مجلة حكمة
التصوف التصوف: في أربع مقاربات فلسفية

التصوف: من العرفانيّة إلى الأيديولوجيا: قراءة في النشأة والتحولات

الكاتبأسامة غالي

يُعد التصوّف تجربةً مفارقةً في الثقافةِ الإسلاميّة، وقد شكّلَ حضوراً واسعاً في الثقافات العالميّة، لاسيما مع انبعاث الدراسات الاستشراقيّة التي عُنيت بالتصوّفِ عنايةً بالغةً، تحقيقاً وترجمةً ودراسةً، وكان يدفع بالباحثين إلى متابعةِ الصلة بالخطابات الدينيّة والمعرفيّة المجاورة، والكشفِ عن مدى التأثر والتأثير، من ثمَّ معاينة التماثل والتمايز.

ولقد أثارَ التصوّف، ومن زمنٍ مبكرٍ، مشكلات عدّة: منها ما يتصلُ بحمولاته الرؤيويّة والفكريّة التي تجاوزت السائد والقار في الثقافة الإسلاميّة. ومنها ما يتصلُ بمرجعياته المعرفيّة، وصلاته بحاضنات أخرى كاليونانيّة، والهنديّة والفارسيّة القدمتين. ومن المشكلات أيضاً ما يتصل بلغته الرامزة والمشفرة، وكانت هذه المشكلات تستفز، ثم تحرض الآخر ـ غير الصوفيّ ـ على المتابعةِ والاستجابة، سواء أكانت الاستجابة تفاعلية أم نقدية.

أياً يكن الأمر، فإنّ التصوّف بقي في تحولٍ، وكانت النتيجةُ أن تتوسعَ الدراساتُ فيه، وأن تتنوع الآراء في نشأته وتحولاته.

في مصطلح التصوّف وما إليه

لم يرد ذكرُ «التصوّف» في المظانّ العربيّة القُدمى، وقد ظهرَ في القرن الثاني الهجري كما نُقل عن معروف الكرخي (ت200هـ) أنّ: «التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق»(). أمّا وصف «الصوفي»(∗)، فاُختلفَ في محدده التاريخيّ، فذهبَ ابن تيمية (ت 728هـ) إلى أنّه: «لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك. وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني وغيرهما.»(). غير أن الصوفيّة اتفقوا على ظهوره قبل المائتين للهجرة()، و وافقهم ابن خلدون()، ولم يكن نيكولسون على تُؤدةٍ في ما ذكرَ: «ويرى السراج أن أهل بغداد هم الذين اخترعوا هذه الكلمة»(). إذ بالعودِ إلى «كتاب اللمع» للسّراج (ت378هـ) لا يُعثر على هذا الرأي()، وربما يعود المشكلُ إلى الترجمة. 

وتُلفى أقوال في الأصل اللغوي للتصوّف، وقد شاع عندهم أنّها مأخوذة من  «الصفاء»()، وذهبت جماعةٌ إنه من «الصوف»()، ولا يبعدُ أن المحرضَ وراء النظرِ ما حفّ بهم من مشكلاتٍ، كانَ قد لوّحَ بها المناوئون، أنْ حملوا على التصوّفِ أحكامَ القطيعةِ مع النصِّ والعقلِ، وردوا الصوفيّةَ إلى منابعَ أُخر، وفي كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (ت597هـ) ما يغني عن التمثلات().

وهكذا قصدَ الصوفيّ إلى العنايةِ بالمصطلح، وحاولَ أن يضع تعريفاً، إلا أنه ما عرّفَ التصوّف بذاته بقَدْر ما عبّرَ عن الأحوالِ، والمنازل، والأخلاق وما أشبه بالحِكَم()، فكانَ أن خلطَ التصوّف السلوك والطرائق بالتصوّف العلم. ومن هنا كان لابد لمن يريد أن يدرسَ مفهوم التصوّف، دراسةً شاملةً، أن يعيدَ كلّ تعريفٍ إلى سياقه وشرطه في التجربة كلّها، وقد حاولَ نيكولسون()، غير أن المحاولةَ لم تكن على قَدْر عالٍ من الإحاطة، ولا سيّما أنّ أقوال الصوفيّة «في ماهية التصوّف تزيد على ألف قول»(). لكن هذا لا يمنعُ أن يُتوسلَ مائزٌ ما، يُقارب به المفهوم. 

في مقاربة التصوّف بالزهد

لقد درجَ الدارسون أن يقاربوا التصوّفَ بالزهدِ، وحجتهم أنّ التصوّف لم يكن، في مجالِ التداولِ، على مسارٍ واحدٍ، إذ: «المتأمل في هذه الأدوار التي تداولت التصوف يلاحظ أن اللفظ استحدث أول الأمر للعبارة عن معنى الكمال بالتمسك بالشرع والزهد في الدنيا حينما أخذ الناس في مخالطة الزخارف الدنيوية وكاد يطغى حب المال على ما غرسه الدين في النفوس من الورع، فكان الصوفيّ مخالفاً للجماهير بفقره وورعه، على حين يلتمس غيره المال ويطمع في الغنى.»()

وهكذا يكون التصوّفُ بمنزلةِ الزهدِ، إن لم يكن يرادفه. أو الصوفيّ بمعنى آخر زاهدٌ على حظ جد قليل من التصوّف كما يرى نيكولسون().

لا تعدمُ مماثلة بين التصوّفِ والزهد في المظانّ التاريخيّة العربيّة، لا سيما عند ابن خلدون()، وقد كُرست بفعلِ الدراسات الاستشراقية في مطلع القرن العشرين(∗)، ولم يكن الدارسون العرب بمعزلٍ عن مؤثراتها. ونتج عن المماثلة أن عُني بالمؤثرات الخارجيّة، والعوامل السياسيّة، والاقتصاديّة، وحُملَ ما للزهدِ على التصوّف. وما كان للدارسين(∗)، في هذا المنهاج، ليجتازوا إلى التجربة الجوانية، ويقاربوا التصوّف بآلياته ذاتها، بدلاً من أن يقصروا النظر على الشكلي منه، حتّى صار وصف «الصوفيّ»، عندهم، مدار أمور ثلاثة: الأول: المناسبة في الاستعمال. والثاني: المكان، وهو الكوفة، و قد ضموا إليها البصرة؛ لأنها بلدة الحسن البصري (ت110هـ)، ورابعة العدوية (ت180هـ). والثالث: ما في المدوّنة من تجليات الزهد، وحكايات تحولات سيريّة، كما روي عن إبراهيم بن أدهم في الطبقة الأولى().

تبدو المماثلة، في منظور هؤلاء، أنها توّسعٌ بالخاصِ. ومن هنا كانوا يصفون كلّ ما في لحظةِ التصوّف الأولى، بأنه زهدٌ. غير أن التصوّفَ في لحظتهِ البكر، كما في لحظاته الأخرى، لا يعدو حالات خاصة، تجلت في أفراد، وقد تولّت المدوّنة الصوفيّة التعريف بهذه التجليات، من دون أن يُقدّم ما يكشف عن تجربة هؤلاء الأفراد، في أبعادها الروحية.

وإذا ما سُلك طريقٌ وسط في تعرّفِ لحظة التصوّف الأولى، لانتهت القراءة إلى نتيجةٍ مغايرة، أنّ التصوّفَ نشأ محايثاً للزهدِ، وفي مظانّ التصوّف القدمى ما يعين على أن الصوفيّة كانوا على «زهد خاصة الخاصة»، إن جاز استعارة ثلاثية الغزالي. وكانت المعرفة، أياً يكن مستواها، دافع هذا الزهدِ ومحرضه. وهذا ما ذهب إليه أحمد بن حنبل(ت241م). قال: «الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام. (وهو زهد العوام). والثاني: ترك الفضول من الحلال. (وهو زهد الخواص). والثالث: (ترك ما يشغل عن الله. (وهو زهد العارفين).»().

ثمة مشكل آخر لم يلحظه الدارسون، هو ما يتصّل بفرق بينَ التجربة الجوانية والبرانية في التصوّف(∗). فقد عنوا بما يتصلُ بالتجربة البرانية، أو بتأويل التجربة على رأي «ولترستيس»(∗). وكان ضرورياً أن يُلاحظ ذلك في ضوء الذاتي، والموضوعيّ، اللذين يتجليان في اللغة، والوعي الثقافي، واختلاف التلقي والاستجابة، والانتقال من الشفاهيّ إلى الكتابيّ.

