مجلة حكمة
محمد عابد الجابري

حفريات في الذاكرة: السيرة الفاضلة للمفكر المغربي محمد عابد الجابري – أحمد المديني

حفريات في الذاكرة محمد عابد الجابري
كتاب (حفريات في الذاكرة) لمحمد عابد الجابري

شهدت سوق المنشورات الأدبية ببلادنا، في الربيع الفائت، صدور كتاب فريد حقا. ليس ذلك بسبب المكانة المرموقة التي يحتلها صاحبه في حقل الثقافة المغربية خاصة، والعربية عامة، ولكن، أيضا، لكونه يمثل اقتحاما لنوع أدبي قلّ أن يطرقه المفكرون العرب، هؤلاء الذين غالبا ما يحصرون إنتاجهم في ميدان الدراسة الأكاديمية والعكوف على التحليل النظري.

والكتاب الذي نقدم للقراء – و لقي اهتماما واسعا لدى صدوره مفرقا في صحيفتي “الاتحاد الاشتراكي” البيضاوية، و” الشرق الأوسط” اللندنية – هو “حفريات في الذاكرة – من بعيد”(1) لمؤلفه الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري . غني حقا عن التعريف، المشتهر بأبحاثه التي تعيد قراءة التراث العربي الإسلامي، ومساءلته، وتنظيم وضبط مفاهيمه وترتيب محتوياته. وفي قلب هذه الأبحاث موسوعة “نقد العقل العربي” بأجزائها الثلاثة، الصادرة في عدة طبعات.

إلا أن محمد عابد الجابري الذي نريد الحديث عنه هنا هو صاحب السيرة الذاتية، كما دونها في كتابه الجديد “حفريات في الذاكرة”. وبالوسع تفسير هذا الاختيار وتبريره عبر إثارة التساؤلات التالية:

أولا، لماذا يجنح مفكر إلى خوض تجربة كتابة السيرة التي تضطره إلى تغيير استراتيجية عمله بنقلها حتما من أفق الموضوع إلى مجرى الذات؟

وثانيا، ما هي تلك المادة الفريدة التي يمكن لهذه السيرة أن تستثمرها بحيث تعلو بها عن المقام العادي لسير جميع الناس أو مطلق الخلق؟

وثالثا، وهنا يوجد الرهان الكبير في هذا النوع من الكتابة، نعني أي كيفية تصاغ بها المادة، وأوجه نقلها، أي ما يحقق لها الانضواء فعلا في جنس السيرة الذاتية الأدبية، أو يحصرها، فقط، في نطاق المذكرات، أو أي كتابة سردية أو نثرية من هذا القبيل؟

يجيبنا محمد عابد الجابري عن هذه التساؤلات بطريقة مباشرة وغير مباشرة، سواء في المقدمة التمهيدية للكتاب أو في ثناياه. فهو يعلن بأنه ينبغي قراءة مرحلة من حياته الشخصية، التي تمتد من الطفولة الأولى إلى مرحلة الانخراط في سلك الرجال، وهي المرحلة التي يبدأ منبعها من منتصف الثلاثينات إلى حدود نهايات الخمسينات. هكذا يتوقف هذا المفكر، وقد بلغ الستين من العمر، لينظر إلى الخلف، إلى حياته الأولى التي يشبهها بنقطة الماء التي ستتحول إلى نهر. وهو لا يقصد سردا تاريخيا يتوخى الاستقصاء، ويتقيد بالتسلسل الزمني، بل الغرض هو “القيام بعرض وتحليل مع نوع من التأويل لما يبدو لـ”الكاتب” أنه يستحق أن يحكى وينقل إلى القارئ”، وبالتحديد، سرد العناصر الصامدة، الأبقى في حياة الإنسان “تلك التي تشبه القطع الأثرية التي تمكنت من مقاومة عوامل التحلل والاندثار، وأصبحت تفرض نفسها على الباحث الأركيولوجي، الباحث المنقب عن الآثار بوصفها معالم وشهادات ذات معنى”. والحفر الأركيولوجي هنا بمثابة تعرية لمرحلة الصبا والمراهقة وأوائل الشباب.

