مجلة حكمة
دروس ومواعظ من القرون الوسطى

دروس ومواعظ من القرون الوسطى: من تاريخ العلاقة الشائكة بين المسلمين وأوروبا – هوبرت هيركومر / ترجمه عن الألمانية وقدم له: ثابت عيد

تقديم:

كاتب هذا المقال هو المفكر الألماني الكبير هوبرت هيركومر Hubert Herkommer – أستاذ الأدب الألماني بجامعة برن، بسويسرا. وهو من أعظم مفكري الغرب الذين قابلتهم وتعرفت عليهم عن قرب حتى الآن. إعجابي به لا حدود له، وتقديري واحترامي له لا حد لهما. وينبغي هنا أن نوضح مستويين جد مختلفين من الإعجاب: فالغرب بصفة عامة أعلن عن إعجابه وتقديره وتقديره لسلمان رشدي وتسليمة نصرين. الأول سمى رسول الإسلام (صلعم) في روايته “آيات شيطانية” Mahound وتعني: محمد الكلب. والثاني تطالب بإلغاء القرآن. هذا مستوى. والمستوى الثاني هو مستوى إعجاب كتاب هذه السطور -وهو عربي مسلم- بهيركومر وأنا ماري شيمل وهانس كينج Hans Kueng (راجع هانس كينغ، كيف نتعامل مع التطرف الديني، ترجمه عن الألمانية وقدم له ثابت عيد، الحياة، ملحق آفاق، 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1993). الثلاثة من عمالقة الفكر الغربي الحديث، تربطني بهم علاقة روحانية وطيدة. لم يشتم أحدهم المسيح، كما شتم رشدي محمدا عليه السلام، ولم يطالب أي منهم بإلغاء الأناجيل، كما طالبت تسليمة نصرين بإلغاء القرآن. ولو علمت عن أحدهم شيئا من ذلك، لسقط من نظري، ولفقد تقديري واحترامي. إعجابي بهذه الشخصيات ينبع من كونهم يرون ما لا يريد معظم الغربيين أن يروه. يرون ضرورة تحاور الحضارات، وأهمية وقف التصارع بين الديانات. إنهم جميعا كبار تجمعهم صفات مشتركة، منها: قوة الشخصية، والشجاعة، والذكاء، وسعة الإطلاع، والعدل، والتسامح، واحترام النفس واحترام الآخرين، وفصاحة اللسان. ونظرا لثقتهم بأنفسهم، وقوة شخصيتهم، فهم ليسوا بحاجة إلى الطعن في الإسلام، وتصيد أخطاء المسلمين تحت مظلة البحث العلمي، حتى يشعروا بالقوة والعظمة. فالإنسان القوي ليس بحاجة إلى التقليل من شأن الآخرين، وتصغيرهم، حتى يشعر بقوته وعظمته. الإنسان القوي متفتح على العالم والآخرين، لا يجد في نفسه ضعفا أو خوفا من الآخر. بل تطغى على نفسه مشاعر إنسانية جياشة تدفعه إلى التعرف على الآخر، دون خوف أو هيبة، والتعايش معه دون حذر، والاتصال به دون تحفظ.

هوبرت هيركومر وهانس كينج وأنا ماري شيمل نماذج مشرفة حقا في تاريخ الفكر الغربي الحديث. إنهم جميعا يقفون على النقيض من تيار غربي آخر، صناعته هي الطعن في الإسلام، ورسالته هي تخويف الشعوب الغربية من المسلمين الإرهابيين، وهمه الأكبر هو تصيد أخطاء المسلمين والتهويل منها، وربط الإسلام بكل ما هو سيء وقبيح تيار لا يريد أن يعترف بأخطاء الماضي. بل هو يتجاهل تماما التاريخ العريق لمطاعن الغربيين في الإسلام، الذي عالجه نورمان دانيال في كتابه “الإسلام والغرب”. تيار لا يسعى إلى الحوار مع الإسلام، ولا يهمه أن يتحقق السلام بين الأديان. وشتان بين أصحاب هذا التيار وبين عمالقتنا الثلاثة هيركومر وشيمل وكينج.

نعود إلى قولنا بأن احترام الغرب وتقديره لسلمان رشدي وتسليمة نصرين شيء، واحترامنا وتقديرنا لشيمل وهيركمر وكينج شيء آخر. نحن نحترم عمالقة محترمين، والغرب يحترم أشخاصا أهانوا المسلمين، وشتموا رسول الإسلام (صلعم).

وبعكس التيار الغالب أو السائد في الغرب اليوم، القائل بأن الدين ينافي العقل، وهو تيار كان أبو العلاء المعري قد عبر عنه بقوله:

“اثنان أهل الأرض-ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له”

نجد أن هيركومر وكينج وشيمل في غاية التدين وقمة العقلانية.

صفة أخرى تجمع هؤلاء العباقرة الثلاثة، هي أنهم سبقوا عصرهم بعشرات، إن لم يكن مئات السنين. إنهم من كبار المطالبين بالحوار بين الإسلام والغرب. ويكفي أن نذكر نظرية كينج القائلة: “لا سلام عالميا، دون سلام بين الأديان”. وشيمل لم تكف عن مطالبة الشرق الإسلامي والغرب بنبذ الخلافات وفتح صفحة جديدة. وهيركومر يدعو أصحاب كلتا الحضارتين -الإسلامية والغربية- أن يأخذوا ويقتبسوا من الحضارة الأخرى كل ما هو نافع ومفيد وجميل، وهو أيضا من كبار دعاة التعايش والتفاهم والتسامح بين الغرب والشرق.

وهيركومر هو أيضا أحد كبار مفكري الغرب الذين أنصفوا الإسلام وهو في ذلك يختلف مع أصحاب تيار “المركزية” الأوروبية الذين يعتبرون أوروبا مركزا للعالم، ويرون أن الحضارة الإنسانية بدأت في أثينا الأوروبية، وظلت قائمة في أوروبا حتى يومنا هذا. وهم ينكرون فضل بقية الحضارات الأخرى، ويميلون إلى نفي صفة الإبداع عن الحضارة الإسلامية، ويحللون كل شيء في تاريخ العلوم الإسلامية بأسلوب يقود قي النهاية إلى الأصل الأوروبي، ويصب في هذا “النهر الخالد”، كما يقول محمد عابد الجابري.

