مجلة حكمة
هابرماس

حوار مع الفيلسوف الألماني هابرماس – لوموند الفرنسية / ترجمة: نوفل الحاج لطيف

 حوار مع يورغن هابرماس نقله من الألمانية إلى الفرنسية فريديريك جولي ومن الفرنسية إلى العربية نوفل الحاج لطيف. (عدد 23407 /11 أفريل 2020) يتعين علينا أن نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا.


يعتبر يورغن هابرماس (من مواليد عام 1929) أحد أهم الفلاسفة في عصرنا. يمثل الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت، وقد نشر مؤخرا في ألمانيا مصنفا ضخما في تاريخ الفلسفة في مجلدين، ستنشره Gallimard في عام 2022.  من أهم مؤلفاته نذكر خاصة دستور أوروبا Gallimard2012 ومستقبل الطبيعة البشرية نحو نسالة ليبرالية؟ Gallimard 2015، يشرح، بشكل مقنع أوروبيّا، لماذا يجب على أوروبا مساعدة البلدان الأوروبية المثقلة بالديون وتتميز بهشاشة البنية التحتية التي تأثرت بجائحة كورونا Covid-19، مثل إيطاليا وإسبانيا،

برأيك ما الذي تثيره هذه الأزمة الصحية العالمية من وجهة نظر أخلاقية وفلسفية وسياسية؟

هابرماس: من وجهة نظر فلسفية، ألاحظ أن الوباء يفرض اليوم، في نفس الوقت وعلى الجميع، تحديا فكريا كان، حتى الآن، من اختصاص الخبراء: يتعين علينا أن نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا. تبيّن لجميع المواطنين في هذه الأيام كيف يجب على حكوماتهم اتخاذ قرارات واضعة نصب عينيها محدودية معرفة علماء الفيروسات الذين يقدمون لها المشورة. نادرا ما تم فك طلاسم مشهد العمل السياسي المنغمس في عدم اليقين بشكل قطعي. وفيما يبدو سيكون لهذه التجربة غير العادية في أدنى الحالات أثرها على الوعي العام.

ولكن ما هي التحديات الأخلاقية التي تواجهنا خلال هذه الأزمة الصحية؟

هابرماس: قبل كل شيء، هناك وضعين قد يكون لهما تداعياتهما في علاقة بعدم المساس بالكرامة الإنسانية الذي يضمنه القانون الأساسي الألماني في مادته الأولى على مستوى الفقرة 2: “لكل شخص الحق في الحياة والسلامة الجسدية”. يتعلق الوضع الأول بما يسمى “الفرز”؛ والثاني باختيار الوقت المناسب لرفع الحجر. إن الخطر الذي يشكله عدم قدرة وحدات العناية المركزة على استقبال الأعداد الهائلة للمرضى في مستشفياتنا – وهو خطر تخشى دولنا، وقد غدا واقعا ملموسا في إيطاليا – يفترض سيناريوهات طب الكوارث التي لا نلجأ إليها إلا أثناء الحروب. عندما يتم استقبال أعدادا هائلة من المرضى بحيث تعجز الوحدات الاستشفائية عن توفير العلاج الضروري لهم، يضطر الطبيب حتمًا إلى اتخاذ قرار مأساوي، لأنه في جميع الحالات لا أخلاقي. هذه هي الطريقة التي ينشأ عنها إغراء انتهاك مبدأ المساواة الصارمة في المعاملة بقطع النظر عن الوضع الاجتماعي أو الأصل أو السن، وما إلى ذلك، كأن نضحي بكبار السن من أجل إنقاذ حياة الشباب. وحتى لو وافق المسنون على ذلك يحدوهم في ذلك حس أخلاقي قوامه نكران للذات يثير الإعجاب، فمن هو الطبيب الذي يسمح لنفسه بأن “يقارن” بين “قيمة” حياة شخص و “قيمة” حياة شخص آخر وأن يقرر من يجب أن يحيا ومن يجب أن يموت؟ إن خطاب “القيمة”، المستعار من مجال الاقتصاد، يشجع على القياس الكمي الذي يتم من وجهة نظر الملاحظ. ولكن لا يمكن التعامل مع استقلالية الشخص على هذا النحو: لا يمكن أخذها في الاعتبار إلا انطلاقا من منظور آخر، حين نكون وجها لوجها مع هذا الشخص. ومن ناحية أخرى، تُبين الأخلاقيات الطبية عن توافقها مع الدستور وتلبي مبدأ ليس ثمة ما يبرر “اختيار” حياة إنسان بدل حياة إنسان آخر. وفي الواقع، يملي الدستور على الطبيب، في الحالات التي تسمح فقط باتخاذ قرارات مأساوية، أن يستند حصريًا إلى المؤشرات الطبية التي تؤيد فرص نجاح العلاج السريري المعني بنسبة كبيرة.