في ضوء هذه التفرقة/ والعوامل، لم يكن التصوّف، في التجربة البرانية، على منحى واحد، إذ اختلاف اللغة الصوفيّة شرطٌ ناجزٌ، وفي ضوءٍ منه يفسر تفاوت التعبير بين الصوفيّة أنفسهم، أو أفول الخطابية في لحظةٍ ما، وتوهج الرمزية في لحظةٍ أخرى. أمّا الوعي الثقافيّ فنتاج شرطٍ براني، وهو ما يُفسر به ظهور العرفانية، أو النزعة العقلية، في التصوّف. وهكذا الحال في التلقي والاستجابة، ولحظتي الشفاهية والكتابية.

ولعل غياب الإجراء في المدوّنة القدمى، وقصر العناية على المصطلح، وأصله، وجمع ما توافر من حكايات وأقوال وتعريفات، دفع بالدارسين إلى القول بأن: «المتأمل في الأدوار التي تداولت التصوف يلاحظ أن اللفظ استحدث أول الأمر للعبارة عن معنى الكمال بالتمسك بالشرع والزهد في الدنيا»(). لكن ثمة نظراً في هذا الرأي، مؤداه: أن اللفظ بوصفه مصطلحاً إجرائياً مرَّ في لحظات ثلاث:

في اللحظة المؤسسة قُصِرَ الإجراء على جماعةٍ بلغت في التجربة مبلغاً، ويمكن الاستناد إلى نصٍ في رسالة شقيق البلخي، وهي تعد من أوائل ما كُتبَ في التصوّف. قال: «وأهل الصدق ثلاثة أصناف: منهم من هو بمنزلة الزهد والخوف لا يخرجون منها ولا يعرفون غيرهما، وصنف منهم في منزل الشوق إلى الجنة لا يعرفون فوقها منزلة ولا يخرجون منها، وصنف منهم قد قطعوا المنزلتين إلى الله جميعاً، فصاروا في روح الله ورحمته وصارت قلوبهم معلقة بربهم يتلذّذون بمناجاته إذا خلوا به»(). وإذا ما رُجع لمظانّ أحوال وأقوال الصوفيّة الأوائل()، وجد أنها لا تعدو الصنف الأخير. ما يكشف أن مدار الإجراء كان هؤلاء(∗).

وفي اللحظة التابعة عمّ الإجراء العبّاد والنسّاك والزهّاد وغيرهم. وفي اللحظة المتأخرة عادَ الإجراء إلى سياقه، غير أن شيعوعة المصطلح في العام جعلته سارياً في التداول، فاضُطر صوفية آخرون أن يفرقوا بين الإجراءين بوصف «العارف»، هذا ما يُلفى عند أبي الحسن النوري في رسالة «مقامات القلوب». يقول: «القلوب ثلاثة: الأول: قلوب العصاة خراب وهى موضع الشياطين فيها القذرات والنجاسات والثاني: قلوب المطيعين وهى دار العاملين العالمين المخلصين قد ادخروا فيها أشياء ]و[ قد جعلوا عليها الخزان ليحفظوها. والثالث: قلوب العارفين ]وهي[ خزائن الملوك فيها الجواهر والدر واليواقيت…»(). وأكثر من استعمل «العارف» في الطبقة الأولى ذو النون المصري (ت245هـ) ، وقد حاولَ القشيري أن يضع فارقاً آخر: «يقال: رجل صوفي، وللجماعة صوفيّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة.»(). وتبعه الهجويري. قال: «يسمون أهل الكمال منهم بالصوفي، ويسمون المتعلقين بهم وطلابهم بالمتصوف.»(). وقد تنبه السهروردي إلى المشكل في الإجراء، قال: «أقوال المشايخ تتنوع معانيها، لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات، وتحتاج في تفضيل بعضها عن البعض إلى ضوابط، فقد تذكر أشياء في معنى التصوف ذكر مثلها في معنى الفقر وتذكر أشياء في معنى الفقر ذكر مثلها في معنى التصوف، وحيث وقع الاشتباه فلابد من بيان فاصل، فقد تشتبه الإشارات في الفقر بمعاني الزهد تارة وبمعاني التصوف تارة، ولا يتبين للمسترشد بعضها من البعض، فنقول: التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد» ().