وكما يشير هانس كينج، فالحوار مع الآخر لا يعني ولا يتطلب التنازل عما يؤمن به المرء من معتقدات. من هذا المنطلق ينظر هوبرت هيركومر – المسيحي الديانة – إلى الإسلام نظرة تبجيل واحترام وتقدير. وحبه للإسلام، واحترامه للحضارة الإسلامية، جعلاه يطرح في محاوراتي معه السؤال الملح: لماذا تأخر المسلمون؟

ويرى هيركومر أن افتقاد بعض المستشرقين لحب الشرق الإسلامي، جعلهم لا يرون في الإسلام، إلا العيوب والمساوئ. ويوضح موقفه هذا قائلا: إذا كان الحب يعمي المرء عن رؤية المساوئ، فهو يبصره أيضا بالمحاسن. أي أن الحب لا يغطي على المساوئ فحسب، ولكنه يكشف أيضا عن المحاسن. ويرى هيركومر أن الإنسانية هي أسرة واحدة، ينبغي أن يتعايش أفرادها في محبة وسلام، وعليهم أن ينبذوا العنف والخصام. وهو يعتبر الاحتكاك الشخصي بين أصحاب الديانات المختلفة، وأفراد الشعوب والأجناس المتباينة، هو خير وسيلة لمحاربة الكراهية والعداء والعنصرية.

وكان هيركومر قد نشر الأصل الألماني للمقال التالي في عدد مجلة du السويسرية عن الإسلام – كبرى مجلات أوروبا الثقافية- الصادر في صيف 1993. وقد راجعت الترجمة مع هيركومر، وقمنا معا بعمل بعض التنقيحات الطفيفة في النص.


دروس ومواعظ من القرون الوسطى (بقلم المفكر الألماني هوبرت هيركومر)

1 – أسامة بن منقذ ونظرته إلى الأوروبيين

عايش الأمير السوري أسامة بن منقذ (1095=1188م) -الذي ولد في السنة نفسها التي أعلن فيها في فرنسا النائية البابا أوربانوس الثاني Urban II في مؤتمر كليرمون Clermont الكنائسي عن قيام الحملة الصليبية الأولى- في حياته الطويلة خبرات جد متباينة مع جنود المسيح القادمين من بلاد الفرنجة، والذين ساقهم نداء “هذه مشيئة الإله” Deus lo volt في حملات صليبية متتالية عبر البحر، لتحرير القدس وفلسطين. يحكي أسامة بن منقذ الواقعة التالية في مذكراته:

“… كنت إذا زرت بيت المقدس، دخلت إلى المسجد الأقصى، و(كان) في جانبه مسجد صغير، قد جعله الإفرنج كنيسة. فكنت إذا دخلت المسجد الأقصى وفيه الداوية (=جنود الحراسة)، وهم أصدقائي، يخلون لي ذلك المسجد الصغير، أصلي فيه. فخلته يوما، فكبرت ووقفت في الصلاة. فهجم على واحد من الإفرنج، مسكني ورد وجهي إلى الشرق، وقال: “كذا صل!”. فتبادر إليه قوم من الداوية، أخذوه وأخرجوه عني. وعدت أنا إلى الصلاة. فأغفلتهم وعاد، وهجم علي ذلك بعينه، ورد وجهي إلى الشرق، وقال: “كذا صل”. فعاد الداوية، ودخلوا إليه وأخرجوه، واعتذروا إلي، وقالوا: “هذا غريب وصل من بلاد الإفرنج في هذه الأيام، وما رأى من يصلي إلى غير الشرق”. فقلت: “حسبي من الصلاة!” فخرجت، فكنت أعجب من ذلك الشيطان، وتغيير وجهه، ورعدته، وما لحقه من نظر الصلاة إلى القبلة”.

إن هذا الفارس الصليبي -الذي التحق لتوه بقوات الاحتلال المسيحية، والذي كان يؤدي خدمته العسكرية بحماس مفرط في منطقة الحرم الشريف (=هي المنطقة الموجود فيها مسجد الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك) في بيت المقدس -كان يعتقد أنه لا توجد صلاة، إلا على الطريقة المسيحية، وعجز عن تصور أو استيعاب إمكانية إقامة الصلاة بطريقة أخرى. لقد نشأ هذا الفارس وتربى دينيا في مجتمع أوروبي مسيحي، في إطار نظام محدد من المعايير والقيم، يعادل تصورا متكاملا عن العالم، ويفسر كل شيء بطريقته الخاصة، وله أيضا تقييم ثابت لكل ناحية من نواحي الأرض. فمن المشرق -حيث تقع الجنة، كما تقول التوراة والأناجيل، وحيث صعد المسيح إلى السماء، ومن حيث سيعود إلى الأرض كقاضي العالمين Weltenrichter– من هناك ينتظر المسيحيون الخلاص.

ولهذا السبب نجد أن صحون الكنائس متجهة نحو المشرق منذ فجر المسيحية. بيد أن جغرافيا الصلاة عند المسلمين تختلف عن ذلك اختلافا كليا. وبهذه الطريقة أيضا أدى أسامة بن منقذ صلاته، واقفا، ثم راكعا، ثم ساجدا، وأخيرا جالسا. ولكن دائما في اتجاه مكة الواقعة جنوبا بالنسبة للقدس.

2 – فولخر الشارتري Fulcher von Chartres يصف استقرار الصليبيين في المشرق.

