الكاتب | جعفر نجم نصر |
لم تتعرض جماعة دينية الى الاضطهاد أو التنكيل داخل المجتمعات الشيعية وعلى مدى قرون خلت، مثلما تعرض المتصوفة والعرفاء، فلقد مورست ازائهم كل أساليب المراقبة والمعاقبة، فضلاً عن أساليب التشويه والتعمية الفكرية، ولقد كان الفقهاء الشيعة وبما يملكون من مكانة روحية وسطوة اجتماعية أكبر المراقبين والمعاقبين للفكر الصوفي والعرفاني وأهله، باستثناء مجموعة قليلة جدا منهم، والذين كانوا اما عرفاء يظهرون الوجه الفقهي فحسب، وأما من كان عارفاً وفقيهاً منهم في آن واحد، وهذه حالات نادرة جداً داخل الحوزات الشيعية.
ان هذين النسقين الروحيين المتداخلين (التصوف والعرفان) كانا يمثلان العدوان التقليديين للحوزة ومقلديها من العامة، وكان ينظر لهما دائماً بوصفهما النقيض الروحي لمسار خط التشيع الإمامي، ولهذا فقد تم مناصبتهما العداء بصيغٍ متعددة، أيسرها اختلاق أحاديث ومرويات منسوبة لأهل البيت للطعن بهم وتسقيطهم من دائرة الاسلام مرةً، ودائرة التشيع مرةً أخرى، واعلاها كانت أساليب الإبادة الجسدية والثقافية.
والإبادة الثقافية تعني ان مجموعة مهيمنة ومؤثرة تمتلك السلطة والنفوذ، تقصي مجموعة لا تتفق معها ثقافياً على عدة مستويات عن الحياة أو المشهد الثقافي، وبطرق متعددة، مرة تكون عن طريق التكفير، والاتهام بالهرطقة، ومرة تكون بالحصارات الاقتصادية المتنوعة، ومرة ربما تصل ذروتها الى التصفية الجسدية.
ان هذه العملية المنظمة (الإبادة الثقافية) هي ما مارستها حوزة النجف على مدى ما يزيد على أكثر من اربعة قرون من الآن، وهذه الإبادة تمت بمباركة ورعاية سياسية مباشرة في البدء من (الدولة الصفوية1501_1736) التي ارادت التخلص من الطرق الصوفية التي لها صلات وثيقة مع الدولة العثمانية آنذاك، وهذه مسألة سنرجع لها لاحقاً.
ولكن المسألة المهمة التي ينبغي توضيحها في البداية ان هنالك مقولات حوزوية علمية ومقولات ثقافية في حوزة النجف، فالمقولات العلمية هي مصدر قوة لها لأنها ذات مرتكزات عقلانية، وبالمقابل هنالك ثقافة حوزوية لها مقولاتها التي لا تمت بأية صلة الى تلك المقولات أو النظام المعرفي/ الأصولي؛ لأنها تعبر عن سياقات ثقافية ومحيط نجفي خاص، يعبر عن ارادة شخصية او شأن شخصي ثقافي لفقيه معين أزاء قضية معينة، وهذه المقولات والمرويات هي شأن شخصي تماماً، ولا تملك أية صفة علمية اطلاقاً.
ولكن مع الأسف عامة الناس لا تعرف ذلك، ومن العجيب ان الأمر ينطلي على طلبة الحوزة أنفسهم فيرددون بنهج اعمى تماما ما قاله الفقيه أو حاشيته أو المقلدون، ويزيدون عليه بمرويات أو مواقف شخصية، وبمرور الزمن تتثبث هذه الثقافة الحوزوية لكي تعد بوصفها مقولة علمية وجزء من النظام المعرفي الحوزوي، بل وذات سمة قدسية لأنها صدرت عن الفقيه الفلاني، وهنا تتكون القصص والمرويات والمواقف حتى تصبح حجة بين المتنطعين باسم المذهب والمنافحين عنه ، والأمور كلها صناعة بشرية، ومواقف شخصية وذاتية ولا علمية فيها، ولكن في عقلية البسطاء والكثير من الحوزويين ان ما يقوله الفقيه هو (كلام مقدس) وجب اتباعه ايا كان هذا الرأي علميا ام موقفا شخصيا.
ان هذه المسألة تمثل احدى المفاتيح الرئيسة لكي نفهم كيف ان مواقف شخصية ضد أهل العرفان قد تشكلت وتبلورت على مدى قرون داخل الحوزة، وأصبحت تتسم بالحجية والثبوت القطعي!!
ان الإبادة الثقافية لا تتم الا عبر صناعة العدو، أو كبش المحرقة كما اسماه الانثروبولوجي (رينيه جيرار) والذي يتم تدميره تحت شرعية قاعدة تأويلية تقوم على امتلاك المعنى المقدس واحتكار الحقيقة الدينية، والفقهاء منذ قرون مازالوا يحتكرون الحقيقة الدينية لأنفسهم حصراً ويعدون أنفسهم أصحاب الوصاية على الإسلام، قبالة العدو المهرطق، الزنديق، الكافر، خارج الملة، خارج الجماعة الدينية، الذي هو (المتصوف أو العارف)!!.
