مجلة حكمة
ألن تورينغ

ألن تورينغ

الكاتبأندرو هودجز
ترجمةمالك آل فتيل
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول ألين تورينغ؛ ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


من هو ألين تورينغ؟

لم يصف ألن تورينغ Alan Turing (1912–1954) يومًا نفسه بأنه فيلسوف، لكن ورقته البحثية (1950) التي كان عنوانها “آلات الحوسبة والذكاء (Computing Machinery and (Intelligence كانت واحدة من أكثر المقالات التي أستُشهد بها في الأدبيات الفلسفية الحديثة. قدمت هذه الورقة مقاربة جديدة لثنائية الذهن والجسد التقليدية، وذلك بربطها بمفهوم قابلية الحوسبة الرياضي، المفهوم الذي كان قد قدمه في ورقة بحثية سابقة (1936-1937) بعنوان “حول الأرقام القابلة للحوسبة، مع تطبيق على مشكلة القرار (On computable numbers, with an application to the Entscheidungsproblem)، الورقة التي يمكن اعتبارها عملاً تأسيسًّا لعلوم الحاسب الآلي وبرامج الذكاء الاصطناعي.


1. موجز حياة ألين تورينغ

لقد حظيت حياة ألن تورينغ القصيرة والفريدة باهتمام واسع، حيث ألهمت عدد من الأعمال الفنية والروائية، كمذكرات والدته (E. S. Turing 1959)، وسيرة مفصلة (Hodges 1983)، ومسرحية، وعمل تلفزيوني من إخراج هيو ويتمور (Whitemore 1986)، وأعمال أخرى متنوعة.

هناك عدة أسباب لهذا الاهتمام، أهمها كونه في كل مجال من مجالات حياته وعمله كان يربط بين المجالات التي تبدو أنها متباينة. جاءت مساهمته المركزية في العلوم والفلسفة من خلال معالجته لموضوع المنطق الرمزي كفرع جديد من فروع الرياضيات التطبيقية، مانحًا إياه بُعدًا فيزيائيًّا وهندسيًّا. ولعدم رغبته أو قدرته على البقاء مُحدَّدًا ضمن أي دور معياري أو دائرة فكرية معينة فقد امتلأت حياته بالكثير من التعارض. وبرغم كونه رجلًا خجولًا، قد لا تبدو عليه أمارات النضج، إلا أن دوره كان محوريًّا في تاريخ البشرية من خلال إسهامه في علم التشفير أثناء الحرب العالمية الثانية. ورغم اعتباره كمؤسس للتكنولوجيا التي هيمنت على القرن العشرين، إلا أنه أثار إعجاب الناس وسحرهم، أو إزعاجهم، ببراءته الروحية ورفضه للمساومات الأخلاقية والفكرية المُذلة.

ولد آلان ماثيسون تورينغ في لندن، 23 يونيو 1912، لأبوين بريطانيين من الطبقة المتوسطة العليا. كان تعليمه من النوع التقليدي، والذي كان تحت سيطرة النظام الإمبراطوري البريطاني. ولكنه، مُبكرًا، وخلافًا للسلطة، أُفتتن بالنبض العلمي الذي عبَّر عنه على أنه “الأكثر شيوعًا في الطبيعة”. لم تُروَّض شكوكه واستخفافه بقيم زمانه فأصبح أكثر ثقة وغرابة من أي وقت مضى. تأرجحت روحه المزاجية بين الكآبة والحيوية. كما أن نمط حياته كرجل مثلي الجنس كان ملاحظًا في مشاعره القوية وإصراره المتزايد على التمسك بهويته.

كانت كلية الملك King’s College التابعة لجامعة كامبريدج هي أول موطن حقيقي لتورينغ، كانت معروفة بميولها الفكرية التقدمية المرتكزة على أفكار جون مينارد كينز J.M Keynes. تفوق فيها بشكل بارز في مادة الرياضيات حتى انتُخب زميلًا في الكلية عام 1935. تبع هذا التعيين باكتشافه الرائع والمفاجئ في مجالٍ لم يكن معروفًا فيه وهو مجال المنطق الرياضي. كانت أول نجاحاته مع مقالة “حول الأرقام القابلة للحوسبة…” (تورينغ 1936-1937)، وربما يُعد أعظم نجاحته إذ حدَّدت ورقته هذه تعريفَ الحوسبة وحدود إمكانياتها المطلقة، مما جعلها عملًا تأسيسيًّا في علوم الحاسب الآلي الحديثة. قاده هذا النجاح إلى جامعة برينستون Princeton حيث قدَّم المزيد في مجال المنطق وفروع الرياضيات الأخرى. أتيحت له الفرصة للبقاء في الولايات المتحدة، لكنه اختار العودة إلى بريطانيا في عام 1938 حيث جُنِّدَ على الفور في حرب الاتصالات البريطانية.

بدءًا من عام 1939 حتى عام 1945، انخرط تورينغ بشكل كامل تقريبًا في إتقان آلة التشفير الألمانية إنيجما Enigma، وغيرها من الأبحاث المتعلقة بالتشفير في الحديقة الشهيرة بليتشلي Bletchley Park، وهي مقر اتصالات الحكومة البريطانية إبان الحرب. قدَّم تورينغ مساهمة منطقية فريدة لفك تشفير آلة إنيجما، فأصبح شخصية علمية رئيسية هناك، بالإضافة لمسؤوليته في تتبع الاتصالات الخاصة بالغواصات الألمانية من نوع U-boat. على هذا النحو أصبح شخصية رفيعة المستوى في شؤون الاتصالات الأنجلو أمريكية، كما اكتسب، أيضًا، معرفةً بأحدث التقنيات الإلكترونية المتقدمة في ذلك الحين.

بدمج أفكاره الرياضية المنطقية بخبرته في علم التشفير وبعض المعرفة الإلكترونية العملية، طمح تورينغ، في نهاية الحرب، إلى صناعة حاسب آلي إلكتروني بالمعنى الحديث الكامل. رغم دعم المختبر الفيزيائي الوطني National Physical Laboratory بلندن لخططه، إلا أن أهميتها تضاءلت أمام المشاريع الأمريكية المدعومة بقوة. علاوة على ذلك، فقد توارت إنجازاته بسبب السرية التامة اللازمة في زمن الحرب. ورغم تقدم أفكاره في عام 1946، إلا أنه لم يلق الاعتراف الذي يليق به. لذا، بسبب احباطه في عمله، ظهر تورينغ كعداء ماراثون قوي، وكاد أن يكون مؤهلاً للانضمام للمنتخب البريطاني في دورة الألعاب الأولمبية عام 1948.

كانت دوافع تورينغ علمية أكثر منها صناعية أو تجارية، فسرعان ما عاد إلى الحدود النظرية للحوسبة. مركزًا، هذه المرة، على المقارنة بين قدرتي الحوسبة والدماغ البشري. ادعى أن الحاسب الآلي، عند برمجته بشكل صحيح، يمكن أن ينافس الدماغ البشري؛ ما أسس لفكرة برامج “الذكاء الاصطناعي” في العقود التالية.

في عام 1948 انتقل إلى جامعة مانشستر، حيث حقَّق جزئيًا التوقعات المؤملة عليه للتخطيط لبرمجيات بهدف تطوير الحاسب الآلي الرائد هناك. في الوقت نفسه، حافظ على حرية تفكيره حيث كتب في تلك الفترة، عام 1950، بحثه الشهير “آلات الحوسبة والذكاء” (Computing Machinery and Intelligence) (تورينغ 1950 ب). في عام 1951، أُنتخبَ زميلًا في الجمعية الملكية لإنجازه في عام 1936، لكنه في ذاك الوقت كان يضرب أطنابه في منطقة جديدة تمامًا بنظرية رياضية تتعلق بالتشكل البيولوجي Biological Morphogenesis (تورينغ 1952).

في فبراير 1952، توقف مشروع تورينغ الأخير جراء القبض عليه بسبب علاقته الجنسية مع شاب من مانشستر، فاضطر ليتفادى عقوبته في السجن إلى الخضوع لحقن الأستروجين بهدف إبطال ميله الجنسي، الأمر الذي جرده من أهليته في مواصلة أعمال التشفير السرية. رغم ذلك، تعزَّز موقفه التحرري العام في مقابل القمع الذي مُرس عليه في المحاكمة الجنائية، وظلت فرديته الفكرية، أيضًا، مُتقدة كما كانت دائمًا. بينما ظل بشكل رسمي مُحاضرًا في نظرية الحوسبة، لم يشرع فقط في تطبيقات طموحة لنظريته البيولوجية، بل قدم أفكارًا جديدة في الفيزياء الأساسية.

لهذا السبب كانت وفاته، في 7 يونيو 1954، في منزله في بلدة ويلمزلو Wilmslow، بمقاطعة شيشاير Cheshire، بمثابة مفاجأة عامة. أُدْرِكَ بعد فوات الأوان أن مكانته الفريدة في شؤون الاتصالات السرية الأنجلو أمريكية تعني أن ضغوطًا كانت عليه لم يكن معاصروه على علم بها، كما كان بالتأكيد هناك صراعًا أمنيًّا آخر مع الحكومة في عام 1953 (Hodges 1983، p.483). أكد بعض المحللين، مثل داوسون Dawson (1985)، أن فكرة الاغتيال لا ينبغي استبعادها. وفي حديثه عن الانتحار رجَّح أن يكون موت تورينغ بسبب تسمم السيانيد من خلال يده أمرًا مفتعلًا، وذلك من أجل جعل أولئك الذين يرغبون في تصديق هذه الفكرة أن يصدقوها نتيجة ميله للتجارب الكيميائية. استمرت الصورة الدرامية للتفاحة المأكولة جزئيًّا كرمزية تجوب في فردوس المثقف التي طُرد منها ألن تورينغ.

2. آلة تورينغ والحوسبة

بين عامي 1928 و1933، استفاد تورينغ الكثير من عمل الفيزيائي الرياضي الشهير أ. س. إدينجتون A. S. Eddington، ومن شرح ج. فون نيومان J. von Neumann لأسس ميكانيكا الكم، ثم من المنطق الرياضي لبرتراند راسل Bertrand Russell. وفي هذه الفترة، زاد افتتانه بمشكلات الذهن والمادة بفعل الجوانب العاطفية في حياته (Hodges 1983، p. 63). في عام 1934 تخرج بدرجة متميزة في الرياضيات في جامعة كامبريدج، أردفها، في عام 1935، بأطروحته الناجحة في نظرية الاحتمالات التي تحصَّل بفضلها على الزمالة في كلية الملك King’s College بكامبريدج. كانت هذه خلفيته المعرفية، وفي العام نفسه، كان هناك أيضًا إسهامه في المسألة التي جعلت منه اسمًا بارزًا في مجاله.

تعرَّف تورينغ من محاضرات الطوبولوجي ماكس نيومان M. H. A. (Max) Newman في تلك السنة على مبرهنة اللا تَمَام الصُوري The Formal Incompleteness للرياضي غودل Gödel، الذي أعلنه في عام 1931 والذي يخص النظم المنطقية الغنية والتي يمكن أن تشمل علم الحساب. كما تعرَّف على مشكلة (اتخاذ) القرار Entscheidungsproblem وهي المشكلة البارزة في أسس الرياضيات التي طرحها هيلبرت Hilbert، والتي كانت تحاول الإجابة عن السؤال: هل توجد طريقة يمكن من خلالها اتخاذ قرار ما حول أي افتراض رياضي معين، سواء أكان مما يمكن برهنته أم لا؟

تكمن الصعوبة الرئيسية في هذا السؤال في إعطاء تعريف صحيح وعام لا يمكن تجاوزه لمعنى التعبيرات كتعبير “طريقة محددة” أو “إجراء فعال”. عمل تورينغ على هذا بمفرده لمدة عام، حتى أبريل 1936؛ كانت العزلة والاستقرار مصدرا قوته في صياغة أفكاره الأصلية، وفي الوقت نفسه سببًا لضعف ترويجها وتنفيذها.

