مجلة حكمة
البلاغة والشعرية ريكور

البلاغة والشعرية والهيرمينوطيقا – بول ريكور / ترجمة: مصطفى النحال


 [ألقى الفيلسوف “بول ريكور” هذه الدراسة في شكل محاضرة سنة 1970، وذلك خلال تكريم البروفسور شايم بيرلمان بمعهد الدراسات العليا ببلجيكا].


تنبع صعوبة هذا المحور المراد تناوله، هنا، من نزوع المباحث الثلاثة (البلاغة والشعرية والهيرمينوطيقا) نحو هيمنة وتطاول أحدهما على الآخر قصد تحقيق أهدافه التعميمية الرامية إلى تغطية الميدان كله. فبأي ميدان يتعلق الأمر؟ إنه ميدان الخطاب الممفصل في تشكلات للمعنى أوسع من الجملة. وأرمي من وراء هذا الشرط المقيد إلى موضعة هذه المباحث الثلاثة في مستوى أعلى من مستوى نظرية الخطاب المنحصرة في حدود الجملة. وعليه فإن تحديد الخطاب، بهذه البساطة، ليس هو موضوع بحثي، وإن كان يشكل افتراضه. وأدعو القارئ إلى الإقرار، مع بنفنيست وياكبسون وأوستين وسورل، بأن الوحدة الأولى لدلالة الخطاب ليست هي العلامة في الشكل المعجمي للكلمة، بل هي الجملة، أي الوحدة المركبة التي تربط محمولا ما بموضوع منطقي (أو، حسب مقولات ب.ستراوسن، تلك التي تقرن فعلا un acte للتمييز بواسطة محمول بفعل للتعيين بواسطة موقع الموضوع).

ويمكن التعبير عن هذه اللغة الموظفة داخل هذه الوحدات القاعدية في الصيغة التالية: (شخص يقول شيئا لشخص حول شيء ما). فشخص يقول: تعني أن هناك متكلما ينتج شيئا ما هو التلفظ، أي الفعل الكلامي الذي تخضع قوته الإنجازية لقواعد تكوينية محكمة تجعل منه أحيانا تقريرا، وأحيانا أمرا، وأحيانا وعدا… الخ. و(شيء حول شيء ما): تعني تحديد الملفوظ بصفته ملفوظا، وذلك عن طريق وصل معنى ما بمرجع…(لشخص ما): تعني أن الكلام الذي يوجهه المتكلم إلى المخاطب يجعل من الملفوظ رسالة منقولة. ويهم فلسفة اللغة أن تكشف، داخل هذه الوظائف المتعالقة، عن الوسائط الثلاثة الكبرى التي لا تجعل من اللغة هدفا لذاتها، بل واسطة بين الإنسان والعالم وبين الإنسان والإنسان وبينه وبين ذاته.

إن هذه الأرضية المشتركة للخطاب، بوصفه وحدة دلالية ذات بعد جملي، هي التي تجعل المباحث الثلاثة، التي سنعمل على مقارنة مراميها المتنافسة والمتكاملة، تنفصل عن بعضها البعض. فالخطاب، مع هذه المباحث، يأخذ معناه الخطابي المحض، حيث يتعلق الأمر بعملية تمفصل عبر وحدات دلالية أوسع وأكبر من الجملة. ومن ثم فإن النمذجة التي سنحاول القيام بها لا يمكن اختزالها في النمذجة المقترحة من طرف أوستين وسورل، وذلك لأن نمذجة الأفعال الكلامية، تبعا للقوة الإنجازية للتلفظات، تكمن، في الواقع، في المستوى الجملي للخطاب. فالأمر إذن يتعلق بنمذجة جديدة تنضاف إلى نمذجة الأفعال الكلامية، أي نمذجة للاستعمال الخطابي المحض للخطاب الذي يتعدى مستوى الجملة.

1 – البلاغة والشعرية:

تعد البلاغة، التي نشأت في صقلية خلال القرن السادس قبل الميلاد، أقدم مبحث استعمل اللغة استعمالا خطابيا، ثم هي التي اعتمدها البروفسور بيرلمان لسبر الخطاب الفلسفي ذاته، وذلك عبر جل أعماله إلى أكثرها اختزالا في عنوان “الإمبراطورية البلاغية”. وفيما يلي بعض السمات الكبرى المميزة للبلاغة: تحدد السمة الأولى الموطن الذي منه تنتشر ما يسمى إمبراطورية، وينبغي ألا تغيب هذه السمة عن الأنظار عندما تحين الفرصة لقياس رغبة البلاغة في تغطية حقل الاستعمال الخطابي للغة في كليته. فما يحدد البلاغة في البدء هي بعض الأوضاع النموذجية للخطاب. وقد سبق لـ أرسطو أن حدد ثلاثة منها تتحكم في الأجناس الثلاثة الآتية: الجنس الاستشاري والجنس القضائي والجنس الاستحضاري(1). وهكذا تتم الإشارة إلى ثلاثة أمكنة هي: المجلس والمحكمة والتجمعات التذكارية.

المخاطبون المفضلون لفن البلاغة هم مستمعون مخصوصون يجمع بينهم التنافس بين خطابات متعارضة ينبغي الاختيار فيما بينها. ويتعلق الأمر في كل حالة بترجيح كفة حكم ما على حكم آخر، وفي كل وضعية من الأوضاع المذكورة ثمة مناظرة تستدعي الحسم في قرارها. ويمكن أن نتكلم، عموما، عن دعوى أو محاكمة حتى داخل الجنس الاستحضاري.