ومن ثم فان الإبادة الثقافية تجري بعد ذلك تحت (سياسة الحقيقة) كما أسماها ميشيل فوكو، والتي تنتج تحت اكراهات متعددة، يقع الخطاب في مقدمتها، وهذا الأمر ممكن فهمه بسهولة إذا ما أدركنا ان (سياسة الحقيقة) الأصلية في الوسط الشيعي تمت بإدارة الدولة الصفوية التي أعادت انتاج الحقيقة، وهذا ما سنوضحه لاحقاً.
ومن ثم فاننا ضمناً نتحدث عما اصطلح عليه الكاتب وائل حلاق بـ(الإبادة البنيوية)، والذي أراد بها تكاتف وتداخل مجموعة بنى ومؤسسات اجتماعية لتشكيل حالة الإبادة من حالتها الأبسط (الإبادة الثقافية) الى حالتها الأعقد (الإبادة الجسدية الجماعية)، ولعل قوة حضور وهيمنة الخطاب الحوزوي الذي تتستر به مؤسسات كثيرة لمصالح مترابطة ومتعددة، فضلاً عن سعة عدد الدهماء والعامة من السذج، ومن ثم تداخل العمل الاعلامي الديني، الطوعي واللاطوعي، كل هذا أسهم بالفعل في تشكيل إبادة بنيوية ولعل القوة الاقتصادية (المالية) للفقهاء كان اداة مباشرة للهيمنة على رواتب المهتمين بالعرفان داخل الحوزة، بل امتد الى التجار المقلدين، ومن ثم فأن الإبادة البنيوية كانت بأذرع اقتصادية في البدء.
معظم الأديان تعيش على معتقد وجود عدو يجب محاربته ومواجهته، ولقد كان (الشيطان) العدو الأبرز عند عدد كبير من الديانات، ولكن ليست هذه المسألة المهمة، الأهم هو هل المؤسسات الدينية كالحوزة وغيرها تصنع لها عدو داخلي لأجل حماية الجماعة الدينية (الشيعة) منهم؟
من الواضح في الزمن البعيد والقريب انه لم يكن للحوزة أعداء واضحين بنحو جلي ولو أخذنا الزمن القريب، هي لم تعادي الايديولوجيات السابقة ولا المعاصرة (العلمانية)؟ الا في حالات فردية وفتاوى فردية أمثال تجربة السيد محمد باقر الصدر (1935_1980) الذي واجه المد الشيوعي نظريا والتمدد البعثي ميدانيا. ولكنها ومن العجيب والغريب انها كانت دائماً والى اللحظة الراهنة تعلن العداء الشديد ضد (العرفان وأهله).
ما الذي تخشاه الحوزة من العرفان؟ هل نظامه المعرفي/ العقدي والطقوسي؟ أم انه يسلب منهم مكانتهم الروحية عند العامة ويأخذها صوب أهل العرفان؟ ام انه يعتمد على عقائد وممارسات العرفاء التي تشوش على الجماعة الدينية (الشيعة) في عقائدها المتوارثة الفقهية الطابع كلها ، ولهذا وجب حمايتهم منه؟.
لماذا لا تفتح مساحة أو فضاء للحوار الداخلي؟ وإعادة غربلة العرفان وعقائده وممارساته؟ بل لماذا لا تذهب صوب عقلنته بمنهجية شديدة ، مادام كان بنظرها مناف للعقلانية الدينية التي تقول بها؟ والسؤال الأهم هنا: لماذا حوزة النجف تعادي العرفان؟ وحوزة قم تحتضنه؟.
وممكن أن أضرب أمثلة قريبة العهد عن ذلك: لقد أصدر السيد ابي الحسن الاصفهاني(متوفي 1946) (زعيم الحوزة الدينية في بدايات القرن العشرين) قراراً تعسفياً بأن يذهب استاذ العرفان والأخلاق المبرز آنذاك وأحد اكابر تلامذة العارف المعروف (السيد علي القاضي)(1866_1949) وهو السيد حسن أسد الله الموسوي المشهورب( المسقطي)(متوفي 1948) الى مسقط للتبليغ وترويج الدين!!، لأنه قام باعطاء دروس في العرفان في الصحن الحيدري ولقد توفى السيد حسن في بلاد الغربة التي تنقل فيها (مسقط ثم الهند)!!.
والقرار شخصي ولا يمت لأية مبررات شرعية أبداً، ولكن لأن الحاشية قالوا لأبي الحسن ان السيد حسن سيقلب الحوزة الدينية! الى حوزة توحيدية وفقاً لما رواه العارف محمد حسين الطهراني (1926_1995)، فلهذا قام بإبعاده.