وهل من وضع آخر؟

هابرماس: في انتظار اتخاذ القرار بشأن الوقت المناسب لإنهاء الحجر، فإن حماية الحياة، وتلك مسألة ضرورية لا فقط على المستوى الأخلاقي ولكن أيضًا على المستوى القانوني، قد تجد نفسها في مواجهة منطق الحساب النفعي. عندما يتعلق الأمر بالتحكيم بين الضرر الاقتصادي أو الاجتماعي من جهة والحد من الوفيات من جهة أخرى، يجب على السياسيين مقاومة “الإغراء النفعي”: هل يجب أن نكون مستعدين للمخاطرة بـ ” عدم قدرة “النظام الصحي على توفير الرعاية للأعداد الهائلة للمرضى، وبالتالي تزايد معدلات الوفيات، من أجل إنعاش الاقتصاد وبالتالي التخفيف من الكارثة الاجتماعية لأزمة اقتصادية؟ تمنع الحقوق الأساسية مؤسسات الدولة من اتخاذ أي قرارا لا يكترث لوفاة الأشخاص الطبيعيين.

ألا نخشى أن تتحول حالة الاستثناء إلى قاعدة ديمقراطية؟

هابرماس: بطبيعة الحال، يجب أن يظل تقييد حقوقا كثيرة مهمة تتعلق بالحرية محدودا جدا زمنيا. لكن هذا الاستثناء هو في حدا ذاته مطلوب، كما حاولت أن أبين، بما تفترضه تأمين الحق الأساسي في الحياة والسلامة الجسدية من حيث هو ذو أولوية. ففي فرنسا وألمانيا، لا أحد يشك في مدى ولاء زعماء البلدين للدستور. وإذا ما استغل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، الأزمة لإسكات معارضيه بشكل نهائي، فذلك يعزى إلى التطور السلطوي منذ زمن طويل للنظام المجري، والذي حضر إليه أعضاء المجلس الأوروبي، وبشكل خاص، الديمقراطيون الأوروبيون المسيحيون، من باب الشهامة لا أكثر.

لماذا ترفض أوروبا فكرة إنشاء “صندوق كورونا”، الذي ستؤمن تمويله 27 دولة، الأمر الذي سيمكن من تحمل العبء المالي للأزمة بشكل جماعي؟

هابرماس: أنت تطرح قضية راهنة بشكل مباشر تثير الشك حول وجود الاتحاد النقدي (العُملة). يجب أن تساعد الدول الأعضاء الأخرى الدول الأعضاء المثقلة بالديون والتي تتميز بهشاشة البنية التحتية التي تأثرت بشكل خاص بالأزمة دون أن تكون مسؤولة عنها، مثل إيطاليا وإسبانيا، إذا أردنا إنقاذ اليورو، وبالتالي إنقاذ نواة الاتحاد الأوروبي الصلبة، من ضغط مضاربة الأسواق المالية. ولا شك في أن اقتراح “سندات كورونا”، الذي دعت إليه فرنسا، كفيل وحده بفرض إجراءات حمائية فعالة في هذا الصدد. وهذه القروض المضمونة على المدى الطويل من قبل جميع الدول الأعضاء في منطقة اليورو هي الوحيدة القادرة على ضمان نفاذ دول الجنوب إلى أسواق رأس المال. لا أرى حلاً بديلاً مفيدًا جدًا بمرور الوقت عن هذا الاقتراح. كما أن مناورات تفادي الأزمة التي انتهجها وزير المالية الألماني – التي لا ينبغي على نظيره الفرنسي الموافقة عليها بأي حال من الأحوال – ليست في مستوى تحديات الظرف.

“أيّ فائدة ترجى من الاتحاد الأوروبي، إذا لم يعبر، في هذه الأوقات من انتشار الفيروس التاجي، عن رغبة الأوروبيين في أن يكافحون معًا من أجل مستقبل مشترك؟ “وهنا أستعيد السؤال الذي طرحتموه في منتدى جماعي نُشر في لوموند الفرنسية Le Monde وDie Zeit دي تسايت الألمانية، بتاريخ 2 أفريل.