المقياس الثاني لفن البلاغة يكمن في الدور الذي يلعبه الحجاج، أي الذي تلعبه صيغة استدلالية ما تتوسط قسرية الضروري واعتباطية الممكن. فبين البرهان والسفسطة يوجد الاستدلال المحتمل الذي دون أرسطو نظريته في “الجدل” جاعلا، بذلك، من البلاغة “جملة مضادة”، أي جوابا للجدل. وبالفعل ينبغي الكشف، داخل هذه الأوضاع النموذجية السالفة، عن خطاب معقول يتوسط الخطاب البرهاني والعنف الخفي الذي ينطوي عليه الخطاب المغري جدا. إننا ندرك الآن كيف يتمكن الحجاج من غزو العقل العملي في كليته بصفة تدريجية، حيث إن الجدير بالتفضيل يستدعي التشاور سواء تعلق الأمر بالأخلاق أم بالقانون أم بالسياسة أم بحقل الفلسفة ككل ما سيتبين عندما تصل البلاغة إلى حدودها القصوى.

بيد أن هناك سمة ثالثة تخفف من غلواء توسيع حقل البلاغة السابق لأوانه. وتتصل هذه السمة بالتوجه نحو المستمع الذي لم يلغه الطابع الحجاجي للخطاب. لذلك يظل هدف الحجاج هو تحقيق الإقناع، وبهذا المعنى يمكن تعريف البلاغة بصفتها تقنية للخطاب الإقناعي، أي أن الفن البلاغي هو فن للخطاب الفعال والمؤثر؛ وفي هذا المستوى أيضا، كما هو الحال في مستوى الفعل الكلامي، يعد القول بمثابة فعل un acte. فالخطيب يسعى إلى الحصول على رضا مستمعيه ودفعهم، إن اقتضى الحال، إلى التصرف في الاتجاه المرغوب فيه. وبهذا المعنى تكون البلاغة إنجازية وتأثيرية في وقت واحد. لكن كيف يتحقق الإقناع؟ توجد سمة أخرى تسهم، بدورها، في تجلية حدود فن البلاغة المباغت على حين غرة داخل “موطن” إشعاعه وانتشاره. تتجلى هذه السمة في كون التوجه نحو الجمهور يفترض أن الخطيب ينطلق من أفكار مسلم بها ويشترك فيها مع الجمهور. فالخطيب لا يخضع الجمهور لخطابه إلا إذا أخضع، أولا، خطابه لموضوع الأفكار المسلم بها.

وعلى هذا الأساس ليست للحجاج أية وظيفة إبداعية، إذ يقتصر على نقل الاتفاق الحاصل حول المقدمات المنطقية إلى الاستنتاجات. وهكذا تظل كل التقنيات الوسيطية -التي يمكن، فضلا عن ذلك، أن تكون جد معقدة ومكرورة- تابعة وخاضعة للاتفاق الفعلي أو المفترض للجمهور. وبطبيعة الحال بإمكان الحجاج، الذي يقوم أكثر على البرهان، أن يرفع الإقناع إلى مستوى الاعتقاد الراسخ.

لكنه لن يخرج عن الدائرة المحددة للإقناع، ويتعلق الأمر بتكييف الخطاب ليناسب الجمهور. وأخيرا ينبغي أن نقول كلمة بخصوص الفصاحة والأسلوب اللذين يبالغ المحدثون في اختزال البلاغة فيهما وذلك على رغم أنه لا يمكننا التغاضي عنهما نظرا للتوجه نحو الجمهور، إذ أن الأساليب البيانية وطرق التعبير والمجازات تجعل من فن الإقناع فنا للإمتاع حتى عندما تكون في خدمة الحجاج وبعيدة عن كونها مجرد زخرفة.

يكشف هذا الوصف لموطن البلاغة، للوهلة الأولى، غموضها والتباسها حيث إنها دائمة التذبذب بين خطر الانحطاط وبين الطموح الكلياني الذي تتغيا أن تصبح بفضله مساوية للفلسفة.

لنبدأ، أولا، بخطر الانحطاط حيث ينم الخطاب، تبعا للسمات المذكورة سابقا، عن قابليته للهشاشة والخلل، وميله نحو التشخيص المرضي. ولهذا يعني انزلاق الجدل نحو السفسطة، في نظر أفلاطون، أكبر انحدار للخطاب البلاغي حيث تم المرور، دون مرحلة وسطى، من فن الإقناع إلى فن الخداع. وانحدر الاتفاق المسبق على المسلمات نحو ابتذال الحكم المسبق، كما تم الانتقال من فن الإمتاع إلى فن التضليل الذي يعتبر عنفا للخطاب لا غير. والخطاب السياسي هو، بالتأكيد، أكثر الخطابات نزوعا إلى مثل هذه الانحرافات، بما أن ما يسمى إيديولوجيا هو شكل من أشكال البلاغة. ومن ثم وجب أن يقال عنها ما يقال عن البلاغة: الإيديولوجيا تكون بمثابة الأفضل والأرذل في الآن ذاته، الأفضل من حيث إنها تمثل مجموع الرموز والمعتقدات والتمثلات التي تضمن، باسم المسلمات، هوية جماعة معينة (أمة، شعب، حزب…) وبهذا المعنى تغدو الإيديولوجيا خطاب التشكيل الخيالي للمجتمع، غير أنه الخطاب ذاته الذي يميل إلى الانحراف بمجرد فقدانه صلة الوصل مع الشهادة الأولى على الأحداث المؤسسة ويغدو خطابا مبررا للنظام القائم. وفي هذا السياق، فإن وظيفة الإخفاء والإيهام التي أشار إليها ماركس ليست بعيدة. وهكذا يفصح الخطاب الإيديولوجي عن المسار المتفسخ لفن البلاغة بدءا بتكرار التأسيس الأول إلى العقلنة التبريرية وصولا إلى الإبطال الكاذب.