ولعل هذه المضايقات الكثيرة هي التي دفعت الكثيرين من تلامذة السيد القاضي على سبيل المثال الى ترك الحوزة نهائياً والعيش بموارد محدودة، مثلما فعل السيد هاشم الحداد، والذي كان يقتات من عمله في الحدادة.
وكما تعرض السيد محمد حسين الطبطبائي (1904_1981)(صاحب تفسير الميزان) الى المضايقات نفسها بعد قدومه الى قم، وقيامه بتدريس كتاب (الأسفار) لملا صدرا الشيرازي(1572_1641)، وهو كتاب عرفاني أساسي كما هو معروف، اذ هدد آية الله حسين البروجردي (توفي 1961) بقطع رواتب طلاب الحوزة الذين يأخذون الدروس عند السيد الطبطبائي، ولكن السيد أصر على موقفه علماً انه شخصياً طوال فترة حياته لم يتسلم أي راتب من الحوزة الى وفاته!.
وهنالك مواقف كثيرة وكثيرة لا حد لها، ولكن العامة والكثير من الحوزويين التقليديين يعدون مواقف الفقهاء هذه مواقف شرعية ومقدسة واجب اتباعها، وما هي في الحقيقة سوى نوازع شخصية ضد العرفان وأهله، بدليل ان لا برهان يقدموه في الحوزة بعد أوامرهم التعسفية تلك.
وتظل هذه المواقف الشخصية كما قلنا سابقاً تتكور ويعاد انتاجها بالوسط الحوزوي الثقافي لكي تصبح مقولات علمية تقدم للناس!! وهي لا تمتلك أية صبغة شرعية ابداً.
اننا نسعى في هذا المقال لتفكيك خطابين مؤثرين في العالم الإسلامي أحدهما يهيمن على قطاعات جماهيرية واسعة وهو خطاب (الفقيه) قبالة الخطاب النخبوي، العلمي، التفسيري بالضرورة وهو الخطاب (الأكاديمي)، وهذا الأمر استوحيناه من عالم النفس التحليلي (لاكان) والذي تحدث عن اربعة اصناف للخطابات: خطاب السيد، وخطاب الجامعي، وخطاب الهستيري، وخطاب المحلل، والخطابان الأخيران لا شأن لنا بهما.
وبالمناسبة الخطاب عند (لاكان) ليس وسيلة للتعبير الذاتي أو نحو ذلك، وانما نظر اليه بوصفه الركن الرئيس في النظام الرمزي الثقافي العام والذي يكون مسؤولاً عن تشكيل المواقف وصياغة الوجود أو النظر الى العالم وتفسيره.
فخطاب السيد هو خطاب الحقيقة لا خطاب العلم، فالسيد فوق كل علم ويرفض بكل قوة أن يخضع لهيمنته، لأنه يعي أن (العلم) هو دال لم يتخذ شكل سيادة، وإنما اتخذ شكل عبودية، وهذا يعني ان خطاب السيد يقال وهو مسند الى ضمير المتكلم، ويقابله الطائع الدائم (العبد) او من يمارس العبودية أو التعبد بأقواله!!، وهو الفقيه هنا بطبيعة الحال.
أما الخطاب الجامعي هو خطاب لا شخصي، ولا يتكلم باسم خاص، وليس له أي اسم ما عدا اسم العلم، وهو ليس بالضرورة خطاب الجامعة، فهذه التسمية (تجعله مشخصاً في مؤسسة) وإنما هو خطاب جامعي يطمح الى الكونية، وهو ينبثق من موقع الحياد المثالي، وهو بالضرورة قد تخلص وتطهر من كل موقف ذاتي لأنه يتكلم باسم العلم، وليس هو فوق العلم كما في خطاب السيد (الفقيه).
ان محاولة تقديم خطاب مستقل/ جامعي (من جهة التحليل العلمي) لمسألة ما تعرض له الفكر الصوفي والعرفاني داخل الحوزة وخارجها، انما يمثل محاولة لتبيان هيمنة النطاقات المركزية “Central domain” على الفكر الشيعي، والنطاق المركزي كما عرفه وائل حلاق هي فكرة أو مجموعة الأفكار الأساسية التي تنبع منها أو تدور حولها كل الأفكار الأخرى، التي تصبح هنا (هامشية) أو (فرعية)، فسيادة ووصاية الفقيه هي فكرة مركزية اساسية ابتلعت سائر الأفكار وهيمنت عليها، وجعلت مسألة (العرفان) أو (العرفاء) تدور في فلك (التقليد الفقهي) حصراً، مما ثبت من سطوة الفقهاء وأكسبهم الشرعية المطلقة.
فهذا المقال يحاول بيان أن هنالك أفكاراً جوهرية ينبغي أن تقرأ من جديد ويعاد النظر فيها لأهميتها الراهنية من جهة، ولضرورة وجود تكافؤ في أصوات الخطابات داخل الفكر الشيعي، الذي يهيمن عليه خطاب الفقيه، قبالة (خطاب العارف) الذي شوه وأقصي من المشهدية الدينية الشيعية على مدى قرون خلت.
