مجلة حكمة
إيليا أبي ماضي

الحَيْرة في طلاسم إيليا أبي ماضي

الكاتبسمر الديوب

“علّمني الشكُّ اليقين”

الإمام أبو حامد الغزالي

ملخص

يكاد النقاد يجمعون على أن أبا ماضي كان متفائلاً “كن جميلاً تر الوجود جميلا”، أبيقورياً “يعلي مبدأ اللذة”، لكننا ننطلق في بحثنا هذا من فرضية أن الطلاسم بنيت على إيقاع الثنائيات الضدية: الحرية/ القيد، الحياة/ الموت، الجبر/ الاختيار، القدم/ الحداثة، القبح/ الجمال، الشك/ اليقين، الجسد/ الروح، المعرفة/ وهم المعرفة، ونفترض أن الثنائيات الضدية تقوم على الجمع بين طرفين متوازيين، لا يلتقيان، ولا يمكن إزاحة طرف منهما، وبينهما مسافة، وتقع الطلاسم في هذه المسافة الفاصلة بين الطرفين المتضادين؛ لذا نسعى إلى إثبات فكرة أن الشاعر كان في هذه المنطقة الوسطى بين الأبيقورية والرواقية، وهي المنطقة التي آثرنا تسميتها منطقة شبه التضاد، وتمثّل الحَيْرة أو الدهشةَ الفلسفية. ولتحقيق هذه الغاية يسير البحث على وفق الخطة الآتية:

1-الطلاسم والبعد الفلسفي: كلام في المصطلحات.

1-1-البعد الفلسفي في الشعر.

1-2-طلاسم أبي ماضي.

1-3- السؤال والتساؤل الفلسفيان.

1-4-الحَيرة والدهشة الفلسفية.

1-5-الأبيقورية والرواقية ومسافة شبه التضاد.

2-الثنائيات الضدية في رباعيات الطلاسم ومسافة شبه التضاد.

2-2-ثنائيات: الحرية/ القيد، الجبر/ الاختيار، الجِدّة/ القدم وشبه التضاد.

2-2-ثنائيات: اللذة/ الألم، الظلام/ النور، الوجود/ العدم وشبه التضاد.

1-الطلاسم والبعد الفلسفي: كلام في المصطلحات

1-1-البعد الفلسفي في الشعر:

يعدّ الوعي مصدراً للشعر، وثمة بعد فلسفي في الشعر، فتمثّل الفلسفة التعبير المكتمل عن الجهد العقلي المنظّم المتعامل مع الحقائق والبراهين، ويراها بعضهم محاولة لمعرفة الروح، ولا تصل الفلسفة إلى الاكتمال، بل تمتلك هدفاً موعوداً به.

ويهدف الشعر أيضاً إلى محاولة معرفة الروح، والتركيب الكلي للكون المحيط بنا، ويتعيّن على ذلك أن المعنى المؤجل في الفلسفة موجود في الشعر أيضاً.

وتُعزى الفلسفة لدى أفلاطون وأرسطو إلى الدهشة، فيرى أفلاطون أن منبع الفلسفة الدهشة، وهي التي دعت الناس إلى التفلسف لدى أرسطو1 والدهشة منبع الشعر الأصيل.

وقد اختلف الفلاسفة في وضع تعريف محدد للفلسفة، ونجد الأمر ذاته في تعريف النقادِ الشعرَ، فتعالج الفلسفة الوجود بكامله، ويعدُّ الإنسان أهم ما في الوجود، واليقين الفلسفي يقين باطني، وكذلك اليقين الشعري، فالفلسفة والشعر كلاهما يهتم بالإنسان، وثمة حقيقة فلسفية، وحقيقة شعرية تؤثر فينا بطريقة مختلفة عن الطريقة العلمية.

وتسعى الفلسفة إلى البحث عن الحقيقة، لا إلى امتلاكها، ويسعى الشاعر إلى البحث عن جوهر الكون وغايته، لا إلى معرفته علمياً، وقد تنبّه أرسطو على طاقة الشعر الفلسفية2 فالشعر اكتشاف وإلهام، وتقديم رؤيا بديلة من الرؤية الظاهرة، فهو يهدم، ويبني عالماً أكثر صحة من وجهة نظره، ويهدف إلى بناء الإنسان في علاقته بما يحيط به، والشعر لغة: العلم3 ويؤكد هذا الأمر قوة الرابطة بين الشعر والفلسفة.

لكنّ الفلسفة تربط العلة بالنتيجة في حين أن الشعر يريد أن يثير الشك من دون أدنى محاولة للتفسير، فيتم الوعي بالأشياء حين تُربط المقدّمات بالنتائج، والعلل بوجود الظواهر.

ويعدّ الشعر فنّ التناقض، وتعدّ الفلسفة محاولة لحلّ المشكلات معتمدة على التحليل، والتركيب، والمنطق، والحدس، وتحوّل الحَدْس الظّنّي إلى فكرة، ويمكن أن نقول إن الشعر يتكلم على حساسية معرفية من وجهة نظر خاصة، لا تحمل طابع العقل. فما علاقة الطلاسم بالبعد الفلسفي؟

1-2-طلاسم أبي ماضي:

بُنيت الطلاسم على رباعيات، تشتمل كل رباعية على فكرة أو أكثر، قدّمها بصيغة سؤال، أو تساؤل فلسفي، وأنهى كل رباعية بعبارة “لست أدري” وبلغت إحدى وسبعين رباعية، تناول فيها القضايا الكونية الكبرى: الموت، الخلق، المصير، الخير، الشر، الجبر، الاختيار بعيداً عن الثوابت المألوفة، وليست بالأسئلة الجديدة، فقد أثارت باحثين كثراً قبله، وبعده.