غير أن للبلاغة انزلاقين اثنين: انزلاق الانحراف وانزلاق التسامي. هذا الأخير الذي يتجلى فيه الطموح الكلياني للبلاغة التي تراهن بكل شيء من أجل فن الحجاج، وذلك تبعا للمحتمل المنفلت من الإكراهات الاجتماعية التي ورد فيها. وتتحقق مجاوزة ما أطلقنا عليه اسم الأوضاع النموذجية، وجمهورها المخصوص، عبر مرحلتين اثنتين: – في المرحلة الأولى يمكن إلحاق النظام الإنساني ككل بالحقل البلاغي، بما أن ما يسمى اللغة العادية ليس سوى اشتغال للغات الطبيعية في أوضاع تخاطبية عادية. وهكذا تغدو البلاغة فنا للخطاب “الإنساني الأكثر إنسانية”، لا بل إنها قد تطالب بتفوقها على الفلسفة ككل. لنتأمل فقط الوضع الاعتباري للقضايا الأولية في أية فلسفة كانت. فهذه القضايا، نظرا لرفضها المبدئي للبرهنة، لا يمكنها أن تصدر إلا عن كمية ضئيلة من آراء المقتدرين. وعليه، فإنها تندرج وتصنف تحت لواء الممكن ولواء الحجاج. وهذا ما أكده البروفسور بيرلمان في جل أعماله معتبرا حقول البلاغة والحجاج والفلسفة الأولى حقولا تتقاطع فيما بينها.

لا أريد القول إن هذا الطموح الكلياني مشروع ولا أنه قابل للدحض والتفنيذ، بقدر ما أود الإشارة فقط إلى أمرين اثنين هما أن البلاغة، من جهة، لا يمكنها، برأيي، أن تتخلص كلية من الأوضاع النموذجية التي ترتبط بموطن ولادتها، ولا من القصد الذي يحدد مآلها من جهة أخرى. أما بخصوص الوضع البدئي، فإنه ينبغي ألا ننسى أن رغبة البلاغة، في البداية، كانت هي التحكم في الاستعمال العمومي للكلام في هذه الأوضاع النموذجية التي يجسدها كل من التجمع السياسي والتجمع القضائي والتجمع الاحتفالي. وبالقياس إلى هذا الجمهور الخاص، لا يمكن لجمهور الفلسفة، باعتراف بيرلمان نفسه، إلا أن يكون كونيا، أي هي الإنسانية قاطبة احتمالا أو في شخص ممثليها الأكفاء والعقالين. غير أن هذا الانتشار الإشعاعي خارج الأوضاع النموذجية قد لا يعادله تغيير جذري للنظام الخطابي. أما بخصوص غاية الإقناع، فليس بإمكانها أن تتسامى إلى درجة اندماجها في لا مبالاة السجال الفلسفي الأصيل. وبطبيعة الحال لست ساذجا كي يصل بي الظن إلى أن الفلاسفة لا يواجهون فقط ضغوطات معينة، بل يواجهون أيضا النزعة المرضية التي تلوث جدالاتنا. ومع ذلك يظل هدف السجال الفلسفي، إذا كان في مستوى ما أسميناه الجمهور الكوني، متعاليا على فن الإقناع والإمتاع في أشكاله الأكثر إخلاصا والمتمثلة في الأوضاع النموذجية النمطية المشار إليها سابقا.

ولهذا السبب ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار مواطن أخرى لتشكل الخطاب، وفنونا أخرى للتأليف، ومقاصد أخرى للغة الخطابية(2).

