مجلة حكمة
ايميل سيوران

سيوران: في نقد الفلسفة وصنّاع النّسق 

الكاتبكنستنتان زاهاريا
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

   يمثّل سيوران Cioran  واحدا من أولئك المفكّرين، وهم قلّة بعدُ، الذين يهاجمون الفلسفة في كلّ أبعادها، إلى حدّ يعترضون فيه لا على فائدتها فحسب، بل على صلاحيتها ويتهمونها بكونها بالأساس مضرّة. فهل ما يدفعه إلى ذلك مجرّد ميل مزاجي بعد عشرته للفلسفة أثناء شبابه؟  من دون شكّ. ولكن ربّما تعلّق الأمر أيضا برغبة أو بضرورة التخلّي عن هويّة ووضعٍ يعتبره عقيما أو بالٍ، انطلاقا من كتابه” الوجيز في التحلّل”، الذي نُشر خمسة عشرة سنة بعد بدايته الرومانية، “على قمم اليأس”. منعرج حقيقيّ في مسيرة الكاتب، فقد أضحى” الوجيز”المناسبة والأداة لـ”ولادة ثانية” لسيوران من حيث أنّ أو اختيار الكتابة بالفرنسية، بتغيير اللغة، يفتح له بالتوازي حقلا تجربة ثقافية، تفتنه وتجذبه إليها على حساب  صناّع النسق. وإعادة اكتشاف الأخلاقيين الذين قرأ لهم منذ المراهقة والذين يعيد قراءتهم الآن من منظور آخر، منظور الكاتب بالتحديد، بل خاصة اكتشاف سان سيمون، للسيدة ديفون، لجولي للاسبيناس الذي يملأه إعجابا ويشدّ من عزمه على اختيار لغة القرن الثامن عشر بوصفها نموذجا، بتبنّي عناصر من أسلوب هؤلاء الكتاب. تكشف له هذه اللغة، بوصفها كونية، فضائل أخرى، تبعده عن الفلسفة من جهة، وعن الزخم الغنائي الذي أخذه ككاتب في أولى كتاباته. ذلك أن ما اكتشفه في قراءته لسان سيمون مثلا، بل أيضا لجوزيف دي ماستر و جوبير، هو النثر، بقواعده الصارمة من أناقة وإيجاز، والذي يجعله يقول للسيدة دي ستايل بأنّه “لابد في لغة من كثير من الرقّة والإيجاز كي نحسن الكتابة نثرا أكثر منه شعرا”(1) ؛ وبقول هذا تحديدا، تتكلّم مادام دي ستايل هولستاين Mme de Staël-Holstein  عن الأنجليزية التي، في نظرها، تشكو من نقص شديد ” لعدد كبير من الفروق.

يتجّه سيوران صوب هذا التقليد حينما يعزم على إعادة كتابة الوجيز في التحلل،والذي صيغت طبعته الأولى مباشرة بالفرنسية، عام 1946، تبعا لقرار اتخذه الكاتب بالتخلّي عن لغته الأم (اللغة الرومانية) . لقد أجبره هذا الاختيار على التخلّي أيضا عن الغنائية التي احتلت موقعا مركزيا في كتابه الأخير المكتوب باللغة الرومانية Îndreptar pătimaş ، والذي ظلّ مخطوطا لمدة طويلة ونشر بالكاد سنة 1992 (2).

  نشير، كي نعود إلى الفلسفة، بأنّ الوجيز يحتوي، على كل حال على انتقادات لاذعة لما شغف به في مرحلة الشباب. يتهجّم سيوران على الفلسفة باختصار و على الموقف الذي يتبناه من يزعم بأنّه يقدّم تفسيرا مكتملاللعالم :” ليس التمرين الفلسفي مثمرا، بل هو مشرفا فحسب. نحن دوما فلاسفة دون جدوى : مهنة بلا هدف تملأ الساعات الطويلة والفارغة أفكارا ضخمة، ساعات مقاوِمة  للعهد القديم ولباخ وشكسبير . أليست هذه الأفكار مجسدة في صفحة واحدة مطابقة لتعجّب جوب، و لرعب ماكبث أو لصخب إيقاع قطعة موسيقية؟ نحن لا نناقش الكون، بل نعبّر عنه. والفلسفة لا تعبّر عنه. لا تبدأ المشكلات الحقيقيّة إلاّ بعد أن نجتازها أو تُنهك، بعد آخر فصل من جزء ضخم  يضع نقطة النهاية، علامة على التنازل أمام المجهول، حيث  تتأصّل كلّ لحظاتنا، و يجب علينا بواسطتها أن نقاوم لأنّها بالطبع أكثر عفوية، أكثر أهمية من الخبز اليومي” (3).