غالبًا ما استخدمت كلمة “آلي” في النهج الصوري Formalist Approach الكامن وراء مسألة هيلبرت. تمسك تورينغ بمفهوم الآلة، وكان حل تورينغ يكمن في تحديد ما سيطلق عليه قريبًا “آلة تورينغ”. بهذا حدد مفهوم “الآلي” باتصاله بمفهوم العمليات الذرية البسيطة. صورانية آلة تورينغ صيغت على مثال طابعة عن بُعد، ووسع نطاقها قليلاً بإضافة شريط ورقي يمكن أن يتحرك في كلا الاتجاهين، و “رأس” قادر على: قراءة الرموز، ومسحها منه، وطباعة رموز جديدة عليه، بدلاً من القراءة فقط وخرم الثقوب الدائمة.

تعتبر آلة تورينغ آلة “نظرية” بمعنى أنه لم يُقصد تصميمها واقعيًّا (لا فائدة من القيام بذلك)، برغم من ضرورة اختبار مكوناتها الذرية (الشريط الورقي، الحركة إلى اليسار واليمين، قراءة رمز) تمامًا كما لو كانت منفذة واقعيًّا. بيت القصيد من الصورانية Formalism هو اختزال مفهوم “الطريقة” إلى عمليات بسيطة يمكن بلا شك “تنفيذها”.

ومع ذلك، كان غرض تورينغ هو تجسيد أغلب العمليات الآلية العامة التي يقوم بها الإنسان. لم يبدأ تحليله بأية آلة حوسبة موجودة مسبقًا، بل بمربعات كالمرسومة في كتب تدريبات الأطفال. منذ البداية، هَدفَ مفهوم آلة تورينغ إلى استيعاب ما يمكن أن يفعله الذهن البشري عند تنفيذ إجراء معين.

عند الحديث عن “آلة تورينغ”، يجب توضيح أن هناك عددًا لا مُتناهٍ منها Infinitely Many، كل واحدة منها تتوافق مع طريقة أو إجراء مختلف، وتتبع “جدول سلوك” (Table Of Behaviour) مختلف لكل طريقة أو إجراء معين. في الوقت الحاضر يكاد يكون من المستحيل تجنب الالتفات للتماثل القائم بين آلة تورينغ وبين ما لم يكن موجودًا حينها: نعني الحاسب الآلي. بالمصطلحات الحديثة، فإن “جدول السلوك” لآلة تورينغ يعادل البرنامج في الحاسب الآلي.

إذا كانت آلة تورينغ تتطابق مع برامج الحاسب الآلي، فما الذي قد يطابق الحاسب الآلي نفسه؟ الجواب هو ما عناه تورينغ وأسماه بالآلة الشاملة Universal Machine (تورينغ 1936، ص 241). مرة أخرى، هناك عدد لا مُتناهٍ من آلات تورينغ الشاملة، والتي تشكل مجموعة فرعية من آلات تورينغ؛ إنها تلك الآلات التي تحتوي على “جداول سلوك” معقدة بما يكفي لقراءة جداول سلوك آلات تورينغ الأخرى، والقيام بما كانت ستفعله تلك الآلات. إذا كانت هذه الفكرة تبدو غريبة، فلاحظ التوازي الحديث لذلك، حيث يمكن محاكاة أي حاسب آلي بواسطة برنامج على حاسب آلي آخر. تعد الطريقة التي يمكن بها للجداول قراءة ومحاكاة نتيجة الجداول الأخرى أمرًا بالغ الأهمية في نظرية تورينغ، إذ تتجاوز بذلك أفكار تشارلز بابيج Charles Babbage قبل مئة عام. هذا ما يبرر انتقال أفكار تورينغ إلى قلب الحاسب الآلي الحديث، فمن الضروري أن تكون البرامج نفسها شكلاً من أشكال البيانات التي يمكن التعديل عليها بواسطة برامج أخرى. لكن على القارئ أن يتذكر دائمًا أنه في عام 1936 لم تكن هناك أجهزة حاسب آلي من هذا القبيل؛ لقد تطور الحاسب الآلي الحديث بالفعل من صياغة “السلوك الآلي” الذي أوجده تورينغ في هذا العمل.

سمحت صياغة آلة تورينغ بالتعريف الدقيق لقابلية الحوسبة: أي ما يمكن أن تفعله آلة تورينغ بمفردها. بتعبير أدق، إن العمليات القابلة للحوسبة هي تلك التي يمكن أن تُنفَّذ بما يسميه تورينغ بالآلات الأوتوماتيكية. النقطة الحاسمة هنا هي أن عمل آلة تورينغ الأوتوماتيكية يتم تحديده بالكامل من خلال “جدول السلوك” الخاص بها. (سمح تورينغ أيضًا بـ “آلات الاختيار” Choice Machines التي تستدعي المدخلات البشرية، بدلاً من تحديدها بالكامل مسبقًا). ثم اقترح أن هذا التعريف لـ “قابلية الحوسبة” يستوعب بدقة المقصود من التعابير: “طريقة محددة، وإجراء، وعملية آلية”، في إشارته لمشكلة القرار لهيلبرت.

عند تطبيق مفهوم آلة تورينغ على مشكلة القرار، بادر تورينغ بتحديد الأرقام القابلة للحوسبة Computable Numbers. فهي أرقام حقيقية Real Numbers، بالتالي ستتكون من كسور عشرية لا متناهية، والتي يمكن لآلة تورينغ، بدءًا من شريط فارغ، طباعتها عليه. على سبيل المثال، يمكن لآلة تورينغ أن تطبع الرقم 1 وتتحرك إلى اليمين، ثم تكرر هذا الإجراء إلى الأبد، وبذلك يمكنها حساب الرقم 0.1111111، كما يمكن للآلات الأكثر تعقيدًا حساب التمدد العشري اللامتناهي للثابت الرياضي ط (pi).

آلات تورينغ، تشابه برامج الحاسب الآلي، قابلة للعد؛ إذاً يمكن ترتيبها في قائمة كاملة حسب نوعها بالترتيب الأبجدي لـ “جداول السلوك” الخاصة بها. قام تورينغ بذلك عن طريق ترميز الجداول في “أرقام بيان” (Description Numbers) والتي يمكن بعد ذلك ترتيبها وفق حجمها. من بين هذه القائمة، هناك مجموعة فرعية (التي لها أرقام بيان “مُرضية Satisfactory”) وهي تلك الآلات التي لها نتائج عند طباعة الكسور العشرية اللامتناهية. يتضح بسهولة، باستخدام الحجة القطرية Diagonal Argument التي استخدمها لأول مرة عالم الرياضيات الألماني جورج كانتور Georg Cantor، والتي كشف عنها كلًا من راسل وغودل، أنه لا يمكن أن يكون هناك آلة تورينغ تملك خاصية التقرير حول ما إذا كان رقم البيان المُحدد مرضيًا أم لا. يمكن تقديم الحجة على النحو التالي: افترض أن آلة تورينغ كهذه موجودة، ثم أنه من الممكن بناء آلة تورينغ أخرى والتي ستعمل بدورها على الرقم الترتيبي (ن) من الجهاز رقم (ن) ذي رقم البيان المرضي. ستقوم هذه الآلة الجديدة بعد ذلك بطباعة رقم (ن) مختلف. مع تقدم الجهاز، فإنه سيطبع عددًا عشريًا لامتناهيًا، وبالتالي سيكون ذو رقم بيان “مُرضٍ”. ومع ذلك، يجب أن يختلف هذا الرقم حسب البناء عن مخرجات كل آلة ذات رقم بيان مُرضٍ. هنا يقع التناقض، لذا يجب أن تكون الفرضية خاطئة (تورينغ 1936، ص 246). من هذا المنطلق، كان تورينغ قادرًا على الإجابة على مشكلة القرار لهيلبرت بالنفي: لا يمكن أن تكون هناك مماثلة لهذه الطريقة العامة.

يمكن إعادة صياغة برهان تورينغ بعدة طرق، لكن الفكرة الأساسية تعتمد على المرجع الذاتي المتضمن في آلة تعمل على الرموز، والتي توصف، ذاتها، بواسطة الرموز وبالتالي يمكن أن تعمل وفقًا لوصفها الخاص. في الواقع، يمكن إبراز جانب المرجع الذاتي للنظرية عبر شكل مختلف من أشكال الإثبات، وهو ما فضله تورينغ (تورينغ 1936، ص 247). لنفترض وجود آلة كهذه الآلة الخاصة بتقرير مدى الرضا؛ ثم قمنا بتطبيقها على رقم البيان الخاص بها؛ سيقع التناقض بسهولة. ومع ذلك، فإن الطريقة “القطرية” لها ميزة، وهي إبراز ما يلي: أنه يمكن تحديد رقم حقيقي بشكل لا لبس فيه، ومع ذلك لن يكون قابلاً للحوسبة. كذلك لا يمكن الاستخفاف بأن بعض الكسور العشرية اللامتناهية (مثلًا الثابت ط) يمكن تضمينها في جدول مُتناهٍ، فالكسور العشرية اللامتناهية الأخرى (في الواقع، جميعها تقريبًا) لا يمكن تضمينها. وبالمثل، توجد مشكلات في اتخاذ القرار في حالة كحالة “تحديد ما إذا كان العدد أوليًّا أم لا” حيث يتم اختتام العديد من الإجابات اللامتناهية في وصف مُتناهٍ، في حين أن هناك إجابات أخرى (مرة أخرى، كلها تقريبًا) ليست كذلك، ويجب اعتبارها تتطلب الكثير من الاختلافات اللامتناهية في طرقها. “هل هذا افتراض يمكن إثباته؟”، بالتأكيد هذا الافتراض ينتمي إلى الفئة أخرى.

هذا ما قرره تورينغ، كما قرر الحقيقة الاستثنائية التي مفادها أن أي شيء قابل للحوسبة يمكن في الواقع أن يُحوسب بواسطة آلة واحدة، وهي آلة تورينغ الشاملة.

وكان من المهم لعمل تورينغ أن يسوغ لتعريفه بإظهار أنه يشمل أعم فكرة حول تعبير “الطريقة”. لأنه إذا لم يكن ذلك، فإن مسألة مشكلة القرار ستظل مفتوحة: قد يكون هناك أنواع أخرى من الطرق أكثر قوةً مما قد تقدمه حوسبة تورينغ. أحد هذه المبررات هو في إظهار أن التعريف تضمن العديد من العمليات التي قد يعتبرها عالم الرياضيات طبيعية في مجال الحوسبة (تورينغ 1936، ص 254). والحجة الثانية هي تضمينه لحاسب بشري يجري حساباته وفق تعليمات مكتوبة (تورينغ 1936، ص 253). لكن الحجة الأكثر جرأة، تلك التي قدمها أولاً، وهي اعتباره أن حجة “الحدس” جذابة لذهن الحاسب البشري (تورينغ 1936، ص 249). كان دخول “الذهن” في حجته مهمًا للغاية، ولكن في هذه المرحلة كان مجرد ذهن يعمل وفق قواعد محددةً له مسبقًا.

للتلخيص: وجد تورينغ، مبررًا لفكرته على أسس عامة وبعيدة المدى، وبصياغة رياضية دقيقة لمفهوم “الطريقة أو “العملية العامة”. ناقش عمله، كما قُدم إلى نيومان في أبريل 1936، بأن صياغته لـ “قابلية الحوسبة” تشمل “العمليات المحتملة التي يمكن تنفيذها في عملية حوسبة لرقم ما” (تورينغ 1936، ص 232). فتحت هذه الأفكار مجالات بحث جديدة في كل من الحسابات العملية وفي مناقشة العمليات الذهنية البشرية. ومع ذلك، برغم أنه كان يعمل -كما وصفه نيومان- في “حبس انفرادي” (Hodges 1983، ص 113)، إلا أنه سرعان ما عُلم أنه لم يكن وحيدًا في دراسته تلك، كشهادة على حالات “التقاء الأفكار” على حد توصيف غاندي (1988).