كانت الصلاة الإسلامية مألوفة بالنسبة لفرسان المعبد، الذين سبقوا ذلك الفارس في الخدمة، وكان بعضهم من أصدقاء أسامة بن منقذ. لقد تأقلم كثير منهم في الغربة، ووفقوا بين عاداتهم والبيئة الشرقية الجديدة. بل إن فولخر الشارتري Fulcher von Chartre (حوالي 1059- حوالي 1127م) قد أشار أن كل شيء قد بدا وكأن امبراطورية سلام آخر الزمان قد بدأت في فلسطين، حيث يقول: ” انظر وتأمل كيف حول الله في عصرنا هذا الغرب إلى شرق. فنحن – الذين كنا أوروبيين – صرنا اليوم شرقيين. وهذا الذي كان رومانيا أو إفرنجيا، قد أصبح الآن هنا من أهل الجليل أو أبناء فلسطين. وذلك الذي كان يعيش في رانز Reims (مدينة تقع في شمال فرنسا) أو شارتر Charters (مدينة فرنسية تقع جنوب غرب باريس)، انتقل إلى مدينة صور أو أنطاكية. ونسينا بسرعة محل ميلادنا… لقد أصبح بعضنا يمتلك هنا بيتا وخدما، وكأنه قد ورث ذلك عن أبيه. واتخذ الآخر لنفسه زوجة، لم تكن دائما من بني قومه، ولكن أحيانا سريانية، أو أرمنية، بل وأحيانا عربية مسلمة، تركت الإسلام وتنصرت وتم تعميدها. واستضاف الآخر حماه وزوجة ابنه، أو أيضا زوج ابنته أو زوج أمه، ولا ينقصه الأحفاد، وأبناء الأحفاد. وتفرغ البعض لزراعة العنب، واهتم الآخر بزراعات أخرى. وكوسيلة للتفاهم يستخدمون بالتناوب لغات مختلفة، أصبحوا يتقنونها الآن، وصارت جميعها مألوفة للأمتين. وتوثق الثقة الروابط بين هؤلاء، الذين كانوا في الأصل غرباء”. ثم إن فولخر Fulcher الذي كان يعمل قسيسا في قصر الملك بلدوين الأول Balduin I – أول ملك متوج لمملكة بيت المقدس الصليبية – قد استشهد في ذلك الموضع بآية مسيحية يقول فيها النبي إشعياء: “… والأسد يأكل التبن مع البقر” (سفر إشعياء – 65/25).

3 – أسامة بن منقذ وملاحظاته عن طبائع الإفرنج

كذلك يتحدث أسامة بن منقذ بلهجة رزينة عن التقارب بين الحضارتين، فيشير إلى فارس صليبي سابق استقر في أنطاكية، وكف عن تناول الأطعمة الأوروبية، وكان باستطاعته أن يقول لصديقه المسلم مفتخرا: “كل – طيب النفس! فأنا ما آكل من طعام الإفرنج، ولي طباخات مصريات، ما آكل، إلا من طبيخهن. ولا يدخل داري الخنزير”.

ونقرأ أيضا في كتاب أسامة بن منقذ هذا عن فارس إفرنجي لم يعجب بزيارة حمام شرقي فحسب، بل إنه تعرف أيضا على حلاقة شعر العانة، حيث أمر صاحب الحمام – سالما- أن يحلق له عانته فورا، وكذلك عانة “المدام” زوجته، مما أثار دهشة صاحب الحمام البالغة من مثل ذلك النقص الغريب في الغيرة والنخوة.

4 – برنارد رئيس دير كليفو Bernard von Clairvaux وحقده على الإسلام

من المؤكد أن برنارد دير كليرفو Bernard von Clairvaux (حوالي 1090 – 1153م) – مسؤول الدعاية الحربية في الحملة الصليبية الثانية – لو كان قد سمع مثل هذه الأخبار، لكان قد سارع واستنكر بشدة مثل هذه الخطوات الغشيمة والفضولية تجاه ثقافة الآخر، ناهيك بالطبع عن الصورة السلمية الراقية للتآخي التي رسمها فولخر Fulcher. ففي مدحه للفروسية الجديدة، شنع برنارد Bernard على الفرسان الدنيويين، وأسلوبهم الماهر في الحياة، وامتدح شدة فرسان المعبد التابعين له مهارتهم العالية في معركتهم ضد الكفرة (= المسلمين)، حيث يقول:

“لا يمشطون شعورهم أبدا. ونادرا ما يستحمون. بل إنهم يظهرون أفظاظا، لأنهم يهملون تصفيف شعورهم. يعتليهم الغبار، ويميل لونهم إلى السمرة، بتأثير من حرارة الشمس والسلاح. فإذا أنذرت الحرب، تسلحوا داخليا بالإيمان، وبالنار والحديد خارجيا… يسعون لإثارة الرعب، أكثر من الإعجاب، في قلوب الأعداء… إذا حان وقت النزال، يدعون الهدوء المعتاد جانبا، وينقضون على أعدائهم، وكأنهم يقولون: “ألا أبغض مبغضيك يا رب وأمقت مقاوميك” (المزامير – 139) وهم يعتبرون أعداءهم غنما”.

5 – الجهل البالغ

ولنرجع إلى فارسنا المتحمس القادم لتوه من أوروبا، والذي كان على قدر كاف من الغباء والوقاحة، جعله يهجم على مجد الدين مؤيد الدولة أبي المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي، محاولا إجباره على الصلاة في اتجاه المشرق، بدلا من اتجاه مكة. ونحن نتساءل في هذا السياق: ما الذي كان بوسع فارس المعبد الشاب هذا وأمثاله أن يعرفوه عن ديانة هؤلاء الكفرة المزعومين (= المسلمين)وشخصيتهم على الإطلاق، قبل أن تحسم لقاءات الأوروبيين الشخصية بالمسلمين مسألة الاستلطاف والقبول، أو الرفض والنفور؟

إن الإفرنج -كما كانت العرب تسمي مسيحيي أوروبا- لو يعرفوا في الغالب شيئا ذا بال عن خصمهم، “هذا الجنس الحيواني الحقير”، هؤلاء الكلاب الخنازير”. ويرغم ذلك فقد كان باستطاعة زعماء الفكر المسيحي في أوروبا أن يكونوا أكثر اطلاعا على الدين الإسلامي. ومما يثير الفكر والتأمل أن الأصوات الحادة والعنيفة الصادرة من جانب المتعصبين والمحرضين قد طغت بنجاح على الأصوات الأخرى المتسامحة.

6 – البابا جريجور السابع Gregor VII واحترامه للمسليمن

ونظرا للصورة المشوه للإسلام، المنتشرة في كل صوب وحدب، يبدو الخطاب البابوي الذي أرسله جريجور السابع Gregor VII إلى الملك الموريتاني الناصر (توفي سنة 1088 – 1089م) كالمعجزة ، فقد أظهر الحاكم المسلم تسامحا تجاه المسيحيين، وأطلق سراح الأسرى النصارى. وقد ذكر البابا الحاكم الموريتاني في خطاب شكر أرسله إليه بـ” الإله الواحد، الذي يؤمن به كل منا – حتى وإن كنا نفعل ذلك بطريقة مختلفة – والذي نسبح بحمده يوميا، ونتعبده كمبدع للدهر، ومسير للكون”. ثم إن البابا جريجور قد استشهد في خطابه للحاكم الموريتاني الذي كان الأوروبيون يعتبرونه كافرا، بالقول التالي من رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس: “لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدا” (الأصحاح الثاني – 14).