2 – البويطيقا(3): البلاغة والشعرية

قد يبدو التمييز بين البلاغة والشعرية صعبا إذا حاولنا عدم الاقتصار على إقامة تقابل بينهما معتبرين الشعرية كتابة إيقاعية منظومة. وإذا عدنا إلى أرسطو، مرة أخرى، فإن poesis تعني إنتاج الخطاب وصناعته. والحال، أليست البلاغة، بدورها، فنا لتأليف الخطابات، أي poesis إذن؟. أكثر من هذا، إن أرسطو نفسه، وهو يبحث في الانسجام الذي يجعل من حبكة القصيدة المأساوية أو الهزلية أو الملحمية شيئا معقولا، ألم يقل إن تركيب الأفعال أو نظمها يجب أن يستجيب للمحتمل أو للضروري؟ بل إن ما يثير الاستغراب، فضلا عن ذلك، هو اعتبار أن الشعر يعرفنا بالكليات وذلك بفضل نزوعه نحو ما هو محتمل أو ضروري. وبهذا المعنى يغدو الشعر أكثر فلسفية وأسمى من التاريخ. فلا ريب، إذن، أن الشعرية والبلاغة تتقاطعان، مرة أخرى، داخل منطقة الممكن. لكن تقاطعهما الجديد هذا يدل على قدومهما من أمكنة متباينة واتجاههما نحو أهداف متباينة. وهكذا، فإن البؤرة الأولية التي تنبثق منها الشعرية، حسب أرسطو، هو المتن الحكائي، أي تلك الحبكة التي يبتكرها الشاعر، وهو يستعير مادة فصولها من محكيات تقليدية، فالشاعر لا يصنع كلمات وجملا فقط، بل يصنع حبكات تكون بمثابة حكايات أو حكايات تعد حبكات. وحتى تتضح المقارنة أكثر، لا بد من تحديد هذه النواة-البؤرة التي أسميها المجال الأولي لانتشار الصيغة الشعرية أو امتدادها. يبدو هذا المجال، للوهلة الأولى، ضيقا للغاية لكونه لا يشتمل سوى على الملحمة والمأساة والملهاة، غير أن هذه الإحالة الأولية هي بالضبط التي تسمح بمقابلة  الفعل الشعري بالفعل البلاغي. فإذا كان الفعل الشعري ابتكارا للحكاية/الحبكة(4)، فإن الفعل البلاغي بناء لحجج. هناك، بالطبع، ما هو شعري في البلاغة ما دام أن “إيجاد” حجة معينة يعادل الابتكار الحقيقي. كما أن هناك ما هو بلاغي في الشعرية في حدود أن كل حبكة يناسبها محور أو فكرة (ديانويا حسب تعبير أرسطو)، إلا أن الشاعر لا يعتمد على الحجاج بالمعنى الدقيق للكلمة رغم أن شخوصه تمارسه. فالحجة تصلح فقط للكشف عن الطبائع بوصفها مساهمة في تنامي الحبكة، كما أن البلاغي، بدوره، لا يخلق حبكة معينة أو حكاية رغم أن ثمة عنصرا سرديا متصلا بتقديم الحالة. ومن ثم، فإن الحجاج يظل مرتبكا بمنطق الممكن، أي بالجدل بمعناه الأرسطي (وليس الأفلاطوني أو الهيجلي)، ومرتبطا بطوبيقا، أي بنظرية “الأمكنة”، بـ Topoi التي هي صور أولى للأفكار المسلم بها والمتصلة بأوضاع نموذجية نمطية. ومن ناحية أخرى، فإن ابتكار الحكاية/الحبكة يظل في أساسه بناء تخييليا جديدا لحقل الفعل الإنساني. ولقد أطلق أرسطو على هذا التخييل أو البناء الجديد مصطلح MIMESIS(5)، أي المحاكاة الخلاقة. يوجد للأسف تراث طويل مناقض أفهمنا أن المحاكاة نسخة، أي استجابة للتطابق، الشيء الذي منعنا من فهم التصريح المركزي لكتاب “الشعرية” الذي يعتبر الملحمة والمأساة والملهاة محاكاة للفعل الإنساني. ومن ثم فأرسطو لم يتناقض مع نفسه، إذ أن المحاكاة، بالفعل، ليست نسخة بقدر ما هي إعادة بناء بواسطة الخيال الخلاق ويضيف موضحا: “إن الذي يحاكي، فعلا، هي الحكاية، وذلك لأنني أطلق اسم حكاية، هنا، على تركيب الأفعال المنجزة”.

ما هي، إذن، النواة الأولية للشعرية؟ إنها تلك العلاقة القائمة بين بويزيس وميتوس وميميزيس. وبتعبير آخر، هي إنتاج الحكاية/الحبكة/المحاكاة الخلاقة. فالشعر، باعتباره فعلا إبداعيا يشغل المحاكاة، بمعنى أنه يولد ميتوسا أي حكاية/حبكة. ومن ثم فإن ما ينبغي وضعه في تعارض مع الحجاج، بوصفه نواة مولدة للبلاغة، هو ابتكار الميتوس هذا. وإذا كان طموح البلاغة ينحصر في اهتمامها بالمستمع وفي احترامها للأفكار الجاهزة، فإن الشعرية تعمل على تعيين فجوة الجدة التي يفتحها الخيال الخلاق في هذا الحقل.

وتترتب على الفرق السابق بين المبحثين باقي الفروق الأخرى. ولقد سبق أن ميزنا البلاغة لا بوسيلتها الحجاجية فقط، بل من خلال ارتباطها بأوضاع نمطية من جهة، وبهدفها الإقناعي من جهة ثانية.

وتختلف عنها الشعرية في هاتين النقطتين الأخيرتين. وبناء على هذا، فإن جمهور القصيدة الملحمية أو المأساوية هو الذي يجمعه الإنشاد أو التشخيص المسرحي، أي ليس ذلك الجمهور الذي يقوم بدور الحكم بين خطابات متنافسة، بل الجمهور الخاضع للعملية التطهيرية للقصيدة، على أن يفهم مصطلح catharsis بمعنى التطهير الطبي والتطهر الديني، أي ضرب من التصفية تتحقق عبر المساهمة الواعية في ميتوس القصيدة. وإذن، فإن التطهير، في نهاية المطاف، هو الذي يجب أن يتعارض مع الإقناع. وبعيدا عن أي إغراء وأية ملاطفة، فإنه يقوم على إعادة بناء خيالية لعاطفتين أساسيتين بواسطتهما نساهم في كل عمل عظيم: ويتعلق الأمر بعاطفتي الخوف والشفقة اللتين يتم التعبير عنهما مجازا بواسطة إعادة البناء الخيالية هاته والتي هي، بفضل الميتوس، أساس المحاكاة الخلاقة للفعل الإنساني. وبناء على هذا الفهم تشتمل البويطيقا، بدورها، على موطن وبؤرة للانتشار هي الحكاية والحبكة والمحاكاة. وانطلاقا من هذا المركز تستطيع أن تشع وأن تغطي الحقل ذاته الذي تغطيه البلاغة. وإذا كانت الإيديولوجيا تأخذ، في المجال السياسي، سمة بلاغية، فإن الطوباوية هي التي تأخذ سمة الشعرية بما أنها ليست سوى ابتكار لحكاية اجتماعية قادرة، كما يعتقد، على “تعيير الحياة”. والفلسفة بدورها، ألا تولد في فضاء إشعاع الشعرية؟ ألم يقل هيجل نفسه إن للخطاب الفلسفي والخطاب الديني محتوى واحدا إلا أنهما يختلفان اختلاف المفهوم عن التمثيل vorstelling الذي يظل سجينا للسرد والرمزية؟ ثم، ألا ينصفني البروفيسور بيرلمان في فصل “القياس والاستعارة” من كتابه “إمبراطورية البلاغة” حين اختتم حديثه عن الطابع الإبداعي المتصل بالقياس والنموذج والاستعارة بالعبارات التالية: “… وبما أن الفكر الفلسفي لا يمكن التحقق منه تجريبيا، فإنه يتسع إلى حجاج هدفه جعل بعض القياسات والاستعارات مقبولة بصفتها عنصرا مركزيا لرؤية معينة للعالم”(138). إن الهدف المركزي للشعرية هو تحويل المتخيل، ومن خلال هذا التحويل تعمل على تحريك العالم المترسب للأفكار المسلم بها والتي تعتبر مقدمات للحجاج البلاغي. ثم إن انفراج المتخيل هذا يقوم، في الوقت نفسه، بزعزعة معينة لنظام الإقناع كلما تعلق الأمر لا بالحسم في مناظرة، بل بتوليد يقين جديد. وعليه، فإن نهاية الشعرية تقف عند عجز التمثيل عن المساواة مع المفهوم.