لقد تفوق عالِم المنطق بجامعة برينستون، ألونزو تشرتش Alonzo Church، بشكل طفيف على تورينغ في إيجاد تعريف مرضٍ لما أسماه “قابلية الحساب بفعالية” Effective Calculability. اقتضى تعريف تشرتش الصورانية المنطقية Logical Formalism الخاصة بحساب لامدا Lambda-calculus؛ هذا يعني أنه منذ البداية اندمج ما حققه تورينغ مع الصيغة التي قدمها تشرتش وحل محلها، أي التأكيد على أن صورانية حساب لامدا تجسد بصورة صحيحة مفهوم “العملية” أو “الطريقة الفعالة”. وبسرعة كبيرة، تبين أن النطاق الرياضي لحسابات تورينغ يتوافق مع تعريف تشرتش (وأيضًا مع نطاق الوظائف التكرارية العامة General Recursive Functions التي حددها غودل). كتب تورينغ بيانه الخاص (تورينغ 1939، ص 166) حول الاستنتاجات التي توصل إليها في عام 1938؛ في رسالته لنيل درجة الدكتوراه التي كتبها تحت إشراف تشرتش، وبالتالي يمكننا اعتبار أن هذا البيان هو بيان مشترك لأطروحة “تشرتش-تورينغ” Church-Turing Thesis:

يُقال أن الدالة تكون “قابلة للحساب بفعالية” إذا كان من الممكن إيجاد قيمها من خلال عملية آلية بحتة. برغم أنه يبدو من السهل إلى حد ما الحصول على فهم بديهي لهذه الفكرة، إلا أنه من المرغوب فيه الحصول على تعريف أكثر تحديدًا ومعبرًا عنه بشكل رياضي. قُدِّم مثل هذا التعريف لأول مرة بواسطة غودل في برينستون عام 1934… حيث وصف هذه الدوال بأنها “تكرارية عامة”… قُدِّمَ تعريف آخر لقابلية الحساب بفعالية بواسطة تشرتش الذي حددها بتعريفية لامدا lambda-Definability. أخيرًا يقترح المؤلف [أي تورينغ] تعريفًا ينسجم مع الفكرة البديهية بشكل وثيق… وقد ذكر أعلاه أن “الدالة تكون قابلة للحساب بفعالية إذا كان من الممكن إيجاد قيمها من خلال عملية آلية بحتة”. قد نأخذ هذا البيان حرفياً، ونفهم منه أن عبارة “من خلال عملية آلية” تعني أنه يمكن تنفيذها بواسطة الآلة. من الممكن إعطاء وصف رياضي، بشكل طبيعي معين، لهياكل هذه الآلات. يؤدي تطوير هذه الأفكار إلى تعريف المؤلف للدالة القابلة للحساب، وإلى ربط تعريف قابلية الحوسبة بقابلية الحساب بفعالية. ليس من الصعب، وإن كان شاقًا إلى حد ما، إثبات أن هذه التعريفات الثلاثة متكافئة.

قَبِلَ تشرتش بتعريف تورينغ الذي قدَّم من خلاله تبريرًا بديهيًا مُقنعًا لصحة أطروحة تشرتش. يؤكد العرض الأخير من قبل ديفيس (2000) أن غودل كان مقتنعًا أيضًا بحجة تورينغ بعدما حُدد المفهوم المطلق Absolute Concept (Gödel 1946). لم يتغير الوضع حتى الآن منذ عام 1937. (للحصول على مزيد من التعليقات، انظر المقال الخاص بأطروحة تشرتش-تورينغ في الموسوعة. استمر هذا النقاش في المجموعة الأخيرة من أوراق تورينغ التي حررها كوبلاند (2004)، وراجعها هودجز (2006)).

لم يبذل تورينغ الكثير للتبشير بصياغته في عالم المنطق الرياضي وعلوم الحاسب الآلي المبكرة، بينما ديفيس (1958) ومنسكي (1967) قاما بذلك من خلال كتبهما، فنالا شهرةً أكبر مما حققها تورينغ. في الوقت الحاضر، غالبًا ما تُعاد صياغة قابلية تورينغ للحوسبة (مثلاً: من حيث كونها “آلات تسجيل”). رغم ذلك، فعمليات المحاكاة الحاسوبية (كما في عَالَم تورينغ Turing’s World، من ستانفورد) قد أعادت الحياة إلى صورة تورينغ الأصلية.

فتح عمل تورينغ أيضًا مجالات جديدة حول الحسمية (قابلية البت، Decidability) في الرياضيات البحتة. منذ سبعينيات القرن الماضي، اكتسبت آلات تورينغ أيضًا وهجًا جديدًا في مجال تطوير نظرية التعقيدComplexity theory، وبالتالي فقد دعمت أحد أهم مجالات البحث في علوم الحاسب الآلي. يجسد هذا التطور القيمة الدائمة لمكانة تورينغ الخاصة في إعطاء توضيح ملموس للمفاهيم المجردة.

3. المنطقي والمادي

على نحو ما أورده غاندي (1988)، كانت ورقة تورينغ “نموذجًا للتحليل الفلسفي”، وقد صقلت مفهومًا مُبهمًا ضمن تعريف دقيق. إلا أنها كانت أكثر من كونها تحليلاً في عالم المنطق الرياضي: في اعتقاد تورينغ إن التساؤل الذي يطرح نفسه باستمرار من الناحية النظرية والعملية هو علاقة آلة تورينغ المنطقية Logical بالعالم المادي Physical.

“الفعالية” تعني الفعل، وليس مجرد التخيل أو الافتراض. في هذه المرحلة، لم يقم تورينغ ولا أي منطقي آخر بإجراء تحقيق جاد في فيزياء “الفعل”. إلا أن التصور الذي قدمه تورينغ لآلة تشبه الطابعة (عن بُعد) كان يشير بشكل حتمي إلى شيء يمكن إجراءه “فعليًا”. كان مفهومه هو تلخيص لفكرة أنه لا يمكن للمرء، في كل مرة، سوى أداء “فعلٍ” واحدٍ بسيط، أو عدد مُتناهٍ من الإجراءات البسيطة. لكن، ما مدى “مادية” هذا المفهوم؟

لا يحتوي شريط آلة تورينغ، بتاتًا، على أكثر من عدد متناهٍ من المربعات في أية مرحلة من مراحل الحوسبة. وبالتالي يمكن اعتبارها آلة متناهية Finite، ولكنها دائمًا قادرة على التوسع حسب الحاجة. من الواضح أن هذه الإمكانية غير المحدودة للتوسع هي سمة غير مادية، لكن التعريف لا يزال ذا فائدة عملية: فهو يعني أنه يمكن حوسبة أي شيء على شريط مُتناهٍ، مهما كان حجمه. (اتبع تورينغ مقاربة مُتناهية Finitistic Approach عند إيضاحه للأهمية العملية للحوسبة في ورقته البحثية عام 1950). مع ذلك، هناك جانب في صياغة تورينغ تضمن التناهي المطلق Absolute Finiteness: يجب أن يكون جدول سلوك آلة تورينغ مُتناهٍ، لأنه يسمح فقط بعدد متناهٍ من “التشكيلات” لآلته، ومجموعة مُتناهية فقط من الرموز التي يمكن توسيمها على الشريط. هذا يعادل جوهريًّا السماح باستخدام برامج الحاسب الآلي ذات الأطوال المتناهية فقط.

وصَّف تورينغ قابلية الحوسبة (Computability) بـ”قابلية الحساب (Calculable) بطرق مُـتناهية”، وقد برر ذلك بالحجة القائلة بأن “الذاكرة البشرية بالضرورة محدودة”. (تورينغ 1936، ص 231). المغزى من تعريفه يكمن في ترميز النتائج المحتملة اللامتناهية (كطباعة عدد عشري لامتناهٍ) في “جداول سلوك” مُتناهية؛ فلا مغزى من السماح للآلات بالعمل بـ”جداول سلوك” لامتناهية. من الواضح، على سبيل المثال، أن أي رقم حقيقي يمكن طباعته بواسطة هذه “الآلة”، وذلك بالسماح بتحديد، في إعدادات البرنامج، (ن) كعدد أقصى للخانات أثناء طباعة رقم ما مثلاً. يمكن لهذه “الآلة” أيضًا تخزين أي عدد من العبارات لجميع التعبيرات الرياضية الممكنة. وبهذا، حيَّدَ تورينغ مشكلة القرار.

عندما راجع تشرتش (1937) ورقة تورينغ أثناء تواجده تحت إشرافه في برينستون، أعطى الآلة توصيفًا جريئًا إذ اعتبرها آلة ذات تعليمات مُحددة مُتناهية arbitrary finite machine.

يقترح المؤلف [تورينغ] كمعيار أن يكون التسلسل اللامتناهي للأرقام المكون من صفر وواحد “قابلاً للحوسبة” بحيث يكون من الممكن ابتكار آلة حوسبة تشغل مساحة مُتناهية مصنوعة من مكونات ذات حجم مُتناهٍ، لتكتب أي متتابعة بالعدد المطلوب من الحدود إذا سُمح لها بالعمل لفترة كافية من الوقت. على سبيل التسهيل، يمكن فرض قيود إضافية على طبيعة الآلة، بحيث لا تسبب هذه القيود أي تقليص لخاصية العمومية، لهذا، فأي حاسب بشري مزود بقلم رصاص وورقة وتعليمات صريحة، يمكن اعتباره نوعًا من أنواع آلة تورينغ.

كرر تشرتش (1940) هذا التوصيف، فلم يؤيده تورينغ ولم يعارضه، تاركًا المفهوم العام “للآلة” غير محدد. بينما غاندي (1980) حاول تبرير هذا التوصيف في دراسته، من خلال تنقيح بيان ما المقصود من كلمة “آلة”. دعم غاندي في نتائجه تشرتش؛ كما أنهما جادلا بحسم لدعم وجهة النظر القائلة بأن المحاولات الطبيعية لتوسيع مفهوم الحوسبة سيؤول إلى التعميم المُخل: إذا تم إضعاف شروط غاندي لمفهوم “الآلة” بشكل كبير، فإن كل رقم حقيقي سيصبح قابلاً للحوسبة (غاندي 1980، ص 130)، للوصول إلى تفسيرات مختلفة لبيان تشرتش، راجع في الموسوعة المقال الخاص بأطروحة تشرتش-تورينغ Church-Turing Thesis).

لم يناقش تورينغ صراحةً مسألة سرعة الإجراءات الأولية لآلته، لكنه ضمَّنها في مناقشاته من خلال استخدامه لكلمة “بتاتًا”، إذ من غير الممكن إجراء العديد من الخطوات اللامتناهية في وقت متناهٍ. استكشف آخرون أثر التخلي عن هذا القيد؛ فقد وصف ديفيس (2001)، على سبيل المثال، “آلة” بعدد لامُتناهٍ من الأجزاء، تتطلب، إلزاميًّا، مكونات ذات حجم صغير، وتعمل بسرعات عالية. كهذه “الآلة” يمكن أن تؤدي مهام غير قابلة للحوسبة. يؤكد ديفيس أن آلةً كهذه الآلة لا يمكن بناؤها في عالمنا المادي، لكنه يرى أنها يمكن أن تُبنى في عالم ذي فيزياء مختلفة. إلى أن نستبعد مثل هذه “الآلات”؛ يجب أن تحتوي أطروحة تشرتش-تورينغ على الأقل بعض المحتوى المادي.