7 – روبرت الكيتوني يضع أول ترجمة لا تينية لمعاني القرآن

ولكن يبدو أن الصليبيين – جنودا وضباطا- رفضوا الاعتراف بحقيقة أنهم يواجهون إحدى ديانات التوحيد- القريبة جدا من ديانتهم، في شهادتها المقرة بالله الواحد الأحد، والصلوات اليومية، والصيام، والزكاة. كانت معرفة الصليبيين بالقرآن محدودة جدا. صحيح أن أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن ظهرت سنة 1143م، بقلم روبرت الكيتوني Robert von Ketton ، ولكن الأوروبيين كانوا يتطلعون إلى توظيف ترجمة معاني القرآن للطعن في الإسلام.

كان هذا الإنجليزي -روبرت الكييتوني- المستقر في مدينة طليطلة Toledo بأسبانيا يترجم تراث المسلمين في علمي الهندسة والفلك من العربية إلى اللاتينيية، وأنجز هذا المشروع الطموح بتكليف من بطرس المبجل رئيس دير مدينة كلوني Petrus Venerabilis von Cluny (1092 أو 1094 – 1156م). واشترك في هذا المشروع مسلم اسمه محمد. ولا شك أن هذه الترجمة الدقيقة لمعاني القرآن قد بينت للغرب اللاتيني أيضا أوجه التشابه بين القرآن والأناجيل. ولنتذكر فقط التبجيل العميق لسيدنا ابراهيم وسيدنا عيسى ومريم البتول في كل من المسيحية والإسلام. ومع ذلك لم يفكر أحد في ذلك الوقت في التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين على أساس كتابيهما السماويين. ولم تغتنم الفرصة المتاحة مع توافر أول قرآن لاتيني للتوصل إلى فهم أعمق وأدق للإسلام. وبدلا من استخدامها كوسيلة للتفاهم، استغلت ترجمة روبرت الكيتوني Robert von Ketton اللاتينية لمعاني القرآن كمجرد ينبوع محبب للطعن في الإسلام على مدى قرون طويلة.

8 – مارتن لوثر Martin Luther يشتم رسول الإسلام (ص)

وحتى بداية العصر الحديث لم يتغير من ذلك شيء. فعندما قام السويسري البازلي يوحنا أوبورين Johann Oporin سنة 1542م بطبع هذا القرآن اللاتيني، سارعت بلدية مدينة بازل بحظر نشره. ولم تسحب حظرها، إلا بعد التدخل المكثف لمارتين لوثر Martin Luther – مؤسس الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية. بيد أن حجة لوثر في ذلك، كما صاغها هو بنفسه، كانت كما يلي:

“لقد استيقنت أنه لا يمكن عمل شيء أكثر إزعاجا لمحمد Mahmet أو الأتراك، ولا أشد ضررا (أشد من جميع أنواع السلاح)، من ترجمة قرآنهم ونشره بين المسيحيين. عندئذ سيتضح لهم أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن – مليء بالأكاذيب والخرافات والفظائع”.

إن لوثر البروتستانتي – الذي أهان نبي الإسلام بلا أدنى حياء أو تأنيب ضمير، واصما إياه بأنه “خادم العاهرات، وصائد المومسات” – كان ينظر إلى قرآن مترجم إلى اللاتينية في عصر الحروب التركية، على أنه وسيلة مثالية لتسليح القلوب اليائسة للمسيحيين، ورفع روحهم المعنوية، حيث أعلن قائلا: “بعد ظهور الأتراك على حقيقتهم، أرى أن القساوسة عليهم أن يخطبوا الآن أمام الشعب عن فظائع محمد Mahmet – حتى يزداد المسيحيون عداوة له، وأيضا ليقوي إيمانهم بالمسيحية، ولتتضاعف جسارتهم وبسالتهم في الحرب، ويضحوا بأموالهم وأنفسهم”. من شأن موعظة كهذه أن يكون أثرها النفسي عل المسيحي أشد من طبول الحرب وأبواقها، بل إنها ستمنحه قلب أسد حقيقيا في ساحة القتال.

9 – عقيدة التثليث

كان من السهل على المتعصبين المسيحيين أن يتهموا الإسلام بالزندقة والإلحاد. لم يحتاجوا، إلا أن يشيروا على سبيل المثل إلى الآيتين 171-172 من سورة النساء، الرافضين لعقيدة التثليث المسيحية، حيث يقول الله تعالى: “يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الإله، إلا الحق. إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيرا لكم. إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض. وكفى بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربون” (النساء، 171/172).

أما الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه العقيدة المسيحية البالغة التعقيد، والخاصة بإله ثالوثي، في عقول المسيحيين غير المثقفين دينيا، فيمكننا أيضا أن نقرأها في مذكرات أسامة بن منقذ، حيث يحكي قائلا: “ورأيت واحدا منهم (= من الإفرنج)، جاء إلى الأمير معين الدين، رحمه الله، وهو في الصخرة (= جامع الصخرة في أورشليم)، فقال: “تريد أن تبصر الله صغيرا؟ “قال:” نعم “فمشى بين أيدينا، حتى أرانا صورة مريم والمسيح عليه السلام صغيرا في حجرها. فقال: “هذا الله صغيرا “تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا”.

لقد اكتشف أورثوذكس ورجال دينها المتمرسون على الجدل والشجار في ذلك الوقت المجال الذي شعروا فيه بانطلاق مواهبهم وقواهم، وهو الطعن في الإسلام، حيث اتفقوا جميعا على أن الإسلام هو كنيف (حرفيا: مجاري) الزندقة جميعا. وكان لدى الأوروبيين خبرة كافية منذ القرون الأولى لتاريخ الكنيسة بشؤون الزنادقة، وكانوا يتقنون التعامل معهم.

أما فيما يخص إنكار التثليث المسيحية والتشويش عليها، فكان رجال الدين المسيحي في أوروبا قد اكتسبوا في وقت مبكر خبرات طويلة في ذلك من خلال الطريق الشائك الذي سلكوه بين التوحيد المحض، كما ورد مبكرا في التوراة والأناجيل من ناحية، والشرك بالله، كما يمارسه الكفرة والملاحدة من ناحية أخرى. ثم إن زعماء الكنيسة كانوا قد قرروا في اجتماع نيكيا Nicنa سنة 325م أن المسيح هو ابن الله، وأن الابن والأب شيء واحد. وبعد ذلك القرار، كان كل من يتجرأ على التشكيك في هذا المذهب الملزم إلى الأبد، يستبعد فورا من الكنيسة الكاثوليكية، ويصير معرضا لغضب الله. وهذا بالطبع ينطبق أيضا على رسول الإسلام محمد (صلعم) وأتباعه.

