مجلة حكمة
حنة آرندت

حنة آرندت والتحليل النفسي السياسي – بول روزون / ترجمة: سارة اللحيدان، يوسف الصمعان

الفصل الحادي عشر من كتاب (الأسس الثقافية في التحليل النفسي السياسي)
الفصل الحادي عشر من كتاب (الأسس الثقافية في التحليل النفسي السياسي)

يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط


واصلت سمعة حنة آرنـدت الصعود دون توقف تقريبًا منذ وفاتها عام 1975م. المجلد الضخم لرسائلها مع معلمها القديم كارل ياسبرز[1]، ماهو إلا امتداد لرسائلها المتوفرة. وخرجت بالإضافة لذلك، الكتب المكونة من نماذج عرضية[2]، وغدا الأدب الثانوي حول آرندت ضخمًا بشكل مروع[3]. وبالأساس عُرفت في حياتها عبر كتاب: «أسس التوتاليتارية ـ The Origins of Totalitarianism م1951»، ونشرت كذلك بعضًا من المؤلفات الملفتة. لن أنسى جدلها المتفجر في مقالها المنشور في Dissent شتاء 1959 «تأملات على ليتل روك»(*) والذي يبدو أنه صيغ ضد الرئيس آيزنهاور، إلى جانب المحافظ فوبوس، كما وضحت تحفظها حول تفويض المحكمة بإلغاء الفصل العنصري في المدارس. ولا شيء يمكن أن يوازي عاصفة الغضب التي فجرها كتاب «آيخمان في القدس Eichmann in Jerusalem» عام 1963م، والذي ظهر في البداية عبر صحيفة: «النيويوركر»، وقد عنونت تفسيرها لمحاكمة آيخمان بـ «تقرير عن تفاهة الشر»، الأمر الذي جعل بقاءها في الذاكرة أمر حتمي. أعتقد أن القليل منا يمكن أن ينازع في حقها بأن تكون من بين أهم المنظِّرين السياسيين للقرن الماضي. (بعد وفاتها ميَّزها السير إيزايا برلين، في مسح مجلة: «TLS» كأحد المفكرين المبالغ في تقديرهم، وسوف نعود لمنشأ الاختلاف بين آرندت وبرلين).

استمرت مكانة آرندت ترتفع بين الأكاديميين، وانخفضت في المقابل مكانة كارل ياسبرز في أوقات حرجة وصعبة. رغم أنه تدرب كطبيب نفسي، وكتب مرجعًا خالدًا في علم الأمراض النفسية، وقد طبع عدة مرات، لكنه لايزال مع ذلك لم يعط حقه كاملًا، واقتصر موقفه في هذا المجال على المتخصصين في تاريخ الطب النفسي، الذين لم ينجحوا حتى الآن في أن يشرحوا لعامة القراء لماذا يهمنا ياسبرز اليوم. كتب ياسبرز مجموعة من الكتب الأخرى عن تاريخ الفلسفة بالإضافة إلى مواضيع أخرى مثل: «إثم حرب ألمانيا»، لكنه كشخصية رمزية لم تكن له تلك الهيمنة داخل تقليد الفكر العالمي التقليدي.

مثلما اتضح في الرسائل بين آرندت وياسبرز، بدا وأنها تكن له أقصى احترام وتبجيل. ظنّ محررو مراسلات آرندت ـ ياسبرز أن ياسبرز كان أحد اثنين من «الممثلين الرئيسين للفلسفة الوجودية»، والتي نشأت في ألمانيا عام 1920م ـ وكان الآخر مارتن هايدغر. لكن هايدغر استمر بجذب الانتباه أكثر من ياسبرز. قد يعزى نجاح هايدغر على الأقل إلى مساعدة آرندت بتعزيزه، فقد كانت متنكرة جزئيًا من ياسبرز، ووجهت التزامها نحو هايدغر. بدأت الرسائل بين آرندت وياسبرز عام 1926م وانتهت بموته عام 1969م. قامت آرندت بتصحيح انعكاس نهج مفهوم العصر العتيق على ياسبرز، وكيف أن المعلم والتلميذ يجب أن يكون بينهما ترابط. لكن أحدهما كان يولي اهتمامًا خاصًا لكل مناسبة يظهر فيها اسم هايدغر هنا. ليس لأن الشابة آرندت كانت مرتبطة عاطفيًا مع هايدغر فقط (والذي كان متزوجًا ولديه طفلين)، ولكن المراسلات التي قاموا بتبادلها قد صدرت في وقت متأخر. جدّدت آرندت الأنس بهايدغر عقب الحرب العالمية الثانية، بصرف النظر عن كونه عضوًا في الحزب النازي حتى عام 1945م، وعندما شاهدت هايدغر بعد الحرب لم تخبر ياسبرز أي شيء حول اللقاء، والذي بدا صادمًا أكثر لأنهما بحثا مشكلة هايدغر وتوجهه السياسي المؤسف وارتباطه بالفلسفة.

مصير ألمانيا، كثقافة وبلاد، هي الموضوع الوحيد الملفت في رسائل آرندت وياسبرز. وهي التي هربت من موطنها الأصل بعد مدة قصيرة من سيطرة القوة النازية، وقضت بعد ذلك سنوات عديدة بلا جنسية حتى أصبحت أميركية عام 1951م. تزوج ياسبرز من يهودية وبقي في ألمانيا خلال الحرب، بعد ذلك غادر إلى بازل، في سويسرا. أظهرت آرندت اهتمامًا مبكرًا بقضايا اليهود، رغم أن أطروحتها كانت عن القديس أوغسطين.

 

  • قبل الهجرة إلى الولايات المتحدة

قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1941م، عملت آرندت لمنظمة صهيونية في باريس، واستولت صدمة هتلر على جل تفكيرها مثلما حصل لرفاقها اليهود، وجعلت المشكلة اليهودية نقطة مركزية لتفكيرها.

ليس كما حصل في القرون الماضية عندما كان من الممكن أن تظهر الدولة كعدو للحرية الإنسانية، استنتجت آرندت أن تفرد أحداث القرن العشرين، هو المدى الذي أصبحت فيه السياسة المصدر الأساسي للحرية. كانت اللاجنسية ظاهرة فقط في الآونة الأخيرة، وقادت التجربة آرندت إلى تقدير ليس فقط ما خسرته في ألمانيا، ولكن ما حصلت عليه لاحقًا كمواطنة في أميركا. كانت هي وياسبرز ـ بصرف النظر عن المرارة التي مروا بها ـ في أوقات تطورات معينة في الولايات المتحدة ـ مقتنعين أن أميركا قد حفظت مصدر أمل لمستقبل الإنسانية، إلا أن مشكلة الهجرة بقيت مركزية في ذهن آرندت.

من الصعب ألا تفكر بأنها أدركت أن الانكسار في حياتها، والذي كان نتيجته النفي من ألمانيا، هو انعكاس لأكبر تحول في تاريخ العالم. فلم يكن علو السيطرة النازية تغييرًا ثوريًا فقط داخل بلدها الأصل، ولكنه على نحو دقيق كان ضربة صادمة للثقافة الغربية ككل. لقد اختارت البلد الأعلى تعليمًا في وسط أوروبا، وبشكل طوعي نموذجًا لا مثيل له من الهمجية، وأعدت أفضل العقول في العلوم السياسية الألمانية نظامًا دستوريًا يستطيع هتلر استخدامه لتسهيل نجاحه الانتخابي. باعتقادي أن كلًّا من آرندت وياسبرز قد عانا من ندوب دائمة جراء الآثار المترتبة للهتلرية على الفكر السياسي.

فورًا وبعد الحرب العالمية الثانية اعتمد ياسبرز على آرندت في شحنة من المؤن. وكتب لها حول تاريخ معاداة السامية خوفًا من أن تعتقد أنه فاشيًا بشكل كلي. (يركز كتابها «أسس التوتاليتارية» على مقر اليهود في الثقافة الحديثة، مثلما يركز على مفهوم الشمولية بذاته). كان كلًّا من آرندت وياسبرز مرعوبين بالطريقة التي انهار بها نظام جامعة ألمانيا إلى ذليل في وجه السلطة النازية القادمة.

لم تعرض لياسبرز أي سند فكري على الإطلاق، فقد قام بمراجعة عمله عن علم الأمراض النفسية، وبقيت هي معادية لفرويد بشراسة، وقد يتساءل المرء عن اعتقادها الحقيقي في إسهاماته النفسية الدقيقة، والتي كانت بشكل مؤكد لا فرويدية. اعتمد ياسبرز على آرندت لتدبير شؤونه الخارجية في البلاد الناطقة باللغة الإنكليزية، وكانت تعمل في الواقع كوكيل أدبي لياسبرز، تقدم مشورتها بخصوص عقود الكتب، وتقترح شركات نشر بديلة، وبالمجمل ساهمت بإبقاء روحه عالية حول مستقبل كتابه خارجيًا.

يعلِّق آرندت وياسبرز في الغالب حول الكتَّاب المعاصرين في كتبهم: تشيزلاف ميلوش، جان بول سارتر، ألبير كامو، إجنازيو سيلون، وهم قلة من كثرة تحدثوا عنهم كمعارف شخصيين. أحيانًا يتبادل كلًّا من ياسبرز وآرندت آرائهم حول المفكرين السابقين مثل إسبينوزا، أو ماكس فيبر (الذي عالجه ياسبرز أحد المرات). رأت آرندت أن مهمتها الخاصة هي إبقاء ياسبرز على اطِّلاع بالأحداث الحالية الأميركية، وكانت شرسة تجاه دوايت آيزنهاور، فهي في الغالب تراه على ضوء هايدنبيرغ الألمانية. بعد ذلك، كانت لها بصيرة حول نوعية الرئيس ليندون ب. جونسون الكارثية، المتورط في قيادة الحرب في الجنوب الآسيوي. تشارك كلًّا من آرندت وياسبرز معتقدًا جرمانيًا حول الأهمية المركزية للتقليد الفلسفي الأصيل، والذي يمثل بالنسبة للخارجيين صفعة للدوغمائية، إن لم يكن الغطرسة. قد ينتقلون من المسائل الدنيوية، حتى لو كانت ملحوظة، إلى مستوى عال من فلسفة إيمانويل كانط، كما لو أن أي إنسان متحضر يجب أن يفكر في الفئات المفضلة لديه. كانت (رسائل آرندت لزوجها الثاني هينريك بلوخر فكاهية في الغالب، لما يتشاركان فيه من شوفينية جرمانية، هي في الحقيقة شكل من أشكال المناطقية)[4].

