مجلة حكمة
قلق الحداثة

قلق الحداثة – تشارلز تايلور / ترجمة: وحيد الهنودي

قلق الحداثة: ثلاثة أقلاق

     ينصبّ انشغالي على قلق الحداثة، وأنا أقصد بذلك خطوط مميّزة للثقافة والمجتمع المعاصرين والتي يتصوّر الأفراد أنها تخلّف أو انحطاط، برغم تقدّم حضارتنا. إننا نؤكّد أحيانا أن انحطاطا هائلا قد حدث خلال العقود الأخيرة – منذ الحرب العالمية الثانية أو سنوات الخمسينات، مثلا- بل أن هذا الشعور قد يمتدّ مددا أبعد، فالبعض يعتقد أن كل الحقبة الحديثة ومنذ القرن السابع عشر انحطاط طويل. حتى وإن اختلف السلّم الزمني كثيرا فإننا نلاحظ شكلا من الإجماع حول مسألة الانحطاط. في الواقع يتعلّق الأمر بتغيّرات في بعض الملامح الأساسية، وأنا أرغب في الكشف عن اثنتين وسأعلن بعد ذلك عن الثالثة وهي تصدر بقدر عظيم عنهما. هذه المباحث الثلاث لا تستنفذ الموضوع ولكنها تلعب دورا هاما في الحيرة  والاضطراب الذي نعاينه في المجتمعات الحديثة.

     سأستحضر مخاوف جدّ مألوفة فالكل يعرفها جيّدا: ونحن نناقشها باستمرار، ونتحسّر عليها ونتنازع حولها أو نعلّق عنها في كل وسائط الإعلام. قد نعتقد أن ذلك حجة كافية لكي لا نتحدّث عنها ثانية، أتصور رغم ذلك أن سماتها المألوفة تخفي لُبْسًا، وأننا لا نفهم حقيقة التغيّرات التي تزعجنا والتي تقوم جل ثقافتنا تقريبا بتشويهها وتجعلنا نتخيّل حلولا مغلوطة. ولا يخفى أن التحوّلات التي تحدد الحداثة معروفة جدا ومزعجة لذلك ينبغي أن نتحدّث عنها مجددا.

  1. العامل الأول للقلق: الفردانية. تشكّل الفردانيّة طبعا ما يعتبره أيضا البعض أجلّ فتح للحداثة، فنحن نعيش في عالم حيث يمكن للأشخاص اختيار طرق حياتهم وأن يسلكوا وفقا لأفكارهم، وإجمالا أن يُوَجِّهوا وجودهم وفقا لطرق لم تكن تخطر على بال أسلافهم. من الآن فصاعدا سيحمي نظامنا القضائي هذه الحقوق. وبالفعل فإن الأشخاص لن يضحوا على هيكل القيم المقدّسة التي تعلوهم.

   لقد تخلى عدد ضئيل من الأشخاص عن هذا المبحث، والبعض اعتقد أنه غير مكتمل أصلا، وأن المقتضيات الاقتصادية والبنى العائلية أو التراتب التقليدي تحدّ من حريتنا الفرديّة. في المقابل فإن آخرين ظلوا حائرين فقد كسبنا حريتنا الحديثة بانقطاعنا عن الأفاق الاجتماعية القديمة. لقد اعتقد أسلافنا أنهم يمثّلون جزء من نظام يتجاوزهم، وفي بعض الأحيان يتعلّق الأمر بنظام كوني لـ”سلسلة طويلة من الكائنات”، حيث تحتل الكائنات البشريّة مكانتها بين الملائكة والأجرام السماوية والمخلوقات الأرضية الأخرى. إن نظام الكون هذا ينعكس على تراتبية المجتمع الإنساني. فقد كان الأشخاص دوما متاخمين لمكانة معطاة، لوظيفة ولرتبة كانت منوطة بهم والتي لا يمكنهم الهروب منها. وانتهت الحرية الحديثة إلى إزالة مثل تلك التراتبيّات. 

    لكن وفي نفس الوقت التي تحدّنا فإنها (التراتبيّات) تعطي معنى للعالم وللحياة الاجتماعية. فالأشياء التي تحيط بنا لا تمثّل فقط مواد أولية أو أدوات لتحقيق غاياتنا. إن مكانتها في سلسلة الكائنات تمنحها معنى. لم يكن النسر طائرا من بين طيور أخرى بل هو ملك مجال حياة حيوانية بأسرها. في نفس الأفق تلعب الطقوس ومعايير المجتمع أكثر من دور وظيفي. لقد أمكننا أن نتحدث عن “إزالة السحر عن العالم” disenchantment حول المصداقية الملقاة على تلك التراتبيات. بذلك فقدت الأشياء سحرها دفعة واحدة.

     لقرون عدّة تجادلنا كثيرا لنعرف  هل أن إزالة السحر هذه مفيدة، ولكني لا أرغب هنا في إعادة هذا  السجال، أريد بالأحرى معالجة نتائجها على الحياة الإنسانية وعلى معناها.

    لقد اعتقدنا دائما أنه بانقطاعنا عن تلك الآفاق الاجتماعية الكونية الشاملة، فَقَدَ الفرد شيئا جوهريّا. تحدث البعض عن فقدان البعد البطولي للحياة، فبفقدان الأشخاص معنى المثالي فقدوا أفق الهدف الذي يجعلهم يقبلون مشقّة الموت. بهذا المعنى أشار ألكسيس دي توكفيل في القرن الأخير إلى “اللذائذ الصغيرة والحقيرة” التي يبحث عنها الأفراد في عصر الديمقراطية[2].  بعبارة أخرى فنحن نئن من عوز في الانفعال. حدد كيركيغارد أيضا “الزمن الحالي” بهذه الطريقة، والإنسان الأخير لنيتشه يُظْهر النهاية القصيّة لهذا الانحدار، إنه لا يأمل إلا بـ”راحة متهالكة”[3].  

