم قارئاً أثناء قراءته لأي أديب عربي، يستحضر في ذهنه بوعي أو غير وعي ما يماثله من أدباء الغرب، فحينما يقرأ حي بن يقظان يشرد ذهنه إلى روبنسون كروزو، وفي أثناء قراءة اللزوميات يتجلى له شوبنهاور، ولا يقرأ للجرجاني حتى يطل عليه فجأة دي سوسير وهكذا في سائر فنون الأدب ورجاله.

 والنتيجة الوحيدة لسبل المثاقفة بين الشرق والغرب عند كيليطو تظهر واضحة في نهاية الكتاب تبدو مهمة شبه مستحيلة، فمن أراد أن يتحدث إلى العرب عليه إجادة لغتهم العربية أولاً، ويكنّي أكثر جرأة على لسان إحدى شخصيات مقامات الحريري: إما أن تبينا، وإلا فبينا، وحين ينطق بالعربية ويجيدها فعليه أن يعتنق معتقدها الخاص والخالص: دين الإسلام، وإلا فقد حانت القطيعة واستحال التواصل المعرفي.

  فالأدب والفن في حاجة إلى بعث مصطلحاته من القرآن الكريم وإشاعتها في الميدان الثقافة، ولا يعني ذلك سدّ منافذ الاستفادة من مصطلحات الآخرين، فإن اقترضت الثقافة مصطلحاً من لغة أخرى وجب عليها أن تستوعبه في نظام اللغة العربية وتنقيته من الحمولات الفكرية العالقة به، لأنها لو أبقته على وضعه السابق صياغة ومعنىً فقد تحول إلى مصطلح دخيل لا يسهم في تطوير عملية المثاقفة، فالثقافة هذا المصطلح الوارد من أوروبا، يعني لديهم الغرس والزرع، ثم تطور ليصبخ غرس الأنماط والقيم، وهم بذلك يعنون به قبل غرس هذه القيم اقتلاع القيم السائدة القديمة في أي مجتمع سوى أوربا ” وقد أكد ذلك منظرو التنمية السياسية إذ اعتبروا أن عملية التنمية لا يمكن أن تتم في ظل وجود ثقافة معوقة وغير تنموية، ومن ثم لا بد من إزاله هذه الثقافة التقليدية، ونشر قيم الحداثة بدلاً منها، وقد أطلق مفهوم الثقافة التقليدية ونشر قيم الثقافة الحديثة بدلاً منها “([3]) فالثقافة التقليدية هي الجمود الفكري والتأخر العلمي والطابع الأبوي، أما خصائص الثقافة الحديثة التي تمثل أوربا فهي تتصف بالعلمانية والمساواة والإنجاز، والتطور التقني، وهذا يعني ضرورة التخلي عن الأفكار القديمة والتخلص من رواسب التفكير في حال الرغبة في الدخول إلى بوابة الثقافة العالمية كما يقرأ كيليطو ذلك، فقبل المثاقفة يجب أن نسبر هذه المكونات الثقافية لإيماننا بأن كل استعارة ثقافية يسبقها تمييز دقيق وفكر متيقظ .

لم يكن مؤلف ( لن تتكلم لغتي) منطوياً على ذاته، منزِّهاً تراثه الأدبي، متعامياً عن مكامن الخلل فيه، لكن التراث العربي يمثل له تاريخ العرب بعقيدته، وحضارته، وفكره، وعلومه، وفنونه، لذلك فهو يلتقط منه أبدع ما حدث في ذاكرته وينقله إلى الأجيال المعاصرة، ومن هذا المنطلق تعتبر الكتابة في التراث العربي واستلهام شخصياته الأدبية: اللغة، الجاحظ، المقامات، هي القضية المركزية التي تشغل فكر ونقد كيليطو، وهو بهذا الاستدعاء التاريخي يمهد لوضع هذه الكتابات نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الأدب من الدفاع عن القيم، والأدب الرفيع، بعد أن أصبح ما بعد الحداثة رقيعاً لا قيمة له، وهو بذلك يحاول وصل الانفصال المتدرج – كما أطلق عليه الناقد عبدالله إبراهيم – بين المرجعيات الثقافية والأجناس الموروثة التي فقدت كفاءتها وأهليتها وبين الظواهر الإبداعية الجديدة التي راحت تتصل بنسق مستحدث من القيم والحقائق النسبية والعلاقات([4]) وهي جهود تصب في صالح صيغ التعبير القديمة التقليدية التي تراجعت قيمتها في هذا العصر.

