مجلة حكمة
الاسلام يتحدى

قراءة في كتاب (الإسلام يتحدى): حول الأزمة الطويلة الأمد في العالم العربي المعاصر – مراجعة: عبد الواحد أكمير

الاسلام يتحدى
غلاف كتاب (الاسلام يتحدى)

قلما لقي كتاب حول العالم العربي المعاصر في إسبانيا الاهتمام الذي لقيه هذا كتاب (الاسلام يتحدى)، الذي صدر في شهر يونيو الفارط، ومرد ذلك ليس فقط أهميته وحساسية المواضيع التي يتناولها، وإنما كذلك مكانة المؤلف العلمية حيث يعتبر من أبرز المستعربين الإسبان. وقد نشر الكثير من الأعمال عن الثقافة العربية وهو يرأس حاليا قسم الدراسات العربية و الإسلام بجامعة مدريد “أوتونما” وسبق له وأن كان رئيسا لنفس الجامعة ما بين 1978-1982.

يتناول كتاب (الاسلام يتحدى) أسباب الأزمة السياسية والاجتماعية المزمنة التي يعاني منها العالم العربي منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، ويحاول التوقف عند العناصر التي تتجسد فيها هذه الأزمة، وهكذا يتطرق لأهم التيارات السياسية التي ظهرت في العالم العربي من أصولية وقومية وعلمانية وليبرالية وماركسية، ويحدد طبيعة العلاقة القائمة بينها وكذا الأسباب التي جعلتها تفشل في إيجاد الحلول اللازمة للأزمة القائمة. كما يتناول العناصر المحددة للهوية العربية، وكيف أنها لم تعد تكفي لإخراج مشاريع وحدوية لحيز الوجود. بجانب ذلك يتوقف في جل فصول الدراسة عند العلاقة بالغرب (العدو الصديق) ليحدد مدى مسؤوليته في هذه الأزمة.

إن المؤلف الذي يقدم لنا من خلال كتاب (الاسلام يتحدى) خلاصة تأملاته عن العالم العربي المعاصر خلال العشرين سنة الأخيرة كما صرح في حديث إذاعي(2)، لم يغفل أبدا مقارنة تصوراته بتلك التي تبناها غيره من كبار المفكرين العرب والغربيين وهو ما ساهم في إغناء هذا العمل.

تتضمن الدراسة أربعة فصول يحمل الأول عنوان “التحدي الجديد للخطاب الديني” وفيه يتناول المؤلف طبيعة العلاقة بين العالم العربي الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وكيف أن هذه العلاقة كانت المسؤولة عن ظهور أزمة عامة ووضعية مليئة بالتناقضات داخل العالم العربي، فالغرب بالنسبة له لم يكن يمثل فقط ذلك الآخر الأكثر تقدما اجتماعيا واقتصاديا وصاحب “التدخل السلمي” الذي يسمح بالتقدم الثقافي والاجتماعي وبالتالي النموذج الذي يجب أن يقتدى به للخروج من وضعية التخلف، وإنما كذلك هو المسؤول عن الإحباط الذي يعاني منه الإنسان العربي والذي ولد لديه حالة انفصام في التصور والأحاسيس كثيرا ما يكون غير واع بها.

إن هذه الوضعية ساهمت في ظهور تيارات سياسية متباينة في العالم العربي لا يربط بينها في العديد من الحالات رابط غير رفض الغرب وأساليبه الاستعمارية، ويتوقف المؤلف في هذا الفصل عند اثنين منها هي:

1 – الاتجاهات الإسلامية:

يميز مونتافيث فيما يتعلق بتطورها بين مرحلتين، تهم الأولى الفترة الاستعمارية والثانية مرحلة الاستقلال، ويتوقف عند تجربة الإخوان المسلمين التي ظهرت في مصر خلال العشرينات من هذا القرن، فقد كانت موجهة في البداية ضد الاستعمار الانجليزي ثم بعد ذلك ضد الحكومات المستقلة التي تولت السلطة في البلاد. إن الفرق بين المرحلتين هو أنه خلال المرحلة الأولى كانت الإشكالية المطروحة تتمثل في نوع العلاقة مع الخارج أو مع الآخر المختلف والمعتدي، بينما خلال الثانية تصير الإشكالية أكثر تعقيدا حيث تصبح المواجهة مع الداخل أو مع “أنفسنا”.