   لقد ربطنا غياب المثل هذا بتسطيح الحياة، ففَقَدَ الأشخاص رؤية الآفاق الرحبة لأنهم إنكفؤوا حول فرديتهم. يقول دي توكفيل “إن المساواة الديمقراطية تُعيد الفرد إلى عين ذاته. وتهدد، أخيرا، بحبسه في معزل قلبه الخاص.”[4] بعبارة أخرى، إن الوجه المًعْتَم الذي يسطّح حياتنا يقلّصها ويفقّرها من المعنى ويبعدنا عن الاهتمام بالآخرين وبالمجتمع.

   لقد عاد هذا القلق مؤخرا إلى السطح في شكل حيرة حيال موضوع ثمار “المجتمع المتساهل”، عن سلوك “جيلي” أو بتعميم “النرجسية”  narcisism لكي نستعيد ثلاثة عبارات بحسب الموضة. إن الشعور بكون الحياة تسطّحت وضاقت بموجب إنهمام مفرط بالأنا، وتستعاد في أشكال مخصوصة في الثقافة المعاصرة وهذا يشكّل المبحث الأول الذي أرغب في تناوله.

  • ترتبط إزالة السحر عن العالم بظاهرة أخرى أكيدة ومزعجة في المرحلة الحديثة: يمكننا أن نسميها أفضليّة العقل الأداتي. وأقصد بـ”العقل الأداتي”instrumental reason تلك المعقولية التي نستعملها عندما نقيّم الوسائل الأكثر بساطة للوصول إلى غاية  معطاة. إن النجاعة القصوى والإنتاجية الأعلى هي ما يقيس نجاحه.

     لقد ساهم انهيار النظم القديمة، بكل تأكيد، في التوسّع الهائل لإمبراطورية العقل الأداتي. عندما لا يكون للمجتمع بنية مقدّسة، وعندما لا يقوم النظام الاجتماعي وطرق الفعل على نظام الأشياء أو إرادة الرب، فإنها تتحول بمعنى ما إلى حلبة شجار تمكّن من أن نتفكّر الكل وفقا لمبحث السعادة والحياة الجيدة للأفراد. من الآن فصاعدا سيكون العقل الأداتي السيد وبموازاة ذلك ستفقد المخلوقات التي تحيط بنا دلالاتها التي تكفل لها مكانتها في سلسلة الكائنات. إن مكانتها تنحط كمواد بدائية أو بواسطة خضوعها لغاياتنا.

   حررنا هذا التحوّل على نحو ما، لكنه أثار أيضا هذه الحيرة واسعة الانتشار، ذلك أن العقل الأداتي لم يوسّع فقط مجاله الخاص بل يهدد أيضا بالهيمنة الشاملة على حياتنا. نحن نتخوّف من كون قرارات ينبغي أن تخضع لمعايير أخرى قد تُعَيَّر بالنجاعة أو بحساب الأرباح بالخسائر. وقد تتم مواراة الغايات المستقلة التي ينبغي أن تنير حياتنا بالرغبة في تأويج الانتاجية. يمكننا أن نعلن أمثلة عديدة تغذّي هذا القلق: استعمال مقتضيات النمو الاقتصادي لتبرير التوزيع الجائر للخيرات والمداخيل. أن نتخيّل أيضا الطريقة التي تكون فيها مخططاتنا الاجتماعية في مجالات أكثر إحراجا كتقييم المخاطر، الخاضعة لحسابات بشعة تتعلق بالأرباح والخسائر، تلك التي تضفي قيمة نقدية على الحياة البشرية[5].

  تظهر أسبقية العقل الأداتي أيضا في الهالة التي تحيط بالتكنولوجيا والتي تجعلنا نبحث عن حلول تكنولوجية حتى وإن كان الرهان من طبيعة أخرى، الظاهرة متكررة في السياسة كما وضحه بيلاه R. Bellah وفريقه في كتابهم الأخير.[6] لكن العقل الأداتي غزا أيضا مجالات أخرى كالطب مثلا، فباتريسيا بينييه Patricia Benner بيّنت في مؤلفات عديدة وهامة أن التكنولوجيا الطبية تقود دوما إلى إهمال الرعاية التي تقتضيها معالجة مريض بوصفه شخص مالك لحياة خاصة وليس مجرد موضع لمشكل تقني. إن المجتمع والجسم الطبي يقللان من دور الممرضات اللاتي تقمن بهذا الاتصال الإنساني الذي يعوز هؤلاء المختصين المسجونين في معرفة تقنية.[7]

    نعتقد أيضا أن هيمنة التقنية قد ساهمت في تسطيح حياتنا وابتذالها وهذا ما سيحدد مبحثي الأول. لقد تحدّثنا عن فَقْدٍ لصدى الوسط الإنساني وعمقه وثرائه. وقد لاحظ ماركس ذلك قبل زهاء مائة وخمسين سنة في بيان الحزب الشيوعي فالتقدم الرأسمالي يتسبب “في صهر كل ما هو صلب في الهواء”: هذا يعني أن الأشياء الصلبة والمستدامة والتي كانت دائما دالة تلك التي ساعدتنا في الماضي قد وًضِعت جانبا لصالح البضائع الزهيدة والأشياء التي تستعمل لمرة واحدة Replaceable تلك التي تحيط بنا الآن. تحدث ألبار بورغمان Albert Borgman عن “براديغم الآلة”device paradigme الذي بموجبه ننسحب أكثر فأكثر من علاقة معقدة بالنسبة لبيئتنا ونطلب بالأحرى منتجات مًصَمَّمَة لاستعمال محدود. إنه يقوم مثلا بمقارنة نظام التدفئة المركزي الراهن وذلك الذي كان للروّاد، هذا الذي يقحم العائلة برمّتها في قطع الحطب وتخزينه وإشعال التنّور أو الموقد.[8] بدورها شدّدت حنة آرندت على الأشياء العادية الأكثر فأكثر وقتيّة، وقد استخلصت أن “حقيقة العالم الإنساني وصلابته ترتكز أساسا على كوننا محاطين بأشياء أكثر دواما من الجهد الإنساني الذي أنتجها.[9] هذه الديمومة مهددة في عالم الرفاهيات الحديثة.