       لم يكتف كيليطو برفض التحيز المعرفي عند الغرب، بل حتى كشف أشكاله في الدراسات التي قاموا بها على الأدب العربي وظهرت فيها تحيزاتهم ضد المنجز الأدبي، فهو يراها أحكام غريبة وتخلو من الإنصاف في الحكم على النص الأدبي، واستعرض تجربة رينان في دراسة المقامات، فهي دراسة تتميز بنوع من التناقض، وعدم اليقين، وغياب الشروط العلمية والجمالية لقراءة نص المقامات، فهو لم يقدّم أراء وأحكام تتسم بالموضوعية بل “يحاول رينان قبل كل شيء أن يرسم خطاً فاصلاً بين فضائين متناقضين: أوربا والشرق، القطيعة تامة من فضاء لآخر، والانفصال حاسم”([5]).

يعيب كيليطو من ينظر إلى منتجات الحداثة الغربية المادية نظرة إعجاب، لأن هذه نظرة قاصرة تستظهر جانباً واحداً من الحياة وهو الجانب الظاهر وتتغافل عن الجانب المعنوي والروحي الذي يميّز الإنسان عن غيره، فالإعجاب بطريقة سياسة الغربيين ومنتجاتهم التقنية ربما كان طريقاً إلى الإعجاب بأفكارهم الثقافية وقيمهم الأخلاقية، معرّضاً برفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق سابقاً، ومحمد الصفار لاحقاً، الذين رأوا أن تدارك التأخر في ميدان العلوم والصناعة لا يأتي إلا بالتوقف في المحطة الأوروبية.

  لم يكن كيليطو حفياً بالمثاقفة لأنه يعرف مآلاتها مسبقاً، ولذلك نفهم مبادرته بالحديث عن فن المقامات، فهي من الآداب التي يستعصي أسلوبها على النقل والترجمة ” فكأنّ الحريري بذل أقصى ما في وسعه ليحمي كتابه ويقيه من تسلط لسان آخر، فمن يا ترى قد يقدم على ترجمة رسالة تقرأ طرداً وعكساً من دون أن يطرأ عليها تغيير أو رسالة تقرأ من أولها بوجه ومن آخرها بوجه آخر”([6]) لذلك فهو يؤيد رأي الجاحظ في قصور ترجمة الفلسفة والشعر، فأما الفلسفة فلأنها متّسمة في كل الحالات بالنقص والإخفاق، لأن المترجم يتوجب عليه أن يكون إتقانه في نفس الترجمة بقدر علمه في نفس المعرفة، وأما الشعر فإن ترجمته تغيّر وزنه وتقطع نظمه فيضعف بيانه، على أن هذا ليس مزية في الشعر والفلسفة ولا ذماً لهما بقدر أن لكل أمة نتاجها الأدبي الخاص بها، ويتعجب كيليطو من القول الذي يرى إن نقل الفلسفة إلى لغة أخرى أقوم من نقل الشعر، لأن الأخير حديث العهد بالتجربة الإنسانية خلافاً للفلسفة التي يضرب تاريخها في جذور ما قبل التاريخ، ويبلغ العجب مداه حين يجد أن ابن رشد قد فضّل الشعر اليوناني على الشعر العربي وذلك حين ترجم كتاب أرسطو (فن الشعر) مشيراً إلى أن ما جاء به أرسطو مشترك لسائر الأمم وغير موجود عند العرب لأنهم خارجون عن الإجماع ومخالفون للمألوف، ويبدو أن ابن رشد لا يبتعد كثيراً عن المنفلوطي والطهطاوي والشدياق والصفّار في القعود تحت القول الغربي من وجهة نظر كيليطو.

يحيل كيليطو في تصديره الكتاب إلى نص لبيترارك من القرن الرابع عشر الميلادي، الذي تعتبره المدونة الغربية الرائد الأول لحركة النهضة الغربية حتى قبل أن يدلف إلى مقدمة الكتاب، ويحوي النص تهميشاً للعرب وأدبهم وثقافتهم، في مقابل الإشادة البالغة للأدب الإيطالي، ما يستحيل معه وفق هذه الرؤية المتحيزة إقامة مصاهرة ثقافية بين الشرق والغرب عبر الزمن، يقول الأديب الايطالي في رسالة طويلة إلى صديق له يختصر مقدمتها مضمونها المتحيز ” أرجو منك، في كل ما يتعلق بي، أن لا تقيم أي اعتبار لعربك، وأن تتصرف تماماً كما لو كانوا غير موجودين، إنني أكره هذه السلالة بكاملها، أعرف أن يونان أنجبت رجالاً علماء فصحاء: فلاسفة، شعراء، خطباء، رياضيين، كلهم نبغوا هناك … فيما يخصني أعرف شعراءهم (أي العرب) ولا يمكن تصوّر شيء أكثر هشاشة، وأكثر إزعاجاً، وأكثر فحشاً، ليس بإمكان أي شيء أن يجعلني أصدق أن شيئاً طيباً يمكن أن يأتي من العرب”([7]).