تبدأ الرباعية الأولى بالحديث عن سر الوجود ولغزه، وتلتقي الرباعيةَ الأخيرةَ في هندسة لغوية بصرية متناظرة بالحديث عن سؤال المصير: 

إنني جئت وأمضي وأنا لا أعلم

أنا لغز وذهابي كمجيئي طلسم4

إنه يقرّ بالعجز عن كشف لغز الوجود والمصير، وما بينهما من ألغاز، ونراه يتحدث بين رباعيتيّ البداية والنهاية عن وحدة المادة وتحوّلها، وهي مشكلة فلسفية:

من شرابي الشهدُ والخمرةُ والماءُ الزلال

من طعامي البقلُ والأثمارُ واللحمُ الحلال

كم كيانٍ قد تلاشى في كيان واستحال

كم كيانٍ فيه شيءٌ من كياني

لستُ أدرى!5

فالعلل والأسباب مجهولة، ولا يمكن للعقل البشري إدراكها.  

وفصل في رباعياته بين الدين والأخلاق، لكنه فصلُ سببية، لا فصل تناقض، فيرى أن الدين ليس هو المصدرَ الوحيد للأخلاق6 وقد قدّم أفكاره كلها في ثنائيات ضدية متقابلة بالسؤال والتساؤل الفلسفيين، فما علاقة السؤال والتساؤل بالبعد الفلسفي في الشعر؟

1-3-السؤال والتساؤل الفلسفيان:

يعدّ التساؤل أهم خصائص التفكير الفلسفي، والفلسفة بالدرجة الأولى رغبة في المعرفة، والفيلسوف أكثر الناس رغبة في المعرفة، وأكثرهم إقراراً بجهله؛ لذا لا يتوقف عن إثارة الأسئلة والتساؤلات الفلسفية.

ويعدّ السؤال الفلسفي اختباراً للمعرفة؛ لأنه يحمل شكاً سابقاً بالجواب، ويثري التساؤل أكثر من السؤال، ويتعلق بقضية غير منتهية، أو موضوع مفتوح، ويمكن لوضع الأسئلة أن يمهِّد لتساؤلات تتبعه.

ولا يحفل التساؤل بالإجابات المباشرة، ويهتم بمفاهيم العقل، وهي غير ثابتة، ويُدرِك حامل التساؤل الفلسفي عدم وجود إجابات محددة، وهذا ملمح فلسفي.

وتولّد الأسئلة والتساؤلات أفكاراً جديدة، وتحيل إلى أسئلة وتساؤلات أخرى، وقد يتفوق التساؤل الفلسفي على المشكلة المثارة نظراً لعمقه، فقد يكون تساؤلَ وجود، وقد يكون تساؤلَ معرفة، والمعرفة مزعومة في الفلسفة، ومن يدّعي امتلاك المعرفة يمتلك وهم المعرفة، ويتعين على ذلك أن التساؤل ليس اختباراً للمعرفة فقط، بل يمثل اختباراً للا معرفة أيضاً.

وطبيعة تفكير أبي ماضي لاهثة وراء إثارة الأسئلة والتساؤلات حول ما يدهشه، فتولدت هذه الدهشة على شكل تساؤلات ركّزت على قضايا الوجود والإنسان.

ولأن هنالك طابعاً إشكالياً لسؤاله الفلسفي نجد أنه تساؤل، لا سؤال، إنه يثير التساؤل، ولا يقدّم جواباً؛ لأنه يدرك أن الجواب مؤجل باستمرار في ضوء الطابع الميتافيزيقي لتساؤلاته، ولهذا تولّدت الحيرة لديه، وهي المسافة الفاصلة بين الشك واليقين.

1-4-الحَيْرة والدهشة الفلسفية:

الحَيرة مصطلح، لا مفهوم، لم يوله الفلاسفة الكلاسيّون اهتمامهم، فهي مصطلح مدخل- فلسفي، حاضر في كثير من المسائل الفلسفية بوصفها حالة توصيف لطريقة التفكير، والحَيرة مصطلح مضاد للصفاء واليقين.

والحيرة دهشة فلسفية، هي مصدر التساؤل، ومنبع التفكير، فينجم عن التفكير في الماورائيات حَيرة هي أصل التساؤل بوصفها يقظة ذهنية.

الحيرة رغبة في المعرفة، وقد تتحول إلى ضدها؛ أي إلى اليقين في حد ذاته، فهي حالة دائمة للفكر، ولولا الحيرة ما توصّلنا إلى اليقين7.

ينجم عن الحيرة صرخات استفهامية، ولأنها تستدعي التساؤل تُرفع إلى المستوى الفلسفي. والحيرة انسجام مع أصل الكون القائم على الحركة، فسمة التفكير الفلسفي تفضيل الحيرة/ الحركة على السكون/ الثبات؛ لأن الحيرة لا تحدّد، واللا تحدد حركة، والحركة أصل.

وتتعلق الدهشة الفلسفية بالطبيعة وما ورائياتها، ويتولد عنها الفضول، وهي تحرّك الفكر، وللفلسفة الرواقية علاقة بالحيرة، فقد وجد الرواقيون حلاً لحالات النفس الحائرة هو أن نعيش على وفق المنطق الكوني المطلق، وألا ننفعل أمام الشرور، فكل ما يحدث معنا يحدث لسبب ما.

وقد وجدنا أن هذه القصيدة تقع في المنطقة الوسطى بين الرواقية والأبيقورية، فما الرواقية والأبيقورية، وما ركائزهما.

1-5-الأبيقورية والرواقية ومسافة شبه التضاد:

يرى الأبيقوريون8 أن اللذة غاية الحياة، والخير الوحيد، ويرون الألم الشر الوحيد، وتتحقق اللذة في التحرر من الألم، واللذة لديهم روحية، عقلية؛ لأنها أهم من لذات الجسد الزائلة. ولا تتحقق المعرفة عندهم إلا عن طريق الحواس.

ولا ترى الأبيقورية أن مهمة الفلسفة تغيير العالم، فلا يستطيع الجزء أن يفسّر الكل، بل وظيفتها أن تهدينا إلى طريق السعادة.