ان الوجه المهم لعلاقة الفقهاء بالعرفاء ضمن المناخ الشيعي، لا يمكن أن تدرك من دون منظور فوكو عن جدلية العلاقة بين (السلطة والحقيقة) وإعادة انتاج المعرفة، أو التي اسماها الانثروبولوجي طلال أسد بمسألة (الانضباط) الداخلي أي ان الحقائق الدينية تصوغها المؤسسة الرسمية، وبالتأكيد ان دخول العنصر السياسي سيكون حاكماً وناظماً لذلك كله.
ولهذا فان اللحظة التاريخية الأساسية التي أسهمت في اقصاء المتصوفة والعرفاء من المشهد الديني/ الشيعي، انما تم عندما تأسست الدولة الصفوية، والتي كانت بالأصل حركة (صوفية) وهذا من المفارقات، ولكنها أرادت ان تمؤسس التصوف والعرفان، وهذا الأمر لا يتم الا على يد (مؤسسة الفقاهة) ولكن الأمر اقترن في البدء بأمرين مهمين كما يقول وجيه كوثراني لأجل بناء الدولة الصفوية (تنظيمياً).
أولاً: النقص الكبير في الثقافة الفقهية، وسيادة الفكر الصوفي، ومن ثم كانوا بحاجة الى جلب فقهاء من حوزات لبنان والنجف، وتأسيس الدولة لا يتم الا بوجود فقيه/ ومجموعة فقهاء يشرعون العمل السياسي.
ثانياً: والطريقة الصفوية لا تتحول الى دولة، الا بتوحيد القبائل (القزلباش) المتصوفة من الايرانيين والأتراك والأكراد، وهذا الأمر يتطلب وصاية فقهية من الأعلى.
ولهذا وجد كامل مصطفى الشيبي بعدئذٍ أن التصوف المتشيع فقد عناصره الروحية تحت تأثير الفقهاء الشيعة، مما ادى في النهاية الى ذوبان التصوف والعرفاء وثبوت التشيع الفقهي فحسب، وهذا الفعل ما جرى على يد الدولة الصفوية عبر أدواتها (الفقهاء) الذين جاؤوا من حوزة لبنان (جبل عامل) وحوزة النجف.
ان العملية الاقصائية للعرفان بمباركة الحوزات بدأت في القرن السادس عشر الميلادي، والتي ترافقت مع الصراع المرير بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية اللتين حاولتا كلتيهما انتاج نسخ للتصوف مختلفة عن بعض على الرغم من وحدتهما (الذاتية والموضوعية)، فلهذا قام اسماعيل الصفوي(1487_1524) بمهاجمة المتصوفة وهدم تكاياهم وحل طرقهم، وأعلن ان لا يوجد شيء اسمه (تصوف) نكاية بالعثمانيين!!، بل أعلن ان اسمهُ هو (العرفان) فحسب، والذي هو برعاية الفقهاء وتحت وصايتهم، ولهذا يقول الباحث ايريك جوفروا ان الكثير من الطرق الصوفية هاجرت من ايران واتجهت نحو (تركيا).
ان الشيخ علي الكركي(1463_1534) الفقيه اللبناني هو الذي صاغ (مؤسسة الفقاهة) الشيعية من جديد تحت مظلة الحاكم الصفوي، وهو أول من اكتسب الاسم المبتدع (نيابة الإمام)؟!، ووجد الباحث محمد جمال باروت ان الكركي هو الذي أسهم في صياغة التدين الشعبي الشيعي المتقاطع كلياً مع المذاهب الاسلامية الأخرى، والذي كان المتصوفة والعرفاء الشيعة يتعاطون معهم بمودة تامة.
وفي الحقيقة ان الصِدام آنذاك بين المتصوفة والعرفاء من جهة والفقهاء من جهة أخرى انما كان يتم ضمن دائرتين معرفيتين دينيتين وهما دائرة برانية (الفقيه)، ودائرة جوانية (العارف)، مثلما اصطلح عليها كولن تيرنر، فالبرانية: هي الاهتمام بالعلوم النقلية والتركيز على أصول الدين واستنباط الحكم الشرعي، أما الجوانية لديه: فهي المعرفة الحقة بالله تعالى والسلوك اليه روحياً عبر التهذيب والتزكية (الباطنية).
ولكن وعلى الرغم من العداء الشديد ضد الاتجاه الجواني / الشيعي في الحوزات آنذاك، الا ان هذا الأمر لم يمنع ظهور مجموعة من العرفاء الكبار وتطور مشروعهم العرفاني، أمثال: محمد باقر الداماد(1561_1631)، وصدر الدين الشيرازي، بل ان الفقيه الشيعي المعروف زين الدين العاملي(1505_1558)، الملقب بـ(الشهيد الثاني) كان من أهل التصوف، وان بهاء الدين العاملي البهائي (1547_1621) لم تمنعه مشيخته للإسلام من تصنيف رسالة صريحة في التصوف سماها (الوحدة الوجودية).