3 – الهيرمينوطيقا: البلاغة والشعرية

ما هو الموطن والمكان الأولي لقيام مبحثنا الثالث وانتشاره؟ سوف أنطلق من التعريف الذي يعتبر الهييرمينوطيقا فنا لتأويل النصوص. فعندما تؤدي المسافة الجغرافية والتاريخية والثقافية التي تفصل النص عن القارئ إلى وضعية انعدام الفهم، والتي لا يمكن تجاوزها إلا في إطار قراءة متعددة، أي في إطار تأويل متعدد الأبعاد، آنذاك يصبح وجود فن مخصوص أمرا لازما. وبهذا الشرط الأساسي يغدو التأويل، باعتباره موضوعا مركزيا للهيرمينوطيقا، نظرية للمعنى المتعدد.

أستعيد، من هذه المقدمة الأولية، بعض النقط متسائلا، قبل كل شيء، عن الهدف من التركيز والإلحاح على مفهوم النص بصفته عملا مكتوبا؟ ألا يوجد مشكل الفهم حتى في المحادثة والحوار الشفهي؟ ألا يوجد انعدام الفهم وسوء التفاهم فيما يزعم أنه حوار مباشر؟ بكل تأكيد. غير أن الحضور المشترك والمباشر للمتكلمين يسمح للعبة السؤال والجواب بتعديل الفهم المتبادل تدريجيا. وفي هذا السياق يمكننا الحديث عن هيرمينوطيقا المحادثة، غير أن الأمر لا يعدو هنا أن يكون هيرمينوطيقا أولية وذلك لأن الحوار الشفهي لا يستطيع الكشف عن الصعوبة التي تثيرها الكتابة. ويتعلق الأمر بدلالة الخطاب الذي، إذا انفصل عن المتكلم، لا يصادف نية صاحبه أبدا. وانطلاقا من هذه اللحظة يخضع كلام الكاتب ودلالة النص لمصائر متباينة، ويظل النص، بمعنى ما، يتيما بتعبير أفلاطون في كتابه “فيدر” وفاقدا لأبيه الذي كان يدافع عنه مواجها، بذلك، وحده مغامرة التلقي والقراءة. وقد اقترح ديلتاي، أحد منظري الهيرمينوطيقا الرصينين، في ضوء هذه الوضعية، أن نحتفظ بمصطلح التأويل لفهم مؤلفات خطابية مدونة كتابة أو محفوظة في آثار ثقافية.

والآن، ما هو النص المقصود؟ إن المكان الأصلي لاشتغال التأويل يجب التعرف عليه هنا لكي يتميز عن مكان البلاغة والشعرية. ثلاثة أمكنة انفصلت عن بعضها البعض بكيفية متتالية. ففي البداية كان الأمر يتعلق، في ثقافتنا الغربية اليهودية-المسيحية، بقانون النص التوراتي: هذا المكان حاسم للغاية بحيث إن عددا كبيرا من القراء يحاول جعل الهيرمينوطيقا مماثلة لشرح التوراة. بيد أن الأمر ليس كذلك حتى في هذا الإطار المحدود، ما دام الشرح يقوم على تأويل نص محدد بينما تقوم الهيرمينوطيقا على خطاب من درجة ثانية يستند إلى قواعد تأويلية. لكن هذا التعيين الأولي لمكان الهيرمينوطيقا الأصلي لا يخلو من علة أو نتيجة، ويظل مفهوم”صورة”، كما حلله أويرباخ في مقالته الشهيرة Figura، خاضعا بشكل واسع للهيرمينوطيقا المسيحية المستعملة في إعادة تأويل الأحداث والشخوص وفي مؤسسات التوراة العبري، هذا إذا استخدمنا مصطلحات إعلان المسيحية. فيما بعد، وعلى يد الأحبار اليونانيين وكل الهيرمينوطيقا الوسيطية التي كتب تاريخها الحبر “لوباك”، تم تأسيس الصرح المعقد للمعاني الأربعة للكتاب المقدس، أي المستويات الأربعة للقراءة: المستوى الحرفي أو التاريخي، المستوى المجازي أو الأخلاقي، المستوى الكنائي أو الرمزي، المستوى الباطني أو الصوفي. وأخيرا، يوجد، بالنسبة للمحدثين، هيرمينوطيقا توراتية جديدة تنبع من امتزاج العلوم الفيلولوجية الكلاسيكية بالتفسير القديم. ففي هذه المرحلة بالذات ارتقى الشرح إلى مستواه الهيرمينوطيقي الأصيل، ونقصد محاولة نقل وتحويل المعنى الجوهري الذي بلورته نصوص في ارتباطها بوضعية ثقافية مختلفة عن وضعيتنا إلى وضعية ثقافية حديثة. وترتسم أمامنا هنا، كما هو جلي، إشكالية تتعدى النصوص التوارتية أو الدينية عموما؛ والمقصود بهذه الإشكالية مواجهة سوء الفهم الناتج، كما تبين سابقا، عن المسافة الثقافية. لقد أصبح التأويل، اليوم، يعني ترجمة دلالة سياق ثقافي معين إلى سياق ثقافي آخر وفق قاعدة مفترضة لتكافؤ المعنى. وفي هذا المستوى تلتحق الهيرمينوطيقا التوارتية بصيغتي الهيرمينوطيقا الأخريين. وبالفعل، فمنذ عصر النهضة، وانطلاقا من القرن الثامن عشر خصوصا، شكلت فيلولوجيا النصوص الكلاسيكية حقلا ثانيا للتأويل مستقلا عن التأويل السابق بحيث كان استرداد المعنى، في المرحلتين معا، يسعى إلى أن يكون إعلاء لشأن المعنى نقلا أو ترجمة، كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل، وذلك على رغم أو بفضل المسافة الزمنية أو الثقافية.