أما الرواقية9 فهي معاصرة للأبيقورية، ومضادة لها، وتعني الفلسفة عندهم محبة الحكمة ومزاولتها، وعلم الأشياء الإلهية والإنسانية، وهم ماديون، ومعرفتهم حسية.

والرواقية قبل كل شيء أخلاق ودين، تسعى إلى الكشف عن الحقيقة بالتأمل والإلهام، فالحكمة عندهم علم الأشياء الإلهية والإنسانية وممارسة الفضيلة تحقيقاً للسعادة الرواقية10

إن على الإنسان أن يطيع قوانين الوجود، فلا يستطيع عصيانها، لكنه الوحيد الذي يطيع هذه القوانين عن وعي ابتغاء تحقيق السعادة، ويرون أن أحداث الكون خاضعة للقدر، والرواقي الحكيم هو الذي يقبل ما يأتي به القدر من أحداث معتقداً أنها داخلة في القضاء الإلهي والنظام الكلي11 فألحوا على فكرة الجامعة الإنسانية التي تضم البشر كلهم، والإنسان جزء من الكون، لا من البشر فقط، فعقد الرواقي صداقة بين أجزاء الكون المختلفة، وأتى بالفلسفة من المعرفة إلى الأخلاق12

أما الأبيقوري فهو عاشق للحرية، مدافع عن متعة الوجود، يعمل على تبديد الأساطير التي تسلب المرء إرادته، عارض فكرة القدر التي شكّلت صلب فلسفة الرواقيين، وسعى إلى تحرير الناس من الأوهام المرتبطة بالدين والأعراف الاجتماعية؛ لأنه رآها أكبر أعداء الحرية، فالآلهة -بحسب الأبيقوري- لا تكترث لأمورنا، ويجب ألا نخشاها13.

ولأن الحيرة طاغية على رباعيات الطلاسم كلها -إذ انتهت كل رباعية بجملة “لست أدري”- وجدنا أنه قد تأرجح بين الأبيقورية والرواقية، وفي هذه المسافة بين الطرفين المتضادين تقع الطلاسم، وقد آثرنا تسميتها “منطقة شبه التضاد”.

إن بين الطرفين المتضادين منطقة وسطى، وكلما ابتعد هذان الطرفان اتسعت هذه المسافة، وهذا ما يولّد حال جذب للمتلقي، ونتيجة العلاقة بين الطرفين تظهر هذه المسافة في رباعيات الطلاسم كلها؛ ذلك لأنها تزداد في الحديث عن المسائل الميتافيزيقية؛ إذ تتسع الحيرة بين الشك واليقين. فكيف تجلّت مسافة شبه التضاد في رباعيات الطلاسم؟

2-الثنائيات الضدية في رباعيات الطلاسم ومسافة شبه التضاد:

الشعر رياضة عقلية شعورية حدسية، ويتميز الشعر بالفريد منه، لا بالمتشابه، والمطلوب منه الريادة والابتكار، لا التقليد والتكرار. 

ولا ينفصل الشعر عن مسارات العلوم المختلفة الإنسانية وغير الإنسانية، وليس الشعر كلاماً عادياً، إنه فكرة بديعة، وتركيب خاص، فالشاعر صانع، حدسيّ، والشعر رسم مبني على رؤى.

وقد بنى أبو ماضي طلاسمه على الثنائيات الضدية، ووقف في منطقة شبه التضاد، فتحدث عن البحر، والدير، والمقابر، والقصر، والكوخ، والفكر، وجدلية العدم والوجود، والجبر والاختيار، والحرية والقيد، واللذة والألم… وأنهى كل رباعية بلازمته الأثيرة ليؤكد الحيرة، ولتؤكد هذه الحَيرة عدم قدرته على العلم.

2-1-ثنائيات الحرية/ القيد، الجبر/ الاختيار، الجدة/ القدم وشبه التضاد:

نوّع حيرته بصور مختلفة، وسنرصدها تبعاً للرباعيات التي قدّمها؛ إذ يبدأ طلاسمه، وينهيها برباعيتين متناظرتين:

جئتُ لا أعلمُ من أين، ولكني أتيت               
ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيت               
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا، أو أبيت
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!14
إنني جئتُ، وأمضي وأنا لا أعلم
أنا لغزٌ.. وذهابي كمجيئي طلسم
والذي أوجدَ هذا اللغزَ لغزٌ مبهم
لا تجادل ذا الحِجا من قال إني..
لستُ أدري15

حَيرة أبي ماضي انفعال، وحركة، وتأرجح بين اللذة والألم، وتقف حيرته بين العقل والانفعال، فهو في منطقة شبه التضاد؛ إذ تسعى الرواقية إلى التخلص من الانفعال في حين تسعى الأبيقورية إلى إشباع الأهواء المعتدلة.

يحاول أن يحصل على لذة المعرفة16 لكن الألم يحاصره لعدم قدرته على القبض على نار المعرفة، وتحمل عبارة لست أدري ضدها معها، وقد كرّرها على مساحة الرباعيات كلها، ويعني ذلك أن مسائل الميتافيزيقا لا يمكن الإجابة عنها، لكنه بعبارة لست أدري يعترف بصعوبة تجاهلها، أو نسيانها، فهي أسئلة لا إجابة عنها، لكنه لا يستطيع تجاوز مرحلة التذكر والسؤال.

إن لديه شغفاً مأسوياً بالأمور الغيبية، فيعيش في حال ألم لعدم قدرته على الوصول إلى الإجابة، لكنّ لديه شغفاً كبيراً لمعرفة السبب، يولّد لذة من هذا الألم، ويُستعاد هذا الشغف باستمرار؛ لذا يبقى في المنطقة الوسطى بين الطرفين: منطقة الحيرة وشبه التضاد.

وتُعلي حالة التكرار من درجة الألم، ويؤدي ذلك إلى قبول الواقع ومعطياته، فالتكرار فعل تذكر، وهو يتكرر بالارتداد، وهذا التذكر هو ما يجعله حزيناً متألماً، لكن التكرار في الوقت نفسه تأكيد للحرية، وميل إلى الأبيقورية.