بالنسبة لي، أعلى نقطة في كتاب المراسلات بين آرندت وياسبرز كانت حول محاكمة أدولف آيخمان. حتى قبل أن تبدأ آرندت بتصوير آيخمان «مثل كارثة تمشي على الأرض.. بكل ترهاته الفارغة». بحلول عام 1946م أشار ياسبرز نحو النازيين بقوله: «تفاهتهم الكلية، تفاهتهم المبتذلة». كانت أعمال آيخمان بالنسبة لهما «خارجة عن مفهوم ما هو أخلاقي وإنساني»، لذا فـ «الأسس الشرعية لهذه المحاكمة» بدت في أحسن الأحوال «مشكوك فيها». ويظن ياسبرز أن خطف إسرائيل لآيخمان من الأرجنتين كان غير قانوني. تمسك ياسبرز برأيه أن المحاكمة «تصور خاطئ في جذورها»، وأن الأحداث بذاتها يجب أن تُطرح «خارج نطاق أي سلطة قانونية لأي بلد». كانت القضية بالنسبة لياسبرز تهمّ الإنسانية جمعاء، واعتبر أن الإجراءات السياسية تعارض المسألة القانونية. كانت آرندت «أقل تفاؤلًا من ياسبرز حول الأسس القانونية للمحاكمة، لكنها تساءلت عما إذا كان لإسرائيل الحق في الحديث عن كافة اليهود في العالم». وتكهنت بأن أحد أكبر دوافع إسرائيل كان تأمين دفعات إصلاحية من ألمانيا.

 

  • آيخمان في القدس

أثار كتاب: «آيخمان في القدس» ضجة في المحيط اليهودي حتى في وقت ظهوره في النيويوركر عام 1962م. (كانت آرندت صريحة بحيوية حول نجاحها الإعلاني، والتكريمات العديدة التي حصلت عليها لاحقًا). ومنذ الوقت الذي بدأت تفكر في آيخمان، بُهرت بـ «الدرجة الكبيرة» التي «ساعد اليهود بتنظيم دمارهم الشخصي». في شهادتها عن المحاكمة شددت على «حقيقة إسهام اليهود» في محرقة يهود أوروبا. وحول الجدل الذي طال هذا الكتاب، شعرت آرندت بأنها عالقة ومحاصرة، فعلى سبيل المثال: عندما نشر غيرشوم سكولم رسائلهما المتبادلة، شكّل إخلاص ياسبرز دعمًا لآرندت ضد نقد شوليم القوي. وأُخذ احتجاجها على أنه اعتداء على «وجود» اليهود والصهاينة، وكان على آرندت أن تدافع عن نفسها ضد هذا الادعاء المزعوم بأنها وبصورة ضمنية أخرجت هتلر وقواته الخاصة خارج جريمة المحرقة اليهودية. بالنسبة للكثير، تبدو آرندت مثل برونو بيتلهايم[5] في سياق التحليل النفسي[6]، الذي كان يلوم الضحايا لتدميرهم لذواتهم.

كانت سمات السخرية التي تتحلى بها آرندت محل تقدير لدى ياسبرز، وعلَّق مرة عليها يصفها: «النمط الذي يعتب عليك الناس، ويدعونك بلا قلب، بارد، ساخر، عالِم بكل شيء، مُبغض للجميع». لم يكن لآرندت ولا ياسبرز منظور حول ذواتهم، أو معنى الفكر التقليدي حول ما قاموا بتحقيقه، فعلى سبيل المثال: وجد ياسبرز نفسه مبهورًا عام 1964م بقصيدة شكسبير (العاصفة)، وظنّ أنه من الملائم إضافتها، وحتى لو كان «يستطيع أن يدونها». لم يكن لياسبرز أن «يحقق عمق شكسبير». بالكاد يعتقد المرء أن تلك النقطة قد بلغت التنازل الشرعي من جانب ياسبرز، لكنه لم يأخذ نفسه على محمل الجد، وكذلك فعلت آرندت.

مع ذلك، كان ياسبرز وآرندت معنييّن بأكثر المعضلات الأخلاقية المركزية للقرن العشرين. فقد قاما بتطبيق أفضل محتوى للفكر الغربي على المشاكل الأخلاقية لعصرنا، ولذلك شكَّلت مراسلاتهم الخاصة بينهم قراءة رائعة ومجزية.

***

قبل جيل مضى كان لمؤلفات ماري مكارثي أعلى المبيعات، واعتبرت أشهر روائية وكاتبة للقصة القصيرة، ناقدة سياسية حادة، وربما كانت شهرتها في كتابة السير الذاتية المميزة. ربما صمدت شهرة مذكراتها المؤثرة: «ذكريات الصبا لفتاة كاثوليكية ـ 1957م ـ  Memories of a Catholic Girlhood»، و«كيف كبرت ـ 1989م ـ How I Grew» لمدة مؤقتة بعد نشرها لـ «المجموعة The Group»، والتي بدت عام 1963م صورة فاضحة لفصلها في فاسار. حتى الآن، بعد سنوات قليلة من وفاتها عام 1989م، بدا من النادر أن تكون مشهورة بين جيل الشباب اليوم. زعمت مرة بأنها فتاة يتيمة، وأن المسؤولين عن رعايتها حاولوا إلصاق شريط على فمها ليلًا، وفي أفضل الأحوال بقيت لاذعة وشريرة، لا تنسى. علَّقت عام 1980م عبر برنامج: Dick Cavett حول ليليان هيلمان بقولها: «كل كلمة كتبتها هي كذبة، حتى حرفي «و» و«أل»، ردت هيلمان برفع دعوى تشهير وقدرها 2.225000 والتي تنتهي فقط عند المدعي. قد يعتقد المرء أن تألق مكارثي في الإنكليزية العامية، كان أساسه التنافس مع هيلمان، وأن ذلك قد ضمن لها البقاء في الذاكرة.

 

  • بعد وفات آرندت

لاحظنا على الجانب الآخر، أن آرندت التي توفيت مبكرًا عام 1975م، أصبحت أحد أشهر المنظِّرات الاجتماعيات للقرن العشرين. عام 1995م كان هناك خمس ندوات دولية جدولت لمناقشة أعمال آرندت. رغم أن حفنة من الفلاسفة المتميزين رفعوا اعتراضات على كفاءة آرندت في الميتافيزيقيا الروحية، واحتج بعض المؤرخين على تعاليها وخلطها للحقائق لتتلاءم مع أجندتها الأديولوجية المختلفة، وما من رأي من آراء الأقلية قد ردعت الأكاديميين الصغار من نشر جهود تشرح خصوصيات وعموميات تنظير آرندت المعقَّد. ربما بدت الصداقة الحميمية بين تلك المرأتين مستغربة، كانت مكارثي صلبة وذات لمسة أسلوبية خفيفة، بينما آرندت كانت بلا إحساس كحال فلاسفة الألمان التقليديين الذين أتت منهم. رغم أن هناك عدد من الفقرات المكتوبة التي لا تنسى في رسائل آرندت لمكارثي، كانت صديقة آرندت تصاحب (ناقدًا أدبيًا يدعى ألفريد كازين)، ساعد في «نقل» مؤلفات آرندت المنشورة للغة الإنكليزية. هناك كتاب: «بين صديقتين: رسائل حنة آرندت وماري مكارثي ـ Between Friends: The Correspondences of Hannah Arendt and Mary McCarthy 1949 ـ 1975»[7] يصف التقارب الحميمي في هذه العلاقة. قامت آرندت بتعيين مكارثي وصيّة أدبية، ووضعت مكارثي في ذهنها استبدال وصيتها الأدبية إليزابيث هاردفيك بآرندت إذا دعت الحاجة.

كاتبة سيرة مكارثي كارول برايتمان، كتبت عام 1992م مقدمة رصينة لذلك التفسير المبهر للتحالف الأدبي بين كاتبتين متذمرتين من استهلاك الشهرة لوقتيهما، لكنهما لم يمانعا من الدخول في صراعات آراء العامة المختلفة. عندما هزمت مكارثي الغيورين من نجاحها الإعلاني، كانت آرندت هناك كصديقة منحازة لجانب مكارثي، وعندما تحول مثقفو اليهود الموالين للصهيونية ضد آرندت ـ بسبب أفكارها في كتاب: «آيخمان في القدس» والتي تدين استجابة اليهود للتهديد النازي بتدميرهم لذواتهم ـ نشرت مكارثي مقالًا تستنكر فيه ديكتاتورية آرندت. (كان ذلك طابعًا للسياسة الأدبية، قامت آرندت بإرسال ردٍّ مفصل لمكارثي تهاجمها عبر صحيفة: «Partisan Review»، وبكل أسف لا ترد هنا تلك الصفحات الأربع الموثقة).

كانت العلاقة بين المرأتين كما تقول برايتمان: «في ظاهرها غير محتملة». مكارثي التي ترعرعت في الأصل بمدينة سياتل، أميركية كفطيرة التفاح الأميركية، تقول: إن آرندت تكره الأنبياء، بينما آرندت ألمانية المولد، والتي هربت ابتداء إلى فرنسا عام 1933م، ظنَّت بنفسها أنها حاملة لواء الثقافة الألمانية التقليدية الروحانية بأكملها، التي دُمرت بصعود النازية. بغض النظر عما بدا أنه عدم توافق بينهما، ازدهرت العلاقة العاطفية بين مكارثي وآرندت. ركَّزت رواية راندل جرل: «صور من المعهد Pictures From an Institution 1954»[8] على كلا المرأتين، عبر منظور يوضح أوجه الشبه بينهما. وهذا المجلد الضخم من مراسلاتهما، والذي ساهمت مكارثي بطباعته، يسجل حكاية الإخلاص والتفاني طويل الأمد فيما بينهما.

 جزء من المتعة الخاصة في قراءة: «بين صديقتين» يأتي من وصف لقاء مكارثي وآرندت، وتشارك النميمة حول أهم معاصريهما اللامعين. غُيب في هذا الكتاب ذكر أميركيين (مثل: روبرت لويل، سول بيلو، وترومان كابوت)، وأجانب مثل: (سارتر، سيلون، ريموند آرون، و. هـ. أودين، إزايا برلين، سيمون دو بوفوار، وأرملة جورج أورويل) لذكر حفنة من الشخصيات الهامة ممن خطروا في بالهم. تعكس الأسماء التي يختارها المرء إلمام القارئ، وكيف اختارت آرندت ومكارثي جعل الثرثرة علامة لهذا الكتاب.