طرحت أنا وأصدقائي هذا السؤال على حكومتنا ومستشارتنا أنجيلا ميركل ووزير المالية أولاف شولتز، ولكنهما لم يلقيا بالا للأمر البتة؛ وقد ظلا حتى يومنا هذا، متمسكين بعناد بسياسة الأزمة التي اتبعت منذ عشر سنوات ضد احتجاجات دول الجنوب، وفي ذلك مصلحة ألمانيا ودول الشمال. توجس معظم السياسيين الألمان خيفة من أن أي موقف يتجه أكثر نحو المصالحة من شأنه أن يثير استياء ناخبيهم الشديد. وبقدر ما أشعلوا هم بأنفسهم فتيل نزعة التمركز حول الذات والتباهي بأبطالنا الذين يهيمنون على التجارة العالمية وأججوها، بقدر دعمت الصحافة هذه النزعة القومية الاقتصادية بشكل كبير. وهناك معطيات تجريبية مقارنة تظهر أن حكومتنا، بهذه النزعة القومية التجارية، لم تفرض ما يتعين عليها فرضه على سكانها معياريا على نحو كاف، وبالتالي التقليل من الحساسية الأوروبية. وإذا كان ماكرون قد ارتكب خطئا في علاقاته مع ألمانيا، فإن خطؤه يتمثل في عدم تقديره، منذ الوهلة الأولى، لإيمان أنجيلا ميركل المحدود بقومية الدولة، والذي يتمظهر في مجالات أخرى.

كيف تقضي وقتك في الحجر؟

هابرماس: تخفف عني الساعات التي أقضيها أمام الكمبيوتر منهمكا في تدبر العلوم التي تهتم بتاريخ الفكر وطأة الحجر.

من المرجح أن تقوي هذه الأزمة الصحية العالمية قوى الشعبوبة القومية، التي تهدد أوروبا بالفعل، فكيف نقاومها؟

هابرماس: ينشأ هذا السؤال بشكل مستقل عن حالة الاستثناء الحالية – ولكن تختلف الإجابة عنه من بلد لآخر. ففي ألمانيا، استطاع الماضي الاشتراكي القومي في الوقت الحالي أن يحمينا بقوة من أي تمظهر مباشر لإيديولوجيا أقصى اليمين. ومع ذلك، أغمضت الأحزاب والسلطات السياسية لفترة طويلة عينها اليمنى تحت يافطة معاداة الشيوعية المهيمنة. وفي فرنسا، لطالما كان التطرف اليميني المنظم قوة سياسية، ولكن له جذور أيديولوجية أخرى أكثر مما عليه الوضع في ألمانيا: ليس نزعة قومية عرقية بقدر ما هو كيان مؤسساتي قائم في صلب الدولة. وأما اليوم، فقد تردى اليسار الفرنسي الذي يتمتع بصيت عالمي كبير في متاهة كراهيته الاتحاد الأوروبي. وعلى خلاف توماس بيكيتي، على سبيل المثال، من الواضح أن اليسار لم يعد يفكر في مناهضة الرأسمالية بطريقة متسقة – كما لو أنه بإمكاننا محاربة الرأسمالية العالمية أو حتى ترويضها انطلاقا من هذا القارب الواهي وغير المستقر المتمثل في الدولة القومية!

أيّة سردية يمكننا أن نصوغها من أجل بث روح جديدة في الاتحاد الأوروبي غير المحبوب وغير الموحد؟

هابرماس: ليس للحجج وللحدود المختارة فائدة كبيرة في مواجهة مشاعر الاستياء. وحدها نواة صلبة أوروبية قادرة على الفعل وتقديم حلول ملموسة للمشاكل القائمة يمكن أن تكون لها قيمة كبيرة. وفي هذه المرحلة بالذات علينا أن نكافح من أجل إلغاء النيوليبرالية.

كيف تفسرون مدى انتشار الشعوبية القومية في المجال الفكري والفضاء العمومي الأوروبي؟

هابرماس: قد يكون لشعبوية اليمين “الفكري” ادعاءات فكرية، ولا تعدو أن تكون إلا كذلك. فالأمر يتعلق ببساطة بتفكير واهٍ. ومن ناحية أخرى، فإن شعبوية اليمين “العادي”، التي تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقات الفقيرة والمهمشة من السكان، حقيقة يجب أن تؤخذ على محمل الجد. ففي الثقافات الفرعية الهشة، تؤثر العديد من العوامل المحفزة وبالتالي المقلقة على تجارب العالم المعاصر: التحول التكنولوجي، والرقمنة التي يشهدها مجال العمل، وظاهرة الهجرة، والتزايد المستمر لتنوع أنماط الحياة، إلخ. ترتبط هذه المخاوف، من جهة، بالخشية الواقعية تماما من فقدان المرء وضعه الاجتماعي، ومن ناحية أخرى، بتجربة العجز السياسي. لكن آثار شعبوية اليمين، التي تدعو، في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي، إلى التمترس خلف الحدود القومية، تنعكس، في المقام الأول، في أمرين: الغضب الناجم عن حقيقة أن الدولة القومية فقدت قدرتها على الفعل السياسي ونوع من رد الفعل الدفاعي الحدسي في مواجهة التحدي السياسي الحقيقي.

ولعل ما يعوزنا قطعا هو الاعتراف بأن تجاوز هذا المأزق ما بعد الديمقراطي يكمن فقط في أوروبا موحدة ومنتصرة لديمقراطيتها وفي اتخاذ هذه الخطوة بكل شجاعة.