الفيزياء الحقيقية هي ميكانيكا الكم، أي فكرة مختلفة عن المادة والفعل اللذين في الفيزياء الكلاسيكية البحتة التي قدمها تورينغ. لعله من الغريب أن تورينغ لم يشر إلى هذا الأمر في هذه الفترة رغم ضلوعه في فيزياء الكم. وبدلاً من ذلك، تُرك التحليل والتطوير العملي للحوسبة الكمومية إلى الثمانينيات. تُعدُّ الحوسبة الكمومية، التي تستخدم تطور وظائف الموجة Wave-functions بدلاً من حالات الآلة الكلاسيكية، هي أهم طريقة تم فيها تحدي نموذج آلة تورينغ. لا تتنبأ الصيغة المعيارية للحوسبة الكمومية (Deutsch 1985، وفق Feynman 1982) بأي شيء يتجاوز النتائج القابلة للحوسبة، إلا أن الحسابات الكمومية في مجال الحساب الآلي قد تكون أكثر كفاءة بكثير من الحسابات الكلاسيكية. من الممكن أن يؤدي الفهم الأعمق لفيزياء ميكانيكا الكم إلى تغيير صورة ما يمكن “فعله” فيزيائيًا.

4. غير قابل للحوسبة

انتقل تورينغ إلى دراسة ما لا يمكن حوسبته من أجل الحصول على درجة الدكتوراه في جامعة برينستون، أطروحة (1938)، والتي ظهرت نتائجها فيما بعد باسم “نظم المنطق القائم على الأعداد الترتيبية” Systems Of Logic Based On Ordinals (تورينغ 1939).

بشكل عام، يرى فيفرمان Feferman 1988)) أن هذه الدراسة انحرفت عن الاتجاه الرئيسي لأعمال تورينغ. ولكن من زاوية أخرى، كما عبر عنها في ((Hodges 1997، يمكن للمرء أن يرى تطور تورينغ على أنه تحول بشكل طبيعي من التفكير في عمل الذهن حينما يتبع قاعدة ما، إلى عمل الذهن دون قاعدة يتبعها. بالأخص في دراسته عام 1938، أخذ اعتباره الذهن عند إدراك صحة أحد افتراضات غودل غير القابلة للبرهنة صوريًّا (Formally)، وبالتالي تجاوز القواعد القائمة على بديهيات النظام. كما عبر عنها تورينغ (تورينغ 1939، ص 198): هناك “صيغ، تُدرك حدسيًّا على أنها صحيحة، إلا أنها كما أظهرته مبرهنة غودل غير قابلة للبرهنة في النظام الأصلي”. كانت نظرية تورينغ في “المنطق الترتيبي” محاولة منه “لتجنب آثار مبرهنة غودل قدر الإمكان” وذلك من خلال دراسة أثر إضافة تقريرات غودل كبديهيات جديدة لإنشاء منطق أكثر قوة، لكنه لم يصل إلى نتيجة نهائية.

في دراسته، قدم تورينغ فكرة “أوراكل” القادر على القيام، بطريقة سحرية، بعملية غير قابلة للحوسبة. لا يمكن اعتبار أوراكل على أنه جزء من “الصندوق الأسود” لفئة جديدة من الآلات، ولكن لوضعه على قدم المساواة مع العمليات الأولية في قراءة الرموز الفردية، هذا ما اقترحه كوبلاند (1998). يُعد أوراكل أقوى بشكل لامُتناهي Infinitely More Powerful من أي شيء يمكن للحاسب الآلي الحديث القيام به، ولا يشبه أي شيء من العناصر الأساسية في الحاسب الآلي. عرّف تورينغ “آلات أوراكل” على أنها آلات تورينغ ذات تشكيل إضافي بحيث في لحظة ما “تستدعي أوراكل” لاتخاذ خطوة غير قابلة للحوسبة. لكن آلات أوراكل هذه ليست آلية بحتة؛ بل آلية جزئيًا فقط، كآلات الاختيار Choice-machines. في الواقع، فإن المغزى من آلة أوراكل هو استكشاف عالم ما لا يمكن القيام به من خلال العمليات الآلية البحتة. وقد أكد تورينغ ذلك (تورينغ 1939، ص 173):

لن نتعمق كثيرًا في طبيعة أوراكل بغض النظر عن فكرة أنها قد لا تكون آلة.

يمكن النظر إلى أوراكل ببساطة على أنها أداة رياضية مفيدة لاستكشاف رياضيات غير قابلة للحوسبة. تسمح فكرة أوراكل بصياغة أسئلة تتعلق بالحوسبة النسبية بدلاً من الحوسبة المطلقة. وهكذا فتح تورينغ مجالات جديدة للبحث في المنطق الرياضي. ومع ذلك، كان هناك أيضًا تفسيرًا محتملًا من حيث القدرة المعرفية البشرية؛ في هذا التفسير، ترتبط كلمة أوراكل بـ “الحدس” الذي تنطوي عليه فكرة إدراك الصحة في بيان غودل. كتب م. ه. أ. نيومان M. H. A. Newman، الذي قدم تورينغ للمنطق الرياضي وواصل التعاون معه، في (نيومان 1955) إن أوراكل تماثل عالِم رياضيات “لديه فكرة” في مقابل الطريقة آلية. ومع ذلك، لا يمكن تحديد أوراكل في الواقع مع قوة عقلية بشرية؛ فغايته أن يوفر على الفور الإجابة عما إذا كانت أي آلة من آلات تورينغ “مُرضية” أم لا، وهو أمر خارج استطاعة الإنسان. من ناحية أخرى، يجب على أي شخص يأمل في رؤية “الحدس” الذهني الذي أُلتقطَ بالكامل بواسطة أوراكل، أن يواجه الصعوبة المتمثلة في أن تورينغ أظهر كيف يمكن تطبيق حجته حول عدم اكتمال آلات تورينغ بنفس القوة على آلات أوراكل (تورينغ 1939، ص 173). وقد أكد بنروز على هذه النقطة (1994، ص 380). من الأفضل أن يؤخذ تعليق نيومان للإشارة إلى أوراكل مختلف سيُقترح لاحقًا (تورينغ 1939، ص 200)، والذي له خاصية التعرف على “الصيغ الترتيبية”. لا يمكن للمرء إلا أن يقول بثقة إن اهتمام تورينغ في هذا الوقت بالعمليات غير القابلة للحوسبة يبقى ضمن الإعداد العام لدراسة “الحدس” الذهني للحقائق التي تُبرهن وفق العمليات الآلية (تورينغ 1939، ص 214 وما يليها).

في طرح تورينغ، سيكون الحدس عمليًا موجودًا في كل جزء من أفكار عالم الرياضيات، ولكن بعد إضفاء المنطق الصوري على الدليل الرياضي، سيكون للحدس مظهر واضح في تلك الخطوات حيث يدرك عالم الرياضيات صحة الافتراضات غير القابلة للبرهنة صوريًّا. لم يُقدِّم تورينغ أي اقتراح بشأن ما يفعله الدماغ فيزيائيًّا في لحظة كلحظة “الحدس”؛ وبالفعل فكلمة “دماغ” لم تظهر في كتاباته في هذا الوقت. هذا السؤال مهم بسبب آراء بنروز (1989، 1990، 1994، 1996)، حول هذه المسألة فقط: يرى بنروز أن قدرة الذهن على إدراك صحة الحقائق غير القابلة للبرهنة صوريًّا تُظهر أنه يجب أن تكون هناك عمليات غير قابلة للحوسبة فيزيائيًّا في الدماغ. تجدر الإشارة إلى أن هناك خلافًا واسع النطاق حول ما إذا كان الذهن البشري يُدرك حقًا صحة بيان غودل أم لا؛ انظر على سبيل المثال المناقشة في (Penrose 1990) والمراجعات التي تلتها. لكن كتابات تورينغ في هذه الفترة قَبلت دون انتقاد مفهوم الاعتراف الحدسي بالحقيقة.

في هذه الفترة أيضًا، التقى تورينغ بلودفيغ فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein، وهناك سجل كامل لمناقشاتهما التي جرت في عام 1939 حول أسس الرياضيات (Diamond 1976). لخيبة أمل الكثيرين، لا يوجد سجل لأي مناقشات بينهما، سواءً شفهية أو مكتوبة، حول مسألة الذهن.

في عام 1939، بسبب الحرب، توقف بحث تورينغ الحثيث. ومع ذلك، فإن لهذا الظرف إيجابيته المتمثلة في توجيه تورينغ لتحويل آلته الشاملة إلى الشكل العملي للحاسب الرقمي الحديث.

5. بناء آلة شاملة

في عام 1936، عندما علم الاقتصادي ديفيد تشامبرنوين David Champernowne، وقد كان صديقًا لتورينغ، بفكرة الآلة الشاملة، أفصح إن آلةً كهذه الآلة لا يمكن أن تكون عملية، وستشغل مساحةً كبيرة بحجم “قاعة ألبرت”، إذا اعتُمد في تصنيعها على المرحلات المستخدمة في المبدلات الهاتفية، ولعله كان صائبًا، لذلك لم يقم تورينغ بأي محاولة لبناء آلته. مع ذلك، في عام 1937، عمل تورينغ بالمرحلات على آلة أصغر ذات وظيفة خاصة بالتشفير (Hodges 1983، ص. 138). قادته الظروف إلى دورٍ فريد لحل مشكلة إنيجما، ليصبح الشخصية الرئيسية في ميكنة الإجراءات المنطقية، وإلى تعرفه بالتكنولوجيا الأسرع والأكثر طموحًا أثناء الحرب.

بعد عام 1942، علم تورينغ أن المكونات الإلكترونية ستوفر السرعة وسعة التخزين والوظائف المنطقية المطلوبة لتكون فعالة كفعالية “الأشرطة” وجداول التعليمات. لذا منذ عام 1945، حاول تورينغ استخدام المكونات الإلكترونية لتحويل آلته الشاملة إلى واقع عملي. رسم تورينغ بسرعة مخططًا مفصلًا لجهاز حاسب آلي حديث بذاكرة لتخزين البرنامج: أي جهاز حاسب آلي تُخزن فيه البيانات والتعليمات القابلة للتعديل. قادت أفكار تورينغ المجال، على الرغم من أن تقريره لعام 1946 قد صدر متأخرًا عن تقرير فون نيومان (von Neumann 1945) حول الحاسب الآلي الأكثر شهرة إدفاك EDVAC. مع ذلك، يمكن القول، كما نص ديفيس (2000)، أن فون نيومان اكتسب فهمه الأساسي للحاسب الآلي من خلال إلمامه بعمل تورينغ المنطقي قبل الحرب. لكن في ذلك الوقت، لم تُناقش هذه المبادئ الأساسية كثيرًا؛ فقد سيطرت صعوبة هندسة الأجهزة الإلكترونية على كل شيء.

ولذلك فقد غفل المتابعون عن أن تورينغ كان متقدمًا على فون نيومان والآخرين فيما يتعلق بمستقبل البرامج، أو كما أسماه، “بُنية جداول التعليمات”. فقد تنبأ تورينغ (1946) بذلك:

يجب أن تُكتب جداول التعليمات من قبل علماء رياضيات لديهم خبرة في مجال الحوسبة، وربما لديهم قدرة معينة على حل الألغاز Puzzle-solving. من المحتمل أن يتعين عليهم القيام بقدر كبير من العمل، إذ يجب، في مرحلة ما، ترجمة كل عملية معروفة إلى جدول تعليمات.

يجب أن تكون عملية إنشاء جداول التعليمات دقيقة للغاية. لا خطر بأن تكون عملية إنشاء الجداول مرهقة، لأن أي عملية تامة آليًا قد يُعاد تلقيمها إلى الآلة نفسها.

هذه الملاحظات، التي تعكس شمولية الحاسب الآلي، وقدرته على التعديل في تعليماته الخاصة، تصف بشكل صحيح المسار المستقبلي لصناعة الحاسب الآلي. ومع ذلك، كان تورينغ يفكر في شيء أكبر: “بناء دماغ”.