فيما يتعلق بحياتهما الخاصة، وكيف كانت كل منهما منفتحة على الأخرى، كانت مكارثي هي الأقدر على تحملها، أو كانت الأحوج إلى المساعدة العاطفية. في أول لقاء لهما عام 1944م، كانت مكارثي لا تزال متزوجة من الناقد الأدبي البارز إدموند ويلسون، لكن يوضح أحد أجزاء «بين صديقتين» والذي يبدأ من عام 1949م، أن مكارثي تمر بسلسلة من الأزمات في منزلها.

كانت آرندت داعمة لها عندما علمت بعلاقتها غير الشرعية، لكنها مالت لأن تكون أكثر عقلانية وحكمة، ومهما كان شعورها حيال تصرف مكارثي الرومانسي، لم تكن آرندت على استعداد لتغطية آثار خيانة مكارثي، فكانت مساعدتها من باب الصديق وقت الضيق. ورفضت آرندت بشكل مؤثر أن تتخلى عن أحد أزواج مكارثي المنبوذين، وفي عام م1960 كتبت آرندت:

نظرت إليه كصديق، ولم أكذب، بالنسبة لي، حقيقة أنك جلبتيه لحياتي، وأنه بدونك لم يكن له وجود ـ لا يعني أنه صديق شخصي، وهو بالطبع ليس كذلك ـ لكن كصديق للبيت، إن صح أن يقال. لكن ما أن وضعتيه في تلك المنزلة، لن تخرجيه هكذا بسهولة من حيث مكانه الحالي.

بزواج مكارثي الرابع، لأميركي دبلوماسي في باريس، بدا أن حياتها استقرت أخيرًا. وبدا وجود آرندت الشخصي مع بلوخر غير مكدر بشكل معقول. آرندت التي بدت قلقة بشكل أساسي حيال مشاكل زوجها الصحية، والتي بلغت الحد حتى وفاته عام 1970م، لم تتذمر إطلاقًا بشأن مرضها، ومهما كانت متاعب قلبها، لم تكن لتثنيها أبدًا عن إدمان التدخين.

ربما كانت ردة فعلي الوحيدة تجاه تلك الرسائل تمييزية، لكن بغض النظر عن خلفيتي كمنظِّر سياسي خلصت منهما بتعجب أكبر، وإن كان لي أن اختار، فقد تميزت مكارثي على آرندت، وربما يعود أساس ذلك لإتقانها للغتها الأم، بينما عانت آرندت دومًا من التعبير عن ذاتها بلسان أجنبي. لكن ليس ما ميّز مكارثي فقط قدرتها على الكتابة بالأميركية الإنكليزية التي تأتي هنا بشكل ملحوظ، لكنني تفاجأت أيضًا بتمرّسها السياسي. اطَّلعت بالطبع على كتب لمقالات لها علاقة بحرب فيتنام، جهد أنجزته الاثنتان مبكرًا وقامتا بعرضه كتضليل هائل. ونشرت مكارثي أيضًا مقالًا صحفيًا حول موضوع ووترجيت. لكنني لم أدرك كيف أن المضمون الأخلاقي كان متينًا في فكر مكارثي، وكيف عُنيت مؤلفاتها الخيالية بالقضايا الاجتماعية والسياسية. مضت عام 1971م بالتعقيب حول كتاب آرندت وما يخص موضوع آيخمان، رغم اختلاف نهجها عن آرندت:

يفترض المرء أن كل فرد يفكِّر بدقة وطبيعة نبيلة، حتى ولو لبعض الوقت .. ربما أكون ساذجة، لكنك تقولين: إن آيخمان يفتقر لميزة الإنسانية الأصيلة، القدرة على التفكير، والوعي والضمير. أليس وحشًا ببساطة؟ لو منحتيه قلبًا شريرًا، لأعطيتيه بعضًا من الحرية، التي تديننا.

ما من سجل يظهر أي رد لهذه القصة التي تبدو رأيًا كاثوليكيًا، لكن يفترض ألا تكون مفاجئة، لأن مكارثي ظهرت في مجلدين لآرندت: «حياة العقل The life of the Mind»، وساعدت في تسهيل نشر محاضرات آرندت عن إيمانويل كانط.

جغرافيًا وحيث عاشت الاثنتان، كانت مكارثي أميل للتعليق على المسائل الأوروبية بينما ظهرت آرندت كمتحدث عن التطورات الأميركية. كلتاهما سافرتا جيئةً وذهابًا عبر المحيط الأطلنطي، والتقيتا بانتظام (وتحدثتا على الهاتف كل أسبوعين). مهما كانت صعوبة إسعاد مكارثي، إلا أن معايير آرندت كانت أشد عجرفة. عام 1962م، على سبيل المثال، أعلنت مكارثي عن مراجعتها لكتابين، واحد لنابوكوف «حريق باهت»، والآخر لسالينغر «فاني و زوي»: «ما فعلته في آخر يومين، كان خبيثًا وحقيرًا، ولم تكن فيه متعة على الإطلاق، باستثناء الترويح عن نفسي، لكنني وقعت حقًا في حب كتاب نابوكوف، وعملت بجد وسعادة لأجله». كانت ردة فعل آرندت لهذا الخبر كما عُرف عنها:

هناك أمر في «ن» والذي أمقته بشدة، وهو استماتته على الإفصاح عن مدى ثقافته. وعلى هذا، يظنّ بنفسه من باب أنه «أكثر ثقافة من». هناك أمر مبتذل في دماثته، إنني حساسة تجاه هذا النوع من الابتذال، لأنني أعرفه جيدًا، وأعلم أن العديد من الناس قد ابتلوا به. لكن ربما هذا الأمر لم يعد له وجود الآن. أعلم عن كتاب وحيد يخصه وأقدِّره جدًا، وهو المقال الطويل حول غوغول.

ربما كانت آرندت على حق بكون نابوكوف متباهيًا، (الأمر الذي ينطبق على آرندت أيضًا)، لكن يجب ألا تكون السمة المتأصلة أمرًا كافيًا لترسيخ موقفه الفني والنقدي، وما لفت نظري أكبر أن آرندت لم تشعر بحاجة للتعليق حول سالينغر.

رغم أن آرندت كانت معجبة كبيرة بالحريات الأميركية، إلا إنها بقيت منعزلة بشكل غريب عن أحداث البلاد السياسية، على سبيل المثال، كتبت لمكارثي بعد أزمة الصواريخ الكوبية أنها ليست بمزاج جيد لمناقشة ذلك: «لم أكن لأصدق أن ذلك الأمر سيكون جديًا». ربما لن يظن أحد من منظور آرندت كيف اقتربت أميركا والاتحاد السوفياتي من التحدي النووي القاتل.

يبدو كتاب: «بين صديقتين» مبهرًا بما يرويه عن «آيخمان في القدس». (يمكن أن توضع الرسائل هنا جنبًا إلى جنب مع تعليقات آرندت لياسبرز). لم يكن المحرر مساعدًا في تجهيز سياق مثير للاحتفاء بكتب آرندت، والتي ظهرت ابتداء في خمسة أعداد من النيويوركر. أكدت برايتمان أن نصّ آرندت «استند على نص المحاكمة، ولم يكن تحقيقًا في مذبحة يهود أوروبا»، وأضافت أيضًا حاشية لخصت فيها حجة آرندت، لكنها فعلتها بطريقة استخلاص لرأي آرندت قائلة: «لقد دعت إلى المقاومة ولم يكن ذلك ليمنع سياسة الإبادة، لكن ربما جعل تنفيذها أصعب». بدا لي صادمًا، كيف تبنَّت آرندت مع مكارثي موقف..«إنني كتبت تقريرًا، وإنني لست سياسية أو يهودية أو غير ذلك».

ذهبت آرندت للقول:

كما أرى، فليس في هذا التقرير «أفكار»، هناك حقائق فقط باستنتاجات قليلة، وهذه الاستنتاجات عادة تظهر في نهاية كل فصل. والاستثناء الوحيد كان خاتمة الكتاب، والتي كانت نقاشًا عن الجوانب القانونية للقضية. بعبارة أخرى، وجهة نظري أن هذا الغضب قائم على حقائق، وليس على أفكار أو نظريات.

حاولت آرندت خلال حياتها في الولايات المتحدة أن تتبنى البراغماتية الأميركية المناهضة للتنظير، والذي جعلها غير قادرة على فهم الرعب الذي أثاره كتابها بين اليهود في أميركا. رغم أن هنا تاريخ طويل من الاشتباه في صهيونيتها، إلا إنني تصورت أن كتاب: «آيخمان» كان بالأساس فرصة لأعدائها للرد مجددًا، وشككت أن أحدا مثل إزايا برلين على سبيل المثال، كان مسؤولًا عن التلاعب بمراجعات الكتب في بريطانيا لصالح الحكومة الإسرائيلية. (على العكس من آرندت كان برلين مدافعًا عن القيم الكلاسيكية المتحررة، وينظر للتقليد الفلسفي الألماني، كما جُسد عبر هايدغر وآرندت، كمصدر للسموم الاجتماعية والسياسية).

بين ثقافة كلًّا من آرندت ومكارثي المشتركة، حملت كلتاهما منظورًا سياسيًا متقاربًا. فقد كتبت مكارثي: «إن غتيال كينيدي سيكون واحدًا من تلك المحكّات الاختبارية أو فصل الصالح عن الطالح، مثل محاكمات موسكو وباسترناك ومثلك أيضًا مع آيخمان». إذا كانت مكارثي تمتدح آرندت للمكانة التي وصل لها كتابها الجدلي، آرندت أيضًا كانت ستفعل المثل. ففي ربيع عام 1965م، كان الجميع قلقا تجاه تصاعد التدخل الأميركي في الجنوب الآسيوي تحت ولاية الرئيس ليندون جونسون، كتبت آرندت: «هل سبق لك قراءة أعمدة ليبمان الصحفية حول فيتنام؟ أتصور إنها جيدة جدًا، لكنني أعترف أنني أقل قلقًا ممن عرفت. كافة استطلاعات الرأي تُجمع أن ذلك ضد سياستنا ـ وهناك إجماع على أن هذا ما أراد جونسون». هذه النوعية من السخرية في أسلوب آرندت واعتقادها بأنه من السهل على النقَّاد التغافل عن عملها.  ذهبت بها لاحقًا لتنظير مختلف تمامًا هنا: «يبدو لي أن معضلة الرئيس الأميركي أو الرجل السياسي إنه غير قادر على إدراك ما لذي تعنيه الثورة». (ذلك العام نشرت آرندت كتابها: «في الثورة On Revolution».