ومن جانبٍ آخر كانت شخصيات أخرى مهمة مهتمة بالعرفان والتصوف من المدرسة الاخبارية يذكر منهم: محمد أمين الاسترابادي (ت: 1033) واستاذه محمد بن علي بن ابراهيم الاسترابادي (ت: 1022)، ومنهم محسن الفيض الكاشاني (ت: 1090).
هذا وإن دل على شيء فإنما يدل على أن هنالك انشقاقا كبيرا داخل الحوزات من التعامل مع التصوف والعرفان ومع شخصياتها الكبرى (الغزالي وابن عربي)، فلا يوجد موقف موحد أبداً، وان السلطة السياسية الصفوية التي صاغت كثير من ملامح التشيع في عدة بلدان في العالم الاسلامي لم تستطع أن تفرض موقفاً موحداً داخل الحوزات ازاء التصوف والعرفاء.
ومن الواضح ان عند كل أزمة سياسية من (بناء دولة) أو (صراع سياسي داخلي) كانت السلطات السياسية النافذة آنذاك توجه الفقيه المتعاون معها الى الهجوم على المتصوفة والعرفاء، وهذا يبين أن العداء هو سياسي وليس عقدي أو معرفي؟.
فعلى سبيل المثال هذه المرة بعد أن اهتزت ايران بالأحداث أيام الحكام الصفويين (صفي الدين) و(حسين)(1694_1722)، لاسيما في ظل عودة قوية لقبائل (القزلباش) الصوفية/ الشعبية، والذين لم يرتقوا أصلاً الى معالم (العرفان الحقة) المثبتة كما لدى العلماء الذين تم ذكرهم سابقاً، فأن الدولة الصفوية تجمع الكل في اناء واحد أو في جبهة موحدة، على الرغم من التفاوت والخلاف بين المتصوفة الشعبيين البسطاء (القبليين) وبين المتصوفة/ الفلاسفة العرفاء (المدينيين) (أهل المدن نقصد).
وهنا جاؤوا بشيخ الاسلام محمد باقر المجلسي (متوفي 1679) وأقام مرة أخرى بإثارة حماس الحوزات والفقهاء في كل العالم الاسلامي ضد (أهل التصوف والعرفان)، فهو الذي قام بوضع الحد الفاصل بين الشيعية الامامية (الفقهية) والشيعية الصوفية – (العرفانية)، بل عمدَ وكما يقول السيد موسى الصدر الى تهذيب كتاب (الكافي) أضخم كتب الحديث الشيعية وأهمها من المرويات والأحاديث التي بها رائحة باطنية!!.
بل أسهم المجلسي بنحو كبير في جعل مركزية (الامامة) أساسية في الاعتقاد الشيعي وربطها بكافة العقائد، ولهذا فهو الذي صاغ البرانية الشيعية الأساسية (إمامية – المركز) قبالة التوجه العرفاني العالمي (إلهي – المركز)، فهو الذي جعل المرور بالأئمة الاثنى عشر مقدمة للوصول الى الله تعالى وهذا الأمر لم يكن منظراً له بنحو موسع، بل كان مجرد اعتقاد شعبي – فطري يدخل من ضمن دواعي العشق الطبيعي لأهل البيت ولا يستلزم صياغة إيديولوجية كما فعل المجلسي!!.ولكن غايته كانت واضحة وهي مواجهة العرفاء كما يقول كولن تيرنر.
ولكن موقف المجلسي لم يكن مفصولاً عن مواقف جبهة عريضة كانت تضم محمد طاهر القمي(متوفي 1098) (استاذ المجلسي)، ومواقف الحر العاملي (1624_1693)شيخ الاسلام في مشهد، الذي استعرض ألف حديث زعم انها رويت في الرد على الصوفية، ولا تنفصل هذه المواقف عن موقف نعمة الله الجزائري (توفى 1112هـ/ 1701م) الذي هاجم الشيخ البهائي المعروف، بسبب معاشرته المبتدعين من الصوفية!! وأولئك القائلين بمذاهب العشق الإلهي.
ولقد وضع المجلسي مجموعة من الكتب للهجوم على المتصوفة والتحذير منهم!!، ففي رسالته (الاعتقادات) بعد أن ثبت مركزية الأئمة الاثنى عشر بوصفهم الطريق الأوحد للوصول لله تعالى، يذهب لعد التصوف بدعة وذلك عبر النظر الى ممارساتهم الدينية المتعددة، وبطبيعة الحال المجلسي مثله مثل سائر الفقهاء الى زمننا الراهن يعتمدون على (التقوى الظاهرية) أي التعبد الجسدي ولا يعنون أو يدركون المغزى العميق لـ(التقوى الباطنية) التي يؤكد عليها المتصوفة والعرفاء.