   ينضاف إلى هذا التهديد الريبة في كون هذه الوضعية تعود إلينا، وهي لا تُفسَّر فقط بقَدَريّة عصرنا والذي نعانيه دون وعي. سيكون من الممكن مقاومته ناهيك أن تكون مغالبته عسيرة. لكن من البيّن أن المكنزمات الهائلة للحياة الاجتماعية تدفعنا أيضا في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من هذه الآراء، فإن إدارة ما ستكون مُرْغَمة في ظروف السوق بالاعتماد على استراتيجيا تأويج المنافع أن تحكم عليها من جهة أخرى بكونها ضارة، بحسب معتقداتهم الشخصيّة. إن إداريا سيكون مجبرا بالقواعد التي تحكم عمله على أخذ قرار يدرك أنه لاإنساني وأخرق.

    إن ماركس وفييبر ومنظرين كبار قد حللوا هذه المكنزمات المألوفة. وقد أشار إليه فييبر باسم شديد الإيحاء “القفص الحديدي” والبعض أرادوا أن نستخلص من تحاليلهم أننا سنظل دوما بلا حول إزاء مثل هذه القوى مادمنا لم نقم بتفكيك البنى المؤسساتية خاصّتنا منذ بضع قرون –بمعنى الدولة واقتصاد السوق-. هذا الطموح يبدو اليوم غير واقعي ويكافئ الاعتراف بالعجز.

   سأعود لذلك، فأنا أعتقد أن هذه النظريات الجَبْرية مجرّدة وخاطئة. إن هامش الحرية الذي لنا ليس عدما. من المهم أن نفكّر في ما ينبغي أن تكونه غاياتنا ومطالبتنا إن كان العقل الأداتي لا ينبغي أن يقوم بأقل دور في حياتنا. لكن أغلب التحاليل تبيّن أن الأمر لا يتعلق فقط بتغيير زاوية النظر للأفراد، فالأمر ليس مجرد “نزاع الأفئدة والعقول”، أنه لحاسم ذلك أن التغيير يجب أن يطال المؤسسات، حتى وإن لم يكن ذلك راديكاليا كما يطمح المنظرون الثوريون.

  • يقودنا ذلك إلى المستوى السياسي وإلى النتائج المخيفة للفردانيّة والعقل الأداتي، وقد أجليت واحدة. إن المؤسسات وبنى المجتمع التكنو-صناعي تقيّد خياراتنا جديّا: إنها تُرغم المجتمعات كما الأفراد على إعطاء قيمة للعقل الأداتي لا تعطيها إياه في حوار أخلاقي جديّ، والذي يمكن أن ينكشف كمدمّر. إننا نجد مثلا نموذجيا في الصعوبة القصوى التي نمر بها أثناء التعامل مع التهديدات الإيكولوجية والتي لها تأثير على حياتنا كترقّق طبقة الأوزون. يمكننا أن نتصور أن مجتمعا يقوم على العقل الأداتي فقط يهدد الحريات الفردية والعامة إذ هو لا يشكل قراراتنا الاجتماعية فقط. من الصعب الحفاظ على نمط حياة فردي ضد التيار، ذلك أن تصميم بعض المدن الحديثة مثلا يستوجب استعمال السيارة الخاصة سيما وقد سمحنا بَعْدُ بتدهور النقل العمومي.

   بيد أن الكثيرين تحدّثوا عن فَقْدٍ آخر للحرية وبخاصة ألكسيس دي توكفيل، ففي مجتمع يتألف من أفراد “محبوسين في وحدة قلوبهم الخاصة” قلة من الأفراد يرغبون في المشاركة النشطة في الحياة السياسية. إنهم يودّون البقاء في منازلهم ليستمتعوا بهناء الحياة الخاصة طالما أن الحكومة تضمن وسائل الرفاه وتوزعها بسخاء.

   إن الباب مفتوح على مصراعيه لشكل جديد وحديث بالكامل للاستبداد، والذي سمّاه توكفيل الاستبداد “الناعم”، لن يتعلّق الأمر باستبداد قائم على القهر والجور كما كان في الماضي. إن الحكومة ستكون ناعمة وأبوية وستحفظ أشكال الديمقراطية بتنظيم انتخابات منتظمة. بيد أن كل شيء سيكون محكوما “بسلطة كليانية ضخمة”[10] والتي ستكون سيطرة الأفراد عليها محدودة. إن الدفاع الوحيد ضد هذه السلطة وكما اعتقد توكفيل يتمثل في ثقافة سياسية قوية تثمّن المشاركة، إن في المحامل المختلفة للحكومة أو في المنظمات الحرة. لكن تذرية الأفراد المنكفئين على أنفسهم تحول دون ذلك. فمذ ضعفت المشاركة وفسدت الجمعيات التعاونية التي كانت الحامل وجد الفرد نفسه وحيدا قبالة الدولة البيروقراطية الهائلة والتي يشعر أمامها أنه بلا حول. إن المواطن يكون أشد عجزا والدائرة المغلقة تزداد انغلاقا.

  قد يكون هذا الاغتراب في المجال السياسي واقع عالمنا شديد التمركز والبيروقراطي. يعتقد العديد من المفكرين في القيمة التنبؤية لكتاب توكفيل.[11] إن كانت الحالة تلك فإننا مهدّدون بفقدان التحكم السياسي في مصيرنا والذي نستطيع ممارسته معا بوصفنا مواطنين وهو ما يسميه توكفيل “الحرية السياسية”. إن كرامتنا هنا كمواطنين مهدّدة، فالمكنزمات المألوفة والمذكورة آنفا تستطيع أن تقيّد حريتنا كمجتمع، لكن فقدان الحرية السياسية تدل أنه لم يعد بإمكاننا أن نقوم بالخيارات التي ظلت لنا كمواطنين وأن سلطة كليانية لامسؤولة تقوم بها عوضا عنا.

    هذه هي الأقلاق الثلاثة للحداثة التي أنوي معالجتها في هذا الكتاب. الأول يتعلّق بما يمكن أن ندعوه فقدان المعنى: تلاشي الأفاق الأخلاقية. والثاني يتعلق بخسوف الغايات في مواجهة عقل أداتي جامح. والثالث يتعلق بفقدان الحرية.