6. بناء دماغ

أعلنت عبارة “بناء دماغ” المستفزة، منذ البداية، عن علاقة هندسة الحاسب الآلي التقنية التي قدمها تورينغ بفلسفة الذهن. حتى في عام 1936، طرح تورينغ تفسيرًا للحوسبة من زاوية كونها “حالة ذهنية”. أظهر عمله أثناء الحرب القوة المذهلة للحوسبة في ميكنة إجراءات وتقديرات الإنسان الخبير. منذ عام 1941 فصاعدًا، استمر تورينغ في مناقشة ميكنة لعبة الشطرنج والأنشطة “الذكية” الأخرى مع زملائه في حديقة بليتشلي (Hodges 1983، ص 213). وبشكل أعمق، في عام 1945، بدا أن تورينغ أصبح مقتنعًا بأن العمليات الحسابية يمكن أن تمثل جميع الوظائف الذهنية التي يؤديها الدماغ. وكما سيتضح من المناقشات التالية، فقد اختفت فكرة “الحدس” غير القابل للحوسبة (1938) من فكر تورينغ، واستُبدِل بأفكار جديدة تقع جميعها في عالم الحوسبة. يظهر هذا التغيير حتى في النشرة التقنية لـ (تورينغ 1946)، حيث أشار تورينغ إلى إمكانية صنع آلة لحساب حركات الشطرنج، ثم تابع:

هذا … يثير السؤال “هل يمكن للآلة أن تلعب الشطرنج؟” يمكننا بسهولة -إلى حد ما- أن نُمكِّن الآلة أن تلعب الشطرنج بمستوى مُتدني؛ قلتُ “متدني” لأن لعبة الشطرنج تتطلب ذكاءً. وكما أوضحت سابقًا… يجب التعامل مع الآلة على أنها خالية تمامًا من الذكاء. ومع ذلك، هناك مؤشرات على أنه من الممكن أن تُظهر الآلة شيئًا من الذكاء مع تقبل المخاطرة بارتكابها لأخطاء جسيمة في بعض الأحيان. بمواصلة العمل يمكننا صناعة آلة قادرة على لعب الشطرنج بمستوى جيد جدًا.

تتضح إشارته المربكة إلى “الأخطاء” من خلال حديث قدمه تورينغ بعد عام (تورينغ 1947)، حيث ترتبط مسألة الأخطاء بمسألة أهمية إدراك صحة العبارات غير القابلة للبرهنة صوريًّا.

… أود القول أنه يجب أن نسمح للآلة أن تلعب بشكل مقبول. فبدلاً من عدم تقديمها لأي استجابة، يمكننا تهيئتها لتقديم استجابات خاطئة في بعض الأحيان؛ فعالم الرياضيات البشري قد يرتكب أخطاء فادحة أيضًا عند تجربة بعض التقنيات الجديدة… بعبارة أخرى، إذا كان من المتوقع أن تكون الآلة معصومة من الخطأ، فلا يمكن أن تُسمى ذكية أيضًا. هناك العديد من المبرهنات الرياضية التي تنص على ذلك بالتحديد. لكن هذه المبرهنات لا تقول شيئًا عن مقدار الذكاء الذي يمكن إظهاره إذا لم تقم الآلة بالتظاهر بالعصمة.

كانت وجهة نظر تورينغ في فترة ما بعد الحرب هي أن علماء الرياضيات يرتكبون الأخطاء، وبالتالي لا يرون الحقيقة واقعيًّا بشكل معصوم من الخطأ. بمجرد قبول احتمال الأخطاء، تصبح مبرهنة غودل غير ذات صلة. يطبق علماء الرياضيات وأجهزة الحاسب الآلي على حد سواء العمليات الحسابية في مسألة الحكم على صحة التوكيدات؛ بالتالي سيخطئ كلاهما في بعض الأحيان، بما أن عملية إدراك الصوابية كما هو معروف غير قابلة للحوسبة، إلا أنه لا وجود لسبب يجعل الحاسب الآلي بحاجة لفعل ما هو أسوأ من عالم الرياضيات. هذه الحجة لا تزال حية إلى حد كبير. مثلاً، يؤيد ديفيس (2000) وجهة نظر تورينغ ويهاجم بنروز (1989، 1990، 1994، 1996) الذي يجادل ضد أهمية الخطأ البشري على أساس التفسير الأفلاطوني للرياضيات.

كما سعى تورينغ بصورة بناءة إلى التساؤل عن كيفية تصنيع أجهزة حاسب آلي لغرض أداء عمليات لا تبدو أنها “آلية” (لاستخدام لغة شائعة). كان مبدأه الذي يوجه أفكاره هو اعتقاده بإمكانية محاكاة عمل دماغ الإنسان. في تقرير غير منشور (تورينغ 1948)، أوضح تورينغ أن السؤال هو في كيفية محاكاة “المبادرة” و “الانضباط”، وهو ما يمكن مقارنته بالحاجة إلى “الحدس” وللبراعة الميكانيكية التي أعرب عنها في دراسته قبل الحرب.. أعلن عن أفكاره حول كيفية تحقيق ذلك: فقد اعتقد أن “المبادرة” يمكن أن تنشأ من الأنظمة التي لم تُصمم خوارزمياتها بوعي، ولكن تصل إليها ببعض الوسائل الأخرى. وهكذا، يبدو من حديثه هذا أنه يعتقد أن الذهن وإن لم يكن يتبع أي قاعدة أو خطة واعية، فإنه يجري بعض العمليات الحسابية.

اقترح تورينغ في هذا الصدد مجموعة من الأفكار الخاصة بالأنظمة التي يمكن اعتبارها قادرة على تعديل برامجها. تضمنت هذه الأفكار شبكات من المكونات المنطقية (آلات غير منظمة) يمكن “تدريب” خصائصها على الوظيفة المطلوبة. وبهذا، كما عبر عن ذلك Ince 1989))، تنبأ تورينغ بالشبكات العصبونية الاصطناعية Neural Networks. ومع ذلك، لم يكن لشبكات تورينغ البنية “الطبقية” للشبكات العصبونية الاصطناعية التي كان من المقرر البدء في تطويرها في خمسينيات القرن الفائت. من خلال تعبير “البحث الجيني أو التطوري”، توقع أيضًا “الخوارزميات الجينية” Genetic Algorithms التي طُوّرت في أواخر الثمانينيات كنهج أقل تنظيماً لبرامج التعديل الذاتي. لم تطور مقترحات تورينغ بشكل جيد في عام 1948، وفي الوقت التي كانت فيه أجهزة الحواسب الإلكترونية بالكاد تعمل، لم يكن من الممكن أن تُجارى أفكاره. جذب كوبلاند وبرودفوت (1996) الانتباه الجديد لأفكار تورينغ الاتصالية Connectionist، والتي جُربت منذ ذلك الحين (Teuscher 2001).

من المهم أن نلاحظ أن تورينغ قد حدد النموذج الأولي للشبكات العصبونية الاصطناعية والخوارزميات الجينية على أنها قابلة للحوسبة. يجب التأكيد على ذلك نظرًا لأن تعبير “غير خوارزمي” غالبًا ما يُستخدم بشكل مربك لعمليات الحاسب الآلي التي لم يُخطط لها بشكل صريح. في الواقع، كان طموحه واضحًا: لقد أراد تنفيذها بنفسه كبرامج على جهاز حاسب آلي. لقد استخدم (تورينغ 1948) مصطلح آلة الحوسبة العملية الشاملة Universal Practical Computing Machine (UPCM) لما يسمى الآن بالحاسوب الرقمي، فقد كتب:

يجب أن يكون من السهل عمل نموذج لأي آلة يرغب المرء في العمل عليها ضمن آلات الحوسبة العملية الشاملة (UPCM) بدلاً من الاضطرار إلى العمل مع آلة الورق كما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. وإذا قرر المرء أيضًا تطبيق “سياسات تعليمية” محددة، فيمكن أيضًا برمجتها في الآلة الشاملة نفسها. يمكن للمرء بعد ذلك السماح للنظام بأكمله بالعمل لفترة معقولة، ثم إجراء فحص، كـمعلم، لمعرفة التقدم الذي أُنجز. وقد يُحرز المرء بعض التقدم باستخدام آلات غير منظمة…

ينتج عن هذا الخط الفكري: أن جميع العمليات الذهنية هي عمليات قابلة للحوسبة، وبالتالي يمكن تحقيقها على الآلة الشاملة، أي على الحاسب الآلي. قدم تورينغ هذا الرأي بثقة متزايدة في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، مُدركًا بشكل تام أنها تمثل ما كان يستمتع بتسميته “هرطقة” بالنسبة للمؤمنين بالنفس أو الروح المتجاوزة للمادة.

لم يكن تورينغ يفكر بطريقة آلية، ولم يكن متمسكًا بالتقاليد، بل هو بعيد كل البعد عن ذلك. من بين كل الناس، كان يعرف طبيعة الأصالة والاستقلال الفردي. حتى، على سبيل المثال، عندما تصدى لمشكلة الغواصات الألمانية وشيفرة إنيجما، أعلن أنه فعل ذلك لأنه لم يكن هناك شخصًا آخر حاول التصدي لهذه المشكلات. بعيدًا عن تدريبه أو تأسيسه العلمي على تلك المشكلة، فقد تصدى لها، برغم أن الحكمة آنذاك تنص على أن يكف عن المحاولة. كذلك، لم يكن وصوله إلى أطروحة “ذكاء الآلة” نتيجة عقلية مملة أو مقيدة، أو عدم تقدير للإبداع البشري الفردي.

7. ذكاء الآلة

استمتع تورينغ بمعضلة “ذكاء الآلة”: فالتناقض كان واضحًا في المصطلحات. من المحتمل أنه كان يستمتع بهذا الموضوع بالفعل في عام 1941، وذلك بعدما قرأ كتابًا لاهوتيًا للمؤلفة دوروثي سايرز (سايرز 1941).  فقد اقتبس منه حينما حاول توضيح وعيه الكامل بأن كلمة “آلي” في اللغة الشائعة كانت تستخدم لتعني “خالٍ من الذكاء ” (تورينغ 1948). كما ذكر أنه حتى عام 1940 لم تُستخدم سوى آلات محدودة للغاية، وهذا “شجع الاعتقاد بأن الآلات كانت بالضرورة مقصورة على وظائف مباشرة للغاية، وربما حتى متكررة”. استهدف من هذا الاستنتاج تبديد هذه الدلالات الشائعة المتعلقة بكلمة آلي.

في عام 1950، ذكر تورينغ في الصفحة الأولى من دليله لمستخدمي الحاسب الخاص بجامعة مانشستر (تورينغ 1950 أ):

تهدف أجهزة الحاسب الإلكترونية إلى تنفيذ أي عملية وفق قاعدة محددة يمكن إجراؤها بواسطة عامل بشري يعمل بطريقة منضبطة ولكن غير ذكية.

هذه، بالطبع، آلة تورينغ الشاملة الذي ذكرها في عام 1936، ولكنها الآن في هيئتها الإلكترونية. من ناحية أخرى، ذكر أيضًا في ورقته الأكثر شهرة في ذلك العام (تورينغ 1950 ب، ص 460)

قد نأمل في نهاية المطاف أن تنافس الآلات الإنسان في جميع المجالات الفكرية البحتة.

كيف يمكن للذكاء أن ينشأ ويرتقي من عمليات روتينية غير واعية “بلا ذكاء تمامًا”؟ هذا هو جوهر المشكلة التي واجهها تورينغ، وتواجه أبحاث الذكاء الاصطناعي اليوم. كانت حجة تورينغ الأساسية هي أن الدماغ البشري يجب أن يكون منظمًا بطريقة تؤول إلى الذكاء، وأن تنظيم الدماغ يجب أن يكون قابلاً للتحقيق كآلة مُتناهية منفصلة Discrete-state. انكشفت تداعيات هذا الرأي في دائرة أوسع في ورقته الشهيرة “آلات الحوسبة والذكاء”، التي نُشرت في مجلة Mind في أكتوبر 1950.