  فالنص الذي رشّحه كيليطو ليصدم به القارئ يجسد واقع الصدام الحضاري بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، لأنه لا يقيم أي اعتبار للأدب العربي فهو يتعجب: (تسبغون عليهم المديح) ويتمنى: ( لو لم يكتب العرب شيئاً ) ويبدو أن كيليطو يريد بذلك قطع أي تعاطف من الممكن أن يتسلل إلى القارئ العربي أثناء قراء الكتاب، ويبدو أن كيليطو بالغ في اهتمامه النقدي، إلى أن اختار صورة غلاف الكتاب لسفينة عربية بريشة الواسطي في القرن السابع الهجري وهي تمثل إحدى مقامات الحريري، وربما أراد كيليطو برمزية السفينة على أنها تمثل الأدب العربي وقدرته في خوض عباب آداب التاريخ المعاصر وهيمنته عليها ووضع أشكاله الأدبية أمام المتلقي، أقول ربما لأن كيليطو لا يترك شاردة ولا واردة إلا وهو يستثمرها لإثبات عُلو كعب آداب العرب القديمة وتمكّنها على رفع ذائقة الناس والتأثير فيها إيجاباً.

لم يكن استدعاء كيليطو للهمذاني والحريري اعتزازاً مجرداً للثقافة العربية، بل كان يريد أن يحيي هذا السرد التراثي البديع ليكون في بؤرة الثقافة المركزية، لتصل إلى العالم وتصيغ حضارته الفكرية من جديد، بعد أن كانت هامشاً اتخذ منه موقفاً لداعٍ ثقافي خاص([8]) فالخطاب عن هذا السرد ليس عكوفاً على الماضي بقدر ما هو خطاب عن الحاضر المُقصى عنه أدب العرب، بل ينبع اهتمامه بالأدب الكلاسيكي لقدرته على ممارسة الكتابة وإنتاج أشكال أدبية ممتدة في الزمن، فهو في هذا المقام يشيد بضرورة اللغة التي يستخدمها الكاتب فتكون وسيلة للتفكير، لا مادة للتعبير يتم من خلالها إنتاج عمل أدبي فحسب([9]).

شعر عبدالفتاح كيليطو بعمق التحيز الأدبي والفكري عند الغرب، فأصدر كتابه على شكل احتجاج أدبي، واعتزاز لغوي ( لن تتكلم لغتي) وكأنه يحتج على هذا التحيز في كل مجالات الحياة التي هيمن عليها الغرب وصبغها بأسلوبه الحضاري، فقد هيمنت فكرة التحيز الأدبي على الذاكرة الثقافية وتجذرت فيها، وكأنها أصبحت سيمة الأدب أو ثيمة المجتمع المعاصر، حتى في كتابه الأخير ( في جو من الندم الفكري) وفي معرض ثنائه على الجاحظ الرمز الأدبي العربي، تذكر هذه السطوة الثقافية الغربية على الوعي الجمعي وضرورة المقارنة بين ثقافتين قائلاً” وإذا كان من اللازم تشبيهه بكاتب أوروبي، فلا أرى أفضل من الفرنسي مونتيني، الذي كان يكتب، على حد قوله، (بالقفز والوثب). ولا أشك أنه كان يقرأ أيضاً بهذه الطريقة”([10]) وليس ذلك تسويقاً لأدب فرنسي أو أديب غربي بقدر ما هي وفاء للأدب العربي متمثلاً في صورة الجاحظ في سياق الأدب المقارن، وقد أشار إلى ذلك حين قال ” أعرف أنني لن أضيف شيئاً يذكر إلى ما يكتبه الفرنسيون. وفضلاً عن ذلك، فإنهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون مني أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني”([11]).