وهو يخلط كسائر الفقهاء الآخرين والى يومنا الحاضر، بين التصوف الشعبي (الطرقي) والتصوف الفلسفي/ الأخلاقي (الخاص)، علماً أن التصوف الشعبي مدان دائماً، ولقد هاجمهُ كبار العرفاء، فملا صدرا الشيرازي وضع كتاباً للرد على هذا النوع من التصوف اسماه (كسر أصنام الجاهلية: في الرد على متصوفة زمانه) وطبع عدة طبعات وورد عنوانه الفرعي بعدة صيغ.
وبشكل عام لا يخفى على المتخصصين الباحثين في هذا الشأن ان المآل النهائي كان انتصار (البرانية الفقهية/ الشيعية) على حساب (الجوانية/ العرفانية/ الشيعية) وذلك بعد أن سادت نسخة تشيع خاصة تحت تأثير صناع (الحقائق الدينية) ونعني بهم أهل السلطة، ومن ثمَّ صار جناح العرفان الشيعي متخفياً وضعيفاً وفي أوساط نخبوية خاصة من علماء الشيعة حصراً.
ولقد كانت صورة المآل النهائي مثلما أشار المفكر الفرنسي المعروف هنري كوربان(1903_1978) هي أن العرفان الشيعي وجدَ نفسه مع نجاح التشيع الدنيوي (مصالح الفقهاء ومصالح السلاطين ومصالح العامة)، أمام ابتلاء حقيقي وواقعي، اذ انتصرت التقويمية التشريعية الفقهية التي تهتم بـ(القانون الشرعي، الاجتهاد والإمامة) قبالة موت الفلسفة، والحكمة الالهية وكل مسائل العرفان.
ان مدرسة ملا صدرا الشيرازي قد خضعت الى حدٍ كبير بعد رحيله ولم يستمر الدرس العرفاني في قم وحوزتها الا في حدود ضيقة، ولم تتم احياء ذلك الا أيدي مدرسين معدودين للعرفان ربما ابتدأ بنحو ما في أواخر القرن التاسع عشر من خلال سلسلة علي الشوشتري (متوفي 1283ه) وتلميذه حسين قلي الهمداني(1239_1311) الذي أسس اشبه بمدرسة عرفان وعاصر الشيخ مرتضى الانصاري(1781_1864) ورفض التصدي للمرجعية على الرغم من اعلميته الكبيرة والذي تفرعت مدرسته بين ايران والعراق وتشعبت، ولكن كانت تمارس دروسها بنحوٍ مكثف من التقية.
ولهذا لم يكن يدرس العرفان في الحوزات الا من يستطيع أن يواجه ويتحدى بدرجة أو بأخرى غضب وعنفوان المراجع التقليديين/ الفقهاء، ولهذا كان الدرس محدوداً للغاية في حوزة قم أبان الشيخ محمد علي شاه آبادي (1253_1328ه.ش)استاذ الامام الخميني(1902_1989) بالعرفان، وفي حوزة النجف أبان أيام السيد علي القاضي آخر أعمدة العرفان في العراق والذي كان من تلامذته السيد محمد حسين الطبطبائي (صاحب تفسير الميزان).
ومن المصادفات العجيبة ان تلاقح التيارات العرفانية بين خطي النجف وقم انما تتم على أيدي السيد الخميني والسيد الطبطبائي، فكلاهما أعادا تدريس العرفان وبنحو مستمر في حوزة قم، التي يعد العرفان النظري فيها إحدى العلامات البارزة في يومنا المعاصر.
بطبيعة الحال ان سر تدفق واستمرار العرفان في حوزة قم اليوم لا يرجع الى تأثيرات السيدين الجليلين آنفي الذكر فحسب، وللدعم السياسي بعد انتصار الثورة الاسلامية، كذلك، بل يرجع كذلك الى عمق الدرس الفلسفي العرفاني في الثقافة الايرانية، الذي وإن اختفى أو ضعف أو تراجع في مراحل معينة الا انه ظل كالنار تحت الرماد.
في قبالة ذلك كان تلاميذ آخر مدرسة عرفانية (مدرسة السيد علي القاضي) يعيشون أسوأ ظروفهم وعلى كل المستويات، وذلك لأن حوزة النجف وحتى حوزة كربلاء لاحقاً، أحكمت القبضة بالتهديد وبالوعيد لمنع الدرس العرفاني، بل والدرس الفلسفي في آن واحد، مما جعل الكثير منهم يختفي عن الأنظار ويمارس التقية بنحوٍ مكثف، وكان أبرزهم العارف الكبير وريث مدرسة السيد القاضي (السيد هاشم الحداد) الذي ترك الحوزة مبكراً ورجع لمحل سكنه الأصلي كربلاء حتى وفاته (1984)، أما التلميذ المبرز الآخر والذي ظل في الحوزة الشيخ عباس القوجاني ظل في صمت مطبق وفي تقية مكثفة خشية من فقهاء عصره الى ساعة وفاته في النجف عام (1990)، ومما ساعد على هذه التقية المكثفة وانتهاء العرفان في حوزة النجف وفي العراق عموماً هو القبضة الحديدية للنظام البعثي.