تبلورت هذه الورقة، وهي أول حضور له في مجلة فلسفية (Mind)، جراء مناقشاته في جامعة مانشستر مع مايكل بولاني Michael Polanyi. وقد بدا التعاطف العام لمحرر المجلة، جيلبرت رايل Gilbert Ryle، مع وجهة نظر تورينغ.

كانت الورقة موجهة إلى عامة القراء، وقد جعل منها نهجها الجديد والمباشر واحدةً من أكثر الأوراق التي يُستشهد بها ويُعاد نشرها في أدبيات الفلسفة الحديثة. وليس من المستغرب أن المجلة قد اجتذبت العديد من الانتقادات. لم يلاحظ جميع المعلقين الشرح الدقيق لمفهوم قابلية الحوسبة الذي استفتحت به الورقة، ولا تركيزها على مفهوم الآلة الشاملة، والذي يفسر إمكانية تحقيق الوظيفة الذهنية بواسطة أي آلة متناهية منفصلة، وبالتالي تحقيق نفس النتائج عن طريق برمجة الحاسب الآلي (تورينغ 1950 ب، ص 442). (لاحظ، مع ذلك، لا يدعي تورينغ وجوب التشابه الهيكلي بين الجهاز العصبي والحاسب الآلي الرقمي).

حمَلت مقاربة تورينغ نكهة التناهي Finitistic: كانت حجته هي أن الفعل المتصل بالدماغ ليس قابلًا للحوسبة وحسب، بل قابل للتحقيق أيضًا كآلة مُتناهية، تمامًا مثل آلة تورينغ، لا تستخدم أي “شريط” على الإطلاق. في نظره، يبدو أن تحديد النطاق الكامل للوظائف القابلة للحوسبة على آلة تورينغ بشريط لا متناهٍ “ذو أهمية نظرية خاصة”؛ إذ لم يذكر، برغم أولويتها، أيٍّ من الوظائف غير القابلة للحوسبة.  كما استخدم تقديره لمحدودية الجهاز العصبي (حوالي مليار بت) ليحدد مقدار التخزين المطلوب لتتمكن آلته لمحاكاة محدودة للذكاء البشري (تورينغ 1950 ب، ص 455).

لقد اجتذبت “لعبة التقليد” لتورينغ، بظرفها ودراميتها، شهرة أكبر من شهرة أعماله الأساسية الدقيقة. صُممت حجة تورينغ لتجاوز المناقشات حول طبيعة الفكر والذهن والوعي، إلى إعطاء الملاحظة الخارجية وحدها المعيار الوحيد للحكم. برَّرَ ذلك بأن المرء يحكم على تفكير الآخرين من خلال الملاحظة الخارجية فقط، وطبق مبدأ “اللعب المعقول للآلات” مُحاججًا أن هذا الأمر يجب أن ينطبق على ذكاء الآلة. لقد صوّر وجهة النظر هذه بتجربة فكرية (والتي يمكن تجربتها بسهولة في الوقت الحاضر)، حيث يتنافس إنسان وحاسب آلي مُبرمَج على إقناع قاضٍ محايد من يكون من بينهما الإنسان، مستخدمين الرسائل النصية وحدها، فإذا فاز الحاسب الآلي في هذه اللعبة، فيجب أن يُعترف له بالذكاء.

قدم تورينغ “لعبته” بشكل مُربك ومقاربة ضعيفة: لعبة جماعية يتظاهر فيها الرجل بأنه امرأة. أدت صياغته الفضفاضة (تورينغ 1950 ب، ص 434) إلى أن بعض المعلقين افترض خطأً أن تورينغ اقترح لعبة تقليد يتعين فيها على الآلة محاكاة رجل يقلد امرأة. آخرون، مثل لاسيغ (1998)، أثقلوا الفكرة باعتبارها لعبة تظاهر جندري لها دلالاتها الحقيقية والخيالية. في الواقع، كان الهدف الأساسي من تحديد التراسل بالرسائل النصية في هذا “الاختبار” هو فصل الذكاء عن الملكات والخصائص البشرية الأخرى. ولكن يمكن القول إن هذا الارتباك يعكس مفهوم تورينغ الطموح والغني لما ينطوي عليه “الذكاء” البشري. قد يُقال أيضًا أنه بفكرته هذه كان يستعرض ذكائه الشخصي، وذلك بقلبه بين الأدوار، على طريقة الشاعر والكاتب أوسكار وايلد، فقد كان هنا يجسد هويته الجنسية المثلية، كما في الفلم Wilde (فلم حول حياة الشاعر أوسكار وايلد، 1997). عُرف تورينغ، بين أصدقائه، بأنه غالبًا ما كان يمزج بين الذكاء والفكاهة والجنس.

كان تورينغ في الواقع دقيق في نظرته لصعوبة فصل “الذكاء” عن الجوانب الأخرى للحواس والأفعال البشرية؛ فقد أورد بعض الأفكار حول روبوتات ذوي ارتباطات حسية، وطرح أسئلة حول ما إذا كان بإمكانهم الاستمتاع بالفراولة والقشدة أو الشعور بالقرابة العرقية. في المقابل، لم يعر اهتمامًا كبيرًا لمسائل الأصالة والخداع المتضمنة في اختباره، وذلك بسبب رغبته في تجاوز الأسئلة المتعلقة بحقيقة الوعي. أحد الجوانب الدقيقة لإحدى محادثاته “الذكية” المتخيلة (تورينغ 1950 ب، ص. 434) هو تخيله لحاسب آلي يحاكي الذكاء البشري بإعطاء إجابة خاطئة لمسألة حسابية بسيطة. لكن في بيئة تورينغ، ليس من المفترض أن نسأل ما إذا كان الحاسب الآلي يحاول الخداع “بوعي” بتظاهره بالانطباعات البشرية، ولا لماذا يجب أن يرغب في ذلك. هناك نقص في الجدية في هذا النهج. واجه تورينغ الآراء المنشورة لجراح الدماغ جيفرسون، فيما يتعلق بموضوع الوعي. ثم كانت الانطلاقة الجدية بعد ذلك مع آراء فتغنشتاين بشأن الذهن.

ربما يفترض مبدأ التقليد لدى تورينغ، مثل “اختبارات الذكاء” في تلك الحقبة، امتلاك الكثير من المعرفة باللغة والثقافة المشتركة للاستجوابات المتخيلة. كما أنها لم تتناول إمكانية وجود أنواع أخرى من التفكير غير قابلة للتواصل سواء أكانت لحيوانات أو لكائنات خارج الأرض.

تكمن الميزة الأكثر إيجابية لورقته في برنامجها البناء للبحث، والذي بلغ ذروته في أفكار تورينغ عن “آلات التعلم” القادرة على تعليم الآلات الصغيرة (أطفال الآلات) (تورينغ 1950 ب، ص 454). يُعتقد عمومًا (مثلًا في Dreyfus وDreyfus 1990) أن هناك عداء دائم بين البرمجة والنهج الاتصالي للشبكات العصبونية الاصطناعية. لكن تورينغ لم يعبر عن هذه الثنائية، حيث كتب أنه يجب تجربة كلا النهجين. وسم دونالد ميتشي، رائد أبحاث الذكاء الاصطناعي البريطاني الذي تأثر بعمق بالمناقشات المبكرة مع تورينغ، على هذا الاقتراح باسم “كنز ألن تورينغ المدفون”، في إشارة إلى حلقة غريبة في زمن الحرب شارك فيها ميتشي بنفسه (هودجز 1983، ص 345). ومازال السؤال مطروحًا ومهمًا.

كما أن هناك رأي شائع يتمثل في أن أفكار الذكاء الاصطناعي لم تتبادر سوى للرواد في الخمسينيات من القرن الماضي بعد نجاح أجهزة الحاسب الآلي في العمليات الحسابية الكبرى. من الصعب أن نفهم سبب إغفال عمل تورينغ، الذي كان متجذرًا منذ البداية في مسألة ميكنة الذهن. وبسبب إخفاقه في نشر وترويج أعماله كتلك التي عمل عليها في عام 1948 فقد خسر الاعتراف والتأثير إلى حد كبير.

من الغريب أيضًا أن تُنشر ورقة تورينغ الأكثر شهرة في مجلة فلسفية؛ إذ يُقال إن تورينغ، وهو الملتزم دائمًا بالتفسير المادي، لم يكن في الحقيقة فيلسوفًا على الإطلاق. كان تورينغ عالم رياضيات، وما كان عليه أن يقدمه للفلسفة يكمن في إلقاء الضوء ضمن مجالها بما اكتشف في الرياضيات والفيزياء. في عام 1950، كانت مادته سطحية بشكل مدهش، بصرف النظر عن عمله الأساسي على مفهوم الحوسبة. فقد قدم تأكيده على كفاية قابلية الحوسبة لتوضيح عمل الذهن كفرضية أو كبيان أكثر من كونه جدلاً مفصّلاً، لقد صاغ فرضيته هكذا (تورينغ 1950 ب ، ص 442):

… أعتقد أن في نهاية القرن، سيكون استخدام الكلمات والآراء العامة المكتسبة بالتعليم قد تغير كثيرًا بحيث يمكن للمرء أن يتحدث عن موضوع تفكير الآلات دون اعتراض. كما أعتقد أن إخفاء هذه المعتقدات لن يخدم أي هدف مهم. إن الرأي السائد بأن العلماء ينتقلون بلا هوادة من حقيقة ثابتة إلى حقيقة ثابتة أخرى، ولا يتأثرون أبدًا بأي تخمين غير مبرهن، هو وجهة نظر خاطئة تمامًا. التخمينات الحدسية ذات أهمية كبيرة لأنها تقترح خطوط بحث مفيدة، ولن ينتج عن ذلك ضرر؛ بشرط أن تُميَّز الحقائق المبرهنة عن التخمينات.

يرى بنروز (1994، ص 21)، بعد أن تفحص تخمينات تورينغ، ومقدمًا رأيه في “أطروحة تورينغ”:

من المحتمل أنه (تورينغ) يرى أن أي إجراء مادي بشكل عام -والذي يتضمن أعمال الدماغ البشري- يمكن اختزاله، دائمًا، إلى إجراء في آلة من نوع آلة تورينغ.

إن العبارة القائلة بأن جميع الإجراءات المادية قابلة للحوسبة في الواقع تتجاوز كلمات تورينغ الصريحة، لكنها توصيف مشروع لافتراضاته الضمنية في ورقته (1950). إن دراسة تورينغ لـ “حجة الاستمرارية في الجهاز العصبي”، بوجه خاص، تؤكد ببساطة أن النظام الفيزيائي للدماغ يمكن تقريبه بالقدر الممكن بواسطة برنامج حاسب آلي (تورينغ 1950 ب، ص 451). بالتأكيد لا يوجد شيء في أوراق تورينغ في الفترة ما بين 1945-1950 يتعارض مع تفسير بنروز. تتضمن الأوراق المبكرة (تورينغ 1947، 1948) الأكثر تقنية على تعليقات واسعة النطاق حول العمليات الفيزيائية، لكنها لا تشير إلى إمكانية أن تكون النتائج الفيزيائية غير قابلة للحوسبة.