   يعزز كيليطو فكرة ضرورة التمايز بين الحضارتين الشرقية والغربية، ليس في الفكر والفلسفة ومرجعيتهما الدينية واللغوية، بل حتى في أصغر خصوصياتها التي تمثل هُويتها: الزي وطريقة الأكل والشرب، لذلك فإنه لم يدع الخطأ الذي وقع فيه الناشر الغربي يمرّ مروراً عادياً، فاستحضر هذه المسألة، فحين ترجم كاتب فرنسي كتاب “البخلاء“، وكتب كيليطو مقدمة له، وضع الناشر  اسم صاحب المقدمة قريباً من اسم الجاحظ، حتى ظنّ القراء أنه ترجمها “ها قد انخرط الجاحظ في زمرة الكتاب الفرانكوفونيين، صار معاصراً لنالا شك أنه يحمل نظارة شمسية أو طبية يخفي بها جحوظ عينيه، ولا شك أنه يرتدي لباساً أوروبياً أنيقاً من بدلة ورباط عنق وحذاء لامع ([12]).

حتى مصطلح (الأدب) بدا لكيليطو أن تأثر بهذه الهيمنة الثقافية، وأصبح حين يطلق على الأدب العربي يحمل دلالات مخالفة لما كان عليه من التحلي بالأخلاق والفضائل والتربية عليها، كما في كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع، بل وصل الحال إلى أنه عند التأليف في تاريخ الأدب العربي، يُكتب انطلاقاً من مدلول كلمة (litterature) بمعنى: إسقاط التصورات المعاصرة على ما الّف في القرون السالفة – على حد تعبير كيليطو – فهذا المفهوم الغربي الحديث لا يتعدى عمره مائتي عام، وقد تبلور داخل الرومانسية الألمانية، وبكل تدقيق داخل ما يسمى مجموعة (بينا) التي كانت مكونة من أسماء كنوفاليس وشيلينغ والأخوين شليغل، وقد كان يستخدم عند الغرب قبل الثورة الفرنسية وله دلالات راسخة وثابتة، لكن مع ظهور الرومانسية تحول إلى أدب متلوّن يمزج بين الأنواع والمتضادات، فصار من مضامين هذا الأدب: مسرحيات شكسبير الذي يزاوج بين الكلام الجزل والسوقي، وخطابات أفلاطون الذي يخلط بين الجد والهزل، وحينما حققت الرواية هذه الشروط في العصر الحديث([13])، اعتلت أعلى مراتب الأدب الغربي وذلك لأنها تستوعب السيرة الذاتية، والحوار المسرحي، والمذكرات، والرسائل([14]) .

ولذلك فهو يدعو إلى نبذ هذا المفهوم الغربي للأدب وتجاوز دلالاته التي لا تتقاطع مع الأدب الغربي الذي يُعنى بالجانب التعليمي والخُلقي والأمر والنهي، وليس التذبذب في الأشكال الأدبية، بل إن الأدب في مفهومه في العصر

الحديث لم يتحدد بشكل منضبط ودقيق، ولا يمكن حدوث ذلك حتى تُوضع نظرية عامة للخطابات.

  تشرّب كيليطو الفلسفة الأدبية التي صاغها نقاد الغرب لكن استيعابه لها لم تجعله خاضعاً لها واقعاً تحت سطوتها، بل إنه حاول أن يتجاوزها ويتخلص من آثارها الفكرية والكتابية، وإن كان قد استخدم أدواتها البحثية ومناهجها الأدبية والنقدية إلا أنه كان حريصاً في أن عمله لم يكن نقلاً وتأثراً بل عملاً تأصيلياً لهذه المناهج وتأسيساً عليها مشروعه النقدي، من خلال إحياء موروثه السردي وإعادة قراءته ورصد خصوصيته وفحص نسقه الثقافي، فاستطاع أن يستخلص جملة من القواعد الأدبية الملائمة للحكاية في سياقها العربي والتراثي، سواء كان في المنطق الذي يحكمها، أو النوع الذي يحتويها، بل إنه كان عامداً إلى استخدام مصطلح ( حكاية) لتأصيل هذا المفهوم المنتمي إلى الذاكرة السردية العربية([15]).