ومن ثم، فإن الإشكالية المشتركة بين الشرح والفيلولجيا تنبع من هذه العلاقة الخاصة ما بين النص والسياق والتي تجعل معنى النص قادرا على الانفصال عن سياقه، أي أن يخلص من سياقه الأولي ليندرج ثانية في وضعية ثقافية جديدة مع الحفاظ على هوية دلالية مفترضة. وهكذا أمست مهمة الهيرمينوطيقا تقوم على الاقتراب من هذه الهوية الدلالية المفترضة وذلك بالاعتماد على وسيلتين وحيدتين هما: عملية نزع هذا المعنى من سياقه ووضعه في سياق جديد. وتعد الترجمة، بالمعنى الواسع للمصطلح، بمثابة نموذج لهذه العملية العابرة. وإن أفضل فرصة لفهم أسس هذه العملية فهما جيدا لهي التعرف على مكان وموطن ثالث هي الهيرمينوطيقا القانونية. وذلك لأن النص القانوني لا يتحقق أبدا في غياب إجراء تأويلي، أي في غياب الفقه القانوني الذي يقوم بالابتكار داخل فجوات القانون المكتوب، وبصفة خاصة داخل وضعيات جديدة أغفلها المشرع. وهكذا يحقق القانون تقدمه من خلال مراكمة القضايا والحالات السابقة، كما أن الفقه القانوني يمثل نموذجا للابتكار الذي يتحول، في الوقت ذاته، إلى مادة تراثية. وقد اتفق أن كان البروفيسور بيرلمان واحدا من المنظرين الأكثر انتباها لهذه الصلة بين القانون والفقه القانوني. ثم إن التعرف على هذا الموطن الهيرمينوطيقي الثالث يعتبر فرصة سانحة لإغناء مفهوم التأويل كما تم تشكيله داخل الموطنين السابقين. ويبين الفقه القانوني أن المسافة الثقافية والزمنية ليست هوة تستدعي التجاوز فحسب، بل إنها وسيط يتطلب العبور. ومن ثم، فإن كل تأويل هو عبارة عن تأويل مستعاد مؤسس لتراث حي. فليس يوجد أي نقد أو ترجمة في غياب التراث، أي في غياب عشيرة للتأويل.

وإذا كان هذا هو الأصل الثلاثي للمبحث الهيرمينوطيقي، فما هي طبيعة العلاقة التي تربطه بالمبحثين الآخرين؟ إن ما يعرض هنا للبحث مجددا هي ظواهر التطاول والهيمنة التي تبلغ حد ادعاء الاشتمالية. فبالمقارنة مع البلاغة تتوفر الهيرمينوطيقا، بدورها، على مراحل حجاجية، ما دام ينبغي، دوما، الإكثار من التفسير من أجل الزيادة في الفهم، وما دامت تقوم، كذلك، بمهمة الفصل بين التأويلات المتنافسة بل بين تراثات متنافسة. إلا أن المراحل الحجاجية تظل مندرجة في إطار مشروع أوسع ليس، قطعا، هو إعادة خلق وضعية تواطؤ عن طريق الحسم لصالح تأويل مفضل، بل إن هدف هذا المشروع، بالأحرى، يكمن في الحفاظ على فضاء التنويعات المفتوح. وفي هذا الصدد يعد مثال المعاني الأربعة للكتاب المقدس مفيدا جدا. وقبل ذلك، هنا القرار الصائب للكنيسة المسيحية القاضي بترك الأناجيل الأربعة تتواجد جنبا إلى جنب رغم الاختلاف البارز في القصد والتنظيم. ويمكننا القول، إزاء هذه الحرية الهيرمينوطيقية، إن مهمة أي فن تأويلي ما، بالمقارنة مع مهمة الحجاج ليست هي ترجيح رأي على رأي آخر، بل السماح لنص معين بأن يدل قدر المستطاع. لا أن يدل على شيء دون آخر، بل أن “يدل أكثر”، وبالتالي أن يدفع إلى “التفكير أكثر” حسب عبارة لكانط في كتابه “نقد ملكة الحكم”. وفي هذا الصدد يبدو لي أن الهيرمينوطيقا هي إلى الشعرية أقرب منها إلى البلاغة التي أسلفت أن مشروعها يكمن في الإقناع. فالهيرمينوطيقا، بدورها، تحتاج إلى الخيال المتواصل في بحثها عن فائض المعنى. ومع ذلك، لا ينفصل هذا الأمر عن عمل الترجمة والنقل المرتبط بعملية إعادة وضع دلالة منقولة من فضاء ثقافي إلى فضاء آخر في سياق جديد. لكن، لم لا نقول إن الهيرمينوطيقا والشعرية تعوض إحداهما الأخرى؟ بإمكاننا قول هذا الكلام ما دامت مسألة الابتكار الدلالي توجد، كما يحلو لي القول في كتاب “الاستعارة الحية”، في قلب المبحثين معا. ومع ذلك، ينبغي الإلحاح على الفرق الأولي بين نقطة ارتكاز هذا الابتكار الدلالي في الهيرمينوطيقا ونقطة ارتكازه في الشعرية. وسأعمل على إبراز هذا الفرق في قلب الشعرية ذاتها.