واعتبر المسيحيون من سماه المسلمون نبيا، وخاتما لسلسلة الأنبياء التي بدأت بآدم عليه السلام، رجلا عاش حياة داعرة، وتجاوز خبثه كل حدود الدناءة والانحطاط. ولم يتورع خيال مسيحيي أوروبا المتعطشين للظفر والتوسع، والذي نتجت عنه أساطير وهمية عدائية، عن خلق الأكاذيب وترويجها. بل إن الأوروبيين ادعوا أن رسول الإسلام كان في الأصل كاردينالا كاثوليكيا، تجاهلته الكنيسة في انتخابات البابا، فقام بتأسيس طائفة ملحدة في الشرق انتقاما من الكنيسة. واعتبرت أوروبا المسيحية في القرون الوسطى محمدا (صلعم) المرتد الأكبر عن المسيحية، الذي يتحمل وزر انقسام نصف البشرية عن الديانة المسيحية.

10 – دانتي يضع رسول الإسلام (صلعم) في جهنم

كان منطقيا-بناء على ما سبق- أن يقوم دانتي بإقصاء رسول الإسلام (صلعم)، وعلي بن أبي طالب، زوج ابنته فاطمة، والخليفة الرابع، إلى الحفرة التاسعة في ثامن حلقة من حلقات جهنم، حيث يقول في “الكوميديا الإلهية”:

“برميل فقد سدادته وضلعه –

ليس مشقوقا مثل شخص هناك –

كان مشقوقا من ذقنه حتى قضيبه –

عندما أردت أن أتأمله بدقة –

نظر إلي، ثم مزق صدره بيديه، قائلا: –

“انظر كيف أمزق جسمي –

تعال وتأمل كيف يتألم محمد (Mahomet) في جهنم –

وترى أمامي علي بن أبي طالب يخطو باكيا –

وقد شقت رأسه من الذقن حتى شعر الرأس –

وجميع من تشاهدهم هنا في هذا الجزء من جهنم –

كانوا في الحياة الدنيا أهل شجار وشقاق –

ولذلك فقد قطعت أجسامهم وشوهت أجسادهم هنا في دار السعير”

11 – المسلمون يعبدون الأصنام-أغنية رولاند

من غرائب الأوهام المسيحية الكاذبة عن الإسلام اتهام المسلمين بعبادة الأصنام. وتذكر “أغنية رولاند” Chanson de Roland الفرنسية القديمة (حوالي سنة 1100م) أسماء هذه الأصنام: أبوللين Apollin، وتيرفاجانت Tervagant، وماحوميت Mahumet (= محمد).

ثم إن هذا الثالوث الفلكي قد تم تطويره في الترجمة الألمانية الوسيطة (عصر اللغة الأدبية الألمانية الوسيطة يمتد من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر) لأغنية رولاند Rolandslied التي نشرها القسيس كونراد Pfaffe Konrad حوالي سنة 1170م، عندما قام بتكليف من دوق عائلة الفلفين هنري الأسد Heinrich der Loewe (حوالي سنة 1129 – 1195م) وزوجته الأنجلو-فرنسية ماتهيلدا Mathilde بتحويل تلك الأغنية إلى رواية صليبية.

في تلك الرواية، يدعو الكفرة (= المسلمون) آلهتهم-قبل معركة رونسسفاليس Roncesvalles الفاصلة في جبال البرانس-قائلين: “على هؤلاء الذين يريدون الخلاص أن يجتمعوا معا. ها هو تيرفاجانت Tervagant الرحيم، فلنعبده، وكذلك ماخمين (= محمد) Machmet العزيز، وأبوللو Apollo المجيد. ولنعبد أيضا المخلصين الآخرين من الآلهة الخالدة”.

وعندما يسمع الامبراطور كارل الأكبر Kaiser Karl der Grosse هذا الدعاء”. تزداد ثقته في نجاح مهمته، حيث يقول: “انظروا إلى هذا الشعب الملعون! إنه شعب ملحد، لا علاقة له بالله. سوف يمحى اسمهم من فوق الأرض الزاخرة بالحياة، لأنهم يعبدون الأصنام. لا يمكن أن يكون لهم أي خلاص، لقد حكر عليهم. فلنبدأ إذن في تنفيذ الحكم: بسم الله” ثم تبدأ المذبحة.

وما زالت النسخة المنقحة لهذه القصة (= أغنية رولاند) التي نشرها ستريكر Stricker، في كتاب بعنوان “كارل الأعظم” Karl der Grosse (كتب بين سنة 1215 وسنة 1233م) تحتوي على خرافة الصنم ما حميت (= محمد) Mahmet.

12 – أوتو الفرايسنجي Otto von Freinsing ينفي تهمة عبادة الأصنام عن المسلمين

ولكنه يطعن في محمد (صلعم)

كان بوسع الأوروبيين أن يعرفوا في القرن الثاني عشر أن السارسيين Sarrazin – وهو اسم أعداء المسيحيين عند شتريكر Stricker – لم يعبدوا الأصنام. كان هذا على كل حال ما ذكره في تاريخه بوضوح أوتو الفرايسنجي Otto von Freising(1111/15=1158م) – خال الامبراطور فريدريح بارياروسا Friedrich Barbarossa.

فهو-أي أوتو الفرايسنجي Otto von Freising– انتقد الرواية القائلة إن المسلمين قد قتلوا رئيس الأساقفة تيمو السالزبورجي Thiemo von Salzburg لأنه حطم أصنامهم بدلا من أن يعبدها، حيث يشير إلى إن الروايات الموثوق فيها تذهب فقط إلى أن تيمو قد استشهد من أجل الديانة المسيحية. ثم يذكر المؤرخ الدقيق في عمله: “أما القول بأن تيمو قد حطم الأصنام، فيصعب تصديقه، لأنه من المعروف أن المسلمين Sarazenen لا يعبدون، إلا إلها واحدا، ولديهم شريعتهم السماوية، ويمارسون الختان. كذلك فإنهم يعترفون بالمسيح وحوارييه وأتباعهم. وهم فقط بعيدون عن الخلاص، لأنهم ينكرون أن المسيح هو مخلص الإنسانية، وأنه الرب وابن الرب في الوقت نفسه، ويقدسون المضلل محمدا، الذي تحدثنا عنه سابقا، باعتباره أعظم أنبياء الله تعالى”.