ولكن في ظل ذلك كانت هنالك دروس عرفانية تتم في الخفاء وفي سرية تامة لبعض الشخصيات الحوزوية، فمثل ما هو شائع بعدئذٍ ومعروف اليوم ان السيد الصدر الثاني(محمد محمد صادق)(1943_1999) كان تلميذاً في العرفان عند الشيخ عبد الزهرة الكرعاوي(متوفي 1980) (أحد تلامذة السيد هاشم الحداد والشيخ محمد جواد الأنصاري(متوفي 1959))، وكذلك ممارسة العرفان بنحو شخصي للسيد الفقيه والمرجع عبد الاعلى السبزواري (1329_1414ه)ولكنهما كانا حالة نادرة جداً. فالحوزة كلياً أعطت ظهرها للعرفان وأهله وأوصدت الأبواب ازائهم.
وبالتأكيد ان محاولة السيد الصدر الثاني الذي أصبح المرجع الاعلى بعدئذ كانت خطوة رائدة في هذا المجال عبر فتح بوابة الدرس العرفاني ، ولكنها تجربة واجهت تحديات كثيرة ، لعل ابرزها هو جنوح البعض وانحرافهم ، وهو ما عرف انذاك ب(فتنة السلوكيين) في اواخر تسعينيات القرن الماضي ، ولكن هذه المرحلة مازالت غامضة من جهة اسباب الانحراف وما علاقة السلطة بذلك في حينها وغيرها من الاسباب التي لم تدرس الى اليوم بنحو عقلاني .وبالتأكيد ان السيد الصدر في حينها اراد جيل عقائدي / اخلاقي ولكن بعض الافراد من داخل الحوزة وخارجها افسدوا مشروعه الاخلاقي الكبير.
بطبيعة الحال ان الحوزة وضمن نسقها الثقافي العام ومن يواليها من معممين تقليديين ومن عامة ، يقولون ان هنالك حالات من الانحراف الفكري نشأت لدى من تعاطى العرفان بوجه عام ، وهذه حالات فردية بطبيعة الحال، ولكن يتم تضخيمها وتكرار الخطاب حولها.علماً أن حالات الانحراف الديني حدثت ممن كانوا مقربين على الأنبياء (عليهم السلام) فعلى سبيل المثال: السامري مع نبي الله موسى، والاسخريوطي مع نبي الله عيسى، وجملة من المنافقين الذين وردت سورة كاملة بحقهم في القرآن الكريم مع نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصحاب الأئمة عدد كبير منهم قد انحرف فـ(أبو الخطاب محمد بن مقلاص مع الامام الصادق) مثلاً والبطائني علي بن ابي حمزة مع الإمام الرضا و(ومحمد بن نصير مع الامام العسكري) وآخرون كثر، كانوا منحرفين ومن الغلاة، بل ان الحوزة نفسها شهدت معممين منحرفين وعلى مدى قرون، بل وعاصرنا منهم من ادعى المرجعية ثم تحول الى مذهب ديني معاد لاهل البيت وآخرون نصمت عن ذكرهم!!.
فالإشكال ليس بالأصل وهو مادة العرفان الأخلاقية، الأصل بالحامل لها، وهو اشكالية العنصر البشري الذي لا يقوى على أن يخوض بعضهم بحر العرفان الكبير لأسباب ذاتية وموضوعية ليس المقام محل لإيرادها.
الأمر الآخر، كان هناك وعلى مدى قرون من يتكسب من وراء الدين، ومن ثم فأن ظهور من يدعي العرفان تحت باب العلاج بالروحانيات أو الادعاء بالباراسيكولوجي أو التداوي بالقرآن والأوراد، أو أن يتصدى للمشهد الديني عبر صعود المنابر ويكرر قصص العرفاء ونحو ذلك لأجل صناعة المكانة الاجتماعية، فهذا أمر عايشه المتصوفة والعرفاء الكبار أبان حياتهم ومنذ قرون خلت، فالأدعياء موجودون عبر كل العصور، الا يوجد من يدعي الأعلمية في الحوزة، الا يوجد من يدعي الريادة في فن الخطابة، الا يوجد من يدعي حماية المذهب بنحوٍ مغال طلباً للشهرة داخل الحوزة، المدّعون في كل التخصصات والمجالات، حتى في الجامعات موجودون، بل هي تعد مسألة عالمية وخصيصة من خصائص النفس البشرية.
وعليه فأن وجود عدد كبير من الأدعياء لا ينفي الأصل، بل يكون مدعاة للتثبت من العرفاء الصادقين المتخفين داخل الحوزة أو خارجها، اذ ان المعيار الفصل هو النظر في سلوكهم واختبارهم، أو كما يقال: من ثمارهم تعرفونهم أو كما قال السيد المسيح (عليه السلام): (احذروا الأنبياء الكذبة، الذين يأتون إليكم في جلد حمل، وفي جوهرهم ذئاب مفترسة، أنتم تعرفونهم من آثارهم).