إنه لا يعلم من أين جاء، لكنه أبصر طريقه، فالشعور بالجهل هو السبب الأول في تحصيل العلم.

وينجم عن الرباعيتين السابقتين ثنائيا الحرية والقيد، الجبر والاختيار، ويحدّد موقفه في كل ثنائية بلازمته المتكررة، فهل هو مخيَّر أو مسيّر؟، هل فُرض عليه القدوم إلى الحياة؟ من أين أتى؟ ويقول إنه سيبقى ماشياً في طريقه الذي أبصره إن شاء، وإن أبى، ونجد هنا صدى للرواقية، فلا مكان فيها للاختيار، أو الحرية، فالأفعال مقدّرة تقديراً أزلياً مطلقاً، ويجب أن يكتسب العبد صفة الفعل والحس؛ لأنه لا يستطيع أن يُدرك غير الماديات، والعالم مادي خالص؛ لذا يتماثل عالمهم الطبيعي مع اعتقادهم الديني، فيحكم القدر قانون الطبيعة، وحركة التاريخ دورية، وليست إلى الأمام أو الخلف.

وفي الوقت الذي نجد ظلالاً للرواقية في هاتين الرباعيتين نجد ظلالاً للطرف المضاد: الأبيقورية، فنلمح فلسفة المتعة والحرية حين يعارض فكرة القدر بوقوفه في منطقة الحيرة، فيسأل: كيف جاء؟ وكيف اهتدى إلى طريقه؟ راغباً في إثارة أسئلة تتيح له قدراً من الحرية.

ويؤكد هذه الفكرة في رباعيتين أخريين:

أتُراني قبلما أصبحتُ إنساناً سويّا
أتُراني كنتُ محواً، أم تُراني كنتُ شيّا؟!
ألهذا اللغزِ حلٌّ؟ أم سيبقى أبديّا؟
لستُ أدري.. ولماذا لستُ أدري؟
لستُ أدري!17

……………………………..

أجديدٌ أم قديمٌ أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرٌّ طليقُ؟ أم أسيرٌ في قيود؟
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري ولكن…
لستُ أدري!18

لا يفرّق أبو ماضي -شأن الأبيقوريين- بين المتعة والحرية، وقد توصّل إلى أن ثمة علاقة متشابكة بين اللذة والعذاب، فالحرية في التفكير لذة، لكنها توصله إلى الألم؛ لعدم قدرته على الوصول إلى يقين، ففي منطق الثنائيات الضدية ينقلب بعض المتع إلى ضدها.

ونراه يوازي بين كفّتي اللذة والحرية في التفكير، والألم والعجز عن الوصول، فوقف في منطقة الحيرة بين فكرة القدر والجبر، وفكرة الحرية والاختيار، وترى الرواقية أن حياتنا مرسومة، وأن ثمة أموراً مقدّرة علينا، في حين يرى الرواقيون أن الآلهة لا دخل لها في شؤون الناس19

وحال شبه التضاد هذه حال شك، لا إلحاد20، ويحرم هذا الشك أبا ماضي المتأرجح بين الأبيقورية والرواقية اللذة والحرية، إنه يشك في الوصول إلى الحقائق “ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا؟، هل أنا قائد نفسي أم مقود؟ هل أنا حر طليق أم أسير في قيود؟ أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيّا؟” وهنا نجد تضاداً بين الفلسفة وما يقدمه أبو ماضي، أو ما اصطلحنا على تسميته منطقة شبه التضاد، فالفلسفة سعي لمعرفة الحقائق في هذا الكون، والحيرة/ شبه التضاد تتضاد مع الفلسفة، لكنّ في الحيرة شيئاً من خصائص كل طرف من الطرفين المتضادين حين نرى أن الشك أول مراتب اليقين والوصول إلى الحقيقة.

توصل أبو ماضي إلى أن المعرفة وهم وخداع، فلم تتمكن الفلسفة من الوصول إلى الحقيقة، وفي الحيرة يستوي الأمر وضده، وإذا مال إلى الرواقية بدا سريع التصديق للحقائق من غير أن تدعم بالبرهان، وإن مال إلى الأبيقورية غدا فكره حراً رافضاً الثوابت، ففي الحيرة لا تقاس المعرفة بالحس أو بالعقل، فكلاهما عاجز.

إنه يؤكد حال شبه التضاد “لست أدري.. ولماذا لست أدري” لكنها لا أدرية مصطنعة، فليست حيرته ناجمة عن جهل، ولا أدريته أدرية تقع في المنطقة الوسطى بين الجهل والعلم، فهو يقول إنه لا يدري لكنه يسوق الأمثلة المتعاقبة حول موجودات الطبيعة وعلاقتها بالإنسان، فهو عارف في صيغة تجاهل العارف، إنه متفائل بالمعرفة حيناً، متألم من الجهل حيناً، متشائم مَرِح، ويؤكد الأبيقوريون أن الفرار من الألم خير من السعي في تحصيل اللذة21

ولا يرى أبو ماضي ضرورة عدم التفكير في الحياة؛ لأن ذلك سيزيد الهم، وفي الوقت نفسه لا يرى فائدة من التفكير؛ لأن الحياة طلسم يعجز عن حله، فيبقى متأرجحاً بين الطرفين المتضادين، فيقول إنه لا يدري، ولماذا ليس يدري؟ مردداً أقوال فلاسفة سبقوه.

وتثير ثنائية الجِدّة والقِدم سؤال: هل الكون قديم أزليّ، أو جديد؟ هل كان موجوداً قبل أن نولد في هذه الحياة؟

رأت الأبيقورية أن الروح ذات طبيعة ذرّية، تموت بموت الجسد؛ لأنه جسم مركّب من ذرات قابلة للانحلال، فحقيقة هذا العالم تكمن فيه، وعلينا ألا نبحث عن علة خارجة عنه، فخالفوا الرواقيين الذين تحدّثوا عن الما ورائيات، وها هو ذا يقف من جديد في منطقة شبه التضاد بين الفكرتين المتضادتين.