عجزت آرندت عن كبح النزعة الميالة للوعظ في داخلها  حيث كتبت بعد أسبوعين: «ليس لدي شك على المدى الطويل، أن آسيا ستكون بأكملها تحت هيمنة الصين، لكن ليس بالضرورة تحت سيطرة صينية». لكن ليس من جهد قد عُمل لقياس أو تقييم دور اليابان، أو حتى التمييز بين «الهيمنة» الصينية كمعارض لـ «السيطرة». وبالنسبة لامرأة كرهت كل شيء قام فرويد بتقديمه، لم تشعر آرندت بالتردد من أن تستفيد من تشخيص يخدم كراهيتها السياسية: على سبيل المثال، كتبت عام 1968م أن لديها انطباعًا أن الرئيس جونسون ليس «سيئًا أو غبيًا فحسب، بل نوعًا ما، مجنونًا». (كراهية مكارثي للتحليل النفسي كانت مستندة على الأقل على تجارب متعددة متواضعة مع المحللين، بينما اعتراضات آرندت كانت مجردة).

***

التألق المريح لكتاب: «بين صديقتين»، والذي لا يقرأ إلا بروية، يأتي كتناقض حاد للتأثير المزعج لكتاب إليزابيتا إتينغر «حنة آرندت/مارتن هايدغر ـ Hannah Arendt/Martin Heidegger»[9]، كتاب قصير يستحيل أن تدعه جانبًا حالما تبدأ بقراءته. نعلم أن آرندت ومنذ عام 1982م كان لها علاقة غرامية في شبابها مع معلم الفلسفة هايدغر، والذي كان في ذلك الوقت ضعف عمرها. واتضح عام 1924 أنه بدأ العلاقة، والتي كانت سرية لأربع سنوات تقريبًا، حتى أعلن عنها أخيرًا. انضم لاحقًا للحزب النازي، الأمر الذي لم يندم عليه أبدًا، وكذلك لم يندم على تداخل سياسته، مما جعله أحد أكثر المفكرين تأثيرًا للقرن العشرين. (ولم يحمل الفرنسيون ماضيه النازي ضده، وسارتر الذي يفترض إنه يساريًا، ساعد بجعل هايدغر مشهورًا في باريس). رغم أن كتب آرندت تركِّز في الغالب على الموقف الأخلاقي لليهود، إلا إنها بقيت محافظة على رباطها مع هايدغر.

قارئ «حنة آرندت/مارتن هايدغر» سيشعر على الأرجح بالإحباط، فليس هناك مخطوطات أصلية للمراسلات كما هو الحال في رسائل مكارثي وياسبرز، بل هناك وصف إتينغر لها فقط. أرملة هايدغر التي أعلنت عن أنها حصلت على نازي أسوأ من زوجها، عاشت لسنوات بعد وفاته عام 1976م، وكان تأخر تقديم الأدلة حول علاقته مع آرندت أمرًا في صالحها. تولت إيتنغر سيرة آرندت الذاتية، وحالفها الحظ بقراءة مراسلاتها ومراسلات هايدغر. رغم هذا، قررت إتينغر أن تركِّز بشكل محصور على تورط آرندت مع هايدغر، رغم أن الوصية على أعمال آرندت (التي عُينت بعد وفاة مكارثي) كانت مندهشة بإقرار إتينغر. أحد أبناء هايدغر لم يكن سعيدًا أيضًا، فقد أعطى الإذن بقراءة رسائل والده، لكن ليس بنيّة اقتباسها، وصرح أن هناك العديد من الأخطاء في أداء إتينغر. اتفق كل من وصية آرندت الأدبية وابن هايدغر على نشر المراسلات كاملة بأنفسهم، رغم أن المدة ستطول حتى تظهر باللغة الإنكليزية، وليس من الواضح إن كانت ستغير الانطباع السيئ الذي أخذه قرّاء «حنة آرندت/مارتن هايدغر».

أدَّت السمعة السيئة التي أثارها كتاب إتينغر إلى التنقيب عن أمر هايدغر في أعمال آرندت[10]، واستمرار توثيق تفاصيل تعاونه النازي. لكن آرندت وثَّقت سمعتها العلمية بأول كتاب لها: «أسس التوتاليتارية» وكان الدور الأساسي الذي أوضحته وإن كان مبالغًا به، هو قوة معادي السامية، الأمر الذي لا بد أن يُقرأ على ضوء سيرتها الذاتية.

إن علاقة آرندت بهايدغر بأكملها قد تلقي بظلالها على مكانتها البارزة الحالية. امتلكت آرندت حرية التعبير عن أحكام أخلاقية عن الآخرين، ومع ذلك، كانت على اتصال بأشخاص مريبين مثل هايدغر. وربما يشك المرء فيما إذا كانت تشعر بالخزي من الرباط المستمر الذي يربطها بهايدغر. (كتبت مرة لمكارثي، في المرة التي شعرت مكارثي بأن علاقتهما في خطر: «فيما يخص كافة المسائل النفسية، أنا لست حساسة، ومتبلدة إلى حدٍّ ما»). ومن السهل أن نحرز ما مدى العلاقة التي تفسر هذه الرومانسية، أو الفرصة التي كانت جزءًا من حياتهم الفكرية.

بعدما استأنفت آرندت مراسلاتها مع هايدغر لبضع سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، انسحبت من تحفظاته السابقة والمعلنة حوله، وبذا ساعدت في حكم إتينغر وتمويهها لسياسة هايدغر. كما ذكرت سابقًا، كانت آرندت قادرة على التملص من اجتماعات ياسبرز، ووطأة استمرار العلاقة معه. وهنا تلمِّح إتينغر أن آرندت كانت تتصرف بحذر حتى لا تجرح مشاعر ياسبرز، لكنها كانت تتحدث معه عن كذب هايدغر المرضي، حتى وهو يحمل هاجسه وهوسه بالأصالة. (موضوع سوء النية يجذب مرتكبيها عادة) يظهر أن آرندت كانت متحمسة لزيارة هايدغر متى ما أتيح لها، وكانت منفتحة مع مكارثي حول عجزه بسبب تقدم عمره.

تبنت إتينغر نهجًا رقيقًا في تفسيرها لسلوك آرندت كتعبير عن الحب غير المنطقي، لكن المرء يتساءل ما إذا كانت إتينغر قد نجحت دون قصد بقتل آرندت عبر هذه الرقة. إما أن آرندت كانت منافقة استثنائية، أو متيمة ساذجة وسخيفة، وليس من بديل أخلاقي يضاف لسمعتها. الاحتمال الوحيد أن تراجع إتينغر بالكشف، هو أن الاثنين اتبعا علاقة مصلحة لكلا الطرفين.

أعطت آرندت نصيحة لهايدغر ساعدت في تعزيز واتساق ترجمة كتبه خارجيًا، وعندما احتاج هايدغر للمال، لجأ لنصيحتها في زيادة عائد بيع مخطوطة هايدغر (الوجود والزمن). أكدت إتينغر بشكل جارح على مسألة وجود حاجة للمال يلجأ النازي السابق إلى يهودية لمساعدته. لم يجعل ذلك آرندت تتجاوز في علاقتها مع هايدغر، بل كانت متعاونة وملتزمة.

كانت آرندت على ما يبدو قاسية القلب حول مساعدة اليهود في مواجهتهم للرعب النازي، ومثل الآخرين في جيلها من اليهود الألمان، بدت ألمانية أكثر مما كان يطمح أبناء بلدها السابقين. يتناول كتاب آيخمان في الغالب سقوط ثقافة ألمانية قديمة، وما علق بها من إقرار مصير لليهود. قامت آرندت بحصر التشويش الذي مرت به في حياتها عندما أُجبرت على مغادرة ألمانيا، وفجرته لتمزق المجتمع الغربي بأكمله.

لا تعدو آرندت كونها منظرة عظيمة، حتى بالرغم من اعتقادي بأنها كانت مبدعة بشكل أكبر في مقالاتها. السبب الوحيد بكون كتاب آيخمان ناجحًا هو أن المؤلفة لديها أساس صلب لتتعامل معه، وهذا العمل دائمًا ما يشكِّل إثارة جذابة للطلاب. من وجهة نظري، أن قوة النازية هي إنها أهم حدث سياسي في التاريخ للقرن الماضي، ويفترض أن تكون مزعجة على الدوام لكل أصدقاء النظرية الديمقراطية، فكيف بالأمة الألمانية بتعليمها العالي أن تختار طوعًا التصويت في مكتب طاغية تعرف آراءه وأجندته بكل وضوح.

تلمِّح رسائل آرندت لزوجها الثاني بوخلر، إلى أنها تلوم بالأساس زوجة هايدغر إلفريدا لإعمائه عن الشر العميق للاشتراكيين الوطنيين، وبدت آرندت مصممة على عقلنة معتقداته الضارة وسوء تصرفه. كان هناك إشاعة واحدة (قدمت من إيزايا برلين) تقول: إن آرندت وهايدغر قد جددا تواصلهما جسديًا بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أن إتينغر لا تبحث في هذه الاحتمالية. وأقصى ما يمكن أن أقول: إن إتينغر ترفض أي سبيل لهذه الفكرة، لكنها في الوقت عينه تصرح بأن بلوخر زوج آرندت: «اعتقد خطأ أن علاقتها بهايدغر قد انتهت بعد الحرب العالمية الثانية».

لم يكن في ذهن إتينغر افتراض عن مدى تقليل بلوخر من عمق علاقة آرندت المستمرة بهايدغر، حتى لو إنها قد صادقت على احتمالية أن الجميع ربما كانوا متورطين. من المستحيل أن نعزل حياة الفيلسوف عن عمله، يمكن أن تختبر صحة الفطنة وتقيّم باستقلالية، لكن المعنى الذي تقدمه الأفكار، سيأتي من نوايا ممثِّلي التاريخ.

يميل طلاب النظرية السياسية للاعتقاد بأن الأفكار يمكن أن تعالج في الفراغ، بعيدًا عن تجربة الإنسان الطبيعية. لكن إذا كانت سمعة هايدغر قد عانت بوضع التزاماته السياسية الماضية تحت المجهر، آرندت أيضًا تلوثت سمعتها نتيجة لمحاولاتها المستمرة لكسب الموقف. بعد إدراك متأخر، احتكمت علاقة آرندت مع مكارثي إلى سمات هنري جيمس العقلانية. فتعقيدات الأوروبيين، التي تتضمن آرندت، آل هايدغر، ياسبرز وزوجته، إضافة لبلوخر، هي أعقد بكثير من الانفصالات النمطية التي تورطت بها مكارثي.

ربما أدركت مكارثي بفطرتها، أهمية ما حققه هايدغر في حياة آرندت، لكن من الصعب تصديق أنها استطاعت استيعاب التعقيدات الاجتماعية والسياسية التي سعت آرندت لتبريرها. وقد يتساءل المرء، على أي أساس يمكن أن تشارك مكارثي أخلاقية يسارية مع آرندت في قضايا مثل فيتنام أو ووترجيت، في الوقت الذي أظهرت آرندت نفسها مع شخص طائش مثل هايدغر، خاصة وأن آرندت بنفسها قد ميّزت خداع الذات العادي من التجربة المباشرة؟. على أي حال، لا يجب أن يكون الدرس المستخلص من هذا الموضوع إصدار أحكام أخلاقية، فتعاطف آرندت يخبرنا أنها كانت تفعل ما بوسعها، وربما إذا ظهر مجلد مراسلات هايدغر ـ آرندت أخيرًا ستبدو العلاقة أقل بغضًا. لكن البهجة المفاجئة لصداقة آرندت بمكارثي ظهرت مظللة لطبيعة تهديد ارتباطها بهايدغر.

أعطى كتاب إتينغر: «حنة آرندت/مارتن هايدغر» سردًا مقنعًا يمكن أن يقرأ مساء، وبطبيعة الحال أُثيرت حوله شعبية واسعة وجدل حاد. لتلخيص التفاصيل ـ نقول: إن هايدغر كان أول معلم فلسفة لآرندت، وقد بادر بالشروع في علاقة سرية استمرت لسنوات، وظهر أنه المسؤول عن انقطاعها. سعى هايدغر ـ لأكثر من عقد من الزمان ـ أن يكون عضوًا نشطًا للحزب النازي، ولم يندم على ذلك. ويُعرف عنه أنه أحد أبرز المفكرين المؤثرين للقرن العشرين. لاحظنا بالفعل مدى غرابة ما ذهبت إليه آرندت بكتابتها لكتب نوقشت على نطاق واسع، تركِّز غالبًا على الموقف الأخلاقي لليهود، رغم سعيها المتواصل بالحفاظ على رباطها مع هايدغر. هذه المراسلات بين هايدغر وآرندت، والتي اُستؤنفت بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت حتى وفاتهما (توفيت آرندت عام 1975م، أما هايدغر فكانت وفاته عام 1976م) كانت محظورة حتى سبقت إتينغر الجميع بتفسيرها لهذه المراسلات التي قاموا بتبادلها.

ربما يقول أحد إنها كانت محظوظة بشكل لافت لأنها استطاعت قراءة رسائل آرندت وهايدغر. عاشت أرملة هايدغر (نازية ورعة منذ العشرينات) طويلًا بعد موت زوجها، ولأجلها حُجبت تفاصيل تلك الرسائل. وصلت إتينغر بنجاح لوصية آرندت الأدبية، وسمح لها بقراءة نسخ من رسائل آرندت ورسائل هايدغر لها، لأجل كتابة سيرة ذاتية مكتملة عنها. قررت إتينغر، بدلًا من هذا، أن تركِّز على علاقة آرندت بهايدغر، الأمر الذي شكل صدمة للوصيّة، وأثار استياء أحد أبناء هايدغر. لست متيقنًا ما إذا كانت القصة التاريخية بين آرندت وهايدغر تافهة جدًا، كما أوضحتها تفسيرات إتينغر، أو أنها خليط من اثنين. وبقي أن نرى كيف ستبدل هذه الوثائق الكاملة ـ يبدو أن السماح بنشرها كان أمرًا حكيمًا من الأوصياء الأدبيين ـ من الانطباع السيئ الأول الذي يأخذه القارئ من كتاب إتينغر: «حنة آرندت/مارتن هايدغر».

رغم أن فلاسفة مميزون مثل ستيوارت هامبشاير وإيزايا برلين كانوا متحدثين بالنيابة عن المعارضين للشعبية الساذجة لقدرة آرندت على الإسهاب الميتافيزيقي، لم يمتنع الأكاديميون الطموحون من تكرار الجهود لإيضاح تعقيدات فكر آرندت. ليس في ذهني أي منظِّر سياسي حالي نجح في جذب الأدب الثانوي كما فعلت آرندت. لقد صُنِّف المؤرخون المعارضون لأفكار آرندت على أنهم منحازون، ليس بسبب جفافهم كفلاسفة بريطانيا التحليليين المعادين لنطاق المنظِّرين العالميين، لكنهم كممثلين لنهضة مثقفي اليهود الصهاينة، والتي أُسيئ لها من قبل آرندت عام 1963م وكتابها: «آيخمان في القدس».

كان فخر آرندت بأنها ممثلة مبعوثة للثقافة الألمانية النازية لبقية العالم. رغم إنها احتقرت باستمرار كافة أشكال فكر التحليل النفسي، وعبَّرت عن اشمئزازها من الرومانسية والاستبطان أيضًا، إلا إنها سمحت لنفسها في دراستها لمحاكمة آيخمان بأن تلوم ضحايا النازية لتدميرهم ذواتهم، ولكنها لم تستطع تجاوز تململها من طرد المدعي العام لآيخمان كيهودي جاليكي، لا يرقى لمعاييرها العالية في ثقافتها الألمانية.

في الوقت الذي بدأت فيه آرندت بنشر كتبها، على سبيل المثال: «أسس التوتاليتارية» عام 1951م»، لم تكن بأي حال خارج الفكر السائد. لم يعد مفهوم «الشمولية» رائجًا في الوقت الحالي، لكن في الوقت الذي كانت تكتب فيه آرندت، كان وصفها للديكتاتورية النازية والستالينية متواضعًا، حتى لو أنها اهتمت في الأساس بجذور النظام الألماني.

كانت الحرب الباردة في أوجّها ذلك الوقت، وكان الاعتقاد السائد أن ما يسمى بالشمولية يمكن أن يسقط فقط من الضغوط الخارجية للحرب. جورج ف. كينان الذي يعتبر الآن خبيرًا متنبئًا بسقوط النظام السوفياتي عبر ضغوط داخلية وُصم من قبل أقرانه بالمتنبئ الديني، وأصبح محاصرًا بالصوفية بدلًا من صرامة الواقع السياسي.

رغم أن آرندت بدأت بعصرية كافية، لم يطُل الأمر حتى أصبحت خصوصيات تفكيرها معروفة. كما لاحظ رالف إليسون لاحقًا أن الضجة التي أثيرت حول كتاب آيخمان قد تنامت عبر دفاعها الأحمق لموقف محافظ ولاية أركنساس أورفال فوبوس، الذي ناضل من أجل الحفاظ على المدارس المنفصلة حتى إرسال قوات الرئيس دوايت د. أيزنهاور وفرض إلغاء الفصل العنصري في العاصمة ليتل روك، كجزء من استجابته لتحدٍّ أكبر للسلطة الفيدرالية منذ الحرب الأهلية.

وعبر مقالها في صحيفة: «Dissent»، تلاعبت آرندت بالمفاهيم السامية لـ «عام»، «خاص»، و«اجتماعي» بطريقة متعالية مذهلة. «منذ قرار المحكمة بفرض إلغاء الفصل العنصري في المدارس العامة زعمت بطريقة ما، أن «الأوضاع العامة متدهورة في الشمال». كان من الصعب في ذلك الوقت تخيل أين عاشت آرندت روحيًا، أو ما هي قيمها الحقيقية، فقد عاشت في الولايات المتحدة منذ عام 1941م.

يمكن استيعاب تورط حنة آرندت مع هايدغر عبر كتاب أتينغر الرائع، والذي يلقي ضوءًا جديدًا على موقف آرندت الحالي. من الملفت أن تحرر آرندت في إطلاق أحكام أخلاقية على تصرفات الآخرين قد أوقعها مع هايدغر. وألمحت سابقًا، أن مدى الرومانسية وليس المصلحة في هذه العلاقة، قد يستحيل إعادة بناءه. عندما عادت آرندت للتواصل مع هايدغر بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قد سحبت بعض انتقاداتها المبكرة له، وساعدت في إعادة تأهيل سياسته في فترة ما بعد النازية. ولأكرر، هي قد تنكرت من ياسبرز، أستاذها الآخر، وفقًا لما قالته إتينغر، فبعض اجتماعاتها مع هايدغر كانت وقائية حتى لا تجرح مشاعر ياسبرز. وفي ملاحظة لنفسها، واتصالاتها مع ياسبرز، كانت منفتحة حول النقاش عن قدرة هايدغر على الكذب، مع ذلك استمرت بزيارته كلما سنحت لها الفرصة. وبالنهج الودي الذي اتبعته إتينغر، سيكون تفسير سلوك آرندت كجزء من لا منطقية الحب، والطريقة التي تتحكم بها عاطفتها.

كما فعلت مع ياسبرز، منحت آرندت نصيحة نشر لهايدغر، وعملت على ترجماته. كانت تنوي إهداء النسخة الألمانية من كتابها «الوضع البشري The Human Condition»[11] لهايدغر، لكنها تراجعت. وكان إهدائها لكتابها: «في الثورة» إلى ياسبرز وزوجته. بدت رسائل آرندت لهايدغر غزيرة، رغم أنها في مراسلتها لياسبرز تكون متوحشة أحيانًا حول هايدغر. صحيح أن كامل تفاصيل نشاطات هايدغر النازية نمت إلى حد سيئ عبر فحص تاريخي مقرب، لكن قد يشك امرئ أن آرندت عرفت إلى أي مدى كانت القصة سيئة، ياسبرز على سبيل المثال، بقي مصرًا على عدم السماح لهايدغر بالتدريس في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كان خطاب هايدغر عام 1933م، ليصبح رئيس جامعة فرايبورغ خطابًا سيئًا، وفي مراسلتها لياسبرز كانت لا تكل من الإشارة لسوء سلوك هايدغر تجاه أستاذه السابق إدموند هوسرل. أظهرت إتينغر تفاصيل مزعجة لتلون آرندت وعودتها للمواصلة مع هايدغر، ولا يبدو إنها تريد معرفة إلى أي مدى نهش آرندت وهايدغر من بعضهم البعض.

كان أحد طلاب هايدغر، يدعى هربرت ماركوس الأقل تعاطفًا مع أنشطته النازية. من اللافت أن آرندت لم تكن متعاطفة جدًا مع محنة اليهود وسط أوروبا خلال العهد النازي، ووجدت أساليبًا لعقلنة معتقدات وضلال هايدغر. مسمار واحد منها وضع الثقل على زوجة هايدغر، رغم أن هايدغر بنفسه وفي آخر حياته، أصر على أن ثلاثتهم على أساس مساو من الصداقة الحميمة. بنظر آرندت، كان هايدغر يتحول في شؤونه العملية لطاغية مثل أفلاطون. وقد أقنعت نفسها بطريقة ما، أن هايدغر لم يقرأ «كفاحي» لهتلر، كما لو أن ذلك سيكون لصالحه. وللمرء أن يتساءل عن عجائب حياة الحضارة الألمانية المزعومة، إذا كان الفشل في قراءة كتاب يمكن أن يكون لصالح هايدغر. (في الواقع قرأ هايدغر الكتاب مبكرًا عام 1931م).

يميل أنصار آرندت وهايدغر أيضًا، لفصل الفلسفة عن السياسة العملية. حافظت كاتبة سيرة آرندت الأولى إليزابيث يونغ ـ برول، على أن العلاقة بينهم لا يمكن إظهارها على أن لها تأثيرًا بالغًا على فكرها، وللمرء أن يتساءل إلى أي مدى يمكن للمؤرخين الفكريين أن يبتعدوا عن تلك التجربة الإنسانية. الخبر الأول عن العلاقة بين هايدغر وآرندت كان صدمة لبعض طلاب آرندت الحساسين أخلاقيًا. ربما دأب الفلاسفة الأكاديميين إلى الحدِّ من أهمية هايدغر السياسية، وأن هناك من المثقفين الألمان من تعاونوا مع النازية أيضًا. وحول آرندت، لم يجرؤ أحد على الشكوى من مساواتها لأصولية فلسفة هايدغر، وعلى ضوء أفكارها عن آيخمان، من الصعب ألا تتساءل عمّا إذا كانت متورطة بنقد ذاتها بشكل لا واع، إن لم يكن حاذقًا؟. إذا كان آيخمان يتبع الأوامر ببساطة، ويُرى سلوكه طبيعيًا ضمن منطق النازي الألماني، فدفاعها الشخصي عن هايدغر قد يعكس الطريق الذي يمكن أن يتأثر به مفكر اجتماعي مثلها بالظروف المحيطة، وإيجابية اتخاذ المصلحة وسط أقذر أشكال للشر. فضلًا عن كونها يهودية هاربة من ألمانيا عام 1933م، بقيت آرندت لبقية حياتها مخلصة للفلسفة التقليدية التي ساعدت للوصول للهتلرية. وربما استمرارها في العزف الدائم على وتر سمعة هايدغر قد دمر موقفها الأخلاقي.

ليس من الواضح لي أن إتينغر واعية تمامًا بما دبَّرت لآرندت، في الوقت الذي كانت متأكدة من بغضها لهايدغر. وعندما تخبرنا بأن زوجة هايدغر النازية المتحمسة كانت: «ربما زوجة مثالية لهايدغر»، كانت إتينغر قد كسرت شوكة هايدغر بطريقتها الخاصة. وبينما تخبرنا أن: «المدافعون عن هايدغر (بما فيهم حنة آرندت) سعوا إلى تصويره ضحية عاجزة لتسلط [زوجته] الشريرة»، إتينغر بنفسها آمنت بأن هايدغر لم يكن: «أداة في يد زوجته أو أي أحد آخر».

ربما كانت إتينغر على حق بأن آرندت «برأت» هايدغر، ليس بدافع الإخلاص، العاطفة، أو حس عدالة نابع من حاجتها لحفظ كبريائها وكرامتها. مع هذا أظن أن آرندت ستكون مصدومة حينما ترى نفسها اُبتليت بحبٍّ نمطي جريح، سخيف حتى لعمرها الكبير. كانت آرندت على نحو ما، متفاجئة من غيرة زوجة هايدغر منها. رغم أن آرندت لم تكن خيانة هايدغر الوحيدة، وكيف لها أن تتوقع أي شيء غير الغيرة من جانب إلفريدا هايدغر.

رغم أن الأديولوجية النازية قد قاربت من الشريكين، لم يكن مفاجئًا أن تنكر آرندت عن زوجها الثاني بوخلر كما فعلت مع ياسبرز، ما حدث بينها وبين هايدغر بعد الحرب العالمية الثانية. تبدو تعقيدات أخلاق وسط أوروبا من وجهة نظر الأميركيين مثل دوامات من العلاقات الخائنة. لنأخذ مثالًا واحدًا، عندما كانت آرندت تقرأ عام 1961م أجزاء من مقالة نيتشة لهايدغر على صديقها كيرت وولف، الذي لم يكن الناشر الأميركي لهايدغر، «لم تذكر ذلك لياسبرز» خشية أن تعلَّ قلب معلمها المريض.

يخطئ المثقفون سياسيًا، أخلاقيًا، وشخصيًا، كما يخطئ الآخرون تمامًا. وربما لا يملك البشر العاديون الكفاءة ذاتها لخداع الذات كأصحاب العقول الفذة. من أجل سمعة آرندت والتساؤلات عن رسائلها التي حققت ضررًا أكبر ـ يتساءل المرء لِم لم تكن داهية لتدمر كافة تلك المراسلات؟.

في دهاء النساء سياسيًا، من كتبن مرارًا عن الأصالة والكذب، قد يستحيل أن تدمر ماضيًا ما لم ترى فيه ضررًا. هايدغر أيضًا، كان لديه طرقه الخاصة في خداع الذات. فقد كان هناك جدل طويل قائم حوله، وأصبحت آرندت جزءًا آمنًا منه. ويأمل المرء أن تحقق الفلسفة المهنية يومًا المثل الأعلى للنزاهة، حتى توضع قصة آرندت وهايدغر في منظورها السليم، دون مواعظ وعقائد مسيحية لا مبرر لها.

رغم أنه لم يرق لآرندت أن تتخذ مساعدة مما يكتبه فرويد، كتحذير لأحد أكثر فلاسفته إخلاصًا، يذكرنا فرويد كيف أن هاملت قد يبدو محقًا عندما تساءل من الذي سيفر من السوط بعد المثوبة؟.

على عكس ما يروق للآخرين أن يتحدثوا عن «استيلاء» هتلر على السلطة في ألمانيا، قد أُشير بدلًا من هذا على المدى الذي نجح فيه النازيون في العمل داخل سياق قواعد اللعبة الديمقراطية. اتخذوا بالطبع مصلحة غير عادلة من الفرص السياسية، ولعب الترهيب والعنف دورًا في حملاتهم الانتخابية. لكن وفقًا للمعايير التقليدية للبرلمان الديمقراطي، حصل حزب هتلر على دعم شعبي أكبر من أي حكومة ديمقراطية منتخبة. لذلك بقي فشل نظام فايمار بعد الحرب العالمية الأولى من منع نجاح هتلر علامة ثابتة على حيوية الديمقراطية.

يمكن أن يُرى النظام الألماني كتدمير للذات، بتناسب مع ما يُنظر له على أنه ديمقراطي عادل، وقد ساعد ذلك في تعزيز أحزاب متطرفة هامشية مثل بدايات النازية. أتساءل من منا سيواصل وضع امتياز على المثل العليا لحرية التعبير وحقوق الأقليات في شمال أميركا إذا آمنا بالفعل أن هناك فرصة لازدهار نازية جديدة هنا؟. في فرنسا حاليًا بنشر(كفاحي).

بالنظر للقوة المشتركة لحق النازية ويسارية الشيوعية، كان من المستحيل على حكومة فايمار أن تتدبر أمرها دون لجوء لأوامر القوة الطارئة والتي كان هتلر قادرًا من مكتبه أن يستخدمها بأفضلية سيئة. كان هتلر ماضيًا في تحقيق أهداف قد رسمها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. مع هذا لا تزال فداحة نتيجة الهولوكوست، أمرًا مذهلًا، نصف قرن حتى وعى العالم على أسوأ كارثة. لا تزال الدراسات المقارنة الحالية للإبادات الجماعية، والتي لديها على سبيل المثال نظرة على دمار أرمينيا على يد الإمبراطورية العثمانية، أو تعدي ستالين على مزارعي الكولاك، لا تقارن بفظاعة ما ارتكبته النازية[12]. حتى بعد استمرار الهولوكوست نحو الجزء الأخير من الحرب العالمية الثانية باستخدام موارد عسكرية ألمانية قاتلة، لم تؤخر المصلحة الذاتية تسارع قرار القوة النازية لتحقيق الحل الأخير. بغض النظر عن إسهام ألمانيا العظيم في الموسيقى، الفلسفة، والأدب، كان بقاء النازية وصمة عار على تحرر ومنطقية أفكار القرن التاسع عشر التنويري.

المفترض أن التحليل النفسي قادر على التعامل مع الدوافع غير العقلانية. لكن من وجهة نظر هتلر، لجأت النازية لعقلنة ذاتها خلف سياسة حكومته. وأصاب اضطراب نظامه وسط أوروبا آثارًا على الحركة التي ابتدأها فرويد. رغم مساعدة الداعمين من الخارج، إلا إن فرويد والمحيطين هربوا في ذلك الوقت للمنفى في لندن، وعند وصوله هناك وجَّه نصيحة لأخواته الأربع الذين خلفهم في فيينا، لكن الوقت كان متأخرًا لإنقاذهم من قبضة النازية.

(فرويد وشقيقه الأصغر تركا لهن مالًا وفيرًا، لإثبات ضمان غير كاف). رغم أن قلة من المحللين قد ماتوا في معسكرات الاعتقال، كان فكر التحليل النفسي بارزًا على حساب سيكولوجية حياة مخيمات الاعتقال. وبإرسال المحللين لأميركا، وبريطانيا، وأماكن أخرى، ساعد النازيون بلا شك بانتشار تعاليم فرويد.

إن علامة تأثير التحليل النفسي على الحياة الثقافية لزماننا، هو مشاركة المعادين له في أسسه البنائية. آرندت على سبيل المثال، كانت معادية لفرويد عداء لا يمكن تصوره. وفي نظرتها حول مدرسة واتسون السلوكية، كتبت لبلوخر: «لا يمكن أن يقرأه المرء، إن فرويد أعمق منه فكرًا، ليس عبقريًا، بل آلهة». سنوات أخرى لاحقة، كان بلوخر يحاول بأسى أن يجمع أحد أصدقائه بإريك فروم لعلاجه، لكن الدعايات المعادية للتحليل النفسي منهما دمرت الغرض الجوهري. كما كتب بلوخر لآرندت «لايزال الرجل البائس يقتبس من جدالنا ضد التحليل النفسي، لا يفترض أن نتحدث مع الآخرين كما نتحدث مع بعضنا- إننا في هذه الحالة نساعد على الفساد».