إن هذا يجر المؤلف إلى التوقف عند الأسباب الكامنة وراء بروز التيارات الإسلامية من جديد وبقوة خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ويؤكد أن ذلك راجع لعوامل متعددة منها:

1-1- تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خصوصا بعد فشل تجربة الحزب الواحد في عدد من البلدان العربية، وهنا يسوق مثلا من التجربة المصرية كذلك حيث يبين كيف أنه وإلى مطلع السبعينات كان معظم الطلبة المتسيسين في الجامعة من الماركسيين والناصريين، غير أنه بعد ذلك أصبحت الاتجاهات الإسلامية هي صاحبة الحضور القوي داخل الجامعة.

1-2- مساهمة الثورة الإيرانية منذ نهاية السبعينات في تقوية الاتجاهات الإسلامية وذلك بسبب تأثيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عدد من البلدان العربية خصوصا المشرقية منها. لقد نجحت هذه الثورة حسب المؤلف في تحريك القاعدة سواء على المستوى الروحي أو البركماتي وبينت أن الإسلام هو دين الحشود Religion de masa.

1-3- انتشار التيارات الروحية على المستوى العالمي بشكل واسع وذلك كرد فعل على المد الذي عرفته التيارات المادية وهذا لا يستثني بلاد الإسلام ، وبالتالي فعودة التيارات الأصولية يدخل ضمن ما يسميه مونتافيث “بالروحية الجديدة” New esperitualismo.

كل هذا دفع بالغرب للاهتمام بهذه الاتجاهات الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل، غير أنه اهتمام سطحي ومتسرع وهذا ما يجعل تصوره للظاهرة لا يخلو من أخطاء، فهو يستعمل للتعبير عن هذه الحركات مصطلحي Fundamentalismo و Integrismo والذين بالإضافة إلى الاختلاف القائم بينهما على مستوى المضمون فإنهما ظهرا في الأصل للتعبير عن واقع الغرب والحركات الدينية فيه، وبالتالي فإن تطبيقهما على الحركات الإسلامية في العالم العربي يجعلنا نقع في نوع من الإسقاط غير المبرر. إن الغرب في تناوله لظاهرة الحركات الإسلامية لا يأخذ بعين الاعتبار عناصر تعد أساسية مثل الإطار التاريخي، ذلك لأنه يحاول شرح الظاهرة بشكل منعزل ودون ربطها بجذورها التاريخية، وإن هذه الطريقة في تناول الموضوع تجعل مونتافيث يرى أن المتهمين الغربيين الذين يصفون الحركات الإسلامية بالراديكالية، بأنهم وبالشكل الذي يتناولون به الموضوع لا يقلون راديكالية.

كما أن الغرب يقع في خطأ ثان عندما يستعمل في وصف هذه الحركات الإسلامية صيغة المفرد Integrismo(s), Fundamentalismo(s), Islamismo(s) بدل صيغة الجمع، مما قد يفهم معه أن الأمر يتعلق بوحدة متماسكة ومتراصة، في حين أن هناك تباينا واضحا بين الاتجاهات الإسلامية إن على مستوى التصورات أو الأهداف، فكما هو الحال في كل إيديولوجية هناك نقاط تلتقي فيها الاتجاهات الأصولية، لكن هذا لا ينفي وجود نقاط اختلاف كثيرة بينها، غير أن هذا الغموض حسب المؤلف ليس ناتجا دائما عن جهل، وإنما يستجيب في حالات متعددة لأغراض سياسية محددة، وإلا كيف يفهم أن يضم مصطلح الأصولية Fundamentalismo بصيغة المفرد في خانة واحدة أشخاصا مثل معمر القدافي والشيخ عمر عبد الرحمن وتنظيمات مثل الإخوان المسلمين والجهاد الإسلامي وحركة حماس.