أما الجدل المستمر حول أصالة التصوف والعرفان من عدمه من جهة صلته بالإسلام تارة، وبتراث أهل البيت تارةً أخرى، فضلاً عن الجدل المحتدم حول مفاهيمهم ومصطلحاتهم ونظرياتهم العرفانية وتفسيرهم أو تأويلهم القرآن، فهي قضايا ممكن أن يفتح حولها حوار موسع لأسباب جوهرية كثيرة، ربما أبرزها أن علماء الشيعة الكبار وعلى مدى قرون كانوا على شكل جبهتين مع العرفان والتصوف حد النخاع وحد الولاء التام، مرة، ومرة أخرى ضده ورفضه وتكفيره، وهذا يعني أن الجدل لم ينتهي حوله إلا عبر إرادات شخصية ومصالح ذاتية واستخدام مفرط للسلطة الدينية عبر منعه ومحاربته لاسيما في حوزة النجف!!.
ان الذي يُسهم وكما نحسب في مواجهة التحولات المتسارعة ليس الدرس الفقهي الراهن أبداً، بل ان الذي يُسهم في مواجهة مد الحداثة الجارف هو ارجاع الدرس الفلسفي وفي مقدمته الدرس العرفاني، إذ به يمكن استيعاب موضوعات (الحرية الدينية، والتعددية الدينية، والذات الحرة، ومسألة حقوق الإنسان… الخ) من جملة الموضوعات الأساسية الراهنة في الخطاب الحداثوي.
ان الذي يجعل الحوزة تعيش في قلب الواقع والحدث التأريخي الراهن هي التجارب العرفانية المستمرة التي تفتح أبواباً نحو الهجرة نحو الانسانية المؤمنة/ الموحدة/ الأخلاقية، لا الهجرة نحو التاريخ والحدث الروائي والهوية الطائفية وأزمات الصراع المذهبي، وجدلية الخلافة والإمامة.
ان الأجيال المعاصرة من متخصصين أو غير المتخصصين من مثقفين وغير المثقفين في المجتمعات الشيعية في ايران ولبنان والعراق والبحرين وغيرها، الذين أعادوا استدعاء ميراث جلال الدين الرومي(1207_1273م) والشيخ محي الدين بن عربي(1165_1240م) وغيرهم الكثير، بل وتجارب الغربين المعاصرين من الذين اعتنقوا الاسلام وأصبحوا متصوفة ، انما يؤكد العطش الحقيقي للتصوف والعرفان لأن بهما إجابات عن أسئلة حائرة فشل الفقهاء والمدونة الفقهية أن تقدم لها الأجوبة المناسبة التي تلائم روح العصر.
بل ان استدعاء ميراث كبار العرفاء في العراق أمثال السيد علي القاضي والسيد هاشم الحداد وغيرهما، عبر وسائط معرفية وتقنية متعددة، انما يمثل على الرغم من كل السطحية والبساطة في التعامل معهم، يمثل عطشاً وتوقاً لمادة روحية لا يستطيع الفقهاء تقديمها، عن نماذج أخلاقية يمكن التأسي بها ولو تخيلاً وبنحو بسيط وساذج، ان هذه الاستدعاءات المتعددة للمتعلمين وللعامة انما يمثل تحديا حقيقيا أمام خطاب الحوزة الرتيب المكرر عن عالم الفقاهة، انهُ بحث عن خطاب أخلاقي يواجه الأزمة الأخلاقية التي طحنت العالم الإسلامي، ولم يقدم الفقهاء سوى فتاوى وخطاب كلاسيكي لا يغني أو يسمن عن جوع وعطش أخلاقي ضخم.
ان عملية الهروب الى الوراء التي يمارسها الفقهاء ازاء التصوف والعرفان، عبرَ التشبث بالمقولات والأفكار المكررة، ودمغه الدائم بأنه خارج دائرة الاسلام الرسمي وخارج دائرة التشيع الرسمي في آن واحد، انما يُسهم في فقدان مادة معرفية ضخمة ممكن استخدامها راهناً وعلى عدة مستويات ولاسيما الجانب الأخلاقي، فضلاً عن ذلك فأنه يسلب الحوزة إمكانيتها في العيش في الواقع وأسئلة الحداثة بدل التحصن الدائم بخنادق التاريخ الفقهي وموضوعاته المعروفة.
بل ويسهم كذلك في فتح البوابة دائماً نحو ظهور المتاجرين بالعرفان وميراثه من الأفاقين والمرائين والمنافقين، فإذا لم يسهموا في فتح حوار عقائدي كبير مع هذا الميراث عبر فتح بوابة الدرس الفلسفي أولاً، فأنهم سيكونون شركاء في سقوط عدد كبير من الافراد ضحايا لمدعين العرفان والذين يتاجرون باسمه.