بشكل خاص، خُصص قسمٌ من ورقته (تورينغ 1948) لتصنيف عام “للآلات”. أعطت الفترة بين 1937 و1948 تورينغ خبرة أكبر بكثير في مجال الآلات الفعلية مما كان عليه في عام 1936، وقد عكست ملاحظاته التي قدمها فيما بعد الحرب هذه الخبرة. بطريقة واقعية، ميَّز تورينغ بين آلة “التحكم” والآلة “العاملة”، حيث يمثِّل للأخيرة بـ”الجرافة”. من الطبيعي أن تكون الآلة الأولى (آلة التحكم) – بالمصطلحات الحديثة: “الآلية القائمة على المعلومات” – هي محط اهتمام تحليل تورينغ. من الجدير بالذكر أنه في عام 1948 كما في عام 1936، برغم معرفته بالفيزياء، لم يذكر تورينغ كيف يمكن لميكانيكا الكم أن تؤثر على مفهوم “التحكم”. ظل مفهومه عن “التحكم” بالكامل ضمن الإطار الكلاسيكي لآلة تورينغ (التي أطلق عليها في بحثه اسم آلة الحوسبة المنطقية Logical Computing Machine).

ميَّز القسم نفسه من ورقته (تورينغ 1948) أيضًا بين الآلات المنفصلة Discrete والمتصلة Continuous، ممثلاً للأخيرة بـ “الهاتف” كآلة تحكم متصلة. لقد سلط الضوء على صعوبة اختزال الفيزياء المتصلة إلى النموذج المنفصل لآلة تورينغ، وعلى الرغم من الاستشهاد بـ “الدماغ” كآلة متصلة، فقد ذكر أنه يمكن التعامل معها على الأرجح على أنها منفصلة. ولم يشر إلى أن التواصلية المادية تهدد الدور الأساسي للحساب الآلي. في الواقع، هدف من ورقته (تورينغ 1947) الترويج للحاسب الآلي الرقمي باعتباره أقوى من الآلات التناظرية، كالمحلل التفاضلي. عندما ناقش هذه المقارنة، قدم النسخة غير الصورية التالية من أطروحة تشرتش-تورينغ Church-Turing:

كان أحد استنتاجاتي أن فكرة عملية “القاعدة العامة” و “العملية الآلية” كانتا مترادفتين. تعني عبارة “عملية الآلة” بالطبع عملية يمكن تنفيذها بواسطة نوع الآلة التي كنت أفكر فيها [أي آلة تورينغ]

لم يعط تورينغ أي تلميح إلى أن صفة الانفصال في آلته ستشكل قيدًا حقيقيًا، أو أن العمليات غير المنفصلة للآلات التناظرية قد تكون ذات أهمية عميقة.

قدم تورينغ أيضًا فكرة “العناصر العشوائية”، لكن أمثلته (باستخدام أرقام من ط) أظهرت أنه يعتبر التسلسلات العشوائية الزائفة (أي التسلسلات القابلة للحوسبة ذات الخصائص “العشوائية” المناسبة) مقبولة جدًا لمناقشته. لم يقدم أي اقتراح بأن العشوائية تعني شيئًا غير قابل للحوسبة، وفي الواقع لم يقدم أي تعريف لمصطلح “عشوائي”. ربما يكون هذا مفاجئًا في ضوء حقيقة أن عمله في الرياضيات البحتة والمنطق والتشفير أعطاه دافعًا كبيرًا للتعامل مع هذا السؤال على مستوى جدي.

8. عمل غير مكتمل

منذ عام 1950 عمل تورينغ على نظرية رياضية جديدة في مجال التشكل الحيوي Morphogenesis، تستند إلى إظهار نتائج المعادلات غير الخطية للتفاعل والانتشار الكيميائيين (تورينغ 1952). كان رائدًا في استخدام الحاسب الآلي لهذا العمل. أشار بعض المُعلقين إلى هذه النظرية على أنها تأسيس للحياة الاصطناعية ((A-life، إلا أنه وصف مضلل، لا يناسب الأهداف التي قصدها من نظريته، كما رواها تورينغ في مواجهة حجة التصميم. اهتم مجال الحياة الاصطناعية منذ ثمانينيات القرن الماضي باستخدام أجهزة الحاسب الآلي بهدف استكشاف النتائج المنطقية للنظرية التطورية دون القلق بشأن الأشكال الفسيولوجية المحددة. يعتبر مجال التشكل الحيوي مكملًا في هذا الإطار عبر إيجاد المسارات الفسيولوجية التي يمكن للتطور استغلالها. طوَّر آخرون أعمال تورينغ في السبعينيات، والآن يُنظر إليها على أنها أعمال محورية في هذا المجال.

قد يكون السبب وراء اهتمام تورينغ بالتشكل الحيوي هو دهشته الطفولية الأولى من كيفية تَخلُّق النباتات والزهور. ولكن في تطور متأخر آخر، عاد تورينغ إلى المحفزات الأخرى لشبابه؛ لأنه في عام 1951، نظر تورينغ للمشكلة، التي تم تجنبها حتى الآن، وهي تحديد قابلية الحوسبة في سياق فيزياء ميكانيكا الكم. في حديث عبر راديو بي بي سي بذلك العام (تورينغ 1951) ناقش الأساس التحضيري لورقته البحثية التي قدمها في عام 1950، ولكن هذه المرة تعامل بشكل أقل تأكيدًا مع توظيف لمبرهنة غودل كحجةٍ لطرحه، وفي هذه المرة، أيضًا، أشار إلى فيزياء ميكانيكا الكم الكامنة وراء الدماغ. بتطبيقها على الدماغ، وصف تورينغ خاصية الآلة الشاملة وأكد أن قابليتها للتطبيق تتطلب أن تكون الآلة المراد تقليد سلوكها…

… يجب أن تكون من النوع الذي يمكن التنبؤ بسلوكها من حيث المبدأ عن طريق الحساب. نحن بالتأكيد لا نعرف كيفية إجراء أي حساب من هذا القبيل، وقد جادل السير آرثر إدينجتون أنه بسبب مبدأ عدم التحديد في ميكانيكا الكم، فلا يمكننا من الناحية النظرية أيضًا حساب هذا التنبؤ.

لفت كوبلاند (1999) الانتباه إلى هذه الجملة في مقدمة حديثه في عام 1951. ومع ذلك، يشير السياق النقدي لكوبلاند إلى بعض الارتباط مع آلة “أوراكل”. واقعًا لا يوجد أي ذكر لأوراكل هنا، ولا في أي مكان في مناقشات تورينغ بعد الحرب حول الذهن والآلة. يناقش تورينغ هنا احتمالية ذلك؛ فعندما يُنظر إليها على أنها آلة كمومية وليست آلة كلاسيكية، فإن نموذج آلة تورينغ لن تكون مناسبة. لم يكن الارتباط بآلة أوراكل متضمنًا في ورقة تورينغ التي أصدرها في عام 1938، والمؤسسة على المنطق الترتيبي، بل بمعرفته بميكانيكا الكم التي اكتسبها من إدينجتون وفون نيومان في شبابه. في الواقع، وفي تكهنات مبكرة، متأثرًا بإيدنجتون، اقترح تورينغ أن فيزياء ميكانيكا الكم يمكن أن تُقدم أساسًا لمفهوم الإرادة الحرة (Hodges 1983، p. 63). تتضمن بديهيات فون نيومان لميكانيكا الكم عمليتين: التطور الأحادي لوظيفة الموجة، وهو أمر يمكن التنبؤ به، وعملية القياس أو الاختزال، التي لا يمكن التنبؤ بها. لذلك كان يجب أن تشير إشارة تورينغ إلى عدم القدرة على التنبؤ بالرجوع لعملية الاختزال. تكمن الصعوبة الأساسية في أنه حتى يومنا هذا لا توجد نظرية متفق عليها أو مقنعة حول متى أو كيف تحدث عملية الاختزال واقعيًّا. (تجدر الإشارة إلى أن “الحوسبة الكمومية” بالمعنى الحديث المعياري، تستند إلى إمكانية التنبؤ بالتطور الأحادي، ولا تتطرق حتى الآن إلى مسألة كيفية حدوث الاختزال). يبدو أن هذه الجملة المنفردة تشير إلى بداية مجال جديد من الدراسة لدى تورينغ في أسس ميكانيكا الكم. في عام 1953، كتب تورينغ لصديقه وطالبه روبن غاندي Robin Gandy أنه “كان يحاول ابتكار ميكانيكا كم جديدة لكنه لم يفلح”.

عند وفاة تورينغ في يونيو 1954، أبلغ غاندي في رسالة إلى نيومان عما يعرفه عن عمل تورينغ حينها (غاندي 1954). كتب عن تورينغ بعد أن ناقش مشكلة فهم عملية الاختزال، فيما أسماه:

… “مفارقة تورينغ”؛ باستخدام النظرية القياسية، من السهل استنتاج أنه إذا بدأ النظام من حالة ذاتية Eigenstate لما يمكن ملاحظته، وأجريت قياسات عليها لعدد من المرات (ن) في الثانية، ثم، وإن لم تكن الحالة ثابتة، فإن تقدير احتمال أن النظام سيكون في نفس الحالة، لنقل بعد ثانية واحدة، سيؤول إلى الواحد عندما تؤول (ن) إلى المالانهاية؛ أي أن الملاحظة المستمرة ستمنع الحركة. لقد تصديت مع آلان [تورينغ] بالإضافة إلى واحد أو اثنين من علماء الفيزياء لهذه النظرية، وقد أُستخف بالفكرة بحجة إن المراقبة المستمرة غير ممكنة. ولكن الكتب القياسية (ككتب ديراك) لا يوجد بها شيء حول هذه النتيجة، بحيث تُظهر المفارقة على الأقل، وكالعادة، عدم كفاية نظرية الكم.

تكتسب تحقيقات تورينغ أهمية إضافية في ضوء تأكيد بنروز (1989، 1990، 1994، 1996) بأن عملية الاختزال يجب أن تتضمن شيئًا غير قابل للحوسبة. ربما كان تورينغ يهدف إلى عكس هذه الفكرة، وهي إيجاد نظرية لعملية الاختزال تكون تنبؤية وقابلة للحوسبة، وبالتالي سد الفجوة في فرضيته القائلة بأن عمل الدماغ قابل للحوسبة. مع ذلك، فإن تورينغ وبنروز كانا متشابهين في هذه الرؤية باعتبارها سؤالًا مهمًا يؤثر على افتراض أن كل الإجراءات الذهنية قابلة للحوسبة؛ كما كانا مختلفين مع وجهة النظر السائدة التي لا تعطي هذا التساؤل سوى القليل من الأهمية.

وسم تورينغ آخر بطاقاته البريدية التي أرسلها إلى روبن غاندي، في مارس 1954، بعنوان “رسائل من العالم غير المرئي” في إشارة إلى إدينجتون، ألمح فيها إلى أفكار جديدة في مجال الفيزياء الأساسية للنسبية وفيزياء الجسيمات (Hodges 1983، ص 512). أوضحت البطاقات مدى ثروة الأفكار التي اهتمَّ بها في تلك المرحلة الأخيرة من حياته، وبرغم أهمية هذه التلميحات إلا أن البطاقات قد فُقدت جميعها. قدم هودجز مراجعة لهذه الأفكار المفقودة (Hodges 2004) كجزء من مجلد أكبر عن تُراث تورينغ (Teuscher 2004).

9. ألن تورينغ: الذهن المغمور

من المؤسف أن تورينغ لم يكتب المزيد عن فلسفته الأخلاقية ونظرته للعالم. كطالب، كان معجبًا بمسرحيات برنارد شو، كما كان يعبر لأصدقائه بكل صراحة عما هو مضحك ومحبط من مواقفه العصيبة. ومع ذلك، كان أقرب ما توصل إليه من الكتابة الشخصية الجادة، بصرف النظر عن التعليقات العرضية في الرسائل الخاصة، هو كتابة قصة قصيرة عن أزمته في عام 1952 (Hodges 1983، ص 448). كانت آخر سنتين له مليئة بشكل خاص بالدراما الشافية Shavian drama والمفارقة الوايلدية Wildean irony. كتب مرةً في رسالة (إلى صديقه نورمان روتليدج؛ الرسالة موجودة الآن في أرشيف تورينغ في كلية الملك بكامبريدج):

تورينغ يعتقد أن الآلات تفكر

تورينغ يواطئ الرجال

لذلك الآلات لا تفكر

إن الإشارة المنطقية إلى سقراط لا لبس فيها، وقد تكون وفاته، مع السيانيد بدلاً من الشوكران إشارة إلى شيء مشابه. عانى روبرت أوبنهايمر، المعاصر لتورينغ في الحرب العالمية الثانية، من تشويه سمعته خلال الأسبوع نفسه الذي توفي فيه تورينغ. كلاهما جمعتهما أنقى المشاريع العلمية والتطبيقات العلمية الأكثر فعالية في الحرب. كان ألن تورينغ أكثر مباشرة في تقبل العلم، عندما عُومل مع فكره الجنسي كآلة في مقابل وعيه المحتج وإرادته. لكنه وسط كل هذه الدراما الإنسانية، لم يترك سوى القليل ليقوله عما يعتقده حقًا عن نفسه وعن علاقته بعالم المجريات البشرية.