وإذا كانت الاتجاهات الإسلامية ترى في الغرب جبهة خارجية تجد نفسها مجبرة على مواجهتها، فإنها على المستوى الداخلي مضطرة للرد على ثلاث جبهات متباينة تمثلها كل من الأنظمة القائمة في البلاد العربية والشعوب والمجتمعات بهذه البلدان ثم أتباع هذه الاتجاهات والمتعاطفين معها أنفسهم. لهذه الاعتبارات يرى مونتافيث أن الاتجاهات الإسلامية لا تستطيع التخلص من تأثير الظروف المحلية للبلدان التي ظهرت فيها، حيث تحولت إلى رهينة لقضايا وطنية لم يكن من السهل البقاء بمعزل عنها، لأن الخوض فيها يضمن نوعا من الدعم الاجتماعي، لكنه في ذات الوقت يجعل هذه الاتجاهات في حالة مناقضة لروحها الدولية على الأقل العربية “Internacionalismo Arabe” والتي تشكل بالخصوص على المستوى النظري أحد أهم مظاهر هويتها.

ويخلص المؤلف إلى أنه إذا كان للاتجاهات الإسلامية في العالم العربي خلال العقود الأخيرة هدف ثنائي يتمثل في إصلاح المجتمع الذي فقد قيمه الروحية والنضال من أجل الوصول إلى السلطة السياسية، فإن استمرارية هذه الاتجاهات ونجاحها في الوصول إلى مساعيها رهين بما قد تحققه على مستويات مختلفة:

من الناحية الاجتماعية: لا يجب أن تحصر توجيه خطابها -كما تفعل لحد الآن- لأشخاص تعيش غالبيتهم في الظلم والفقر والاستغلال واللامساواة والحرمان من الحقوق المدنية، والذين لا يثقون بقدرة هذه الاتجاهات -على غرار عدم ثقتهم في المؤسسات الحكومية- بإخراجهم من وضعيتهم المأساوية.

من الناحية الإيديولوجية: لا يجب أن يقتصر تصورها للإسلام، كما هو عليه الأمر إلى الآن، في تناوله بطريقة سطحية ومتشددة ودون أي مظاهر للتجديد أو اجتهاد في التأويل.

2 – العلمانية: يتوقف المؤلف أولا عند مفهوم العلمانية ليبين أنه وليد الثقافة الغربية حيث ظهر فيها منذ قرون، وقد عرف تطورا تدريجيا مرتبطا بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الأوروبية، وفيما يتعلق بالعالم العربي فرغم أن المفهوم ظهر منذ القرن التاسع عشر فإنه لم يجد أبدا الصدى الذي وجده في أوروبا، كما أن تأثيره في المجتمع العربي لا يمكن أن يقارن بتأثير الاتجاهات الإسلامية، على اعتبار أنه مفهوم دخيل، في حين أن الاتجاهات الإسلامية تستند على مرجعية تاريخية وتراث متجذر بالمجتمع العربي، والذي لم يعرف كما كان الشأن في الغرب المسيحي مرحلة تراجع في القيم والمسؤوليات الدينية، وهذا ما يعني أن العربي المسلم لم يصل إلى قناعة فصل الدين عن الدولة أو السياسة عن المجتمع كما تريد العلمانية.

ويناقش المؤلف في هذا السياق ثلاثة آراء الأول لفؤاد زكريا والذي يعتبر أن العلمانية ضرورية في المجتمعات الإسلامية، والثاني لأبي علي ياسين الذي يرى أن العلمانية في العالم العربي لا تعني نفي الدين، والثالث لمحمد عابد الجابري الذي يعتقد أن العلمانية في العالم العربي تعد قضية مزيفة لأنها لا تحظى بالقبول إلا عندما تتخفى تحت شعارات تعتبر ضرورية بالنسبة للعربي مثل الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة أو تطبيق ديمقراطية تحترم حقوق الأقليات أو ضرورة الممارسة المنطقية للسياسة.

ويبدأ الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: العالم العربي في الوقت الراهن، وعلى اعتبار أن المؤلف يتوجه بدرجة أولى للقارئ الغربي، بتقديم معلومات تقنية عن العالم العربي تهم الامتداد الجغرافي والسكان والتغذية والمياه والإنتاج والتجارة الخارجية والتجربة الصناعية.

بعد ذلك يميز بين مرحلتين تاريخيتين للوجود العربي الإسلامي، تبدأ الأولى منذ ظهور الإسلام وتهم الثانية القرنين التاسع عشر والعشرين. وهنا يلاحظ أن المؤلف وبحكم طبيعة المواضيع التي يتناولها كتاب (الاسلام يتحدى) والتي تهم العالم العربي المعاصر، يقوم وبطريقة ذكية باستعمال المرحلة الأولى فقط كنقطة مرجعية تساعد على فهم وتحليل المرحلة الثانية. فخلال القرون الوسطى لم ينتج العالم العربي الإسلامي فقط حضارة لامعة، وإنما كان رائد الكون وموجه العالم، ويورد مونتافيث كمثال الحضارة الأندلسية التي يرى أنها انتهت في الزمان لكنها لم تنته في الذاكرة الجماعية العربية؛ وأنه إذا كان غير العرب ينظرون إليها كحضارة عظيمة ولكن منقرضة، فإن عظمتها تذكر العربي في الوقت الحاضر بما هو عليه من تخلف، وكأن هزائم ومآسي العرب اليوم بدأت مع سقوط الأندلس وبالتالي فعام 1492 هو بداية الصيرورة الدائمة نحو التخلف.

إن وضعية التخلف هذه التي وصلها العالم العربي خلال القرن التاسع عشر قابلها تقدم لم يسبق له نظير في الغرب، وهنا يرى مونتافيث مع البرت حوراني أنه في خضم هذه التحولات الكونية لم يكن بمقدور العالم العربي ومجتمعاته الاستمرار في العيش على حياة الاكتفاء الذاتي القار والمعتمد على الموروث في وقت ظهرت فيه الأطماع الاستعمارية. وبطبيعة الحال فقد نجم عن الاتصال بالغرب انتشار ظاهرة الاستعمار والتي تلاها فيما بعد تكوين الدول القطرية، وهما المرحلتان اللتان يسميهما ألبرت حوراني بعصري الإمبارطوريات الأوروبية (1800-1939) والأمم الدول (ابتداء من 1939) مع اعتبار المرحلة الأخيرة من العصر الأول (1919-1939) فترة التحولات في مجال الفكر ونمط العيش. وهنا نجد مونتافيث يخالف زميله المفكر اللبناني كرونولوجيا حيث يعتبر أن مرحلة التحول الحقيقي حدثت بالخصوص خلال عصر الأمم الدول (بعد 1939) والذي هو عبارة عن “مرحلة مفصلة” “tiempo bisagra” تمتد على ثلاث مستويات:

أ – الأربعينات والخمسينات

ب – الخمسينات والستينات

ج – بعد 1967.

إن هذه المرحلة تستند على مجموعة من الأفكار الجدلية وتتحكم فيها مبادئ وعناصر وقوى ليست فقط مختلفة وإنما في كثير من الأحيان متعارضة، حيث تجانس واختلاف ووحدة وانفصال. هذه الثنائية البنيوية تظهر في الثقافة والسياسة والمجتمع والإبداع الفني وحتى في اللغة، وهي المسؤولة على تحويل العالم العربي إلى حقل خصب لوقوع المتناقض والمفاجئ وغير المنتظر والذي لا يفهم إلا داخل هذا العالم العربي لأنه يستجيب لمنطقه الداخلي.

لقد تميز عصر الأمم الدول هذا بتحقيق الاستقلال والانعتاق من الاستعمار الأوروبي، لكنه تميز في نفس الوقت بفضل ما بعد الاستقلال وبتعارض واصطدام بين التطلعات المثالية والواقع المعيش. إن تلك التطلعات إما لم تتحقق أو تحققت بشكل مستعجل وظرفي وكمثال على ذلك يورد المؤلف قضية الوحدة ليس على مستوى العالم العربي ككل بل وحتى على المستوى الجهوي، ثم قضية الدولة القطرية والتي لم يكن العالم العربي بحكم ثقافته ومسيرته التاريخية مستعدا لها، خصوصا عند تطبيقها في مناطق حساسة مثل سوريا الكبرى والخليج العربي، ذلك لأن هذه الدولة القطرية خضعت لتقسيمات وضعها الاستعمار والذي دعا فيها إلى قطع الطريق على كل محاولة ترمي لتحقيق الوحدة في العالم العربي.

ويرى مونتافيث أن عصر الأمم الدول هذا الذي ابتدأ عام 1939، انتهى مرونولوجيا في أواسط الثمانينات ومعه انتهت المرحلة الثانية من تاريخ العالم العربي المعاصر لتبدأ مرحلة ثالثة منذ مطلع التسعينات يتساءل عما يمكن تسميتها ويقترح ثلاثة مصطلحات:

كونية Planetaria، عالمية Mundialista، و”معولمة” Mundilizada، إنها “مرحلة مفصلة جديدة” “otro tiempo bisagra“، والتي تعتبر حرب الخليج ومسلسل السلام المتعثر في الشرق الأوسط من بعض مظاهرها.

ينتقل المؤلف بعد ذلك لمناقشة العناصر التي تقوم عليها الهوية العربية ويتناول ثلاثة منها يعتبرها أساسية وهي: اللغة والدين والتراث الحضاري.

اللغة: منذ خمسة عشر قرنا على الأقل والعربية هي لغة التواصل في هذه المنطقة وقد أظهرت حيوتها وقدرتها الكبيرة على التطور؛ فهي لغة العلوم والمجتمع والتجارة خلال القرون الوسطى، وقد ساهمت بشكل كبير في ازدهار الفكر الإنساني وكتب بها علماء وفلاسفة كبار من غير العرب كذلك. ولازالت إلى اليوم لغة التواصل بين أبناء المنطقة ومؤسساتها وقد تعرضت إبان التغلغل الاستعماري لمواجهة تميزت بطابع عدواني من طرف اللغات الأوروبية التي كانت تمثل “الثقافات المتفوقة” ويتوقف المؤلف بالخصوص عند الفرنسية التي اعتمدت طريقة تدخل مرتكزة على أبعاد إيديولوجية وسياسية مدروسة وذلك بدرجة أولى في المغرب العربي وخصوصا الجزائر.

الدين: يحدد الإسلام نوعا خاصا من العلاقة بين الخالق والطبيعة والفرد والجماعة، وقد وضع الأسس لمبادئ سياسية تسمح ببناء نظريات حول السلطة والحكم، وهنا نلاحظ أن مونتافيث لا يولي أهمية للنقاش الدائر بين عدد من الباحثين الغربيين حول “هذا النظام السياسي الإسلامي” وهل إشكالية الدين والسياسة مرتبطة ارتباطا بنيويا بالإسلام كما يريد عدد منهم أن هذه العلاقة تدعمت بالأساس نتيجة للدينامية التاريخية التي عرفها الإسلام، بقدر ما يركز على أن الإسلام سياسة وديانة في نفس الوقت وهو ما يساعد على فهم توجهه الكوني ثم طابعه التوسعي خلال القرون الوسطى. في نفس الوقت يرد على من يرى أن الإسلام يجسد الطوباوية وأن هوة كبيرة توجد بين مضمونه الروحي وتطبيقاته العملية، فيرى أن طرح الموضوع من هذا المنظور يعتبر من السذاجة بمكان لأن هذا الوضع لا يهم الإسلام فقط بل كل الأديان السماوية بل وكل عمل إنساني له أصل رباني، حيث يتم الوقوع في إطار لا يمكن تجاوزه من التناقضات الجزئية.

التراث الحضاري العربي الإسلامي: إنه لا يتجزأ حسب المؤلف عن العنصرين السابقين وهو شيء مشترك يحس به وبشكل متساو كل عربي في الوقت الحاضر سواء كان مغربيا أو سوريا أو مصريا أو يمنيا، فهم جميعا يعتبرون أنفسهم وارثي هذه الحضارة بغض النظر عن المنطقة التي انبثقت فيها.

ويخلص المؤلف إلى أن هذه العناصر الثلاثة تظهر إلى حد كبير أن العالم العربي يشكل مجموعة متراصة، لذا فمن الخطأ تجاهل أي واحد منها عندما يتعلق الأمر بتحقيق أهداف ومشاريع وحدوية، غير أنها لم تعد تكفي وحدها لأن هناك عناصر أخرى مادية أصبحت تأخذ وبشكل تدريجي أهميتها وتعتبر عائقا في سبيل تحقيق هذه الوحدة، على رأسها العنصر الاقتصادي، حيث يبرز التباين الكبير بين اقتصاديات هذه البلدان وغياب أي تعاون متين بينها ولا أدل على ذلك أن حجم المبادلات التجارية العربية-العربية لا يتجاوز في الوقت الحاضر 8% من مجموع مبادلاتها مع الخارج.

في الفصل الثالث والذي يحمل عنوان: الفكر السياسي المعاصر في العالم العربي يوضح مونتافيث أن المفكر العربي لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن السياسة، لأن هناك أسبابا تاريخية واجتماعية تفرض عليه التعامل معها لدرجة أن “للمفكر العربي الذي لا يطرق باب السياسة تطرق هي بابه”.

وفي مناقشته للتيارات السياسية في الفكر العربي يتوقف عند بعضها مثل الذي يتبناه أنور عبد الملك الذي يميز بين اتجاهين عامين في الفكر السياسي العربي هما الأصولية الإسلامية والليبرالية، أو الذي يتحدث عنه سعيد بن سعيد الذي يقسم التيارات الفلسفية في الفكر العربي المعاصر إلى ثلاثة: القومية العربية والماركسية والوضعية، وهنا يرى مونتافيث ضرورة توسيع الدائرة لتشمل أربعة عناصر اثنين منها محلية هي الأصولية الإسلامية والقومية العربية وأخرى خارجية هي الماركسية والليبرالية.

أ – إن العنصرين الأولين وبحكم أنهما يتغذيان من بيئتهما فإن ترعرعهما وتطورهما يعد أسهل (بالرغم من أن بعض عناصر الفكر القومي استقدمت من الغرب خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن التاسع عشر). وعلى اعتبار أنه تناول الأصولية الإسلامية بنوع من التفصيل في الفصل الأول فإن المؤلف يتوقف في هذا الفصل بالخصوص عند القومية العربية لكن دون إغفال علاقتها بالأصولية.

إن القومية العربية تستند حسب كتاب (الاسلام يتحدى) وبشكل متفاوت على عناصر متعددة، فهناك ثلاثة منها أساسية هي اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة، ثم هناك في مستوى ثان الأرض والسكان في حين أن عناصر أخرى مثل العرق والتضامن الاقتصادي ليس لها إلا دور ثانوي، أما مع الدين فإنها تحاول أن تقيم حدودا فاصلة.

إن عدم تركيزها على العناصر المادية الخالصة بشكل أساسي جعل القومية العربية حسب مونتافيث تأخذ طابعا مثاليا وبالتالي لا ترتبط إلا ارتباطا واهيا بالواقع التاريخي والاجتماعي والمادي القائم. كما أن العداء الذي يضمره لها الغرب ساهم في عرقلة مسيرتها، هذا بالإضافة إلى أن قيامها بممارسة السلطة بشكل دكتاتوري في إطار اشتراكية الدولة بالبلدان التي وصلت فيها إلى الحكم أفقدها الكثير من مصداقيتها، ويسوق كمثال على ذلك القومية الناصرية والتي يرى من الخطأ استمرارها كسلطة سياسية بعد رحيل الزعيم، لأنه وكما أثبتت التجربة أعادت أخطاءه دون إيجابياته.

وقد تتبع كتاب (الاسلام يتحدى) التطورات التي عرفها الاتجاه القومي العربي خلال العشرين سنة الأخيرة، فوضح كيف أنه يحاول الاستفادة من وضعية الهزيمة والأزمة ليجعل مشروعه أكثر واقعية (ما كان يفتقده سابقا). غير أن واقع العالم العربي في الوقت الحاضر لا يساعد على تطور التجربة وهي لا زالت في بدايتها وتقتصر على الفئة المثقفة المهتمة بالموضوع. ولا يرى مونتافيث رأي سامي الجندي (أحد أعضاء حزب البعث السوري) الذي يعتبر فشل القومية العربية بمثابة فشل تجربة الجيل الذي قادها فقط، إن هذا الفشل حسب المؤلف قد يمتد إلى الأجيال الأخرى كذلك.