    طبعا لن يكون كل ذلك دون خوض سجالات، لقد أثرت أقلاق جد شائعة وأوردت كتّاب مشهورين، لكن دون الحصول على اتفاق، وحتى أولئك الذين يتقاسمون في جانب الحيرة يختلفون في طريقة صياغتها. عديدون هم أولئك الذي يريدون كنسها بكف اليد، الذين توغلوا عميقا في ما يمكننا أن نسميه “ثقافة النرجسية” يعتقدون أن هذه النقودات ترجع إلى حنين لفترة ولّت وهي أشد  قمعا. إن المتابعين للعقل التكنولوجي الحديث يعتقدون أن المعترضين على أسبقية الأداتي رجعيين وظلاميين ومتآمرين على إخلاء العالم من خيرات العلم. والذين يدافعون عن تصوّر محض سلبي عن الحرية يجادلون في كوننا نعطي أهمية كبرى لمفهوم الحرية السياسية وأنه ينبغي علينا أن ننزع إلى مجتمع تخطط فيه الادارة العلمية لكل فرد استقلالا ذاتيا أكثر. إن للحداثة مناصرين مثلما لها خصوم.

   لم يتم الاتفاق على شيء والنقاش متواصل، لكن طبيعة الظواهر ذاتها المبخوسة هنا والممدوحة هناك يساء دوما فهمها. ويترتب عن ذلك أن طبيعة الخيارات الأخلاقية التي تُعْطَى لنا تتعتّم. أنا أدعم أصواتا توصي خصوم الحداثة ومناصريها بشراسة أن النور لا يأتي من توافق بين الخسائر والمغانم للفردانية والتكنولوجيا والبيروقراطية. إن الثقافة الحديثة أكثر براعة وتركيبا من هذا. أعتقد أن كل من المناصرين والخصوم على حق لكن على نحو لا يستطيع فيه التناسب بين المغانم والخسائر إقرار العدل. في الحقيقة ثمة شيء رائع ومهين ومرعب في الظواهر التي وصفتها ومن أجل فهمها يجب أن نعرف أن المشكل لا يتعلق بتقييم النتائج السيئة التي ينبغي القبول بها لجني الثمار، بل بتوجيهها نحو أجلّ الغايات بدل توجيهها نحو أشكالها المنحطّة.

    ولكوني لا أملك المساحة الكافية التي ستستغرقها معالجة المباحث الثلاث كما تستحق، سأعرض اختصارا. سأنطلق من تفكّر مخاطر الفردانية وفقدان المعنى وسأحلل ذلك بطريقة شافية، وبعد استخلاص بعض النتائج حول الطريقة التي ينبغي أن نعالج المشكل وفقها، سأرسم عبر المماثلة تفكيرا مشابها حول المسألتين الأخرتين. إن اهتمامي سينصب على المبحث الأول ولنبحث بأكثر تفصيل الشكل الذي تأخذه اليوم.

2. حوار بدايته متعثّرة

      نحن نعثر عليه في كتاب  هام نشر مؤخرا في الولايات المتحدة “الروح الأعزل”. لقد فعل الكتاب فعل القنبلة، وهو مُؤَلَّفٌ لجامعيّ ومنظّر في العلوم السياسية حول المناخ الثقافي السائد اليوم بين الطلبة، وقد أُدرج ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعا best-sellers لنيويورك تايمز New York Times لأشهر وهو ما أثار استغراب مؤلّفه، فقد لامس وترا حسّاسا.

   لقد أخذ هذا الكتاب موقفا حازما من موقف الشباب المتكرر حاليا في الجامعة. فالخط الأساسي الذي كشفه حول تصوّرهم للحياة قبولهم بنسبوية متساهلة إلى حد ما، فكل شخص يملك “قيمه” الخاصة والتي لا يمكن  مناقشتها، لكن وكما لاحظ بلوم ذلك فإن الأمر لا يتمثل فقط في موقف إيبستيمولوجي وتصوّر للحدود التي يمكن للعقل إنشاءها، بل يمثّل كذلك موقفا أخلاقيا: فلا ينبغي الاعتراض على قيم الغير لأن الأمر متروك له فهو خيار وينبغي احترامه. هذه النسبوية كانت في جزء منها مُؤسَّسَة على مبدأ الاحترام المتبادل.

   بعبارات أخرى كانت هذه النسبوية ذاتها تفريع عن صيغة للفردانيّة، والتي يمكن أن يتحدد مبدؤها كالتالي: لكل واحد الحق في تنظيم حياته الخاصّة وبحسب ما يعتقد أنه صالح، إذ يجب أن نكون أوفياء لأنفسنا وأن نبحث عن تألقنا في أنفسنا ذاتها. ففيما يتمثّل هذا التألق؟ في الأخير على كل فرد أن يحدده بنفسه إذ لا ينبغي أن يوجهه الغير كان من كان ولا حتى أن يحاول ذلك.

   هذه طريقة لرؤية ما نعرفه جيدا، إنها تعكس ما يمكن أن ندعوه “أيديولوجيا التألق الذاتي” الرائجة اليوم بكثرة خاصة في المجتمعات الغربية ومنذ الستينات، والتي بيّناها وناقشناها في مؤلفات هامة أخرى: التناقضات الثقافية للرأسمالية The Cultural Contradictions of Capitalism لدانيال بال Daniel Bell وثقافة النرجسية The Culture of Narcissism الحد الأدنى من الأنا The Minimal Self لكريستوفر لاش Christopher Lasch وعصر الخواء L’Ere de vide لجيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky .

    إن القلق يظهر في كل هذه المؤلفات وإن كان ذلك ودون شك أقل في كتاب ليبوفتسكي. نجد كل المميزات التي شدّدت عليها آنفا تقريبا في المبحث الأول. هذه الأيديولوجيا تعني انثناء على النفس واستبعاد بل وعدم وعي بالمشاكل الكبرى والأقلاق التي تعلو الأنا، أكانت دينية أو سياسية أو تاريخية. هذا ما قاد إلى تسطيح الحياة وتضييقها.[12] وقد طفى القلق بطريقة مميّزة في الباب الثالث الذي وصفته: هؤلاء المؤلفين يخشون العواقب السياسية الوخيمة التي يمكن أن تؤدّي إليها هذه التحولات الثقافية.

  أتقاسم هذه القيود التي وضعها هؤلاء المؤلفون على الثقافة المعاصرة. وكما سأشرح ذلك لاحقا، أعتقد أن هذه النسبوية المنتشرة اليوم وبكثرة هي خطأ جسيم بل وفي وجوه عدّة غير مقبولة ولا معقولة. من البيّن أن ثقافة الانبثاق الشخصي تحمل الأشخاص على عدم الاكتراث بالهموم التي تتجاوزهم. ومن البديهي أنها أخذت أشكالا عقيمة وأنانية. يمكن أن يتحوّل هذا إلى عبثية: أن نتخيل نمطية الكثير من الناس الذين يسعون جاهدين ليكونوا عين أنفسهم مثل كل الناس، أو أيضا هذه الأشكال الجديدة للتبعية بالنسبة لأولئك الذين وبسبب عدم الثقة في هويتهم يلتفتون لكل أنواع الخبراء والقادة مفتونين بعلم زائف أو بنوع من الروحانية المسترابة.

   لكني أرغب على الأقل في تقديم اعتراض على حجج هؤلاء المؤلفين. هذا ما يبدو عند بلوم في نبرة الازدراء التي يتبناها إزاء الثقافة التي يصفها. ويبدو أنه لم يتعرّف على المثال الأخلاقي الجبّار الذي يعمل هنا، والذي تفسّخ كثيرا وحُرِّف أيّا كانت العبارة. المثال الأخلاقي الذي يلوح خلف البحث عن التألق الذاتي هو من الصدق لذاته في القبول الحديث خصيصا بهذا اللفظ. لقد حدد ليونال تريللنغ Lionel Trilling بوضوح ومنذ أمد في كتاب هام حيث نجح في تناول هذا المشكل الحديث وتمييزه عن أشكال أخرى أكثر قِدَمًا. لقد ظهر التمييز في عنوان الكتاب عينه “وفاء وأصالة”Sincerity and Authenticity   وسآخذ أنا أيضا عبارة الأصالة للحديث عن المثال المعاصر.

    ما الذي ينبغي أن نعنيه بـمثال أخلاقي؟ أعني بذلك صورة لما يمكن أن يكونه وجود أفضل أو أرفع. حيث لا تتحدد “الأفضل” أو “الأرفع” بالاعتماد على رغباتنا أو حاجياتنا بل اعتمادا على مثال ينبغي أن نطمح إليه. إن قوّة العبارات مثل “نرجسية” (لاش Lasch) أو “لذّية”(بال Bell) تعني أن المثال الأخلاقي ليس محل شك هنا، وحتى إن وُجِد فإنه يكون على السطح فقط وينبغي اعتباره كقناع للأنانية. يقول بلوم إن “أغلب الطلبة ورغم كونهم يطمحون ككل الناس أن يكون لهم تصور جيّد عن أنفسهم. فهم على وعي تام للانشغال بمجرى حياتهم وبعلاقاتهم الوجدانية. يوجد نوع من الخطابة لـ”اكتمال الأنا” والذي يمنح لهذا الوجود لونا فاتنا، ولكن من الممكن أن يروا أنه ليس هنالك شيء نبيل على نحو خاص . إن أخلاق البقاء أخذت مكان البسالة في قمة سلّم القيم التي نحترمها.”[13] لا شك في أن هذا الحكم ينطبق على أفراد عديدين، ولكن سيكون خطأ فادحا الاعتقاد أنه سيسمح لنا بمعرفة معنى التحول في ثقافتنا، وبخاصة قدرة هذا المثال والذي علينا فهمه إذا أردنا أن نشرح كيف تنحجب الأنانية برياء.

  علينا إذا أن نفهم القوة الأخلاقية المستترة خلف هذه الأفكار للاكتمال الذاتي. فإذا أردنا تفسيرها بالأنانية والتفسّخ الأخلاقي أو الانحطاط مقارنة بحقبة قديمة أشد صرامة وأكثر تشدّدا سنضل فورا. إن الحديث عن “تسامحيّة” هو مجانبة للصواب (للهدف). طبعا نحن نلاحظ شيئا من التفسخ الأخلاقي ولكن هذا ليس خاصا بعصرنا. علينا أن نشرح ما يخصّه، ذلك أنه لا يكفي القول بأن الناس يضحون بحياتهم العاطفية أو العائلية لصالح حياتهم المهنيّة،. من المحتمل أن ذلك حدث دائما، لكن الجديد أن مزيدا من الأشخاص مدعوون للقيام بذلك، وهم يعتقدون أنه ينبغي فعل ذلك، وأنهم سيخسرون حياتهم أو يفقدونها إن هم لم يفعلوا ذلك.

 هكذا يُهْمِل نقد بلوم بشكل ما القوة الأخلاقية لمثال الأصالة. يوجد على نحو ما شكل ضمني من التشويه لسمعته، وفي نفس الوقت لانحرافاته المعاصرة. لن يكون ذلك شديد الخطورة إذا ما استطعنا أن نلتفت نحو مناصريه. لكننا سنصاب بخيبة أمل. حيث تأخذ أيديولوجيا الأصالة شكل نسبوية دون اتساق، سيكون الدفاع عنها تقريبا مستحيلا أيا كان المثال الأخلاقي. إذ أن ذلك يفترض مسبقا وكما كنت قد قلت وجود أشكال حياة أكثر رفعة من غيرها، غير أن حياة قائمة على التسامح إزاء كل أشكال التألق الفردي ترفض الاعتراف بذلك. وكما لاحظنا دائما ثمة شيء من التناقض والتدمير الذاتي في هذا الموقف، بالنظر إلى أن المثال الأخلاقي يجب أن يدعم النسبويّة ذاتها (على الأقل في جزء منها). أكان منطقيا أم لا فهذا هو الموقف الشائع، المثال مبهم على مستوى البديهية وهذا ما لا خلاف حوله لكننا لم نصغه بشكل واضح.