بالنسبة لآرندت، التحليل النفسي ما هو إلا محاولة لاغتصاب دور الفلسفة التقليدية العالمية. بينما يسعى لاحقًا شخص مثل لاكان ـ على العكس من فرويد ـ بالتقريب بين الفلسفة والتحليل النفسي. كانت آرندت مغيبة بسذاجة عما يمكن أن تؤول إليه تعاليم فرويد خاصة في أميركا، وتصبح بديلًا عما اعتبرته تفلسفًا حقيقيًا.

لازلت قادرًا على استحضار صدمتي بأطروحة آيخمان ـ وحكاية الهولوكوست المسجلة للمحاكمة التي سردتها، وللنظرة الخاصة التي طورتها. رغم أن الخبراء كانوا على صواب، بهجومهم على عدم تعاطف آرندت مع ضحايا النازية، إلا إن كتاب آيخمان يستعرض قضايا نظرية رائعة. ويبقى ذلك حقيقيًا حتى بالرغم من أن المؤرخين كانوا قادرين على تمزيق خلاف آرندت وقولها بأن اليهود بلا قائد يقودهم، وأن قلة منهم كان عليهم أن يموتوا. تبنت آرندت نهجًا تحليليًا قاسيًا من لوم الضحية، وهي تروي كيف من الممكن أن يتعاون اليهود على تدمير أنفسهم. رغم أنها لم تعترف علنًا بالدعم المعلن الذي عرضه عليها بيتلهايم، كان منطق آرندت مشابهًا له حول تصرف اليهود بزعمها كخراف تجاه عدوان النازية.

لم تمر آرندت بازدراء على دلائل تاريخية تعاكس حجتها فقط، ولكنها ذهبت إلى اتهام آيخمان بشكل مركزي، وكان تحميله مسؤولية تدمير يهود أوروبا أمرًا «عاديًا». استمتعت آرندت باقتراح نصف دزينة من الأطباء النفسيين ممن شخصوا آيخمان برجل «طبيعي» قبل المحاكمة، وعلَّقت: «تقف الحقيقة المرة خلف كوميدية مختصي الروح، وهي أن آيخمان لم يكن طبيعيًا ناهيك عن شرعية جنونه».

وعن دليل الأطباء النفسيين ممن يدَّعون أن آيخمان: «رجل مهووس برغبة خطرة ونهمة للقتل»، و«شخصية سادية منحرفة»، اعتقدت آرندت: «أنه ربما ينتمي لمصحة عقلية» بدلًا من إخضاعه لحكم الإعدام. تجاوزت آرندت لآراء الأطباء النفسيين لأنها وجدت أن التحدِّي الأكبر هو افتراض أن الشخص العادي يمكن أن يكون عاجزًا عن قول الحق من الباطل.

كانت تميل لاتهام الطبقة الوسطى المجتمع «البرجوازية»، وكانت ألمانيا جزءًا من خيبتها. رغم أنها في كتابها المبكر: «أسس التوتاليتارية» تقدمت بفكرة «تطرف الشر»، وتوقعاتها عن الجماهير «كالرجال الذين لا يمكن فهمهم نفسيًا» يتفق مع ما ذهبت إليه في رأيها عن آيخمان.

رغم أن الجدل القائم حول كتاب آيخمان بدأ بالفعل بمسألة ملائمة خطفه في الأرجنتين عام 1961م، واصل الصهاينة تضررهم من موقف آرندت الانتقادي تجاه سياسات إسرائيل، وازدرائها لخطاب المدعي العام البلجيكي، وتجاهلها لبطولة المقاومة اليهودية للنازيين. ليس على المرء أن يعمى عن الصهاينة ليأخذ استثناء لأحكام آرندت، فالعديد منهم بدوا ارتجاليين.

كان الجدل الساخر حول كتاب آرندت يختلف عن الزوبعة الفكرية الأخيرة التي ألَّفها دانييل غوناه غولدهاغن «جلادو هتلر المتأهبون: الألمان والهولوكوست ـ Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust»[13]. كانت أطروحة آرندت الخاصة مؤثرة عالميًا، بشكل لافت، ولم يشعر غولدهاغن بحاجة ليتقدم بتحدٍّ أمامها. في تصوره الذي يركِّز على سيكولوجية المعتدين، وكيف استجابوا طواعية لحل هتلر الأخير بوحشية غير عادية، يذكر غولدهاغن: «رغم أن استعادة شخصية المعتدين بوجودهم الاجتماعي والثقافي أمر صعب، إلا أن صوتهم كمخلوقات رعناء، خائفة تؤدي مهاما خاطئة إكراهًا غير حقيقية». حول هذه النقطة يقول غولدهاغن: «الشخص المسؤول عن نشر هذه الصورة هي حنة آرندت». نسخة غولدهاغن من «صورة» آرندت، كانت نوعًا ما مغرضة، لكن كتابه لا يزال ملفتًا تحديدًا لأنه سلط الضوء على المدى الذي كان فيه سلوك المعتدين أي شيء سوى «عادي». الواضح أن غولدهاغن لا ينظر إلى شخص مثل آيخمان كشخص بيروقراطي.

مشكلة مقارنة آرندت وغولدهاغن معقَّدة بخلفياتهم المهنية المختلفة. بينما تشيِّد آرندت فلسفتها في ألمانيا، كان غولدهاغن عالم اجتماعي صغير على وشك أن يبدأ حياته. فاق النزاع حول كتابه بطريقة ما، على الجدل حول كتاب آرندت. واتهم غولدهاغن ألمانيا بنفسها، وتقليدها الخاص بمعاداة السامية. بطريقة ما أصبح كتابه موضوعًا للمصلحة السياسية الدولية، ولم تتفوق مبيعات كتابه على مبيعات آرندت فقط، بل أن ردة فعل الألمان تجاه كتابه كانت أكثر شعبية وقوة مما حققته آرندت. يبقى أن نرى كيف نجح كتابه على المدى الطويل.

بعيدًا عن شدة الطبيعة البيروقراطية للهولوكوست، سلط غولدهاغن الضوء على القسوة الاستثنائية الموجودة في ممارسات الإبادة الجماعية الألمانية. تثبت هذه التدميرية للأسف، أن أكثر العوامل تثبيطًا لمنظور التحليل النفسي الكلاسيكي هي الإمكانات الهمجية للطبيعة البشرية، والتي ذكرها فرويد خلال الحرب العالمية الأولى. لا يُلحظ غالبًا أن غولدهاغن تحدَّى شخصيات قديمة، خرجت من محاكمة نورنبيرغ، تزعم مقتل ستة ملايين في معسكرات الاعتقال النازية. يحتج غولدهاغن بأن «وحدات الإبادة» كانت مسؤولة عما يقارب أربعين بالمئة من الضحايا اليهود. ويصر غولدهاغن أن النازية «لم تنشر غرف الغاز، والأرجح أنهم قتلوا مثل بقية اليهود»[14].

بينما انتفض ممثلو المؤسسة اليهودية الدولية (بما فيهم إيزايا برلين كما أشارت آرندت) للانقضاض عليها، في حالة غولدهاغن كان شبه متورط في حلقة حرب مع المؤرخين. فاُتهم بتبسيطه المبالغ للدوافع خلف القتل الجماعي لليهود. يتساءل على سبيل المثال لماذا يُتهم الألمان بشدة في حين أن النمساويين الذين شكَّلوا 10% من سكان نظام هتلر، كانوا متورطين في نصف جرائم الإبادة؟[15]. تبدو معتقدات معادو السامية للأغلبية كتفسير وحيد لتدمير يهود أوروبا. كان الردُّ الشعبي المناسب لكتاب غولدهاغن كافيًا ليمرض منافسيه مهنيًا، والذي يفترض بأنهم غيورون من نجاحه الهائل.

عزت آرندت مفهومها عن آيخمان، كجزء من لائحة اتهام الثقافة الحديثة، لأنها دمرت طبيعة المحرقة وأولئك المسؤولين عن قتل الملايين. لكن إذا كان غولدهاغن قد صحح قطعًا مفهومها عما حدث، فتفسيره الخاص سيظهر في نهاية المطاف لتقليص مسؤولية هتلر عما حدث. نتفق أن القناعة الشعبية هو أن هتلر كان مجنونًا بشكل ما، أو غير مستقر على الأقل عندما ننظر لدوره الخاص. إلى جانب أنه أعطانا هاملت دون أمير الدانمارك. لم ينجح غولدهاغن أيضًا في تغذية الدوافع المتنوعة للذين صوتوا للحزب النازي في بداية المطاف.

دعونا نفترض أن كلًّا من آرندت وغولدهاغن كليهما كانا مذنبين في تبسيطهما، وأن النقَّاد المختصون كانوا مساهمين في رفع الكراهية الشعبية المعترضة. مع هذا كُتب كتاب: «آيخمان في القدس»، وكتاب: «جلادو هتلر المتأهبون»، كما أعتقد لقراءة إبهارية. دراسة الهولوكوست لم تتأخر بالتأكيد للتحيِّز الشعبي لكتاب كلٍّا من الطرفين. لا أريد أن أقيّم أعمالهما على ضوء العواقب الاجتماعية التي حصلت، لكنني أعتقد أنه من العسير إنكار أن نشر هذين الكتابين والجدل الذي تصاعد حولهما، هي إشارة مضيئة للأجيال المتعاقبة حول ما حدث تحت الحكم النازي.

فرّت أستاذتي القديمة مع عائلتها من وسط أوروبا في الثلاثينات، وتشير لي بإنها كانت تأمل في وقت محاكمة آيخمان، أن يُعثر على نازي سابق أو آخر ويوضع في المحاكمة، حتى يذكر العالم من جديد ما حصل. يمكن أن يؤدي الانتقام لسياسة غريبة. كم منا يؤيد اختطاف شخص ما، ليُقدَّم إلى المحاكمة خارجيًا وتحت سلطة قضائية مختلفة؟ أنا مندهش لأنه لم يكن هناك معارضة لما حدث «لنوريغا» في بنما العام الماضي، والذي يقبع الآن في سجن بأميركا. العديد منا يميل لأن يكون مشككًا حول أخلاقيات عقوبة الإعدام، مع ذلك إذا واجهنا ما فعل النازيون أجد من الصعوبة اتخاذ موقف إنساني تجاههم. سيواصل مفهوم جرائم الحرب والمحاكمات السياسية بوجه عام مطاردة التشريع الليبرالي الحديث. ففي عام 1970م صدم تيلفورد تايلور، الذي كان رئيسًا مستشارًا للولايات المتحدة في نورنبيرغ، المناصرين للحرب في الجنوب الآسيوي بنظرته للمغامرة الأميركية على ضوء مبادئ محاكمة نورنبيرغ[16]. وقد أيقظ ما فعله مع طالبان ومقاتلي القاعدة مشكلة تحقيق العدالة السياسية.