إن إحدى المعضلات المزمنة التي عانى منها التيار القومي العربي هي المواجهة مع أخيه التوأم وابن بيئته المتمثل في الأصولية الإسلامية، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في مصر إبان المواجهات بين القومية الناصرية والإسلاميين.

إن الخلاف حسب مونتافيث بين الاتجاهين لا يطرح على المستوى النظري وإنما التطبيقي، ذلك لأنهما في بعدهما الإيديولوجي كثيرا ما يتغذيان من بعض وكلاهما اكتسب الكثير من قوته ومشروعيته من رفضه للغرب وممارساته الاستعمارية، لكن مع ذلك فلهما نظرة مختلفة للماضي والمستقبل؛ فالقومية العربية هي قبل كل شيء حركة سياسية تهم الشعوب الناطقة بالعربية وهدفها الوصول إلى الوحدة بين البلدان العربية على أساس علماني، في حين أن الاتجاهات الإسلامية تسعى لتحقيق الوحدة السياسية لكل المسلمين بغض النظر عن الجنسية، ولتحقيق ذلك الهدف، ترى ضرورة إيقاف المد العلماني في كل البلاد الإسلامية.

ب – بالنسبة للعنصرين الخارجين، فإنه إذا كانت الصيرورة التاريخية قد أثبتت فشل الماركسية والتي لم تستطع تجاوز دائرة النخبة المثقفة التي تمثلها، فإن الليبرالية ورغم أنها لازالت تفتقد إلى القواعد النظرية الصحيحة والثابتة، فإن الظرفية التي يعيشها العالم العربي في الوقت الحاضر قد تعتبر حافزا مهما يفسح أمامها مجالا أوسع لتساهم في إيجاد الحل للأزمة القائمة، ويمثل هذا فرصة ممتازة لتوطيد نفوذها في عدد من البلدان العربية لكن على أساس ألا تحاول الاستئثار بالوضع وتعتبر نفسها البديل الوحيد.

وينتقل المؤلف في محور آخر للحديث عن الديمقراطية التي يعتبرها من أكبر عقد العالم العربي المعاصر. إن تجديد الحوار عنها خلال العشرين سنة الأخيرة جاء نتيجة للتحولات التي عرفها العالم العربي وكذا نتيجة للعلاقة الوطيدة القائمة بين المسلمين السياسي والاجتماعي. إن هذا الحوار يطرح بشكل مختلف لما يطرح به في جهات أخرى، ليس فقط من حيث الشكل أو على المستوى الداخلي، وإنما من حيث المضمون وعلى المستوى الخارجي كذلك. ومن أسباب هذه الوضعية الشاذة حسبه هناك انهيار الفكر القومي وفقدان الأنظمة التي كانت تمارس سلطتها تحت شعار التقدمية والاشتراكية القدرة على الإجابة وظهور وتطور الاتجاهات الإسلامية وتشكل “نظام اجتماعي عربي جديد”.

إن تجديد هذا الحوار من طرف المثقفين العرب الذين يجمعون بمختلف مشاربهم على ضرورة الديمقراطية، لكن نقطة الخلاف والجدل هي أية ديمقراطية؟ فإذا ركزنا على الواقع المعيش فالديمقراطية على النمط الغربي ليست بالنموذج الأمثل لأنها مسؤولة على الحيف الاجتماعي الاقتصادي وتزايد الهوة بين الأغنياء والفقراء وبين الأقوياء والضعفاء، كما أنها مسؤولة عن تعويض الأخلاق بعدمها وقوة العقل بعقل القوة.