     يقابل سيوران تمرين الفكر تحديدا بما لا يستطيع الفكرحلّه، والذي يشير إليه بعبارة مجهول، بوصفه الأصل في ” لحظاتنا”، التي يجب في نظره أن نعالجها بشكل ملحّ وبطريقة مغايرة، ما لا تستطيع الفلسفة أن تنذر نفسها له. إنّه نقد لاذع، ذاك الذي يستعيده سيوران  في مناسبات أخرى والذي يبيّن به بوضوح أن الأمر يتعلّق هنا بموقف قويّ، لن يغيّر الكاتب أبدا رأيه فيه. ولكن من أين يتأتّى هذا الرفض العنيف جدّا للفلسفة؟ لا يوجد ما يستحقّ المقارنة بنقد نيتشه لنفس المسألة، ولكن لا مجال للإصرار الآن على قيمة النقد النيتشوي في هذا المجال. الأمر الذي بموجبه عكف كلاهما ( نيتشه وسيوران ) على هجوم حقيقيّ مفرط هو ربّما مشترك بينهما.

          لنهتمّ فحسب بحالة سيوران ولنُشِر من هنا فصاعدا إلى العلاقة الخاصّة بالكتابة التي  توطّدت بينهما منذ كتابه الأوّل. لقد اختارت كثافة فكره “الشذرات” fragment كشكل تعبيري، والمحاولة أو القول المأثور، وهي أجناس كرّسها بحرية في كتبه الرومانية، في عصر، أو، بحسب اعترافاته، كان لا يولي أيّ أهمّية  للأسلوب: كانت الكتابة بالنسبة إليه فعلا غريزيّا (4). وما نسمّيه تشاؤم سيوران، ونظرته السوداوية للحياة، تتلاءم تماما مع الإيجاز، و يمكن أن نتساءل ألم يكن بلاغيّا أكثر منه فيلسوفا، طالما كان يلاحق صيغا تكون في مستوى تقدر فيه أن تصلنا بوجهات نظره. وفي الأصل، كان كاتبنا يلجأ إلى تقنيات البلاغة والإيجاز brevitas ليفرض حكما حاسما. ذلك أن سيوران لا يملك آراء. وما يهمّه هو اختراق الدوكسا أو الرأي بالعقل الدقيق الذي لم يقدر على فرض نفسه، والذي هو تحديدا العقل الذي يفترض أن تكشفه تجربته الشخصية. لا يتنزّل هذا الرفض للرأي في مواجهة التفكير العامي فحسب، بل إنّ الرهان الحقيقيّ هو إصلاح هذا التفكير. هذه الحقيقة تتألّق وقد أُخْرِجت إلى النور، في كامل نقاوتها في فضاء رشيق لِمَثَلٍ أو كلمة جامعة. بيد أن كل مَثَلِ موجز هومفارقي  paradoxal  .  يتطابق فكر سيوران تطابقا عجيبا مع الرأي المضادّ و، للتعبير عن نفسه يحتاج هذا الفكر إلى الإيجاز. يَعتبر الكاتب، في الإجابة عن سؤال وجّه له، بأنّ طريقته في الكتابة تتخلّى عن ضوابط كتابة المَثَلِ أو الحكمة:” إنّ أمثالي ليست في الحقيقة أمثالا، فكل منها هو خلاصة صفحة كاملة، نقطة نهاية لنوبة صرع خفيفة“.( 5) وحتى إذا ما سبقت الخاتمة مُدَاَوَلَة، فلن تستعاد هذه الخاتمة، إذ لا يمكن أن نلغي مبدأ الإيجاز في المَثل. يدمج سيروان هنا اختصارا خطابيا أو نظرية للأجناس تتقاطع مع الفعل المؤسسي: ” أتخلّى عن كلّ شيء ولا أقدّم سوى الخاتمة، مثلما هو الحال في المحكمة، حيث لا يكون في النهاية سوى النطق بالحكم : الحكم بالموت. دون سيرورة الفكر،هي  الخاتمة ببساطة. تلك هي طريقتي في  التعاطي، وتلك هي صيغتي . وهذا ما جعلهم يقارنونني بالأخلاقيين الفرنسيين وليس هذا من غير سبب، إذ لا يهمّ سوى الخاتمة.”(6)