يرى كيليطو في تقديمه أن المنفلوطي – الذي كان يعتمر العمامة الأزهرية  -كان أوروبيا بشكل أو بآخر، شَعر أم لم يشعر بذلك،فالأديب الذي افتتن به المراهقون في نظراته وعباراته لم يكن بأكثر من ناقل أمين للأدب الغربي، حتى وصل الى المرحلة التي تشرب فيها فكرهم ؛ فأصبح يتحدث بلسانهم معنىَ لا لغة، يتحدث بلغة أدمون روستان وبرتردان دي سان بيير، والكسندر دوما الابن، وألفونس كار، فأكثر ما كان يثير كيليطو هو نسق التحيز المضمر عند المنفلوطي وإعجابه الخفي بالثقافة الفرنسية التي صبغت كتاباته وأدبه، فيما كان يبدو للناس أنه مناهض لهذه الثقافة وليس لها هيمنة عليه، فلا هو الذي يجيد الفرنسية، ولا أسلوبه خرج عن طريقة أعلام النثر العربي قديما، يقول كيليطو ومع ذلك: فكل صفحة من صفحاته تهمس بسؤال واحد: كيف أكون أوربياً؟! وفي ذلك حكم قاسٍ على أديب العربية وتعميم مبالغ فيه، فأديب الأسلوب العربي الذي يتحاكى كثير من المبتدئين بكتاباته أصبح محطّ اتهام وموضع ريبة عند كيليطو، ولا أظنه مقتنعاً بهذا الرأي إذ يسجّل شهادته في المنفلوطي “جلّ الكتاب المحدثين تفتقت قريحتهم وانبثقت رغبتهم في الكتابة بعد أن قرأوه”([16])  ومن الغريب أن الذين قرأوه لم يصاب باللوثة الأوربية! لكن كيليطو يرى أنه قد تأثر بالغرب دون أن يشعر حتى وصله به الأمر الى أنه يتزيّا باللباس الأوروبي، وفي هذا معنى عميق على مأساويته وهزليته ” اللباس الأوروبي سر المنفلوطي سرٌّ لا يمكنه البوح به لأنه لصيق ببدنه بذاته، فلا يظهر على غلاف الكتب كما لا يظهر أسماء المؤلفين الاوربيين”([17]).

  إذاً بعد كل هذه المبررات وفي ظل تعذر وجود الخطوط المعرفية المشتركة من العقائد والتاريخ والأدب والجغرافيا مع الآخر، يطرح كيليطو حلّاً انهزامياً، وبتعبير أدق: الانسياق في طابور التبعية الثقافية، وهو يعني بذلك: استحالة المثاقفة في ظل هذا العولمة الطاغية إلا ركوب موجتها أو مقاطعتها، لذلك فهو يرى أن لا سبيل إلى المثاقفة إلا بوسيلتين وهما:المزامنة التاريخية والعلائق المعرفية، فأما المزامنة التاريخية فتكون بتحوير التاريخ العربي إلى التاريخ الغربي وأما العلائق المعرفية فتكون بريط أدب المشرق وشخصياته بأدباء الغرب في ذلك العصر، وهي أشبه بحركة ترجمة ثقافية.

جرّب كيليطو الوسيلتين أخيراً، ففي المحاضرة التي ألقاها في ستراسبورغ الفرنسية عن مقامات الهمذاني، طرأت له هذه الهواجس ثم عنّت له فكرة المزامنة التاريخية وهو أن يعرض أحداث هذه المقامات بالتاريخ الميلادي بدلاً من الهجري حتى يستوعبها المتلقي الأوربي، ثم عقد صلة بين بديع الزمان الهمذاني بأدباء أوربين معاصرين له ( ولاشك أن الجمهور سيحمد لي هذه الالتفاتة الكريمة فقد علمتني التجربة المرّة أن الآخر لن يهتم بي الا اذا التفتّ اليه([18]) ولا أظنّ أن كيليطو قد اقتنع بالوسيلتين ولكن ذلك كان كافياً للشعور بمرارتهما.

  ومن المفارقات المأساوية في ذاكرة الأمة الثقافية، وهي أن كتب الأدب العربي تحيل في تأريخها عند الحديث عن العصور الذهبية الى نهاية القرن الخامس الهجري، ثم حدثت فجوة أدبية وتاريخية معاً لا أدبٌ مزدهر ولا تاريخٌ مسجّلٌ منقولٌ، وحين بدأ الادب العربي يستعيد شيئاً من ألقه في عهد الطهطاوي والشدياق، لا ينصرف الذهن إلى القرن الثالث عشر الهجري بل القرن التاسع عشر الميلادي ” فإذا كان الأدب العربي الكلاسيكي يحيلني تلقائياً إلى الهجرة وفضائها فإن الأدب الحديث يحيلني عفوياً إلى أوروبا كتقويم وإطار”([19]).