    من هذا الجانب فأنصار ثقافة الأصالة كما أقترح تسميتهم يدعمون، من بين آخرين، ليبرالية معيّنة، إنها ليبرالية الحياد. أحد مبادئها الأساسية ترغب في جعل المجتمع الليبرالي محايدا حيال الأسئلة التي تتعلّق بالحياة الجيّدة. فكل فرد يطمح حسب طريقته إلى الحياة الجيدة و تفتقر السلطة للحياد، وإذا الاحترام المستحق لكل المواطنين، إن هي اتخذت موقفا إزاء هذه القضية[14]. رغم أن مؤلفين عديدين يدعمون هذه النظرية يعارضون بقوّة النسبوية الناعمة (دووركين Dworkin وكيمليكا Kymlika) ومع ذلك فإن نظرياتهم لا تختزل النقاش حول الحياة الجيدة إلى مجرد حوار سياسي.

    يتبع ذلك وبشكل مدهش أن أحد أكبر مُثُل الثقافة الحديثة بقي غير مصاغ[15] وقد حاول خصومه ذلك لكن أنصاره لا يستطيعون الحديث عنه فالحوار الراهن بكليته يتّجه إلى إلقائه في الظل، وفي العتمة. هذا ما يجلب نتائج ضارة ولكن وقبل معالجتها أريد ذكر عاملين آخرين يتآمران لتكثيف هذا الصمت.

    يتعلّق إحداهما بهيمنة الذاتية الأخلاقية قي ثقافتنا. وأعني بذلك تلك الطريقة في النظر التي تريد عدم إسناد المواقف الأخلاقية للعقل أو طبيعة الأشياء، ولكن لأن كل واحد منّا تبنّاها لحوافز محض ذاتية، في وجهة النظر هذه يفقد العقل دوره كحكم في الحوارات الأخلاقية. طبعا يمكننا أن نشير  إلى أن مواقف شخص ما لها عواقب لم يتخيّلها هكذا فإن نقّاد الأصالة يمكنهم أن يضعوا في دائرة الضوء النتائج الأخلاقية والسياسية التي تنبع من بحث حصري حول التألق الذاتي. لكن إذا أجاب محاورك أنه يريد التمسّك بموقفه المبدئي فلا يوجد ما يمكنك القيام به لإقناعه.

   وفقا لهذه الرؤية فإن الأسس معقّدة وتتجاوز المبررات الأخلاقية للنسبوية الناعمة، حتى وإن بدا واضحا أن الذاتية تُعَدُّ امتحانا هامّا  لهذه النسبوية. وبكل وضوح فإن عددا من الأشخاص في الثقافة المعاصرة للأصالة يُعْجَبون بهذا الموقف حول دور (أو غياب دور) العقل ودون شك فإن المثير للدهشة حقا أن خصومه يقومون بنفس الشيء ومن ثمة يكونون منقادين إلى اليأس من إصلاح الثقافة المعاصرة. فإذا كان الشباب يهزؤون من الأسباب التي تتجاوز الأنا فماذا باستطاعتنا أن نقول لهم؟

   يُجَادل بعض النقّاد طبعا على وجود معايير في العقل.[16] ففي الواقع هم يعتقدون بوجود شيء يسمّى الطبيعة البشرية، وأننا إن فهمنا ذلك فإننا نستطيع أن نبيّن أن بعض طرق الحياة جيّدة والأخرى سيّئة، وأن بعضها أقل من غيرها. إن المنبع الفلسفي لهذا الموقف موجود عند أرسطو لذلك لا ينبغي أن نستغرب من كون الذاتانيين المحدثين يوجّهون له نقدا عنيفا ويؤكدون أن “بيولوجيّاه الميتافيزيقية” مُتَجَاوَزة ولا يمكن الدفاع عنها اليوم مطلقا.

    لكن هذه النقودات موجّهة لمثال الأصالة فهم يعتبرونه تخلّيا عن المعايير المغروسة في الطبيعة البشرية. لم يكن لديهم أي سبب لحدّه في حين أن معارضين غالبا ما تم تحويلهم عن القيام بذلك عبر مواقفهم الذاتانية.

   ثمة عامل ثالث عتّم على أهمية الأصالة كمثال أخلاقي تجسّد في موجة التفسيرات للعلوم الاجتماعية. عموما هذه الأخيرة هي التي استبعدت صياغة المُثُل الأخلاقيّة وفضّلت التوجه إلى عوامل ملموسة وأشد ابتذالا. وهكذا فإن خصائص الحداثة التي سلّطت عليها الضوء، الفردانية وتوسّع العقل الأداتي كانا وبشكل متكرر محمولين على حساب التغيرات الاجتماعية مثل المنتجات الثانوية للتصنيع أو التنقلات الكبرى للأشخاص أو أيضا التمدّن، ثمة دون شك علاقات سببية هامة ينبغي البحث فيها في هذا الجانب، ولكن النظريات التي تتذرّع بها تتحاشى دوما البحث في ما إذا كانت هذه التغيّرات في الثقافة وفي طرق التفكير مدينة لقوتها الملازمة للمثل الأخلاقية. إن الجواب الضمني سلبي دائما.[17]   

   عليهم بدورهم أن يفسّروا التحولات الاجتماعية التي يُفْتَرض أنها تُبَرِّر طرق النظر الجديدة تلك، وهذا التفسير يجب أن يُرَدَّ إلى الدافع الإنساني، أو على الأقل أن نفترض أن التصنيع ونمو المدن قد نتجت في مسلك تسلية. ينبغي أن نفهم ما الذي دفع الأفراد وبانتظام في هذا الاتجاه الوحيد، مثلا نحو تطبيق أكبر للتكنولوجيا في التصنيع أو نحو أعظم تمركز سكّاني. لكن الدوافع التي نستدعيها دوما لا علاقة لها بالأخلاق. إننا نبحث دوما عن الأسباب التي تحث الأفراد على الفعل دون أن ننشئ إطلاقا الرابط مع المثال الأخلاقي بالمعنى الذي حددته سابقا. لذلك يكون تفسيرنا للتحولات الاجتماعية بواسطة الرغبة الملحة في الثراء أو في السلطة أو أيضا بالكفاح من أجل الحياة أو بالحاجة للسيطرة على الآخرين. وإلى جانب كوننا نستطيع أن نربط كل هذه التغيّرات بمُثُل أخلاقية فإن ذلك غير ضروري وتعتبر في ذاتها “راسخة” أو “علمية”.