ومثلما سرق بروميثيوس النار من الإله يحاول أبو ماضي سرقة شعلة المعرفة، وثمة علاقة بين ارتفاع الوعي وإدراك ماهية الحيرة.

إنه يقترب من الحقيقة بشكل ما، ولذلك نجده بعيداً عنها، فهو يدرك أنه حادث، وهذا الحادث آت من العدم الممتلئ، فهو مركب من ذرّات الكون، ويدرك أن في الكون نظاماً لكنه عاجز عن فهم قانونه؛ ونجد أن ثمة تساؤلات كثيرة تتولد من تساؤلاته، وهي سمة التفكير التأملي الفلسفي.

2-2-ثنائيات اللذة/ الألم، الظلام/ النور، الوجود/ العدم وشبه التضاد:

يعلن أبو ماضي نفسه شاعر التساؤل، ونرى أن الشك فاتحة الإيمان، فيتحوّل الشك والحيرة هنا إلى إيمان في مواضع من ديوانه:

غفرانك اللهم ما أنا كافرٌ
  
 فلمَ العذابُ لمهجتي بالنار؟22
و  
أنا بالحبّ قد وصلتُ إلى نفسي

 وبالحبّ قد عرفتُ الله23

يعلن الحب ديناً، وبه تمكّن من معرفة نفسه، ومعرفة الله؛ لأنهما من جوهر واحد، وقد وصل إليهما بالتأمل.

وتتسلسل تساؤلاته عن البدن والروح، فهل ثمة خلود للروح؟ وهل تموت بموت الجسد؟

أنا كالصهباءِ لكن أنا صهبائي ودَنّي
أصلها خافٍ كأصلي، سجنها طين كسجني
ويُزاحُ الختم عنها مثلما ينشقّ عني
وهي لا تفقه معناها وإني..
لستُ أدري!24

………………………………………

يا كتابَ الدّهرِ قل لي ألَهُ قَبلٌ وبَعدُ؟
أنا كالزورق فيه وهو بحر لا يُحَدُّ
ليس لي قصد، فهل للدهر في سيري قصدُ؟
حبذا العلم، ولكن كيف أدري؟
لستُ أدري!25

نرى تضاداً بين اللا أدرية واليقينية مرة ثانية؛ ذلك أنه فيلسوف بروح شاعر، وليس العقل وحده هو المولّد لهذه الأفكار التأملية الفلسفية.

يرى أن الروح الإلهية تسكن في كل ما خلق الله من مظاهر الطبيعة والكون، لكنّ تساؤلاته تحمل رغبة في إشراك المتلقي:

إنَّ بعضَ القولِ فنٌّ فاجعلِ الإصغاءَ فنّا
تكُ كالحقلِ يردّ الكيلَ للزارعِ طنّا26

الساعي إلى المعرفة قلق، متألم، شقيّ، مكابد، فالتطلع إلى المعرفة غير محدود، ولأن الأصل خافٍ لا يمكن القبض عليه، فهو هدف مستحيل، إنه مندهش، ودهشته اعتراف باللغز المحيط به، والجهل والاعتراف بالجهل أول مرحلة من مراحل المعرفة؛ لأنه سيثير أسئلة وتساؤلات، وتسعى الدهشة إلى تحصيل المعرفة لأجل المعرفة ذاتها، ودهشته أوسع من حيرته، لكنها تظل محكومة بمنطقة شبه التضاد.

يتحدث عن ثنائية قبل/ بعد، وهي تثير ثنائيات الظهور والاحتجاب، البدن والروح، العلم والجهل، وتعني ثنائية بدن وروح أن ثمة حيرة في ما يتعلق بالحياة والموت، والوجود والعدم، فيقف في منطقة شبه التضاد بين الرواقية والأبيقورية التي رأت أن الروح تفنى مع الجسد، مما يعني ضمنياً نفي الثواب والعقاب؛ ليحرر نفسه من هاجس الخوف الذي هو مصدر الاعتقاد بالماورائيات، ويولّد اللذة من الألم، فالخوف من الموت وهم، وتستمر الحياة، لكن حين يحلّ الموت لا حياة بعده، ويعني ذلك تحرراً من الخوف لتزداد فرص اللذة27

ويعني الوقوف في منطقة شبه التضاد أن ثمة حيرة بين حقيقة الروح والبدن: هل تموت الروح مع البدن لأنها -حسب الأبيقورية- جسم مركّب من ذرات قابلة للانحلال؟ أو أن الروح سابقة البدن، والبدن حجاب؟ “أصلها خاف كأصلي، سجنها طين كسجني، يا كتاب الدهر قل لي أله قبلٌ وبعد؟”

ويؤكد هذه الحيرة في رباعية أخرى:

أ وراءَ القبرِ بعدَ الموت بعثٌ ونشور؟
فحياةٌ، فخلودٌ أم فناءٌ ودثور؟
أكلامُ الناسِ صدقٌ أم كلامُ الناسِ زور؟
أصحيحٌ أنّ بعضَ الناس يدري؟
لست أدري!28

إن الجسد ظلام مقابل نور الروح، ومن ثنائية الظلام والنور تتولد رباعيات جديدة:

إنني أبصرتُ في الدير وروداً في سياج
قنعَت بعد الندى الطاهرِ بالماءِ الأجاج
حولها النور الذي يأتي، وترضى بالدياجي
أمن الحكمة قتل القلب صبرا؟…
لستُ أدري!29
قد دخلتُ الديرَ عند الفجرِ كالفجرِ الطروب
وتركتُ الديرَ عند الليلِ كالليلِ الغضوب
كان في نفسي كربٌ، صار في نفسي كروب
أمِن الدير أم الليل اكتئابي؟…
لستُ أدري!