نتذكر إلحاح أرسطو على جعل البويطيقا مساوية لتركيب/الحبكة أو تنظيمها. وهكذا يشتغل الابتكار داخل وحدة الخطاب التي تشكلها الحبكة. ورغم تحديد البويطيقا بوصفها محاكاة للفعل، فإن أرسطو لم يقم بأي توظيف لمفهوم المحاكاة كما لو أنه كاف لفصل الفضاء المتخيل للحكاية عن الفضاء الواقعي للفعل الإنساني، ولذلك يعلن البويطيقي أن ما ترونه هو مجرد سيمولاكر للفعل وليس فعلا واقعيا. وهكذا، فبدلا من الاستعمال الإحالي للمحاكاة، يغدو التوظيف الفصلي لها هو السمة المميزة للبويطيقا، إلى درجة أن هذا المعنى هو الذي ساد في البويطيقا المعاصرة التي احتفظت بالمظهر البنيوي للميتوس متجاهلة المظهر الإحالي للتخييل Fiction. إن هذا التحدي، بالضبط، هو الذي واجهته الهيرمينوطيقا خلافا للبويطيقا البنيوية، كنت أود القول إن وظيفة التأويل ليست في أن تجعل نصا ما يدل على شيء آخر فحسب، ولا حتى أن يدل على كل ما يستطيعه، أو أن يدل دائما أكثر (حسب العبارات السابقة) بل هي في أن يبرز ما أسميه اليوم عالم النص.

وأستطيع القول، دون عناء، إن هذه لم تكن هي مهمة الهيرمينوطيقا الرومانسية التي اهتمت، منذ شلايرماخر إلى ديلتاي، بإعادة تحيين العبقرية الفذة الثاوية خلف النص كي تصبح معاصرة له ومتساوية معه. بيد أن هذه الطريق تم إغلاقها الآن وذلك، بالضبط، عن طريق اعتبار النص فضاء مستقلا للمعنى، وعن طريق تطبيق التحليل البنيوي على هذا المعنى المحض نصي، إلا أن البديل لا يكمن في هيرمينوطيقا ذات نزعة نفسية أو في بويطيقا بنيوية أو بنائية. فإذا كان النص مغلقا إلى الخلف في اتجاه سيرة حياة مؤلفه، فإنه مفتوح إلى الأمام، إذا جاز القول، في اتجاه العالم الذي يكتشفه. إنني واع بالصعوبات التي تعترض هذه الأطروحة التي دافعت عنها في كتاب “الاستعارة الحية”، غير أنني أعتبر سلطة الإحالة ليست سمة خاصة بالخطاب الوصفي، وذلك لكون الأعمال الشعرية بدورها تشير إلى عالم معين. وإذا كان أمر الدفاع عن هذه الأطروحة يبدو صعبا، فذلك لأن الوظيفة الإحالية للعمل الشعري أعقد من وظيفة الخطاب الوصفي، لا بل إنها، بمعنى من المعاني، متناقضة جدا.

وبالفعل، فإن العمل الشعري لا يكشف عالمه إلا إذا توقفت إحالة الخطاب الوصفي، ومن ثم، إذن، تبدو سلطة إحالة العمل الشعري إحالة ثانية لصالح توقيف الإحالة الأولى للخطاب. وبالإمكان، بناء على ذلك، أن نصف الإحالة الشعرية، مع ياكبسون، بكونها إحالة مضاعفة. وعليه، فإن الأطروحة الشائعة في النقد الأدبي عادة، والتي مفادها أن اللغة الشعرية لا ترتبط إلا بذاتها، لا تخلو من حقيقة. وإذا عمقنا الهوة التي تفصل الدلائل les signes عن الأشياء، فإن اللغة الشعرية ستحتفي، آنذاك، بنفسها. ولهذا السبب تم اعتبار الشعر، عادة، خطابا لا مرجع له. إن الأطروحة التي أدافع عنها، هنا، لا تلغي الأطروحة السابقة بقدر ما ترتكز عليها، إذ تجعل من توقيف الإحالة، كما حددتها معايير الخطاب الوصفي، شرطا سلبيا لظهور صيغة إحالية أكثر حيوية. ويمكن الاعتراض، كذلك، بكون عالم النص يعتبر مع ذلك وظيفة للنص، أي مدلوله أو مقصديته حسب كلام بنفنيست. إلا أن اللحظة الهيرمينوطيقية هي اشتغال للفكر الذي بوساطته  يواجه عالم النص ما نسميه، اتفاقا، الواقع؛ وذلك قصد وصفه من جديد. وبإمكان هذه المواجهة أن تبدأ من النفي والهدم (الذي هو بدوره علاقة بالعالم) وتنتهي بتحول الواقع وإعادة تشكله. وهذه العملية تشبه النماذج في العلم والتي تتخذ إعادة وصف الانتشار الأولي كوظيفة نهائية. إن هذا المعادل الشعري لإعادة الوصف هو المحاكاة الإيجابية التي تنفلت لنظرية بنيوية خالصة للخطاب الشعري. ومن ثم، فإن الصدام بين عالم النص والعالم الخارجي، في فضاء القراءة، هو الرهان النهائي للخيال المنتج. إنه يولد ما أجرؤ على تسميته الإحالة المنتجة الخاصة بالتخييل.