ويخلص المؤلف إلى أن الثقافة السياسية التي تستحق اسم الديمقراطية لا تفرض ولا تملى ولا تطبق بشكل تلقائي ولا هي مسؤولية جيل واحد، كما أن التحولات الاجتماعية لا تتحقق وتتدعم إلا بضمانات خاضعة لإيقاع بطيء، وهذا يجعل الديمقراطية في العالم العربي خلال هذه المرحلة الحاسمة من نهاية القرن العشرين مجرد مشروع وتطلع في وقت بدأ يظهر فيه نوع من الإحساس الموحي بأن الحوار الفكري حول الموضوع قد نفد أو اقترب من ذلك وأن الشعور الأكثر شيوعا عند الإطلاع على النتائج هو الإحباط، وكأن الخط الدائري الذي انطلق في مطلع القرن العشرين من نقطة محددة، عاد في نهاية القرن لنفس النقطة مشكلا بذلك دائرة مغلقة.

وفي الفصل الرابع والأخير الذي يحمل عنوان ما بين قرنين يعود المؤلف للوقوف على طبيعة العلاقة القائمة بين الشرق والغرب. إن هذه العلاقة لا زالت تتسم وكما كانت دائما بنوع من الرفض الراديكالي المتبادل والذي تتحكم فيه هويتان متباينتان، يمثل الأولى الغرب وتتجسد في ميكانيزمي الهجوم ورفع التملك. وإن النتيجة الحتمية لذلك هو وقوع العربي في حالة مواجهة ثنائية جدلية تتأرجح بين الغرب وتتجسد في ميكانيزمي الدفاع ورفع التملك. ويمثل الثانية الشرق (العالم العربي) وتتجسد في مياكنيزمي الدفاع ورفع التملك. وإن النتيجة الحتمية لذلك هو وقوع العربي في حالة مواجهة ثنائية جدلية تتأرجح بين الغرب من جهة وماضية من جهة أخرى، فعندما تميل الكفة للجهة الأولى يقع نوع من التقييم للثقافة العربية تعتبر من خلاله غير قادرة على المسايرة، مما ينجم عنه نوع من الخنوع والخضوع التام لثقافة الآخر، وهذه حسب مونتافيث الحالة التي يعيشها بعض المثقفين العرب الذين درسوا بالغرب أو استقروا به، أما عندما تميل الكفة للجهة الثانية، فيقع نوع من الانطواء عن النفس والمعارضة المطلقة للآخر والغوص في الذاكرة التاريخية وفي هذه الحالة كذلك تقع حالة مخاض تتولد عنها ثنائية جدلية أخرى تتأرجح بين أمجاد الأمس وبؤس اليوم.

وينهي المؤلف الدراسة بوضع تقييم عام للعلاقة بين العالم العربي والغرب، فيرى أن طابع هذه العلاقة لا يجب أن يستمر بالشكل الذي هو عليه والذي إذا كان ضارا بالعرب ماديا وأخلاقيا، فهو ضار بالغرب كذلك، على الأقل من الناحية الأخلاقية (غير أن ذلك لا يشغله)، وهنا يتوقف عند كلمة تعد من الأكثر تداولا في قاموس العلاقات بين الشرق والغرب وهي “التعاون La cooperation“، فلا أحد يمكنه أن ينفي وجود هذا التعاون، لكن في نفس الوقت لا أحد يستطيع أن ينكر محدوديته وقلة فعاليته، وذلك لأنه يدخل في إطار وضعية متذبذة ورسمية وغير مدروسة بالشكل الصحيح، وتحدد انطلاقا من الغرب الذي يجعلها دائما في صالحه، وهذا ما يجر المؤلف إلى القول بأن هذا التعاون لا يمكنه التطور   والاستمرارية إذا لم يعتمد كمنهج على فلسفة التعاون Filosafia de cooperacion وأخلاق التعاون Etica de cooperacion

مجلة الجابري – العدد الخامس


1 – Martinez Montavez, Pedro. El Reto del Islam (la larga crisis del mundo arabe contemporaneo).

Ediciones Temas de Hoy, Junio 1997, Madrid. 261p.

2 – من الاستجواب الذي أجرته مع المؤلف الإذاعة الوطنية الإسبانية في مدريد بتاريخ 7 يونيو 1997.