لقد دخل ديراً؛ ليستنطق الناسكين، فرآهم حيرى مثله باهتين، والدير من الدائرة، عالم دائري مغلق، ولا يوجد للدائرة بداية ونهاية، فلا تملك إجابة عن سؤاله، وها هو ذا يتدرّج في الحيرة، فثمة صراع متضادات في نفسه، فالكائن سجين الطين، لا يفقه من وجوده شيئاً، ويخرج من الحياة كما دخل إليها

تحيط الورود بسياج الدير، فداخله قفر، ومحيطه يبعث على السرور، فتحيل هذه الزهور إلى اللذة التي تنجم عن ضدّها، ويتعاقب الليل والنهار في هذا الدير/ الدائرة، فيربط الليل بالدير “أمن الدير أم الليل اكتئابي؟” فالدير -مسكن الرهبان والعبادة- مكان للاكتئاب، ربطه بالليل الذي يعني الألم لديه، لقد تحول الدير الجميل إلى رمز للقبح، وتحوّل طرف الثنائية الجمال إلى قبح، فاتسعت مسافة شبه التضاد.

إنه يريد خروجاً من هذه المنطقة إلى إيمان ناجم عن علم، لا جهل، ومن يريد الإيمان يجب أن يمر بمرحلة الشكك؛ ذلك لأن الشك أول مراتب اليقين30

يعرف أبو ماضي كلَّ شيء بضده، فتتوالد الأضداد، وتقدّم فكرة واحدة تتفرع منها أفكار متعددة:

إنني أشهد في نفسي صراعاً وعراكا
وأرى ذاتي شيطاناً، وأحياناً ملاكا
هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا؟
أم تراني واهماً في ما أراه؟
لستُ أدري!31

يعني التساؤل استدعاء المعرفة32 وأسئلة أبي ماضي ميتافيزيقية، وهو لا يتخذ من الفلسفة مصدراً له، بل يحاول أن يتأمل فلسفياً، وهو متلقٍّ للسؤال في تساؤله، وينهي بلازمته “لست أدري” التي تمثل مسافة شبه تضاد بين العقل والقلب33، وقد أوجد تساؤله رؤيا خاصة، هل هو شيطان أو ملاك؟ هل يعيش المعرفة أو وهم المعرفة؟

وتتوالد ثنائيات القبح والجمال، الألم واللذة.. وهي تدور حول منطقة شبه التضاد:

يرقصُ البحر وفي قاعك حربٌ لن تزولا
تخلُقُ الأسماك لكن تخلق الحوت الأكولا
قد جمعت الموت في صدرك والعيش الجميلا
ليت شعري أنت مهدٌ أم ضريح؟
لستُ أدري!34

………………………………….

رُبّ قبحٍ عند زيدٍ هو حسن عند بكر
فهما ضدّان فيه وهو وهم عند عمرو
فمن الصادق فيما يدّعيه ليت شعري؟
ولماذا ليس للحسن قياس؟
لستُ أدري!35


أمواج البحر متعاقبة كحركة الزمن، هو وحدة، وأجزاؤه ترتد إليه، لكنه جمع في داخله المتضادات، فحياته كحياة الإنسان، في البحر حرية، لكنّ فيها صراع أضداد؛ لذا يتساءل: “أنت مهد أم ضريح؟”

ويعني تساؤله أنه في حيرة، فهل يمكن أن يحل اللغز والمعرفة العقلية ترتد إلى الحس؟ وهل دحض أصحاب اليقين يعني أنهم مخطئون؟ يعني ذلك أن شكّه ليس مطلقاً، كان محتاراً، والوسيلة الأساسية للمعرفة هي المنهج الشكّي36

تزادا حيرته وهو يراقب ثنائية القبح والجمال، فالقبح درجة من درجات الجمال، لكنه مواز للجميل، ويرى أبو ماضي أن القبيح قد يكون جميلاً عند شخص، أو خلاف ذلك، في حين أن شخصاً آخر قد يقع في دائرة الوهم، وهي المنطقة التي يقف فيها.

ينجم الشعور بالجمال من الداخل، وهو ميل أبيقوري في حين ينظر إليه شخص آخر من منطق مضاد، فلا يوجد جمال أو قبح مطلقان.

إن لديه لذة مؤقتة، وغير مستقرة؛ لأنه لا يجد ثباتاً في هذه الحياة “فمن الصادق فيما يدّعيه ليت شعري؟” والشعر العلم كما سبق؛ لذا يدور حول اللذة التي يقتنصها من الألم.

قد يقيني الخطرَ الشوكُ الذي يجرح كفّي
ويكون السمُّ في العطرِ الذي يملأ أنفي
إنما الوردُ هو الأفضل في شرعي وعُرفي
وهو شرعٌ كلّه ظلمٌ، ولكن..
لستُ أدري!37

………………………………………

لذةٌ عندي أن أسمعَ تغريدَ البلابل
وحفيفَ الورقِ الأخضرِ أو همسَ الجداول
وأرى الأنجمَ في الظلماءِ تبدو كالمشاعل
أترى اللذةُ منها أم اللذة مني؟
لستُ أدري!38

للوصول إلى الفضيلة في الأبيقورية ينبغي المرور بالأهواء الإنسانية، والكائن السعيد مستثنى من الغضب39 وحين يُعلي أبو ماضي مبدأ اللذة يهاجم ما يؤلم ويسبّب الحزن، ويعني غياب الألم اختفاءه، لا محوه “الورد هو الأفضل في شرعي.. وهو شرع كله ظلم” ومن الأشياء البسيطة عنده تتولد اللذة شأن الأبيقوريين اللذين يناهضون الألم باستحضار الضد “قد يقيني الخطر الشوك الذي يجرح كفي”

لكنه يعود ليلغي الانفعال من الحال النفسية شأن الرواقيين40 “هو شرع كله ظلم”.. أترى منها أم اللذة مني؟” فقانون الطبيعة مطلق لا يسمح بالاستثناء، فيظهر تغييب الهوى المؤلم واللذيذ حين يرجّح الجانب العقلي.

إن ثمة مسافة شبه تضاد ضرورية لوجود اللذة والألم، ويعني غيابها نفي وجود أحدهما، فالطرفان حاضران في مسافة شبه التضاد، ويحمل كل طرف شيئاً من خصائص الطرف الآخر، فاللذة كامنة في الألم، وتمثل هذه المسافة فراغاً فيزيائياً بين هذين الطرفين تمثله لازمته لستُ أدري.

إنه يربط بين اللذة والألم، ويظل محكوماً بمسافة شبه التضاد، يقول بعد أن أدار حواراً بين شاعر مؤمن بوجود السعادة، وآخر رافض لها:

يا صاحبي هذا حوارٌ باطلٌ
  
 لا أنت أدركتَ الصوابَ، ولا أنا41
و  

3-خاتمة

تعدّ رباعيات الطلاسم قصيدة ذات غزارة فكرية تأخذ نحواً مدخل- فلسفي لوجود الحيرة، حاولت إحياء الأسئلة القديمة حول ألغاز الوجود والإنسان، وبدا أبو ماضي غارقاً في الذاتية، لامس البعد الفلسفي في جوانب متعددة، وقد توصلنا إلى النتائج الآتية تبعاً لذلك:

-تمثل رباعيات الطلاسم بناء ضدياً متكاملاً بما فيها من لذة وألم، إقبال وإدبار، فرح وترح….

-تأمُّل أبي ماضي في هذه القصيدة هو صلة الوصل بين الشعر والفلسفة، لكنّ حيرته تتصل بقضايا الوجود، لا بالغيبيات، إنه يريد أن يقول إن المصادفة قد أوجدته، ولا تقول الفلسفة ذلك؛ لأنها تفسّر الموجود استناداً إلى كنهه.

-هو متفائل ومتشائم في آن، فتفاؤله ممزوج بالحيرة والألم، هو ملجؤه من الألم، وحين سأل عقله أعيا جواباً، فمضى في سبيل الحيرة، فألمه ولذته صراع بين العقل والقلب، فمن ينبوع القلب السعادة، ومن مناجم العقل الشقاء، ومن يفكر في الحياة يزدَد ألمه.

-كان أبيقورياً في رغبته في التحرر من القلق والخوف والألم، فلا تتحقق اللذة إلا بتغييب الألم، لكنه في سعيه هذا تأرجح بين ثنائيات الجبر والاختيار، الحرية والقيد، البدن والروح، الحياة والموت، فوقف في منطقة شبه التضاد، فإن رأت الأبيقورية الخير في اللذة رأت الرواقية الخير في مماثلة النظام الكوني، والعيش وفق الطبيعة.

-وقع في الحيرة؛ لأنه تعطّش إلى المعرفة، واصطدم بمحدودية المعرفة البشرية، ولجأ إلى التساؤل الذي يقوم على تجاوز الواقع، وأعمل حدسه، والحدس هو العقل في أعلى درجات عمله.

ولأن العقل لا يتعامل إلا مع المعطى المحسوس كان حائراً تجاه الأمور الميتافيزيقية، وهنا يأتي دور العقل الحدسي الذي قدّم المعنى والمعنى المضاد معاً. 

-الإحالات

1 كارل يسبرز: 1987، نصوص مختارة من التراث الوجودي، ترجمة: فؤاد كامل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص14.

2 يقول أرسطو: “إن الشعر أكثر تفلسفاً من التاريخ، وأهم؛ لأن الشاعر يتعامل مع الكليات”

انظر: عبد الغفار مكاوي: 1995، شعر وفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص62.

3 شعرَ يشعُر شِعراً، وشعوراً.. كله للعلم، ليت شعري: أي ليت علمي. ابن منظور، جمال الدين بن مكرم: 1994، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت، مادة شعر

4 إيليا أبو ماضي: د.ت، الديوان، دار العودة، بيروت، ص214

5 المصدر نفسه، ص212

6 أدب أبي ماضي أدب للإنسانية جمعاء، فليست فلسفته سبباً للشعر، وليست غاية في حد ذاتها. إنه من شعراء الرابطة القلمية، لكنه يمتاز منهم بفلسفته الخاصة التي تحمل نظرته إلى الحياة، فقد أسبغ على هذه الفلسفة طابعاً شخصياً، لم يكن تشاؤمياً، ولم يكن متفائلاً في شعره كله، بل كان يقف في المنطقة الوسطى بين الطرفين المتضادّين؛ لذا تصحّ تسميته بـ: “المتشائل”.

7 يرى سورين كيركجارد أن في الحيرة تفاعلاً بين المحدودية واللا متناهي، الإلهي والإنساني، الحرية والضرورة، والإنسان تركيبة من النهائي واللا نهائي، الزماني والأبدي، الحرية والضرورة، باختصار توليفة، والتوليفة هي العلاقة بين عاملين.

سورين كيركيجارد: 2013، المرض طريق الموات، ط1، تر: د. أسامة القفاش، مكتبة دار الكلمة، ص15-16.

8 تُنسب الأبيقورية إلى مؤسسها أبيقورس Epicurus الفيلسوف الإغريقي “347-270 ق.م، وهي العقيدة الفلسفية الوحيدة التي قُدِّر لها أن تنتشر في العالم القديم الإغريقي والروماني، وازدهرت في بلاد اليونان وآسية الصغرى، ومصر، وسوريا، وإيطاليا، وشمال إفريقيا، واشتهرت بأنها فلسفة اللذة المعنوية. كريم متّى: د.ت، الموسوعة الفلسفية، بيروت، 11/25.

9 وجدت الرواقية في القرن الرابع قبل الميلاد، وهي مذهب مجموعة من الفلاسفة أهمهم زينون مؤسس المذهب، سُمّوا رواقيين لأن “زينون” كان يعلّم تلاميذه في رواق، وترى الرواقية أن السعادة في الفضيلة، وأن على الإنسان أن يجعل سلوكه مطابقاً لما تمليه عليه الطبيعة. جميل صليبا: د.ت، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، 1/622.

وللتوسع في الفلسفتين ينظر:

-يوسف كرم: 2012، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، مصر

-ولتر ستيس: 1984، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار الثقافة، القاهرة.

11. تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، ص224

11أندريه كرسون: 1946، المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ترجمة: عبد الحليم محمد، دار الإحياء، ص68

12. العقل والطبيعة عندهم شيء واحد، والسعي بمقتضى العقل يعني سيراً بمقتضى الطبيعة، ومن يعيش بمقتضى الطبيعة عليه أن يقبل بالتسليم الذي هو فوق الحزن والسرور؛ أي يسمو بالرواقي إلى عدم الانفعال، فتحصل الحكمة من الانسياب في تيار الحياة الكونية.

عبد الرحمن بدوي: د.ت، خريف الفكر اليوناني، دار القلم، بيروت، ص42.

 13تحطيم الخوف لديهم تحطيم للمعوق الأساس للسعادة الإنسانية، فلا يتعين على الأبيقوري التفكير في مستقبل لا يعنيه، وتتكون الروح مع الجسد، وتفنى معه.

إميل برهييه: د.ت، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ج2/114.

14. الديوان، ص191

15.  المصدر السابق، ص214

16.  يقول أبيقور: إن اللذة بداية الحياة السعيدة وغايتها، وهي الخير الأول الموافق لطبيعتنا، والقاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما يجب اختياره، وما يجب تجنبه، وهي أخيراً المرجع الذي نلجأ إليه كلما اتخذنا الإحساس معياراً للخير الحاصل لنا.

أبيقور: د.ت، الرسائل والحكم، ترجمة: جلال الدين سعيد، الدار العربية للكتاب، منتدى سور الأزبكية، ص113.

17. الديوان، ص192

18. المصدر السابق، ص191

19. تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ص282

20. اللا أدرية أو الأغنوسية Agnosticism مصطلح مشتق من الإغريقية، وهي توجه فلسفي يؤمن بأن القيم الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة، ولا يمكن لأحد تحديدها. ينظر:

Richard Dawkins, The poverty of agnosticism, in the God De lesion, Black swan, 2007

21. الموسوعة الفلسفية، 11/25

22. الديوان، ص386

23. المصدر نفسه، 782

24. المصدر السابق، ص213

25. المصدر السابق، 195- 196

26. الديوان، ص744

27. يرى أبيقور أن العالم يولد من لا شيء؛ لأنه لو كان في وسع الأشياء أن تولد دونما الحاجة إلى البذور لكان في وسع كل شيء أن يولد من كل شيء، فالكون لديه لم يُخلق بالصدفة، بل كان نتيجة للجاذبية التي كانت سبباً في سقوط الذرات من أعلى إلى تحت على نحو مستقيم، فانزاح بعضها عن المسار العمودي، وأدّى إلى التصادم، فتشكّلت مظاهر الوجود. تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ص228.

28. الديوان، ص202

29. الديوان، ص198

30. لأبي ماضي قصيدة يقين يقول فيها:

عندما أبدع هذا الكون رب العالمينا

ورأى كل الذي فيه جميلاً وثمينا

خلق الشاعر…

         كي يخلق للناس عيونا….

من سواه عانق الله يقيناً لا ظنونا.. الديوان، ص 750- 751

31. الديوان، ص206

32. رأى سقراط أن المعرفة الحقيقية تكمن في التساؤل عن ماهيات الأشياء، وعدم الاكتفاء بالمظهر فيها.

انظر: أندريه كونت: 2008، الفلسفة، ترجمة: علي بو ملحم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ص60

33. ترى ماريا كاريلو أن العقل حركة للسؤال لا تنضب، فيبحث العقل عن الأجوبة، ويحاول تطوير المعرفة.

Manuel Maria Carrillo: consequences de la polemology, op. cit, p.78

34. الديوان، ص194

35. المصدر نفسه، ص208

36. يقول ديكارت: ينبغي لنا كي نقيّم العلوم على قواعد ثابتة أن نرفض كلّ آرائنا القديمة مرة في حياتنا. تاريخ الفلسفة الحديثة، ص65.

37. الديوان، ص210

38. المصدر نفسه، ص211

39. تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ص288

40. تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، ص231

41. الديوان، ص73

-المصادر والمراجع

-أبو ماضي، إيليا: د.ت، الديوان، دار العودة، بيروت، لبنان.

– أبيقور: د.ت، الرسائل والحكم، ترجمة: جلال الدين سعيد، الدار العربية للكتاب، منتدى سور الأزبكية، القاهرة، مصر.

– بدوي، عبد الرحمن: د.ت، خريف الفكر اليوناني، دار القلم، بيروت، لبنان.

– برهييه، إميل: د.ت، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، لبنان.

– ستيس، ولتر: 1984، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار الثقافة، القاهرة، مصر.

– صليبا، جميل: د.ت، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

– كرسون، أندريه: 1946، المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ترجمة: عبد الحليم محمد، دار الإحياء، مصر.

– كرم، يوسف: 2012، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، مصر.

– كونت، أندريه: 2008، الفلسفة، ترجمة: علي بو ملحم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان.

– كيركيجارد، سورين: 2013، المرض طريق الموات، ط1، تر: د. أسامة القفاش، مكتبة دار الكلمة، القاهرة، مصر.

– متّى، كريم: د.ت، الموسوعة الفلسفية، بيروت، لبنان.

– مكاوي، عبد الغفار: 1995، شعر وفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

– ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: 1994، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت، لبنان.

– يسبرز، كارل: 1987، نصوص مختارة من التراث الوجودي، ترجمة: فؤاد كامل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

-المراجع الأجنبية

Richard Dawkins, The poverty of agnosticism, in the God De lesion, Black swan, 2007

Manuel Maria Carrillo: consequences de la polemology, op. cit.