   حتى وإن تم اعتبار الحرية الفردية وتوسّع العقل الأداتي كظواهر حيث تساعد مزاياها الجوهرية في تفسير التطوّر، فإن تلك المزايا يتم تحديدها دوما بألفاظ ليست أخلاقية. بمعنى آخر تُفْهَم قوتها دائما ليس كقوة أخلاقية بل فقط اعتمادا على المزايا التي تمنحها بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية، أو من خارج كل منظور أخلاقي. إن الحرية تمنحكم القدرة على فعل ما تريدون والذهاب بأكثر منهجية في استخدام العقل الأداتي هو ما يسمح لكم بتلبية رغباتكم أيّا كانت.[18]

   من ثمّ فإن العتمة ازدادت سُمْكا حول المثال الأخلاقي للأصالة إن نقّاد الثقافة المعاصرة يتّجهون إلى خفض قيمته كمثال، وحتى إلى خلطه مع رغبة لاأخلاقية لفعل ما يروق دون خلط. بحكم طريقتهم الخاصة في التفكير فإن مناصري هذه الثقافة محكوم عليهم بالصمت. إن القوة الأساسية للذاتية في عالمنا الفلسفي وقوة الليبرالية المحايدة يزيدان الشعور بأن هذه المشاكل لا يمكن أو لا ينبغي مناقشتها. أخيرا يبدو أن العلوم الاجتماعية تؤكد أنه ومن أجل فهم ظواهر الثقافة المعاصرة لا ينبغي استدعاء مُثُل أخلاقية بل ينبغي اعتبارها كتحولات متأخرة لأساليب الإنتاج،[19] أو اعتمادا على نماذج الاستهلاك عند الشباب والأمن الذي يمنحنا البذخ.

   هل أن هذه الأسئلة هامة؟ أعتقد نعم. إن خصائص عديدة للثقافة المعاصرة التي يهاجمها نقّادها هي أشكال منحطّة ومُحَرَّفة لمثال الأصالة هذا. يُفْهَم من ذلك وهذا ما يدعمه أتباعه ولكن لا يشكّل ذلك تحقّقا مطابقا(!) وتقترح النسبوية الناعمة مثالا ساطعا، وقد أدرك بلوم أن لها أساسا أخلاقيا “إن نسبية الحقيقة ليست حدسا نظريا ولكن مسلّمة أخلاقية وشرط للمجتمع الحر، على الأقل هذا ما يفهمه الطلبة.”[20] ولكن في الحقيقة أريد القول أنها تُنْكِر هذا الحدس الأخلاقي أو تخونه. وبعيدا عن إعطاء سبب وجيه لرفض مثال الأصالة الأخلاقي ينبغي أن تُرْفض هي عينها نيابة عنه. هذا ما أريد الدفاع عنه.

  نستطيع أن نورد نفس الاعتراض عن هذه الرغبات في الأصالة والتي تبرر الجهل بكل ما يعلو الأنا: إهمال الماضي لكونه غير ملائم أو رفض واجبات المواطن ومقتضيات التضامن وحاجيات البيئة. كذلك فإن كل توجّه لتبرير تصوّر محض أداتيّ للعلاقات الشخصية باسم الأصالة يجب اعتباره كتقاطع مثير للسخرية. إن التأكيد على إمكانية الاختيار تشكل خيرا في ذاته هي تحريف للمثال.                   

   إذا كان ذلك صحيحا فينبغي تملّك القدرة على قوله لأننا نستطيع أن نقدم حججا مؤسسة على برهان بسبب أولئك الذين ينظمون حياتهم على هذه الأشكال المُحَرَّفة وهذا ما يمكن أن يغير حياتهم. بعض هذه الحجج يمكن أن تُثْمِر. إن الوضوح يأخذ هنا قيمة أخلاقية ليس فقط لكونه يُسَوِّي مواقف يمكن أن تكون خاطئة ولكن أيضا لأنها تجعل قوة المثال الذي يعيشه البعض بَعْدُ واضحا، وبهذه الطريقة تسمح له بالارتقاء إليها بشكل أكثر امتلاء واكتمالا.

    إن موقعي يختلف عن موقع المدافعين Booster عن الثقافة المعاصرة وموقع خصومها Knockers. فعلى خلاف المدافعين عنها لا أعتقد أن كل شيء يسير نحو الأفضل في هذه الثقافة، وأتّفق في هذه النقطة مع خصومها. لكن على خلاف هؤلاء أعتقد أنه ينبغي أن نعتبر فعلا أن الأصالة مثال أخلاقي وأنا أتباين مع مختلف المواقف التوفيقيّة التي بحسبها تكون ثمة أشياء جيّدة في هذه الثقافة  (مثل حيّز أكبر من الحريّة الفردية) ولكنها تتضمّن أخطارا (مثل إضعاف المدنيّة) على نحو تكون فيه السياسة الفضلى في البحث عن توافق أمثل بين الخسائر والمغانم.

   أنا أفضّل دعم الفرضيّة التي ترى أن هذا المثال قد تراجع ولكنه مع ذلك يبقى جد صالح، والمحدثين لا يمكنهم التخلّي عنه. فنحن لسنا في حاجة لإدانة دون استئناف ولا لمدح أعمى ولا حتى إلى تسوية التوازن الأمثل، إننا في حاجة إلى جهد الموارد والتي بفضلها يمكن لهذا المثال أن يساعدنا على تقويم تصرّفاتنا.