فاعتمادا على هذه المهمة المستهدفة، يمكن للهيرمينوطيقا، بدورها، ادعاء الكلية والكليانية. إن التأويل يوجد حيثما تشكل المعنى في تراث معين واقتضى ترجمة معينة، وحيثما وجد التأويل وجد الابتكار الدلالي. وبمجرد الشروع في “التفكير أكثر”، يتم اكتشاف وخلق عالم جديد. غير أن هذا الادعاء الكلي عليه أن يخضع، بدوره، لنار النقد، ويكفي أن نعيد الهيرمينوطيقا إلى المركز الذي ينبع منه هذا الادعاء، أي تلك النصوص المؤسسة للتراث الحي. والحال أن علاقة ثقافة معينة بأصولها النصية تخضع لنقد من طبيعة أخرى، ألا وهو نقد الإيديولوجيات كما توضحه مدرسة فرانكفورت وأخلافها: ك.أ.أبيل وج.هابرماس.

ما تريد الهيرمينوطيقا تجاهله هو العلاقة، الأساسية مرة أخرى، بين اللغة والعمل والسلطة: كل شيء يجري، بالنسبة لها هنا، كما لو أن اللغة أصل لا أصل له. وفي الوقت ذاته، يغدو هذا النقد الموجه للهيرمينوطيقا في مكان ولادتها بالذات، هو الشرط الذي يعترف بالحق الطبيعي للمبحثين الآخرين اللذين يشعان، كما رأينا سابقا، انطلاقا من مواطن متباينة.

يبدو لي، في نهاية المطاف، أنه ينبغي ترك هذه المباحث الثلاثة تتعايش قادمة من أمكنة ولادة غير قابلة لاختزال أحدها في الآخر.

ومن ثم، لا يوجد أي مبحث متفوق بإمكانه تعميم الحقل التام الذي تغطيه البلاغة والبويطيقا والهيرمينوطيقا. وفي غياب هذا التعميم المستحيل لا يسعنا إلا أن نرصد نقط التقاطع القابلة للملاحظة بين المباحث الثلاثة. غير أن كل مبحث يتكلم لحسابه الخاص: فالبلاغة تظل فنا للحجاج يهدف إلى إقناع الجمهور بأفضلية رأي ما على آخر منافس له. وتظل البويطيقا فنا لبناء الحبكات بهدف توسيع المتخيل الفردي والجماعي، في حين تظل الهيرميوطيقا فنا لتأويل النصوص في سياق مخالف لسياق مؤلفها وجمهورها الأولي بهدف اكتشاف أبعاد جديدة للواقع. الحجاج والتشكل وإعادة الوصف: تلك هي العمليات الكبرى الثلاث التي هدفها التعميمي المتبادل يؤدي إلى فصل إحداها عن الأخرى، غير أن محدودية الموقع الأصلي لكل منها يهدد بالتكامل ●

مجلة الجابري – العدد السادس عشر


الهوامش (البلاغة والشعرية):

  1. الجنس الاستحضاري Epidictique هو فعل الثناء أو التوبيخ الذي يلقى أمام جمهور واسع، خلافا للاستشاري (المجلس) والقضائي (الجمع في محكمة). ويتميز هذا الجنس الخطابي بنوع من الإسهاب في ذكر خصال وصفات الموتى سواء كانت نبيلة أو دنيئة (المترجم).
  2. يخصص بيرلمان في كتابه “الإمبراطورية البلاغية” حيزا لصيغ الحجاج argumentation تقترب  مما أسميه  “البويطيقا” مثل: التماثل والنموذج والاستعارة (ص ص: 22-58-126-138). كما يخصص حيزا لإجراءات التأويل (ص ص. 56-57) المنتمية لما سيعتبر بعد قليل توضيحا لمبحث الهيرمينوطيقا.
  3.  يشير بول ريكور (1983) في قراءته لأرسطو إلى أن (البويطيقا) تتضمن كلمة “فن”، مما يجعلها تشتمل على المحاكاة (السرد والتمثيل) وعلى الصناعة (فن التأليف والإنتاج) والبناء والدينامية. وهكذا فإن أرسطو عندما يتكلم عن “الأجزاء الستة” للمأساة في الفصل IV من كتاب “الشعرية”، فإنه لا يقصد أجزاء الشعر فحسب، بل يقصد أجزاء فن التأليف كذلك (الطبائع والتعبير والفكر والمشهد والغناء والحبكة). ولهذا نترجم poétique، حسب السياق، بالشعرية أو البويطيقا. (المترجم).
  4. يشير ريكور في نفس المرجع (ص 57، ج 1) إلى أن مفهوم Muthos لدى أرسطو يعني تنظيم الأحداث في شكل حبكة، أي أنه فعل وعملية شأنه في ذلك شأن المحاكاة، وليس بنية (المترجم).
  5. الترجمة الدقيقة لمصطلح “MIMESIS” هي “العملية المحاكاتية”، وذلك من جهة لإعطائه طابعا ديناميا شأن جميع المصطلحات ذات اللاحقة SIS، ومن جهة أخرى لتفادي سوء الفهم الناتج عن ترجمته بـ”المحاكاة” التي تعني التقليد أو النسخة أو الصدى السلبي (المترجم).