من الواضح أن لدى التحليل النفسي شيئًا مهمًا ليقوله حول العنف، فالتركيز الفرويدي المبكر على العلوم المرضية كان قبل سنوات من بدء حديث آنا فرويد حول العنف، وكيف يمكن أن يكون صحيًا وجزءًا أساسًا من نمو الشخصية[17]. لكن ليس هناك كرسي بحث نظري، حتى ولو بشأن الوجود المفترض «لغريزة القتل»، يمكن أن يزودنا بالحقائق الوحشية التي توضحها المحرقة. غالبًا ما تطغى طاقة الشر تحت مصطلحات مهنية، تذكرنا أن ما من اصطلاح في علم النفس الحديث يجب أن يؤخذ كبديل للفلسفة التقليدية الأخلاقية. لايزال لغزًا بالنسبة لي كيف تقع محرقة مثل الهولوكوست أو أي إبادة أخرى. كتب هنري آدامز مرة في كتابه: «التعليم ـ Education» إن: «الفشل الهائل للمسيحية عذاب للتاريخ»[18]، وقوله المأثور هذا يبدو لي وثيق الصلة بالهولوكوست. ربما كان غولدهاغن وآرندت على حق تام في علاجهما لمشكلة قد تبقى عاجزة باستمرار عن حل نفسها، لكنها معضلة حقيقية.

بعد فترة قصيرة من تولي النازيين السلطة، بدأوا بحرق الكتب، علَّق فرويد على ذلك بأسف: «ما هو التقدم الذي نجنيه، ربما أحرقوني في العصور الوسطى، لكنهم في هذه الأيام راضين بإحراق كتبي!». بكافة شكوكه في دوافع الفرد، وشكوكه حول تقدم التنوير في التاريخ، كان فرويد مثل غيره لم يتوقع فظاعة المحرقة، ولكن غاب عنه الخطر الأصلي لتنصيب هتلر. قبل أن يأخذ النازيون السلطة، نُقل عنه قوله: «إن أمة أنجبت غيته لا يمكن أن تصل لهذا الدمار». وبعد تولي النازيين السلطة انضم فرويد بسذاجة للإيمان بكافة أنواع القصص عن انحراف هتلر الجنسي المزعوم. عندما قال فيلهلم رايخ بأن هزة الجماع الجنسية دلالة على حالة سوية، كان يدافع عن جانب من جوانب التفكير الفرويدي. لكن هتلر وستالين كانوا قد جددوا اهتمامهم برمز الشيطان. ميخائيل بولغاكوف بروايته الشهيرة: «المعلم ومارغريتا» وما هي إلا مثال وحيد على أن الإيمان بقوى الشر الخارقة أمر طبيعي.

عندما عرّف فرويد بنفسه هزليًا في عدة مناسبات بأنه الشيطان، كان يفعلها بروح نيتشة واحتفالًا بفضائل العدوان. مهما كان افتقار فرويد للتقوى الطبيعية مُهينًا، هل التساؤل عما إذا كانت الأخلاقيات المسيحية تستحق أن تهان من قبل أشخاص مثل نيتشه وفرويد (أو هايدغر) يعدُّ تساؤلًا شرعيًا، على الأقل، لم يتركنا فكر فرويد ـ وهذا ينطبق على شخصيات غيره ـ غير مستعدين للاشتباكات بين القيم الأخلاقية البديلة، والتي ستكون صادمة في علاقتها بالمحرقة. كما اعتاد جان بول سارتر أن يتكئ على مثال المعضلة الفلسفية لشاب يجبر أن يختار بين الجلوس في البيت ليحمي أمه المسنة كمعارضة للانضمام للمقاومة.

يفترض أن تُعلَّق مفاهيم أميركا الشمالية للحالة السوية على ضوء المبالغات المختلفة التي قدمها آرندت وغولدهاغن. إذا قدرنا الكفاءة الكاملة للبشرية للتصرف بطرق مخيبة صادمة، يحتم علينا تقدير كفاءتهم بتجاوز التجربة بطريقة بطولية. قبل أن تتحقق هذه الثروة التي نتمتع بها في هذه القارة، كانت قد مرت بتشوّهات عديدة، كالدمار الهندي، العبودية، والحرب الأهلية، لذا يجب أن تكون متوازنة مع ما حصل في أماكن أخرى حتى لو كانت أسوأ من ذلك. في مواجهة واقع الهولوكوست أعتقد أن أولئك الذين حاولوا إحياء التعاليم الأخلاقية والفلسفية قد قدموا خدمة جليلة. فمن الشجاعة أن يحاول شخص مثل أوتو رانك شرعنة إيثار من جانب تحليلي ـ نفسي. وكذلك الطبيب النفسي المتغطرس إريك إريكسون، والذي ازدراه لاكان، بصفته الأكثر خطورة، لأن مدرسة لاكان كانت تحاول إضفاء أخلاقيات مسيحية داخل التحليل النفسي. وليس من المفاجئ أن شقيق الراهب بنديكيت والذي أهداه لاكان أطروحته، كان قادرًا على وصف كافة تعاليم لاكان ضمن اللاهوت الكاثوليكي[19].

رغم أن التحليل النفسي انجذب خاصة لليسار، لكن يجب ألا نتجاهل الطرق الأساسية التي كانت مساعدة بإثراء بعض الجوانب القديمة للثقافة الغربية. وعلى المرء ألا يذهب بعيدًا كما فعلت آرندت بردة فعلها مع السلوكي واتسون، لتستنتج أنها وحدها وفرويد يمكن اعتبارهما مفكرين عميقين في هذا الشأن، لكنها ساهمت مثل غيرها من المفكرين بإيقاظنا حول ضرورة مواجهة التحديات الأساسية للحياة الأخلاقية.

 


هوامش:

[1]         Hannah Arendt/Karl Jaspers Correspondence 1926 ـ 1969, ed. Lotte Kohler and Hans Saner, translated by Robert and Rita Kimber (New York: Harcourt Brace 1992).

[2]         Hannah Arendt, Essays in Understanding 1930 ـ 1954, ed. Jerome Kohn (New York: Harcourt Brace & Co., 1994).

[3]         Hannah Arendt: Critical Essays, ed. Lewis P. Hinchman and Sandra K. Hinchman (Albany: State University of New York Press, 1994). See also Margaret Canovan, The Political Thought of Hannah Arendt (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1974), Stephen J. Whitfield, Into the Dark: Hannah Arendt and Totalitarianism (Philadelphia: Temple University Press, 1980), Maurizio Passerin d’Entreves, The
Political Philosophy of Hannah Arendt (New York: Routledge, 1994), Larry May and Jerome Kohn, editors, Hannah Arendt: Twenty Years Later (Cambridge, MA: Hannah Arendt 205 MIT Press, 1997), Craig Calhoun and John McGowan, editors, Hannah Arendt and the Meaning of Politics (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1997), Dana R. Villa, Politics, Philosophy, Terror: Essays on the Thought of Hannah
Arendt (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1999).

(*)       كتبت آرندت هذا المقال بعد سنة من نشر صورة لطلاب سود يدمجون في مدارس البيض في (ليتل روك) ويحيط بهم طلاب غاضبون من البيض. انتقدت في هذا المقال قرار المحكمة والرئيس آيزنهاور بإلغاء الفصل العنصري في التعليم الثانوي، بزعمها أن الفصل العنصري شأن اجتماعي لا يجب أن يدخل تحت دائرة النطاق السياسي. وقد قوبل هذا المقال بنقد حاد، إذ كيف يمكن لها كواحدة من أكبر نقاد معاداة السامية أن تدعو للفصل العنصري في المدارس الأميركية بوصفها دخيلة على تلك الثقافة.

[4]         Within Four Walls: The Correspondence Between Hannah Arendt and Heinrich Blucher, 1936 ـ 1968, ed. with an introduction by Lotte Kohler (New York: Harcourt, 2000).

[5]         لتفصيل أوسع حول رأي برونو بيتلهايم انظر الفصل العاشر. (المنهجية).

 

[6]         See Paul Roazen, Political Theory and the Psychology of the Unconscious (London: Open Gate Press, 2000), «The Rise and Fall of Bruno Bettelheim,» pp. 124.

 

[7]         Between Friends: The Correspondence of Hannah Arendt and Mary McCarthy 1949-1975, ed. with an introduction by Carol Brightman (New York: Harcourt Brace, 1995).

 

[8]         Randall Jarrell, Pictures From an Institution (London: Penguin Books, 1959).

 

[9]         Elzbieta Ettinger, Hannah Arendt/Martin Heidegger (New Haven, CT: Yale University
Press, 1995).

 

[10]       See, for instance, Richard Wolin, Heidegger’s Children: Hannah Arendt, Karl Lowith, Hans Jonas, and Herbert Marcuse (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2001).

 

[11]       صدرت ترجمة هذا الكتاب (الوضع البشري/حنة آرندت) عن دار جداول بالتعاون مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ترجمة: هادية العرقي.

 

[12]       Alan S. Rosenbaum, Is the Holocaust Unique? Perspectives on Comparative Genocide (Boulder, CO: Westview, 1996).

 

[13]       Daniel Jonah Goldhagen, Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust (New York: Vintage, 1997).

 

[14]       Daniel Jonah Goldhagen, «Motives, Causes and Alibis» New Republic (Dec. 23, 1996), p. 45.

 

[15]       Fritz Stern, «The Goldhagen Controversy: One Nation, One People, One Theory?» Foreign Affairs, Nov.-Dec. 1996, p. 129.

 

[16]       Telford Taylor, Nuremberg and Vietnam: American Tragedy (Chicago: Quadrangle Books, 1970). See also Gary Jonathan Bass, Stay the Hand of Vengeance: The Politics of War Crime Tribunals (Princeton, NJ: Princeton University Press,
2002).

 

[17]       Anna Freud, Normality and Pathology in Childhood (New York: International Universities Press, 1965), p. 180.

 

[18]       Henry Adams, The Education of Henry Adams (New York: Modern Library, 1931), p. 472.

 

[19]       Paul Roazen, The Trauma of Freud: Controversies in Psychoanalysis (New Brunswick, NJ, Transaction Publishers, 2002), ch. 8.