لم يتوافق ألن تورينغ بسهولة مع أي من الحركات الفكرية في عصره، سواءً الجمالية أو التكنوقراطية أو الماركسية. في خمسينيات القرن الماضي، اجتهد المعلقون للعثور على كلمات مخبأة بين طيات كلماته لتصنيفه كأحد العلماء المؤمنين بقدسية الحياة البشرية (ذو ميل “شيلي” علميًّا Scientific Shelley)، أو المتمسكين بالنزاهة الأخلاقية. حتى السبعينيات، كانت حقيقة حياته لا تُذكر. فمازال يصعب وضعه ضمن فكر القرن العشرين. لقد أجلَّ تورينغ العِلمَ الذي رآه الوجوديون أنه سلب المعنى من الحياة. كان الشخصية الأكثر أصالة، والأكثر إصرارًا على الحرية الشخصية، تمتع بهما للحد الذي جعله عرضة للميكنة. مازال فكر ألن تورينغ لغزًا حتى يومنا هذا!

إلا أن هذا اللغز يبدو أن القرن الحادي والعشرين ينجذب إليه بشكل متزايد. شهد عامه المئوي 2012 العديد من المؤتمرات والمنشورات والفعاليات الثقافية التي أقيمت على شرفه. بعض أسباب هذا الانفجار في الاهتمام به واضحة: الأول هو أن مسألة قوة وقيود الحوسبة متواجدة حاليًّا في كل مجال من مجالات الأنشطة البشرية تقريبًا. والسبب الآخر هو أن قضايا الميول الجنسية قد اكتسبت أهمية جديدة في الديموقراطيات الحديثة. وبصورة أدق، فإن النطاق متعدد التخصصات لعمل تورينغ أصبح الآن موضع تقدير بشكل أفضل. كان من المعالم البارزة في فترة الذكرى المئوية نشر أعمال ألن تورينغ وآثاره (محرران: Cooper and van Leeuwen، 2013)، الأمر الذي وفر جميع أجزاء أعمال تورينغ العلمية تقريبًا، مع ثروة من التعليقات الحديثة. في هذا المناخ الجديد، أُوليَ اهتمام حديث لأعمال تورينغ التي لم تحظ بشهرة كافية، وأُلقى ضوء جديد على إنجازاته. لقد خرج من الغموض ليصبح أحد أكثر الشخصيات التي دُرست بشكل مكثف في العلوم الحديثة.

المراجع

مُختارات من أعمال تورينغ

  • ·       1936, ‘On computable numbers, with an application to the Entscheidungsproblem’, Proc. London Maths. Soc. (Series 2), 42: 230–265; also in Davis 1965 and Gandy and Yates 2001; [Available online].
  • 1939, ‘Systems of logic defined by ordinals’, Proc. Lond. Math. Soc., Ser. 2, 45: 161–228; This was Turing’s Ph.D. thesis, Princeton University (1938), published as Alan Turing’s systems of logic: The Princeton thesis, A. W. Appel (ed.), Princeton: Princeton University Press, 2012; also in Davis 1965 and in Gandy and Yates 2001.
  • 1946, Proposed Electronic Calculator, report for National Physical Laboratory, Teddington; published in A. M. Turing’s ACE report of 1946 and other papers, B. E. Carpenter and R. W. Doran (eds.), Cambridge, Mass.: MIT Press, 1986; also in Collected Works (Volume 1).
  • 1947, ‘Lecture to the London Mathematical Society on 20 February 1947’, in A. M. Turing’s ACE report of 1946 and other papers, B. E. Carpenter and R. W. Doran (eds.), Cambridge, Mass.: MIT Press, 1986; also in Collected Works (Volume 1).
  • 1948, ‘Intelligent Machinery’, report for National Physical Laboratory, in Machine Intelligence 7, B. Meltzer and D. Michie (eds.) 1969; also in Collected Works (Volume 1).
  • 1950a, Programmers’ Handbook for the Manchester Electronic Computer, Manchester University Computing Laboratory. [Available online in PDF].
  • 1950b, ‘Computing machinery and intelligence’, Mind, 50: 433–460; also in Boden 1990, Collected Works (Volume 1), and [Available online].
  • 1951, BBC radio talk, in The Essential Turing, B. J. Copeland (ed.), Oxford: Clarendon Press, 2004.
  • 1952, ‘The chemical basis of morphogenesis’, Phil. Trans. R. Soc. London B 237: 37–72; also in The Collected Works of A. M. Turing: Morphogenesis, P. T. Saunders (ed.), Amsterdam: North-Holland, 1992.

تتكون الأعمال المجمعة لألن تورينغ من أربع مجلدات:

  • Volume 1: Mechanical Intelligence, D.C. Ince (ed.), Amsterdam: North-Holland, 1992.
    • Volume 2: Morphogenesis, P. T. Saunders (ed.), Amsterdam: North-Holland, 1992.
    • Volume 3: Pure Mathematics, J. L. Britton (ed.), Amsterdam: North-Holland, 1992.
    • Volume 4: Mathematical Logic, R. O. Gandy and C. E. M. Yates, Amsterdam: North-Holland, 2001.

يضم العمل التالي المؤلف من مجلد واحد على الكثير من الأعمال المجمعة ويضيف تعليقًا حديثًا موسعًا لها:

  • Alan Turing, his work and impact, S. B. Cooper and J. van Leeuwen (eds.), Amsterdam: Elsevier, 2013.

كتابات أخرى

  • Boden, M. (ed.), 1990, The Philosophy of Artificial Intelligence, Oxford: Oxford University Press.
  • Church, A., 1937, Review of Turing 1936–7, Journal of Symbolic Logic, 2: 42.
  • –––, 1940, ‘On the concept of a random sequence’, Bull. Amer. Math. Soc., 46: 130–135.
  • Copeland, B. J., 1998, ‘Turing’s o-machines, Searle, Penrose and the brain’, Analysis, 58(2): 128–138.
  • –––, 1999, ‘A lecture and two radio broadcasts on machine intelligence by Alan Turing’, in Machine Intelligence 15, K. Furukawa, D. Michie, and S. Muggleton (eds.), Oxford: Oxford University Press.
  • ––– (ed.), 2004, The Essential Turing, Oxford: Clarendon Press.
  • Copeland, B. J. and D. Proudfoot, 1996, ‘On Alan Turing’s anticipation of connectionism’, Synthese, 108: 361–377.
  • Davies, E. B., 2001, ‘Building infinite machines’, British Journal for the Philosophy of Science, 52 (4): 671–682.
  • Davis, M., 2000, The Universal Computer, New York: Norton.
  • ––– (ed.), 1958, Computability and Unsolvability, New York: McGraw-Hill; New York: Dover (1982).
  • ––– (ed.), 1965, The Undecidable, New York: Raven.
  • Dawson, J. W., 1985, Review of Hodges (1983), Journal of Symbolic Logic, 50: 1065–1067.
  • Deutsch, D., 1985, ‘Quantum theory, the Church-Turing principle and the universal quantum computer’, Proc. Roy. Soc. A, 400: 97–115.
  • Diamond, C. (ed.), 1976, Wittgenstein’s Lectures on the Foundations of Mathematics, Cambridge, 1939, Hassocks: Harvester Press.
  • Dreyfus, H. L. and S. E. Dreyfus, 1990, ‘Making a mind versus modelling the brain: artificial intelligence back at a branch-point’, in Boden 1990.
  • Feferman, S., 1988, ‘Turing in the Land of O(Z)’, in (Herken 1988); also in Gandy and Yates (eds.) 2001.
  • Feynman, R. P., 1982, ‘Simulating physics with computers’, Int. Journal of Theoretical Physics, 21: 467–488.
  • Gandy, R. O., 1954, Letter to M. H. A. Newman, in Gandy and Yates, 2001.
  • –––, 1980, ‘Principles of Mechanisms’, in The Kleene Symposium, J. Barwise, H. J. Keisler and K. Kunen (eds.), Amsterdam: North-Holland.
  • –––, 1988, ‘The confluence of ideas in 1936’, in Herken 1988.
  • Gandy, R. O. and C. E. M. Yates (eds.), 2001, The Collected Works of A M. Turing: Mathematical Logic, Amsterdam: North-Holland.
  • Gödel, K., 1946, ‘Remarks before the Princeton Bicentennial Conference on problems in mathematics’, in Davis 1965.
  • Herken R., (ed.), 1988, The Universal Turing Machine: A Half-Century Survey, Berlin: Kammerer und Unverzagt; Oxford: Oxford University Press.
  • Hodges, A., 1983, Alan Turing: the Enigma, London: Burnett; New York: Simon & Schuster; London: Vintage, 1992, 2012; Princeton University Press, 2012.
  • –––, 1997, Turing, a natural philosopher, London: Phoenix; New York: Routledge (1999); included in The great philosophers, R. Monk and F. Raphael (eds.), London: Weidenfeld and Nicolson (2000).
  • –––, 2004, What would Alan Turing have done after 1954, in Alan Turing: life and legacy of a great thinker, C. Teuscher (ed.), Berlin: Springer Verlag.
  • –––, 2006, Review of Copeland 2004, Notices of the American Mathematical Society, 53: 1190–1199.
  • Ince, D. C., 1989, Preface to Turing 1948, in Ince (ed.) 1992.
  • Lassègue, J., 1998, Turing, Paris: les Belles Lettres.
  • Minsky, M. L., 1967, Computation: Finite and Infinite Machines, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall.
  • Newman, M. H. A., 1955, ‘Alan Mathison Turing’, Biographical memoirs of the Royal Society (1955), 253–263.
  • Penrose, R., 1989, The Emperor’s New Mind, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1990, Précis of The Emperor’s New MindBehavioral and Brain Sciences, 13: 643–655.
  • –––, 1994, Shadows of the Mind, Oxford: Oxford University Press.
  • ––– 1996, ‘Beyond the doubting of a shadow: A Reply to Commentaries on Shadows of the Mind’, in Psyche: An Interdisciplinary Journal of Research on Consciousness, Volume 2.
  • Sayers, D., 1941, The Mind of the Maker, London: Methuen.
  • Teuscher, C., 2001, Turing’s Connectionism, London: Springer-Verlag UK.
  • ––– (ed.), 2004, Alan Turing: Life and Legacy of a Great Thinker, Berlin: Springer-Verlag.
  • Turing, E. S., 1959, Alan M. Turing, Cambridge: Heffers; republished by Cambridge University Press, 2012.
  • von Neumann, J., 1945, ‘First draft of a report on the EDVAC’, University of Pennsylvania; first printed in N. Stern, From Eniac to Univac: an appraisal of the Eckert-Mauchly machines, Bedford MA: Digital Press, 1981.
  • Whitemore, H., 1986, Breaking the Code, London: S. French.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

Church-Turing Thesis | computing: modern history of | connectionism | quantum theory: philosophical issues in | Turing machines

Hodges, Andrew, “Alan Turing”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2019 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2019/entries/turing/>.