13 – أرنولد الليوبيكي Arnold von Luebeck وتقديره النسبي للمسلمين

أما أرنولد الليوبيكي Arnold von Luebeck (توفي سنة 1211/1214م)، فيمكن أن نلاحظ تقديره للكفرة (المسلمين) فيما بين سطور تاريخه. وهو التقدير الذي نبحث عنه بلا جدوى في الكتابات الشعبية لتلك الحقبة التاريخية. فهو يجعل المسلمين المحاصرين – الذين عرضوا على المسيحيين المغتصبين في أحد الحصارات أثناءالحملة الصليبية الثالثة محادثات استسلام – يقولون: “نحن نتوسل إليكم أن ترأفوا بنا، ونرجوكم أن تتساموحوا معنا. ولتتذكروا الديانة المسيحية المتسامحة، التي تدعو، كما تقولون، إلى المحبة بين البشر. إننا ندعوكم أن تظهروا لنا أيضا تلك المحبة، كما يليق بالأتقياء المتدينين. ذلك أننا، وإن كنا غير مسيحيين، إلا أننا لا نحيا بلا دين. فنحن نؤمن بأننا أبناء ابراهيم، وأننا سمينا ساراسيين Saracenen على اسم سارة، زوجة إبراهيم. ولكن إذا كان علينا أن نومن بأن المسيح ـ باعتباره إلها حقيقيا وإنسانا ـ قد خلصكم من الخطايا بعد صلبه، وأنكم تتفاخرون بحمل الصليب،فإن بوسعكم أن تمنوا علينا أيضا بروح المسيح. فحتى وإن كان ديننا مختلفا عن دينكم، فمن المحقق أننا جميعا نؤمن بخالق واحد، وأب واحد، وأننا إخوة -ليس في الدين- ولكن في الإنسانية non professione, sed humanitate. فلتتذكروا هذا الأب، ولترحموا إخوانكم”.

وبرغم أن أرنولد الليوبيكي أيضا اعتبر محاربة المسلمين -كتيبة الشيطان- وشن حملات صليبية ضدهم من الضروريات، إلا أنه لم ينس أن يضيف إلى تاريخه قصة جيرهارد الاشتراسبورجي Gerhard von Strassburg – الذي سافر سنة 1175م، بتكليف من بارباروسا Barbarossa لمقابلة صلاح الدين (1138 – 1193م) سلطان مصر وسريا في ذلك الوقت.

متحررا من أي تصورات مشوهة عن الإسلام، قام جيرهارد بوصف موضوعي لإيمان المسلمين بالبارئ تعالى، واحترامهم للمسيح، باعتباره نبيا مقدسا، قد رفعه الله -جسما وروحا_ إلى السماء. وشدد جيرهارد علىأن المسلمين يعتبرون ماوميت (= محمدا) Maumeth أعظم أنبياء الله، وصاحب الشريعة. ثم يستطرد قائلا: وفضلا عن ذلك، يصر المسلمون على “أنهم -على العكس منا – يتبعون شريعة المسيح وحوارييه، لأنهم مختونون”.

وقد زار جيرهارد الأماكن القديمة الخاصة بعبادة مريم العذراء، وأوضح أن “هذه الأماكن يتدفق عليها المسلمون والمسيحيون معا، لتأدية الصلاة”، ثم إنه قد تأثر جدا بالخضوع العميق الذي يؤدي به المسلمون صلاتهم.

وتجدر هذه المقاطع من تاريخ أرنولد بالذكر والملاحظة، خاصة أن هذا المؤلف الألماني الشمالي قد عشا في بيئة عائلة الفلفين نفسها التي تمكنت فيها أغنية رولاند Rolandslied قبل ذلك من تثبيت الصورة الشريرة للكفرة (= المسلمين) في عقول الغربيين.

14 – ولفرام الايشينباخي Wolfram von Eschenbach وتعاطفه مع المسلمين.

إن الكرامة التي اعترف بها كل من أرنولد الليوبيكي وجيرهارد الاشتراسبورجي (في الأدب اللاتيني) للكفرة (=المسلمين) تظهر في الكتابات الألمانية في العصور الوسطى لأول مرة عند ولفرام الايشينباخي Wolfram von Eschenbach – ففي روايته المسماة Gralsroman – التي ألفها في العقد الأول من القرن الثالث عشر – يجعل الفارس جاهموريت الآنيوني Gahmuret von Anjou – أبا بارتسيفال Prazival – يرتحل إلى المشرق، ليس لإظهاره هناك كفارس صليبي، ولكن كحليف لأمير شرقي أمير عربي آخر، أو كمقاتل ضد حكام مسيحيين، حيث يقوم بخدمة ملكة سوداء (مسلمة)، اعتبر ولرام أخلاقها في غاية النبل والطهارة، وكأنها قد تلقت لتوها بركة التعميد. وبعد أن يرتبط جاهموريت الآنيوني بها، تنجب له ولدا اسمه فايريفيتس Feirefiz – نصفه أسود والنصف الآخر أبيض. كان فايرفيتس غير معمد. وكان له أخ غير شقيق اسمه بارتسيفال Parzival. وبعكس فايريفيتس، كان بارتسيفال أبيض ومعمدا. وتظهر موضوعية الشاعر ولفرام الايشينباخي وموقفه الإيجابي من الإسلام في نهاية الرواية بوضوح. ففي وصفه لمنازلة بارتسيفال لأخيه فايريفيتس غير المعمد بلونيه الأبيض والأسود، حيث كان كل منهما يرتدي قناعا حربيا – لا يميز ولفرام الايشينباخي بين البطل المسيحي المعمد والبطل الكافر (= المسلم) الغير المعمد، بل يقر لهما جميعا بوداعة الحملان وشجاعة الأسدان.

أما المستوى الأخلاقي الرفيع للكفرة (=المسلمين)، فقد أظهره ولفرام بأسلوب رائع في روايته الصليبية المسماة فيلليهالم Willehalm (1210 – 1220م). فبينما ظل الكفرة الملحدون المنغمسون في شهواتهم، جيش الشيطان وسربه – أي: المسلمون – يلقبون في النسخة الألمانية لأغنية رولاند عند شتريكر بالكلاب والكائنات الحقيرة، ظهر غير المعمدين (= المسلمون) في رواية فيلليهالم Willehalm كأشراف، يعيشون في القصور، ويتمتعون بأخلاق كريمة، ولا فرق بينهم وبين المعمدين (=المسيحيين).

ويصيغ ولفرام، بتعبيرات مؤثرة هذا الإجلال للأعداء الكفرة (=المسلمين)، وذلك فيما يسمى بخطبة التسامح التي ألقتها امرأة متنصرة تدعى جيبورك Guburc، حيث تقول: “وعندما ينهزم الكفرة (= المسلمون)، فلتحسنوا معاملتهم. تسامحوا معهم حتى تفوزوا بالخلاص. استمعوا إلى نصيحة امرأة شابة (تقصد نفسها). أرفقوا بهم، فهم أيضا من مخلوقات الله”.

وتستطرد جيبورك Gyburc المتنصرة قائلة: إن أول إنسان خلقه البارئ تعالى كان أيضا كافرا (لأنه لم يكن معمدا)، مثل إيليا واخنوخ ونوح وأيوب، وأيضا مثل الملوك القديسين الثلاثة: كاسبر Kaspar وملخيور Melchior وبالتهاسار Balthasar – الذين استلم المسيح منهم الهدايا الأولى -فمنذ عصر حواء تحمل جميع الأمهات – بما فيهن المعمدات – في البداية طفلا كافرا (لأنه لا يمكن تعميد الطفل قبل ولادته، والتعميد هنا يعني تطهير المرء من كفره، وتحويله إلى مسيحي مؤمن صالح).

إن تعليق ولفرام Wolfram على المذابح التي ارتكبها المسيحيون في حروبهم الدينية بجلاء عن موقفه كشاعر – استند في مؤلفاته أيضا على مراجع عربية – من هذه القضية، حيث يقول:

“ألا يمثل قتل هؤلاء الناس مثل البهائم، وهم الذين لم يسمعوا عن التعميد من قبل، ارتكابا للمعاصي؟ إنني أعتبر ذلك من الكبائر! ذلك أن البشر جميعا من مخلوقات الله تعالى، والمتحدثون بالاثنتين والسبعين لغة جميعهم من عباد الله”.

15 – توماس الأكويني Thomas von Aquin وافتراءاته على الإسلام

لقد تورط مفكرو أوروبا، باستثناء حالات قليلة، ولكنها رائعة، في علاقة طعن وهجوم ضد الإسلام. فصحيح أن توماس الأكويني قد تلقى دفعات فكرية هامة من خلال دراسته العقلانية للفيلسوف الأرسطوطالي العربي الأندلسي ابن رشد (1126 – 1198م)، ولكنه ظل في تقييمه للإسلام، ورسول الإسلام محمد (صلعم)، على المستوى الوضيع المكرر والمعروف لعصره، والذي حدده بطرس المبجل Petrus Venerabilis (1126 – 1198م) في مؤلفاته التي طعن فيها الإسلام.

ففي كتابه “الشامل في الرد على الكفرة” Summa contra gentiles – الذي مهد الطريق أمام العمل التبشيري في أسبانيا للدفاع عن المسيحية والطعن في الإسلام – نقل توماس الأكويني الاتهامات القديمة، وادعى أن: “ماحوميت Mahumet (=محمدا) قد أغوى الشعوب من خلال وعوده لها بالمتع الشهوانية”. وبالتالي لم يجد الشهوانيون من البشر أي صعوبة في اتباع تعاليمه. ويستطرد توماس الأكويني إن محمدا لم يرد ذكره في التوراة والأناجيل، ولا يمكنه أن يدعي أن الرسل الأسبقين قد تنبؤوا بظهوره وبعثته من بعدهم. واتهم توماس الأكويني رسول الاسلام بتحريف جميع الأدلة الواردة في التوراة والأناجيل من خلال الأساطير والخرافات التي كان يتلوها على أصحابه. ولم يؤمن برسالة محمد (صلعم)، إلا المتوحشون من البشر-homines bestiales – الذين كانوا يعيشون في البادية.

16 – نيكولاوس الكوسي Nikolaus von Kues وفكرة السلام بين الأديان

وعلى العكس من ذلك كان عالم اللاهوت نيكولاوس الكوسي Nikolaus von Kues (1400/1401 – 1464م) – الذي كان فيلسوفا وسياسيا تابعا للكنيسة في الوقت ذاته. فبجانب “نظرات في القرآن” Cribratio Alchorani – وهو دراسة جادة عن الإسلام، أهداها إلى البابا بيوس الثاني Pius II في عصر النهضة – ألف نيكولاوس، بمناسبة فتح العثمانيين القسطنطينية سنة 1453م، كتاب “السلام بين الأديان” De pace fidi. نقطة انطلاق هذا البحث – الذي يعتبر بحق دراسة قيمة في حوار الأديان – هي القناعة الفلسفية بأن جميع الأديان السماوية تتضمن فكرة دينية أساسية واحدة. فهذه الأديان – برغم تنوع طقوسها، واختلاف عاداتها المتزايدة عبر التاريخ – يجمعها دين واحد أو فكرة واحدة، وهي السعي لكشف سر الوجود، ومعرفة الذات الإلهية. وتوحيد الاختلافات بين هذه الأديان ليس ممكنا ولا مطلوبا. وهذا الدين الواحد الشامل – هذا الشيء الإلهي المطلق – لا يظهر في الأديان السماوية، إلا بصورة ناقصة جدا، حتى وإن اعتبر نيكولاس الكوسي المسيحية هي الأقرب إلى ذلك الدين. بعبارة أخرى يرى نيكولاوس أن الله تعالى أكبر وأعظم من أن يستطيع دين واحد أن يحتويه ويشمله، وأن كل دين من الأديان السماوية لا يرى، إلا جزءا من الحقيقة، دون أن يستطيع أحد الأديان أن يستحوذ على الحقيقة بأكملها – أي أن الحقيقة مقسمة بين هذه الديانات – وكل دين يرى ما قد لا يراه الدين الآخر. وهذا يعني أن العنصر الإلهي موجود بالفعل في جميع الديانات السماوية. فلا يوجد دين سماوي على حق ودين سماوي آخر على ضلالة، بل إن جميع الديانات السماوية الثلاث تجتمع على الحق، وتشترك في الصدق.