   من أجل تحقيق ذلك يجب أن نقبل بثلاث فرضيات: 1) أن الأصالة مثال صالح، 2) نستطيع أن نناقش بعقلانية المثل وبمطابقة الممارسات لتلك المثل، 3) ويمكن أن تُحْمَل تلك المناقشات كنتيجة. الأولى تُلْقِي بعزم القسم الأكبر من نقد ثقافة الأصالة، والثانية تعني رفضا للذاتية والثالثة غير ملائمة للنظريات التي بموجبها نكون سجناء “نظام” الثقافة الحديثة والتي نُعَرِّفها بالرأسمالية، والمجتمع الصناعي أو البيروقراطية. أتمنى أن أجعل هذه الأطروحات وجيهة في الصفحات التالية ولنبدأ بالمثال.


 

الهوامش

 الفصل الأول

[1] ترجمة للفصلين الأولين من كتاب The Ethics of Authenticity  لـCharles Taylor  عن دار النشر Havard University Press. Cambridge. Massachusetts الواردة بين الصفحات 1-23 وقد تمت ترجمة هذا الكتاب للسان الفرنسي  من قبل Charlotte Melançon وحملت الترجمة الأولى عنوان Grandeur et misère de la modérnité  للناشر Montréal : Bellarmi 1992 ثم آثر المترجم تغيير العنوان في طبعته الثانية للناشر Les éditions du CERF 1994 ليعوّضها بــ Le malaise de la modérnité ونحن نعتقد أن هذا العنوان أشد تلاؤما مع روح الكتاب لذلك آثرنا عنونته بـ”قلق الحضارة”.

2 Alexis de Tocqueville. De la démocratie en amérique. Paris, Garnier-Flammrion, 1981,t II,p.385.

3 Erbarmliches Behagen , Also Sprach Zarathoustra, Zarathoustr’s  sect 3.

4 Tocqueville. De la démocratie en Amérique .p127

5 من أجل لامعقولية هذه الأرقام أنظر: R. Bellah et al, The Good Society [New York. Knopf, 1991], pp 114-19

6 R. Bellah et al, The Good Society, chapter 4.

7 أنظر خاصة:Patricia Benner and Judith Wrubel, The Primacy Caring; Stress and Coping in Health and Illness [ menlo Park, CA. Addison-Wesly, 1989]

8 Albert Borgman, Technology and the Character of Contemporary Life [ Chicago, University of Chicago Press, 1984] p 41-42.

لقد استعاد بورغمان تقريبا صورة “الإنسان الأخير” لنيتشه عندما أكد أن وعد التحرر الذي قدّمته التكنولوجيا يمكن أن ينحطّ عند اكتساب رفاه طوعي.

 9 Hannah Arendt, The Human Condition [ Garden City, NJ, Doubleday, Anchor Edition, 1959], P 83.

10 Tocqueville. De la démocratie en Amérique .p385.

11 أنظر مثلا: R. Bellah and al   Habits of the Heart [Berkley, University

 of California .Press, 1985

الفصل الثاني     

12 هذه الصورة تظهر دوما عند Bloom, The closing of the American Mind (New York, Simon and Schuster 1987)

  “إن ضياع الكتب قد جعلها أضيق وأكثر تملّقا، أضيق لأنهم يفتقرون إلى ما هو جد ضروري، إلى أساس حقيقي للأشياء من الحاضر والوعي بوجود بدائل عنه، كلاهما أكثر قناعة بما هو عليه ويائس من الفرار منه، تملّق إذ هو بدون تأويلات للأشياء ودون شعر ودون خيال نشيط فإن أرواحهم مثل المرايا وليست من الطبيعة، ولكن مما هو حولها.”p161.

13 Bloom, The closing of the American Mind p84.

14John Rawls, A Theory of justice ‘Cambridge: Havard University Press, 1971, and “The Idea on overloping consensus.” In Philosophy and public Affairs 17 (1988); Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously ( London: Duckworth, 1977) and A mater oh principal (Cambridge: Havard University Press, 1985) also Will Kymlicka Liberalism, Community and Culture ( Oxford,k the Clarendon Press.)

15  لقد توقفت مطوّلا عند هذا المشكل في:Sources oh the Self (Cambridge : Havard University Press, 1989) char III

16 انظر على وجه الخصوص:Alsadair MacIntyre, After Virtue (Notre Dame  University of Notre Dame Press, 1981)and Whose justice? Which Rationality ? (Notre Dame : University of Notre Dame Press1988) 

17 طبعا ففي الماركسية المبتذلة يكون الجواب السلبي ضمنيا، إن الأفكار نتاج للتغيرات الاقتصادية. لكن العلوم الاجتماعية غير الماركسية  تعمل دوما بطريقة ضمنية انطلاقا من مقدمات مشابهة رغم توجهات بعض المؤسسين للعلوم الاجتماعية مثل فييبر والذين أكدوا على الدور الجوهري للأفكار الأخلاقية والدينية  في التاريخ.

18 في الواقع نحن نتحدث عن الفردانية في معنيين مختلفين. في الأول تمثل الفردانية فكرة أخلاقية وهو جانب ناقشته وفي الآخر تكون ظاهرة غير عادية شبيهة بما نعنيه بالأنانية. إن انبثاق الفردانية في هذا المعنى يبدو في القطع الذي تم به فقدان الأفق التقليدي والذي ترك في أعقابه مجرد شذوذ، حيث يدافع كل فرد من أجل ذات، فمثلا وفي بعض الأحياء الفقيرة والمكتظة بالمزارعين الذين أمّوا الحواضر في العالم الثالث أو في الضواحي حوالي القرن التاسع عشر، إنه لمن المأسوي أن نخلط بين شكلي الفردانية واللذين لهما أسباب وأيضا نتائج مختلفة جدا. لذلك فإن توكفيل ميّز بوضوح بين الفردانية والأنانية.  

19 David Harvey ; The Condition of post-modernity (Oxford: Blackwell. 1989)

20 Bloom : The closing of the American Mind. P25.