وصل كيليطو الى ذروة المواجهة وهو يسخر من أديب فرنسا شارل بيلا، حينما وصم الأدب العربي -الذي أفنى فيه حياته دراسة وتخصصاً- بالتفاهة وبعثه على الملل والسآمة ، استخدم كيليطو نفس المنهجية التي اتّبعها شارل بيلا: السخرية المريرة، وذلك  لأنه حكمٌ جائرٌ من أديبٍ محقِّق،  لقد شبّهه كيليطو بفارس الظل الحزين دون كيخوته، النبيل الذي يحارب طواحين الهواء، ومع ذلك فقد كان كيليطو لطيفاً في تصويره، فلم يقل أن هذا البطل لم يكن غير أحمقٍ ظنّ نفسه في مهمة مقدسة كما تصف كتب الأدب بطل أولى الروايات الغربية وأشهرها، وفي الواقع فقد كان كيليطو محقاً في نقده وفي خياله، وفي النقض عليه أيضاً، إذ أن هذا الرأي السطحي عن الأدب العربي الذي جاء في كتاب رصين عن (بيئة البصرة وتكوين الجاحظ) هو محاولة لتسفيه الثقافة العربية كاملة،لمجرد أنها ليست أوروبية فحسب، فكيف يمكن بذل أدنى محاولة للمقاربة الثقافية أو التقارب الحضاري في ظلّ هذا التحيّز المركّب، ولا يظهر -على حد وصف كيليطو – أنّ هذا الناقد كان يقيم وزناً كبيراً للقراء العرب أو مترجميهم، فالحوار الذي يعقده في كتاباته يتم في الغالب مع قراء أوروبيين([20]) بل حتى الإعجاب الذي أبداه بأديب عربي كالجاحظ لم يكن مجرداً من حمولات التحيّز الثقيلة في الفكر الغربي المستعلي على الآخرين، فقد كان الجاحظ مبدعاً ليس لأنه برع في التصوير والأسلوب الكتابي، بل لأنه يشبه أدباء الأرض الفرنسية من أمثال مونتيني، فالسابق يُشبّه باللاحق، هكذا في العرف الغربي، ثنائية ( الأنا والآخر)، قلْب التسلسل التاريخي رأساً على عقب من أجل الفرادة الأوروبية التي يعتنقها المستعرب شارل بيلا([21]).


الهوامش (التحيز الغربي)

[1] – كيليطو، عبدالفتاح، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي، الطبعة 2، الدار البيضاء: دار توبقال،  2001م،ص169.

[2]   – كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص8.

[3] عارف، نصر، نظريات التنمية السياسية، ضمن كتاب: إشكالية التحيز، تحرير عبدالوهاب المسيري، فرجينيا: المعهد العالي للفكر الإسلامي. 1997 م(2/188) .

[4] – إبراهيم، عبدالله، السردية العربية الحديثة، الجزء الأول، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013م، ص7.

[5] – كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص169.

[6] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص24.

[7] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص5.

[8]– برجم، راوية،آليات تأويل السرد العربي القديم عند عبدالفتاح كيليطو، المقامات نموذجاً، مجلة أبوليوس، العدد 8، يناير 2018م.

[9] -طرودي، سليمة، آليات قراءة التراث عند عبدالفتاح كيليطو، كتاب المقامات السرد والأنساق الثقافية أنموذجاً،  رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة العربي بن مهيدي، الجزائر،2014م.

[10] – كيليطو، عبدالفتاح، في جو من الندم الفكري، ايطاليا: شرق المتوسط، 2020م.

[11] – كيليطو، نفس المرجع .

[12] – كيليطو، نفس المرجع .

[13] – يربط هيغل نشأة الرواية كجنس أدبي جديد بالتحول التاريخي الذي حصل في سباق الوعي الأوربي، وهذا التصور يعزز رؤية هيغل في مركزية أوروبا التي تنظر إلى تواريخ غيرها من الشعوب كهوامش فقط(بوعزة، الطيب، ماهية الرواية، بيروت: عالم الأدب،2016م، ص60)

[14] – كيليطو،عبدالفتاح،  الأدب والغرابة:دراسات بنيوية في الأدب العربي، الطبعة 3، الدار البيضاء: دار توبقال،  2006م،ص21،ص23.

[15] – حكيمة، بلحين، الخطاب النقدي والموقف من التراث في كتابات عبدالفتاح كيليطو الأدب والغرابة نموذجاً، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة محمد بوضياف، المسيلة، الجزائر. 2016، ص56 ص57.

[16] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص8.

[17] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص9.

[18] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص11.

[19] – كيليطو، نفس المرجع، ص12-13.

[20] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص17-ص18.

[21] – كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص19.