إن السيرة الذاتية تكتب عادة، وباتفاق المنظرين لها، إما بدءا من سن الأربعين، أو في لحظة الإحساس بأزمة ما في مجرى العمر، أو لأن المرء، وهو ما نرجح، يكون قد أدرك سنا من النضج والحنكة والوعي بالوجود ممارسة وفكرا : والستون، لعمري، تؤهل لمثل هذه المكاسب، وخاصة بالنسبة لـ محمد عابد الجابري ، هذا النبت الصحراوي الأصيل الذي سيشتد عوده عبر الزمن بعصامية نادرة ليظهر قدرة أهل الوبر في التفوق على أهل الحضر، حين يصح العزم منهم كما صح ذلك عند جد صحراوي بعيد هو يوسف بن تاشفين.

أما عن التساؤل الثالث، أي ذلك الخاص بالمواد التي يتعامل معها المؤلف في كتابة المسيرة، وكيفية نقلها، فإنه يجيبنا بكلام صريح، إبعادا لكل إيهام أو استيهام في قوله: “ليس هنا قصة ولا تخيل ولا “خلق ولا ابتكار” ولكن فقط “مواد تعبر عن وجودها في الزمن”.

جدير بالذكر أن مثل هذا الإقرار يدفعنا إلى التساؤل عن قضية تعد من صميم تكوين نص أو جنس السيرة الذاتية. فهي إذا كانت نصا يسترجع فيه صاحبه مكنونات ووقائع ما جرى له وحوله في ماضيه ومحيطه الصغير، والكبير أحيانا، فإن هذا الاسترجاع، كما يؤكد نقاد الأدب، لا يتم بكيفية مطابقة للواقع في حذافيره، ولا تتماهى فيه الذات كلية مع ما كانت عليه لأن آخر، شخصا آخر كبر ووعى، وتبدلت مشاعره هو الذي يسرد طفولته البعيدة، وهو في العقد الخامس أو السادس من عمره، وهذه إحدى معضلات السيرة الذاتية. أما صاحب “حفريات في الذاكرة” فإنه يصر على أنه استطاع أن يحس ويتذكر كل شاذة وفاذة مما مضى، وصياغته على الوجه البياني المطلوب. بل إنه أخضع هذا التذكر لوعي حاد، هو الوعي الملازم للمفكر الذي يلزم نفسه بالتباعد عن الذات رغم أنه في قلب موضوعها، لو صح التعبير. ويخضع الإحساس الذي هو بطانة وجدانية صرف إلى مشرحة العقل والتقويم والتمييز الفاحص السديد. وفي اعتقادنا أن كتاب محمد عابد الجابري يستدعي القارئ لمستوى مغاير في تلقي المتن المطروح عليه، إذ ينبغي أن يأخذه بوصفه سيرة مفكر لا سيرة أديب أو كاتب بالمعنى المحدد للتسمية. إن الأديب رغم وفائه للأزمنة والأمكنة والوقائع يلهو بهذه العناصر كلها، وقد لا يتقيّد مطلق التقيّد بالصبغة التوثيقية المزعومة لأدب السيرة الذاتية لأنه ببساطة ينقل قطعة من التاريخ، تاريخه الشخصي، بواسطة اللغة، الكلام، والكلام الأدبي تحديدا. وثانيا لأن الذات هي محور هذا الجنس الأدبي، والذات ليست عقلا بأي حال من الأحوال. إنما المهم، بعد هذا وذاك، هو عم تتحدث الذاكرة، فيم تخوض، وأية حفريات قام بها الوعي المتأخر، وعي الستين عاما لذات أبى المؤلف إلا عز لها عنه بإقصائها في ضمير الغائب تارة، واستبدال ضمير المتكلم بلفظة “صاحبنا” تارة أخرى؟؟