انطلاقا من هذا الموقف، يمكن الحكم على الإسلام والقرآن ومحمد (صلعم)، بطريقة أكثر تفهما وتعاطفا. ذلك لأن ترجمات معاني القرآن وتفاسيره المتوافرة حتى الآن باللغات الأوروبية، هي ترجمات وتفاسير قائمة على التشويه والطعن، وبالتالي لم تتمكن من إظهار مشاركة الإسلام والقرآن في هذه الحقيقة الواحدة. ولن تظهر هذه المشاركة واضحة جلية، إلا عندما يجتهد الأوروبيون في عمل ترجمة دقيقة لمعاني القرآن، يراعون فيها الحس الديني للمسلمين ويقتدون في ذلك بروح الأناجيل.

17 – رامون لول Ramon Lull واحترامه لجميع الأديان السماوية

إن روحانية الكاردينال نيكولاوس الكوسي، صاحب الشخصية المتفتحة على العالم، في تعامله مع الإسلام، تعود في المقام الأول إلى تأثره بالفيلسوف والمتصرف الأسباني رامون لول Ramon Lull (1232/1233 – 1215/1216م). ففي كتابه المسمى “كتاب الكافر والحكماء الثلاثة” Libre del gentil e dels tres savis يدور في مرج جميل حوار ديني علاجي بين أربعة أشخاص: أولهم ينكر وجود الله، والثاني مسيحي، والثالث يهودي، والرابع مسلم Sarazener. وبناء على الرغبة الصريحة للكافر اليائس – الذي بين أربعة أشخاص: أولهم ينكر وجود الله، والثاني مسيحي، والثالث أن يوضحوا له حقيقة وجود الله، وبعث الموتى يوم القيامة، وذلك حتى يتخلص من الحزن وعذاب النفس. وبذلك تكون المناقشة التي تجري في جو من الود والاحترام المتبادلين، غير نابعة من دوافع عقلانية، ولكنها تنطلق من الشعور بضيق نفسي وفراغ روحاني. وفي الحوار الذي يخلو من تبادل الضربات البرهانية، وهو ما كان معتادا في المناقشات العلمية حينئذ، يقوم ممثلو أديان التوحيد الثلاثة بشرح معتقداتهم بترتيب زمني دقيق متفق عليه. وذلك بعد أن قام كل منهم بالدعاء إلى البارئ تعالي، رب العالمين. وينتهي الحوار – الذي لم يحاول فيه أي طرف من أطرافه الثلاثة أن يظهر تفوقه من خلال الاستشهاد بآيات من كتابه السماوي-بلا منهزم أو منتصر. ويظل كل حكيم وفيا لدينه، مخلصا لعقيدته. وبرغم أن الكافر قد آمن في النهاية بالله تعالى، وشعر بالأمل والسعادة، إلا أن رامون لول Ramon Lull ترك مسألة اعتناقه أحد الأديان الثلاثة غير محسومة. إن قيمة هذا اللقاء الفريد تكمن في ذاته، بحيث تتلاشى الحاجة إلى نتائج تبشيرية لتبريره-أي أن هدف الحوار هنا هو الإقناع، وليس التبشير.

18 – كلمة أخيرة

إذا صح القول بإن التاريخ هو معلم أو مدرسة الحياة، فلابد من استنباط نتائج ودروس للحاضر من نظرات المغرب -السلبية والإيجابية- للإسلام في القرون الوسطى. تكشف التشويهات والمطاعن والشتائم عند انتشارها عن قوة العداء الكامنة فيها. وتوطد التشويهات والمطاعن بعضها بعضا، وتتهرب من أي مواجهة فكرية أو تفنيد عقلاني (فإذا قيل مثلا عن شخص معين إنه خنزير، فسيتبع ذلك أنه قذر وكسول ووضيع ودنيء. فإذا استفسر أحد عن سبب القذارة، تكون الإجابة أنه قذر لأنه خنزير. وإن سأل آخر عن سبب كونه خنزيرا، يكون الرد أن سبب ذلك هو أنه وضيع ودنيء ، وهلم جرا). وتخدم هذه التشويهات والمطاعن موقفا يتسم بالجهل، ويقوم على تقسيم الشعوب والأشقاء بطريقة تعسفية متجمدة إلى أعداء وأصدقاء.

ولم يمكن التخلص من هذه التشويهات والمواقف السلبية من خلال تحليل متحيز ومعاند لمواقف متناقضة، ولكن فقط عن طريق اللقاء الشخصي، والحياة اليومية المشتركة، وذلك عندما تتساقط أقنعة التشويه من تلقاء نفسها، ويتجلى الوجه الإنساني الحقيقي. إنها حقا حلقة شيطانية مفرغة، يصعب الخروج منها: فمن ناحية تجعل الصورة المشوهة للآخر الالتقاء به مستحيلا، ومن ناحية أخرى لا تؤدي الاتصالات المثقلة بالأحكام الخاطئة غير الموضوعية، إلا إلى تأكيد وتقوية التشويهات والمواقف السلبية. وبرغم ذلك، فليس الخروج من هذه الحلقة الشيطانية المفرغة مستحيلا، كما أظهرت ذلك بعض الأمثلة المذكورة أعلاه.

إن الغرب – الذي كانت لمؤسساته الكنسية على مر قرون طويلة إسهامات فاضحة ومخزية في تشويه صورة العرب والأتراك، ونظرا للمهام الضخمة لعصرنا – لا ينبغي تحت أي ظرف من الظروف أن يبتعد مرة أخرى عن روح الوثيقة التي أصدرها زعماء الكنيسة في اجتماعهم منذ حوالي ثلاثين عاما. وقد أشارت حواشي هذه الوثيقة بوضوح إلى الخطاب المشار إليه عاليه الذي كتبه جريجور السابع Gregor VII إلى الملك الموريتاني الناصر، قبل حوالي تسعمائة عام. ومما تشير إليه هذه الوثيقة عن الإسلام، في “بيان عن علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية”، ما يلي: “… ولكن نظرا لما حدث على مر القرون من خصومات ونزاعات بين المسلمين والمسيحيين، ينصح المؤتمر الكنائسي المقدس الجميع، بعدم الالتفات إلى الماضي، والسعي بإخلاص إلى التوصل إلى تفاهم متبادل، والتعاون على حماية وتشجيع العدالة الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، وأخيرا وليس آخرا دعم السلام والحرية للبشر جميعا”.

مجلة الجابري – العدد الخامس