           إنّ المَثَل أو القول المأثور بالنسبة إليه “قرار تحكيم” verdict مماثل تماما للحكم الذي تصدره هيئة قضائية. إنّه تعبير عن حكم jugement  وعن مداولة  تسبقه قليلا، قابلة للتحديد هنا بشكل ساخر بعبارة ” نوبة صرع”« crise d’épilepsie », ، تُدَعّم بعدم توافقها مع ” المحكمة” جانب المزاح في المقارنة. بيد أن عبارة ” قرار تحكيم”sentence  تتضمّن في تعددّ معانيها، هذا المعنى المزودج، تعبيرا موجزا مطابقا تقريبا للمَثَلِ ( لا يوجد بالمناسبة تمييز خاص بين الاثنين في اللغة العادية، أحدهما من أصل لا تيني والآخر من أصل إغريقي) والحُكْمُ، قرار حكم مُصرح به في هيئة.  يتجنّب سيوران استخدامه أو لا يفكّر فيه ببساطة، بإعطائه أولوية للمَثَل. ومن دون شكّ يمكن أن يثير إذن القرب من الأخلاقيين الذين لم يتردّدوا مع ذلك، مثل لاروشفوكو، بدعوته إلى الحُكم وإلى الحِكمة maxime. وليكن فكر سيوران وكتابته في علاقة، إن على صواب أو خطأ، بفكر وكتابة الأخلاقيين، فذاك لا يخلو من نتيجة، ذلك أن خيار تفضيلهم طيلة الأربعينات، حينما تخلّى عن الرومانية، يحدث على حساب الفلسفة. وعلى أيّ حال، فرفض المؤسّسة الفلسفية لدى سيوران له علاقة بخيار الإيجاز brevitas.  .  كان سيوران من عام 1928 إلى 1932، طالبا بكلية الآداب والفلسفة في جامعة بوخارست. كانت إقامته فيها، والتي يتحدّث عنها مرارا في مقابلات معه، إقامة غريب، من حيث أنّه اكتشف في العاصمة الرومانية عالما جدُّ مختلف عن مدينته الترانسيلفانية التي غادرها، سيبيو-هارمانزتاد. Sibiu-Hermannstadt  . فقد كانت بوخارست في ذلك الوقت مدينة عالمية حيث يستخدم فيها العالم الثقافي الفرنسية بكل ثقة لا يمكلها ابن بوب( سيوران). كان سيوران يعيش في هذه المدينة عيشة متواضعة، في مبيت جامعي سيّء التدفئة، وكان يراود غالبا أثناء الشتاء، مكتبة مؤسسة جامعة كارول 2، حيث ينكبّ على مطالعة الفلاسفة وخاصة الألمان؛ وكان يدأب على القراءة لشوبنهاور، ولكن نجد من بين كتّابه المفضّلين كانط وفيخته وهيجل وهوسرل وولفلين  ولوديغ كلاقاس (7). وقد قدم بتميّز في نهاية دراسته بحثا خصص لبرجسون، أمام هيئة  ثمّنت عمله وهنّأته عليه. وفي نفس الفترة أي في عام 1932 كتب سيروان كتابه الأول   Pe culmile disperării  (في  النسخة الفرنسية، Sur les cimes du désespoir على قمم اليأس”) عام 1990)،  والذي سينشر سنتان بعد ذلك في إصدارات المؤسسات الملكية. وقد حظي بالمناسبة، مثل أجوجين إينوسكو، الذي نشر كتابه عار (لا) Nu (Non)،بجائزة الكتّاب الشبّان الذين لم ينشر لهم. وقد ظل هذا الاهتمام بالفلسفة عميقا طيلة سنوات 1933-1935، حينما أقام في ألمانيا وتمتع بمنحة في مؤسسة هيمبولد. و في عمر 23 سنة، فرض سيوران نفسه ككاتب، يُلاحظ لديه تأثير الفلاسفة الألمان ( شوبنهاور وسيمل وكايسرلينغ وسبينقلر) على صعيد الأسلوب والمصطلحات. ومع ذلك يُنظر إلى عمله بوصفه عملا أصيلا  من حيث أنّ المحاولات المختزلة التي تكوِّنه، تبعث برسالة لفكر منهك بالأسئلة المتولّدة عن التجارب المؤلمة: نهاية الأمل، ثقالة الوعي، لا نفع الفكر، كلّ ذلك يشكّل عالما، حيث تقود الأحاسيس التي لا تطاق نحو نوبات مذهلة. وبالرغم من ذلك، سيتحدّث سيوران بعد ذلك عن موضوع “الِقَمم” Cimes مؤكّدا  أنّه  قد يكون أكثر كتبه فلسفيّةً. (8) و ما سيصبح مع ذلك مُدهشا، هو أنّه تخلّى  عن ميدان الدراسة شيئا فشيئا كي يتّجه على نحو آخر إلى ميدان الفكر. ذلك أنّه يوجّه من خلال كتابه الأوّل اتّهاما ثقيلا جدّا ضدّ النسق، كلّ نسق فلسفي باعتراضه على مبدأ التناسق من حيث هو مقابل للمتناقضات والحركات غير المنظِّمة للحياة الداخليّة:

           “الوحدة الكاملة، يشير البحث عن نسق منسجم إلى حياة شخصية فقيرة المنابع، حياة ساذجة بلا طعم، يغيب عنها التناقض، والمجانية والمفارقة. وحدها التناقضات الجوهرية والتناقض الداخلي تشهد بحياة روحية مثمرة، إذ وحدها توفّر للتوتّر و الثراء الداخلي إمكانية الاكتمال .(…) ينشأ كلّ ما هو شكل، و نسق، ومقولة، ومخطط أو رسم تخطيطي، من إفلاس المضامين،و من تدهور للطاقة الداخلية،و من عقم الحياة الروحية . تؤدّي تيارات هذه الحياة العقيمة إلى الفوضى،و إلى حماس قريب من الجنون (…) فأيّ أحد يعترض على الحالات الفوضوية ليس مبدعا، وأيّ أحد يكره الحالات المرضية لا يملك صفة للحديث عن الفكر . فلا قيمة إلا لما ينبثق عن الإلهام، من العمق اللامعقول لكياننا،و ما ينبجس من صلب ذاتيتنا”. (9)

   من اليقين أنّه لابد من الإشارة إلى أنّه في المرحلة التي كان يكتب فيها سيوران هذه الأسطر، كان معروفا بعدُ لدى جمهور المثقفين بثلاثين مقال كان قد نشرها في الصحافة الرومانية والتي كان محتواها الفلسفي – والشخصي في الآن نفسه، يقدّم فيه نفسه ككاتب محاولات essais- متأكّد. ويوجد في طريقته في تقديرِ سؤالِ الفكر، تراتُبِيَة في مختلف توجّهات الفكر وسلّم قيم مختلف. من جهة، هناك ” الحالات الفوضوية” التي تمنح مصداقية للتناقضات، ومن جهة أخرى ” العقم” و” إفلاس المحتوى” الذي يؤدّي إلى قولبة شكلية للحياة، والذي لا يمكن أن يكون اختيارَ من يتلقّى انفلات الأحاسيس المتفجّرة والتي لا يمكن السيطرة عليها، والمستعدّة لقذفه في ” الحماس القريب من الجنون”. إنّ نقد الفلسفة ليس عنيفا بعدُ. يقابل سيوران في هذا النص بين، ما يسمّيه بالمناسبة التناقضات و عدم الاتساق، تعبيرا عن موقفين ناتجين عن توجهات شخصية إزاء الحياة. إنّه ” البحث عن نسق” يحيل إلى الموقف الفلسفي تحديدا، ولكن من غير أن يُسمّى صراحة. و يفترض من الموقف الآخر ” التناقض الجوهري والتناقض العميق”، أنه قادر على أن يقود إلى ” حياة روحية مُثمرة”، تحديدا لأنّه لا يتعلّق الأمر بتنظيم ما يُعطى بوصفه فوضويا بالأساس والذي، بموجب كونه لا يوجد تحت نظر الهيئات الأخلاقية أو العقلية، يمكن أن يؤدّي إلى الخلق. يتعلّق الأمر بالنسبة إلى سيوران بإبراز ما يوجد من لامعقول في الكائن البشري، واعتبار الحالة المرضية في ضوء الغنيمة الروحية التي لا يمكن الظفر بها، وأخيرا برفض موجّه إلى  النسق بوصفه عارضا يدلّ على عقم الفكر. إنّ المأخذ الأساسي الذي يثقل كاهل الفلسفة هو الوعد بالنسق، جنسا يعتبره ( سيوران) غير أصيل أو هجين من حيث أنه يتعلّق ببناء اصطناعي، دون علاقة بالفكر الحيّ. إنّه تعبير متوحّد monolithique   للفكر، يزعم جمع كل التمظهرات الممكنة في حقل مفهومي معطى.

        ولما كان النسق بلا عيوب، فإنّ سماته الخاصّة هي بالضرورة الاستمرارية و التناسق الداخلي الذي لاشيء يربكه. يقابل سيوران النسق، في اعتراضه عليه،  بالانفصال والتناقض، الذي يضطلع به دون تردّد، بوصفه نتيجة مباشرة لفكر متقلقل، خاضع لحركة الصدفة، وإيقاع يقظة ممتدّة وتقلبات المزاج. توجد بالنسبة إليه حالة طارئة  تفكيكها ضروريّ، خاصّة أنّه يوجد في الفلسفة انبثاق لموقف ” حِرَفي”. ومهما كان الحقل الذي يتمظهر فيه، فإنّ الترتيب المباشر له هو الذي يسمح بالتعجيل في  الانحلال والتدهور. يقرّ سيوران في كتاب له نشر 45 سنة بعد ” ذرى ( قمم) اليأس” :” إنّ المساهمة، بأّيّ شكل من الأشكال في هدم نسق، أيّ نسق كان، هو ما يتابعه من لا يفكّر إلاّ في صدفة اللقاءات، التي  لن ترضى بالتفكير من أجل التفكير “. (10) قد نميل إلى الاعتقاد في أنّ فلسفة ونسقا فلسفيا هما مترادفان بالنسبة إليه. وفي الغالب، فإنّ الحديث عن أحدهما يؤدي تقريبا آليا إلى وضع الآخر موضع السؤال. يذْكر سيوران، إذن بأنّ شكسبير، هو وحده القادر على بلوغ الحقيقة التي لا يعرف فيلسوف امتلاكها دون أن ” ينفجر مع نسقه” (11). غير أنّ كلاهما لا يتماثلان . ومهما كان الحقد قويّا تجاه مجال تخصصي قد أرغمه على قراءات عقيمة طيلة شبابه، فإنّ لسيوران تمام الوعي بحقيقة أنّ الفيلسوف لا يردّ إلى طريقة واحدة في التفكير و أنّه في مجال الفكر ليس المهمّ في  الوصفات بل في الحالات. ذاك هو نيتشه الذي قرأ له منذ مراهقته والذي هو بالنسبة إليه أحد الفلاسفة الذي لم ينتصبوا ضدّ النسق فحسب، بل أيضا الذين فضحوا خديعة الفيلسوف الذي يدّعي الموضوعية. من الخطأ أن يرى المؤوّلون في مؤلّفه ( أي نيتشه) وحدة وتناسقا غائبا في نهاية تحليل كل ما كتب: ما من شيء مزعج أكثر من هذه الأعمال حيث نربط بين أفكار ضيّقة لفكر استهدف كلّ شيء سوى النسق. ما الفائدة من أن نضفي على أفكار نيتشه، بدعوى أنها تحوم حول دافع مركزي؟ نيتشه هو جملة من المواقف، وقد نحطّ من قيمته حينما نبحث فيه عن إرادة للنظام، وانشغال بالوحدة. لقد دوّن تقّلبات أمزجته، وهو القابض عليها. تريد فلسفته وتأمّله في أهواءه وكذا الراسخون في العلم أن يفكّكوا فيها ثوابتها التي ترفضها”. (12) ربّما نيتشه هيدجر هو الذي يلحّ على سيوران بأخذ موقف جدّ شكلي ضدّ التفسير ” المتناسق” للفيلسوف دون نسق. ولكن نستطيع أيضا أن نفترض أن سيروان أخذ موقع الدفاع وأنّ قوله هو في النهاية دفاع لصالحه، بعدما تخلّى عن طريق العقلانية الصارمة التي فرضتها عليه تجربته الجامعية. لقد ثأر لنفسه من تعليم مملّ، من غير شكّ، ولكنّه مُتَأَكَّد من خلال الأداء المثالي لكتابة – كتابته- الموجزة بلا نزاع، غير المكتملة، واللانسقيّة. ذلك أن سيوران يتعرّف على نفسه في نيتشه حينما يتخذ موقفا مناهضا لإسراف تأويل خاضع للفكر الجامعي لما قبل الحرب والصيغة التي يستخدمها تجاهه، ” قابض على أمزجته“، وَصْفٌ ملائم يقينا بالنسبة إليه. لقد أمضى هو أيضا وقته في ” تأمّل شهواته” الشخصية واقتراح ثمرة ذلك على محبّي القول المأثور والمحاولة، ولكن خاصّة بنبرة فكر، على وجه المفارقة ينتفض ضدّ الفلسفة وهو جزء منها.

.

         إنّ موقفه المناهض للنسق الفلسفي لن يقوده إلى التمييز بين ” فلسفة ” سيئة” وأخرى ” حسنة”، إحداها مدينة لكانط وهيجل، وأخرى لكيركجارد ونيتشه. ولا يتعلّق الأمر برسم حدّ التقاسم وفصل الفلسفة إلى ميدانين محدّدين بدقّة. فمن يقوم بهذا يتلقّى حسب سيوران، خسارة غير مفهومة للقدرة على حسن تقدير ما يحدث. بل الأسوأ، كما كتب مشيرا إلى دهشته، هو أن الفيلسوف يقيم الدليل : على ” نقص في الحكم ” و على ” عدم تأهّل ملحوظ للدقّة والإحكام”. وينتج عن ذلك تلقائيا:”  إنّ طَيّة  التجريد تفسد الفكر”.(13) ليس من المدهش مع ذلك أن يردّ التفلسف بالنسبة إليه، وفق طريقة كانط- مثلا- إلى فعل سيّء النية . ليس الفكر بريئا بالمرّة، إنّه يسبح في التباس الأنا حيث يمكن أن تنبجس أخطر الفظاعات. لماذا لا يكون الفيلسوف استثناء؟ إذا ما نسب نيتشه لسقراط الجدلي كراهية الإنسان السوقيّ للارستقراطية، فلماذا لا يكون النسق الفلسفي التعبير الراقي عن سوء نيّة ليس للفيلسوف ذاته وعيا بها بالضرورة ؟  من هذه الزاوية فإنّ الفنّ والفلسفة يترافقان بالنسبة إلى سيوران، إذ يحتاج كليهما، بوصفهما نتاجا للفكر، إلى دفع يقودهما إلى الإبداع :

  ” دافع عادي، وبالتالي ناجع، شيء من الإلهام، يهيمن الغيظ في الفنّ الذي لا يعرف التخلّص منه- وليس أكثر من الفلسفة فضلا عن ذلك: التفكير هو انتقام المرء لنفسه بدهاء،و هو معرفة التستّر عن سيّئاته  وحجب رغباته القبيحة. الحكم على ما يستبعد ويرفض، يشير  النسق إلى  تصفية حساب، يُجرى بمهارة”.( 14)

         ممّ ينتقم الفكر، هل من فكر النسق الفلسفي أم ماذا؟  يتحدّث سيوران عن ” تصفية حساب”، عن “سيّئات”  متستّر عنها وعن ” رغبات قبيحة” . للفيلسوف منْ غَيْر شكّ، هو أيضا ضعفه وخيبته، وكبريائه وحتّى أحاسيسه؛ فقد علمتنا التجربة أنه لا يوجد آلهة من بين البشر، والاعتقاد في ذلك علامة على الضعف، بل هي خطر. ولكن أن ننسب إليه سلسلة كاملة من الحقد، والسيئات والرغبات القبيحة، فإنّ الطريق طويلة. يوجد في كلّ المهن أفراد طيبون وآخرون سيّئو النيّة، مقسّمون وفق الغوريتم تقريبا متشابه. من المبالغة إذن الإقرار بأنّ المبدع لنسق فلسفي، يناهضه سيوران، هو كائن بالضرورة  حقير، تحرّكه غرائز وضيعة ويستبعد كلّ من لا يشاركه آراءه ولا ينخرط في فضاءه المفهومي.  أن يفترض نسقٌ ما طريقةً في التفلسف ومُعجمية  يبتكرها الفيلسوف ذاته، فذاك لا يمنع أن توجد سلسلة من السابقين  وتقليدا  يستمرّ بفضلهم، أيّ كان حقد مبدع النسق. لنقرّ مؤقتا بأنّ سيوران قد أخطأ في تصوّر الفيلسوف بوصفه شخصا يصفّي حسابه مع معاصريه أو على الأسوأ، مع من سبقه، الذين مع الأسف، ليسوا هنا ليدافعوا عن أنفسهم.

.

إلا أن يكون الحقد علامة على قوّة الفكر التي تبرّر العمل، والتي تسمح للفيلسوف بفرض نفسه خارج كلّ اختيار مفاهيمي، بما أنّ النسق الذي يخلقه هو تحديدا نتاج حيويّته. حينما يكتب سيوران :” ما من عميق، ومن حقيقيّ إلاّ ما نخفيه. ومن هنا كانت قوّة الأحاسيس الحقيرة (15)، إنّه  يعني بذلك  أنّ إخفاء الدناءة علامة على العمق والحقيقة. والفيلسوف الذي يصنع نسقا للمعرفة لا بشغف، بل بفكر الانتقام  لا يُستثنى من ذلك، إذا ما قبلنا بأنّ الصيغة التي ذكرنا للتوّ يمكن أن تطبّق عليه. مفارقة غريبة تنقذ في نهاية الأمر الفلسفة التي انتهكها رجل الأخلاق العائد من سياحته المفهوميّة. لن نستغرب، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تشويه السمعة التي يعمد إليها سيوران في شأن الفكر الفلسفي، الخُطَبَ الأقلّ ّ خفّة” التي يزيّن بها خطابه عن الفكر عموما. ولكن لا يمكن على نحو ما أن ننتظر منه حكما إيجابيا، وقد ألفنا كثيرا أن نراه، في قراءتنا له، بصدد تدمير “حكم مسبق” أكبر بعدُ من ذاك الذي شهدنا دماره بين أيدينا. هكذا إذن: يكون الفكر في ماهيته هدما. وبشكل أدقّ : في مبدأه.  نفكّر، ونبدأ في التفكير، كي نقطع مع روابط، و نمحو صِلَاٍت، ونتوافق على هيكل ” الواقع”. وفيما بعد فحسب، حينما ننخرط في فعل التهديم، يستجمع الفكر نفسه ويناهض حركته الطبيعيّة“. ( 16) وَلْيحاول الفكر إنقاذ  ما هو آيل إلى الهدم من حيث المبدأ، فذاك ما يجب أن يضحكنا. من الصعب التسليم بأنّ للتفكير بعدٌ عدميٌّ بطبيعة الحال، إلاّ في وضعيات خاصّة جدّا، تحيل بالتحديد إلى وضعية سيوران، الذي تكون لديه العلاقة بالنفي قويّة إلى حدّ يستهوينا بالنظر إليه كأحد القائلين به.علينا الرجوع إلى هذه المسألة، الهامّة جدّا حتى نناقشها في بعض الأسطر. ينسب الحسّ المشترك للفكر بعدا آخر، يمكن أن نسمّيه هندسياّ. فهو لا يهدم لا من ” حيث الماهية” ولا من حيث المبدأ”، إنّما يبني بكلّ بساطة  كَوْنًاunivers ، ويجعل العالم قابلا للإقامة فيه ومتناسقا . غير أنّ مبرّر الحس المشترك ليس هو ذاته لدى سيوران . وقد رأينا إلى أيّ حدّ يدفعه مذاق الرأي المضادّ إلى ملامسة الأفكار التي لا يتقاسمها أحد.

تظلّ هناك إمكانية، ربّما كانت الأخيرة، في أن نعطي معنى آخر غير معنى النّفي لنقد الفلسفة والنسق الفلسفي. هل بإمكاننا تخيّل، لا طريقة أخرى في التفلسف فحسب، من جهة الشكل ( على نحو ما كالتمييز بين نسق وشذرات، مقالة ومحاولة، محاورة ومقالة إنشائية ليست دقيقة من وجهة النظر هذه)، بل فلسفة تضيف إلى المعرفة ما يتّصل بالتجربة الإنسانية بطريقة مخصوصة، ما يتّصل بتاريخها، بخيباتها وانتظاراتها؟ إذا كان الإنسان . إذا كان الإنسان يمارس المعرفة لحسابه، وإذا كان يدفع ثمن كلّ ما يكتسبه من وجوده، فمن الممكن إذن أن يتمثّل طريقة في التفلسف غير تلك التي يذمّها سيوران. يعلّق سيوران على السؤال الذي يوجّهه بوذا إلى المجرّب أو المُغوي” هل تألمّت من أجل المعرفة؟”، بما يلي:

إنّه السؤال الرئيسيّ، بل ربّما الوحيد، الذي يجب علينا طرحه حينما نتساءل عن أيّ شيء، بالأساس عن مفكّر . لا يمكننا التمييز بشكل كاف بين أولئك الذين دفعوا الّثمن من أجل أقلّ خطوة نحو المعرفة وأولئك الذين، وهم كثير، احتملوا معرفة ملائمة، غير مبالية، معرفة دون أدلّة“. (17)

يطرح هذا التمييز بين المعرفة التي ندفع ثمنها ومعرفة ” مناسبة، لا مبالية “، طريقتين في تصوّر الفلسفة: اختياران على صعيد قِيَمِي مختلفان إن لم يكونا متعارضين. إذا كانت الكتابة بالنسبة إلى سيوران علاجية، مثلما يؤكّد ذلك غالبا، فذاك لأنّه توجد في الأصل تجربة لا علاقة لها بالفنّ الأدبي أو الفلسفة بما هما كذلك. فحينما بدأ سيوران في النشر، نحو سنّ العشرين،  لم يكن الأسلوب محفّزه. ولم يكن ذلك إلاّ فيما بعد، حينما بدا يكتب بالفرنسية، حينها طرحت مسألة الأسلوب . فليست المعرفة التي من أجلها نتألمّ هي تلك التي تتصدّر  لبناء النسق، نتيجة تفكير مريحة نجريه في سكينة المكتبة. إنّها معرفة مكتسبة في الاضطراب وتحت تهديد  الجنون المستمرّ، حيث يكون الفرد مهدّدا بالغرق في أي لحظة، أو اللجوء إلى الحلّ الأقصى. إنّ الفلسفة كما يتصوّرها سيوران، هي محاولة متفرّدة للخلاص، من حيث أنها يمكن أن تظهر للفرد الذي أصابه ألم شديد، لا بوصفها سبيلا يسلكه، بل مثالاً لأناس آخرين أصيبوا بنفس النكسات و الطريقةً التي بها تخلّصوا منها. للفنّ والفلسفة من دون شكّ،  هذه الوظيفة أيضا. والدليل، هو الاهتمام الشديد الذي يوليه سيوران لحياة الكتّاب الذي قرأ لهم، لخيباتهم ولِعِلَلِهم.  إنّ رفض أدب غير أصيل،هو نتيجة أيضا لبناء الفكر، وبالتالي لما هو غير قادر على إدراك الرعب الذي توحي به الحياة والموت، والكون، معاني هي من غير شكّ فضفاضة، ولكن قادرة وحدها على تعريف، من خلال ضخامته حتّى، الحَقْلَ حيث تتنزّل تجربة اللاّمحتمل. من هنا كان تفضيل سيوران لجنس” قاصر”، البيوغرافيا، أو السيرة الذاتية، التي تساعده على إقامة الصلة بين عمل والشخص الذي أنتجه وتنزيله ضمن السّياق الذي انبثق منه. وقد يقال بأنّ هذا التفضيل مؤسف، ولكنّه قد يسمح مع ذلك لسيوران بملاحظة من حين لآخر أنّه ليس الوحيد من يحيا في ظلّ مملكة المُرْعِب. وما دامت الفلسفة لم تدرك الدهشة وخوف الإنسان أمام الوجود، فستظلّ تدبيرا جزئيا وغير تامّ، والأكثر فقرا في الغالب حينما يُنظر للفيلسوف بوصفه ضربا من بيروقراطية الفكر، التي تفرض قواعد ومعجمية وأوّليات.  ولكن بمجرّد مغادرتنا لهذا الإطار المشخّص الذي هو بما شبيها بحجرة عثرة وضعت بعناية، نجهل ما دوّن فيها من مبادئ، فإنّ نَفَسًا من الحرية يخترق الفكر فندرك أنّ كلّ شيء للإعادة، وأنّ لا شيء مهمّ قد قيل، وأنّ ما نحسّه في هذه اللحظة ذاتها  من حقّه بالضّرورة أن يعبّر عنه دون أن يفقد شيئا من كثافته وجموحه المُوِجع. إنّما هو أن نقول ” علينا أن نتفلسف كما لو أن ” الفلسفة ” لا توجد، على طريقة ناسك مبهور أو أصابه تعاقب الكوارث بالرعب أمام أنظاره ” (18).  ويمكن بالنسبة إلى سيوران، لهذه الدهشة أمام المرعب، أن تزعم  كرامة التأمل في الحياة بوصفها الكارثة. ولا يتعلّق الأمر بالنفاذ إلى المعرفة بواسطة التأمل أو بتمرين منظم للملكات الذهنية، بل ” بالحضور ” شاهدا عاجزا ( وهو ما يعنيه الناسك هنا، الجانب شبه المتوحّش أو البدائي الذي ليس له أي معنى في هذا الموضع) أمام سلسلة من  مشاهد الرعب التي يولّدها العالم والتي لا حاجة لنا لتسميتها. إنّه ضرب من الوحي ينتج تحت نظر شاهد témoin”مبهور أو مرعوب”، خاصّة أنّه قريب من ” القيامة” التي تنتجها أو تدعوها نهاية الزمان.  وإلاّ فمن الممكن تعيين لحظات حيث يُنظر إلى نفس المبحث هزليا.  يسلك إنكار الفلسفة أحيانا طريقا أقلّ سآمة، يقود سيوران إلى تنزيل القلق الأصيل في ماض سحيق، يدفع الإنسان إلى الانكباب على حظه المشئوم:   “طيلة ليالي الكهوف الطويلة، يجب على هاملت متكثّرا أن يناجي دون توقّف، إذ من المسموح افتراض أنّ قمّة المنعرج الميتافيزيقي يتنزّل قبل هذه السخافة الكونية، الملاحقة لحدوث الفلسفة“.(19)

يتّهم الكاتب الفلسفة بكونها قد أرست ” سخافة كونية” تخفي النبرات المكثّفة طبيعيا  ” للمنعرج الميتافيزيقي” الذي ينسبه سيوران “لهاملت ”  صاحب عصر الكهوف، وفي الجملة نفس ” النسّاك” الذين يتأملون مبهورين أو خائفين، مشهد العالم. إنّ الفلسفة، هذا المكسب الحضاري، لم يفعل سوى أن فقّر التساؤل الأصلي، الأكثر صدقا وعفوية، ليجعله ملتويا بالبرهنة اللاحقة للتعجّب. إنّها طريقة في الكلام، دون تلاعب سوى أسلوب السّخرية، ولكنّه لوحده يجعل الأمور صعبة، والفلسفة، في ظهورها المهني، هي نهاية أجل الميتافيزيقا وأنّ ما يحسّ من رعب أمام وجود ما قبل ولادة التفكير الفلسفي هو التعبير الوحيد الأصيل للفكر. وما يضيفه سيوران من فكاهة كي يقصد لانفعية الفلسفة، يشير بوضوح إلى المزاج الذي به يستمرّ في اعتبار ميدان قد انحاز عنه منذ زمن طويل وإلى أي ّ حدّ ما تزال مشاعر الكراهية تحرّكه. وبتعبير آخر كيف أن الفلسفة، يمكنها، بما لديها من مخزون مفاهيمي مفترض، أن تستحوذ على كلّ ما ينفلت منها أصلا؟ كيف يمكن أن نتكلّم عن الألم بواسطة كلمات تظلّ عاجزة حينما يتعلّق الأمر بالتعبير عمّا يتنزّل ضمن ما يتعارض مع المفهوم والعقل؟ إنّها مَهَّة مستحيلة، تلك التي يسخر منها سيوران مرّة أخرى بفضل مصادفة قراءة من قراءاته العديدة:” لن نعرف إذا ما كان هذا الفيلسوف، فيما يكتبه عن الألم، يتناول مسألة بناء الجملة أو الألم، ملك الأحاسيس“. (20) إنّ كل محاولة  لترويض الألم بواسطة المفاهيم تشبه ضربا من التكلّف النحوي، بقدر ما هي النتيجة بعيدة عمّا تثيره في نظام الأحاسيس . ينبّه سيوران إلى الجانب المجنون للوضعية ( للخطاب الفلسفي الذي بواسطته هي بصدد التحقّق)  ويحصل على تسلية مستلهمة من التفاوت الذي يوجد بين الفلسفة، ومعناها الذي يسقط في تفكير جانبي، وبين عمق إحساس يعتبره هو أسمى من غيره ( الألم)، إذ الألم الذي لا يمكن ردّه إلى العبارة الذهنية ( المفهوم)، هو  تحديدا ما لا يمكن أن نفقد الاهتمام به.        

                                                                                 كونستنتان زاهاريا

– المصدر: Alkemie
Revue semestrielle de littérature et philosophie
Numéro 3 / Juin 2009

* كونستنتان زاهاريا Constantin Zaharia : دكتور l’EHESS بباريس، صاحب أطروحة حول سيوران”  الماليخوليا والكتابة الشذرية” وغيرها ..منشورة  في ” éditions Humanitas” في بوخارست.

الهوامش:

 1- مادام دي ستايل -هولستاين ” في الأدب منزورا إليه في علاقاته مع المؤسسات الاجتماعية” باريس “مارادان”.

2- الترجمة الفرنسية ” رسالة المهزومين” Bréviaire des vaincus  نشر غاليمارسنة 1993..

3- ” الوجيز في التحلل”  الأعمال الكاملة ، coll. « Quarto », 1995, p. 623

4- ” حينما اكتب بالرومانية، فإني أفعل ذلك دون وعي . اكتب فحسب ولم تكن الكلمات مستقلة عنّي” ( مقابلة مع فارناندو سافاتار . في ” محادثات” قاليمار ” 1995 ص 28.

5- محادثة مع فريتز في “محادثات” ص 185

6 – نفس المصدر.

7-قابريال ليسينو ” مسيرة حياة” إيميل سيوران، متبوع بـ” عوالم الأرق”  محادثة مع سيوران . باريس  ” ميشالون”  1995 ص 23-26

8- محادثة مع فرانسوا بوندي في محادثات  قاليمار 1995 ص11

9- “على قمم اليأس” في الأعمال الكاملة ص 45-46

10- “تباعد” ص 1478 الأعمال الكاملة

11-قياس الندم – الأعمال الكاملة ص 809

 12- إغراء الوجود  – الأعمال الكاملة 914

13- تباعد ” ص 1458

14- تاريخ ويوتيوبيا – الأعمال الكاملة ص 1027

15- “في سلبية أن نولد” نفس المنصدر ص 1288

16- الصانع السيء – نفس المصدر ص 1239

17- في سلبية ان نولد  ص 1286

18- الصانع السيء ص 1258

19- في سلبية ان نولد” ص 1283.