في تقاليد السيرة الذاتية المكتوبة في الأدب المغربي، نجد المدينة أو الحواضر تتبوأ المكان الأول عند عبد المجيد بن جلون (“في الطفولة“)؛ وعبد الكريم غلاب (“سبعة أبواب“)؛ ومحمد شكري (“زمن الأخطاء“) الخ… أما الجابري فهو ابن الهامش، ابن الصحراء، ومدينة الواحة، فجيج، التي هي مرتع طفولته ومرابع قسم كبير من السيرة المسرودة، بموقعها في أقصى الجنوب الشرقي من المغرب على خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر في أوائل هذا القرن. وهي من بوابات الصحراء، ومحطة من محطات القوافل التجارية التي كانت تنتقل من بلاد سوس على المحيط الأطلسي إلى صعيد مصر.

ولادة الهامش، هذه، هي الخاصية الأولى في حفريات محمد عابد الجابري نظرا للموقع المركزي الذي تتبوؤه في السيرة. أما الخاصية الثانية فتتولد من جماع المحطات الأساسية الكبرى التي مر بها بطل السيرة، من عهد الصبا إلى أوائل الشباب، وهي التي تعطي لكتابتها معنى يجيز تدوينها؛ تعني محطة النشأة الأولى، المتميزة بطلاق الأب أو تطليقه لزوجته والمؤلف بعد جنين في بطن أمه ما سيجعله يتربى في كنف أخواله، وهي مرحلة ستوصف بكثير من المرارة والتأسي. والمحطة الثانية منطلقها مطلع الخمسينات بالانتقال إلى مدينة الدار البيضاء لاستكمال الدراسة الثانوية، وحيث تعترض الفتى أزمة مالية حادة توشك أن تصرفه عن طموح التعليم ليصبح خياطا بدل المفكر العلم الذي هو اليوم. فيما تنقلنا المحطة الثالثة من المغرب إلى دمشق، ضمن الأفواج الأولى من المغاربة الذين التحقوا بالمشرق العربي، وشكلوا لدى عودتهم عقب تخرجهم، الموازي لاستقلال المغرب، طليعة التيار العروبي القومي في الثقافة والسياسة المغربية الحديثة. إن هذه المحطات الشخصية الأساس، وضمنها محطات صغرى تتقاطع مع جملة أحداث وتمظهرات اجتماعية وسياسية وثقافية أكثرها إشعاعا التبلور الفعلي لحركة المقاومة المغربية ضد الاستعمار (1953)، والتكوين الفكري والإيديولوجي للنخبة المغربية العروبية الثانية، وكذا بدايات التشكل الوطني التقدمي أو إرهاصات ظهور التيار الديمقراطي التحرري سليل الحركة الوطنية المغربية. عند هذه الإرهاصات ينتهي الكتاب الذي ينبئنا مؤلفه بأنه مشروع ثلاثي ينتظر الجزآن الآخران منه التنفيذ في المستقبل.

وإذا كان من كلمة أخيرة فلنقل بأن “حفريات في الذاكرة” يمثل فعلا السيرة الفاضلة بأكمل وأجلى معانيها، فـ محمد عابد الجابري يقدم عن نفسه ومسلكيته، ومثله، طيلة المحطات المرصودة، صورة مثالية لا تشوبها شائبة. والحب نفسه الذي يعترض طريق كل فتى أو شاب عنده هو معيب أو محتشم، وليس ذلك تكلفا منه أو تزيدا، ولكنه خلق متأصل في منشأ وحياة الرجل، وهو ما يبدو مثيرا ومفارقا حقا حين يقارن مع قيم وأخلاقية هذا الزمن… إنما تلك هي سير الفضلاء.

مجلة الجابري – العدد الرابع


“حفريات في الذاكرة-من بعيد”، دار النشر المغربية، الدار البيضاء،1997.

وصدرت الطبعة الثانية في السنة نفسها عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت.