مجلة حكمة
نتفلسف موت الموت

أن نتفلسف هو أن نتعلَّم كيف نموت – سايمون كريتشلي ترجمة: عبدالعزيز جواد


نحن خائفون، إذ إنَّنا على حافة الهاوية غير قادرين على شحذ تركيزنا، وعقولنا تطوف كالذباب من خبر لآخر. إنّنا نتابع الأخبار لشعورنا أنّه يجب علينا ذلك، ومن ثَمَّ نتمنى أن لم نتابعها من الأساس؛ لأنها حزينة ومرعبة. لقد غدت قيلولة الظهيرة أمنيةً، ونومنا صار صعب المنال، وعندما ننال قسطاً منه نستيقظ أحياناً بفزع وجودي مع أعراض وهميّة، ومن ثَمَّ نشعر بسذاجتنا حيالها! نقيس درجات حرارتنا، ونعيد الكرة مرةً أخرى ويتكرر الأمر أيضاً. مشاعر العجز تتقد حيال ما أنجزناه وما يجب علينا أن ننجزه، وغالباً حيال ما لم نفعله أو ما أنجزناه بعدم مسؤولية.

فكرة الاحتضار بمرض تنفسي بحد ذاتها مرعبة! أن ندرك ماذا يحدث حالياً للآلاف من الأشخاص هنا لا يطاق الآن، أرواح تزهق وأحياء غاضبون، مجازات الحرب عفا عليها الزمن ولم تعد مقنعة. بِنياتنا الاجتماعية وعاداتنا وطرق معيشتنا التي لم نكن نأخذها بقدر من الأهمية آخذة بالانهيار. لقد أصبح معظم الناس مصدر محتملاً للعدوى بما فيهم نحن! نمشي في الشوارع ملثمين ونحافظ على المسافات فيما بيننا.

كلٌّ منا يسبح في سفينة أشباحه الخاصة به، والوضع الآن أصبح هادئاً مريباً في مدينة نيويورك بينما يتناقل السكان الميمات التهكمية عبر الشبكة، ونشعر بمذاق بعض اللحظات التي نشاركها مع أصدقائنا ومن ثم نعاود الانفصال بأسنان مصطكّة. لقد بدأت حمّى التواصل عبر المكالمات مع أصدقائنا تأخذ طابعاً قلقاً أكثر من اللازم منذ بضعة أسابيع مع هذا الوضع الجديد، فنحن في طريق طويل لا نعلم معناه

كيف لنا أن نحتمله؟ وهل يجب علينا ذلك؟

لقد حظي الفلاسفة بعلاقة حب طويلة ومرهقة مع التباعد الاجتماعي، بدءاً من سقراط محبوساً في زنزانته، ومن ثَمَّ ديكارت منسحباً من فظائع حرب الثلاثين عاماً -والتي كان مشاركاً فيها- إلى غرفتِه مع فرن في هولندا ليتأمل في طبيعة اليقين، والآخرون أمثال بوثيوس وتوماس مور وأنطونيو غرامشي كلهم كانوا جزءاً من هذا التقليد المتوارث من العزلة والتفكُّر.

ولكن ما فائدة الفلسفة بحد ذاتها؟ لطالما انتُقِدت لعدم فائدتها العملية، فطوال ثلاثة آلاف عام من تاريخها المدون فشلت في حل معظم المعضلات الكبرى للبشرية، فكيف لها الآن أن تساعدنا في هذه اللحظات الصعبة التي نعيشها؟ وهل تستطيع الفلسفة أن تعطينا بعضاً من التنوير أو حتى العزاء حيال هذا الواقع المتأزم الذي يُرْسَم عليه القلق والحداد والاحتمالية المرعبة للموت؟

لربما: أن نتفلسف يعني أن نتعلَّم كيف نموت. هكذا يضعها المدون الفرنسي الشهير في القرن السادس عشر ميشيل دي مونتين ومخترع التدوين الحديث مقتبساً من سيسيرو الذي كان يتفكَّر بموت سقراط. تحدّث مونتين عن أنه طور عادةً تتمثّل بأنه ليس يضع الموت في مخيلته فقط، بل في فمه أيضاً، في طعامه الذي يأكله وشرابه الذي يشربه. لكل من تعلم مهارة الطبخ ولربما لمن يحتسي الكحول بكثرة هذه الأيام، يبدو لكم هذا الكلام مرعباً! ولكنه ليس كذلك إطلاقاً. يكمل مونتين هذه الخاطرة بجملة رائعة: “من تعلم كيف يموت تعلَّم كيف لا يكون عبداً”. هذه فكرة رائعة مفادها أنَّ العبودية تتألَّف من أسر الخوف من الموت، إنَّه الرعب من فنائنا الشخصيّ هو الذي يجعلنا عبيداً.

الحرية مغايرة، فهي تقوم على تقبل حقيقة فنائنا وبأنَّ الموت محتوم علينا، فالحرية هي الشعور بأن حياتنا متأثرة بحتمية الموت فقط، واقترابه يوماً بعد يوم وساعةً بعد ساعة، وحسب هذا المنظور حياة تعاش جيداً أو بمعنى آخر حياة متفلسفة هي حياة ترحِّب بحقيقة الموت وتناهي الوجود. كلنا نعلم أن الموت حتميّ لا فرار منه، ولا جديد في هذا الأمر، ولكن الحياة المتفلسفة يجب أن تبدأ بتوكيد تناهي وجودنا الشخصي، وكما قال تي إس إليوت متحدثا عن الكاتب المسرحي اليعقوبي جون ويبستر: “علينا أن ننظر إلى الجمجمة تحت غطاء الشعر”.

ومع ذلك لا نزال خائفين، ولا نزال واقفين على حافة ما نشعر بأنّها الهاوية. فلنحاول أن نتفكّر حول الأمر بأن نفصل بين الخوف والقلق، فنحن نعلم منذ أرسطو أن الخوف هو ردة فعل تجاه تهديد حقيقي في العالم. فلنتخيل أنني أخاف من الدببة دون مبرر، إذا مر دب ضخم أمام باب منزلي غالبا سأشعر بالرعب مع مزيج محتمل من الدهشة، وإذا قام الدب بالذهاب بعيداً حينها سيتبخر خوفي.

أمّا القلق فهو على عكس ذلك، إذ إنَّنا لا نشعر به لتهديد محدد حقيقي، فهو عبارة عن حالة تغيب فيها الحقائق المتمثلة عياناً من النظر، وكل شيء فجأة يصبح مريباً وغريباً بآن معاً، إنه شعور أن تكون في هذا العالم ككل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. أزعم أنَّ ما يشعر به الكثيرون منا في هذه الأوقات هو هذا النوع من القلق الوجودي.

الطبيعة الغرائبية لهذه الجائحة أن هذا الفيروس حقيقيٌّ جدّاً وخفي جدّاً للعين المجردة في الوقت نفسه. لقد تماهى كوفيد ١٩ داخل نسيج الواقع: مرض في كل مكان وبلا مكان، معروف وغير قابل للعلاج أيضاً ومعظمنا لديه شعور أنه يسبح في بحر من الفيروسات لعدة أسابيع الآن، ولأشهر قادمة. ولكن من المحتمل أنه تحت هذا الضجيج من الخوف يكمن قلق أعمق، القلق من الموت! كينونتنا التي تشعر بانجذابها نحو الموت، وهذا ما يجب أن نتحكم به كشرط لنكسب حريتنا.

أظنُّ أنه من المهمِّ جداًّ أن نتقبل قلقنا وأن نواجهه دون أن نحاول الفرار منه أو شرحه من خلال هدف أو مسبب ما، فقلقنا ليس اضطراباً نعالجه فضلاً عن تخديره بالأدوية، بل يتوجب علينا أن نعترف به ونوجهه كعربة لحريتنا. لا أقول أن هذا أمر سهل ولكننا نستطيع أن نحاول تحويل مزاجنا القلق من شيء معطل إلى شيء محفّز وشجاع.

اعتدنا أغلب الوقت بأن نعيش وهم الخلود على أساس أنه ظرف طبيعي، فنتخيل أن الحياة ستستمر للأبد وأن الموت يحدث لغيرنا فقط. ينحصر الموت فقط بحسب تعبير هيدجر إلى “فظاظة اجتماعية” أو عدم لباقة، وعزاء الفلسفة في هذا الموقف يتمثل في الابتعاد عن العادات المنكِرَة للموت في حياتنا الطبيعية وأن نواجه قلقنا الوجودي بهدوء واقعي وشجاعة هادئة، إنّ المسألة تتمثل في وضع هذه الحقيقة كأساس لاستجابة مشتركة، لأن التناهي علائقي، إنها ليست مسألة موتي وحدي، ولكن موت الآخرين الذين نهتم بهم أيضاً، سواءً أكانوا غرباء أم أصدقاء.

قبل عدة أسابيع وجدت نفسي أتحدث بأريحية عن الأدب الوبائيّ، مثل: “ديكاميرون” لبوكاتشيو و”مفكرة في سنة الوباء” لديفو ورواية “الطاعون” لألبير كامو. كنت أظن نفسي حذقاً حتى وجدت أن العديد منهم تحدث عن الموضوعات ذاتها، وبصراحة المفكر الذي شدَّني إليه بقوة هو الرياضي والثيولوجي الفرنسي العبقري بليز باسكال وتحديداً في عمله “أفكار”

كتب باسكال أن عدم قدرة الإنسان على الجلوس وحده في غرفته هو أساس كل مشاكل البشرية، وذلك يتمثّل بعدم الانتظام والملل والقلق كسمات محددة للشرط الإنساني، وعن القوة الآلية للعادة والضجيج المتعالي للتفاخر الإنساني، ولكن ما أثار اهتمامي هو كتابته عن أن الضعف البشري هو “الأشدّ في الطبيعة” إذ قد يُمحى الإنسان من الوجود بعطسة أو برذاذ ينتقل عبر الهواء.

يذكرنا باسكال بأن البشر بائسون، نحن ضعفاء وشديدو الهشاشة والافتقار. ولكن -وهنا بيت القصيد- في بؤسنا وهشاشتنا تكمن عظمتنا، إذ يستطيع الكون أن يسحقنا، ويمكن لفيروس صغير أن يدمّرنا، ومع ذلك فالكون لا يعلم شيئاً وهذا الفيروس لا يهتم لذلك. نحن نعلم أننا فانون وكرامتنا تنطوي في هذه المعرفة، “لنكافح” يقول باسكال، “لنتفكر جيداً” هذا هو مبدأ فنائنا، إِنَّنِي أرى أن توكيد ضعفنا وهشاشتنا وافتقارنا هو تضادٌّ لكلِّ تشاؤم أو عدمية، إن المفتاح لعظمتنا كجنس بشري هو في ضعفنا، فلنتذكّر قوتنا تكمن في ضعفنا.

المصدر