في هذا الضوء، يتجلى الفرق بينَ التصوّفِ والزهدِ. ولا يُعدم، أن التصوّف مرّ بتحولاتٍ، وقد أسهمت جملةٌ من العوامل في تشيدِ مفهومه، منها الأيديولوجيا التي تمتد إلى التصوّف بينَ حقبةٍ وأخرى، ومنها المحاجة التي شاعت مع «إخوان الصفا»، ولا يخفى أثر ابن سينا (ت 428هـ )، وأبي حامد الغزالي (ت505هـ). ومنها التقارب بين التيارات الفلسفية والتيارات الدينية الباطنية، وقد اتفق في عصر السهروردي(ت587هـ) وابن عربي (ت638هـ)، ولا يخفى، أيضاً، أثر العرفانية الفارسية التي امتدت عن سنائي الغزنوي، ونجم الدين كبرى، وفريد الدين العطار، و جلال الدين الرومي.

في التحولات

كانَ التصوّف، من الناحية التاريخية، تجربة روحية عرفانية، تفضي إلى معرفةٍ جوانيّةٍ خبيئةٍ، وامتد هذا إلى عصر التابعين. وثمة مرويات تضيء أحوال الجماعة الأولى كأويس القرني(). وقد يستعين الصوفيّ بخبرةٍ لغويةٍ فنيةٍ أو دينيةٍ، فيصوغ المعرفة حكَماً أو وعظاً أو شعراً أو نثراً. وكانَ الحسن البصري (ت110هـ) من أوائل ما عرّفت به المدوّنة الصوّفية، ونقلت عنه أحوالاً وأقوالاً، ونُسب إليه ظهور وصف «الصوفي»(). وقد اختلف في ما نُسب إليه، وفي تصوّفه أيضاً، فذهب دارسون إلى أنه زاهدٌ ما كان على حظ من التصوّف().

وهكذا امتد التصوّف إلى رابعة العدوية، فظهر الشعر الصوفيّ، وكانت المحبة الإلهية موضوعاً، ثم ظهر التصوّف، شيئاً فشيئاً، في الثقافة الإسلامية. وكانَ القرن الثاني الهجري تأسيساً لرؤية جديدة، وصار للجماعةِ عنواناً محايثاً، وكان أبو هاشم الكوفي أول من سمي به()، وبدأت لغة التصوّف تأخذ سمةً خاصةً. وكان في هذه الحقبة إبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي. ثم اُختتم هذا القرن بمعروف الكرخي.

وفي «القرن الثالث» صارَ للتصوّف منحى كتابي، وسمة تعبيرية شعريّة تختلف عن «اللغة الدينية ـ الشرعية من حيث أن هذه تقول الأشياء، كما هي، بشكل كامل ونهائي. بينما اللغة الصوفية لا تقول إلا صوراً منها، ذلك انها تجليات المطلق.»()، فاتفق أن يتحول التصوّف من الخطابية إلى الشفوية، حتّى شاعَت تقاليد (المواقف) و(المخاطبات).

وبقدْر ما كان التصوّف يتحول، وينجم المنحى الثيوسوفي على رأي نيكولسون()، كان ينجم، في المقابل، منحى أصولي، ربما كان الجنيد رائده، فقيّدَ التصوفَ «بأصول الكتاب والسنة»()، ولا يبعد أن الجنيد وضع القيدَ حذرَ المناوئين. وقد ذكر السلمي: «والجنيد كم مرّةٍ شهدوا عليه بالكفر حتى اختفى مراراً وتستّر بالفقه مراراً»()

ثم أضاف المحاسبي «العقل» قيداً ثالثاً، وحاولَ أن يمزج التصوّف بنزعةٍ عقليةٍ، غير أن المحاولة لم تجدِ نفعاً. وكانت النتيجة أن خُلط بينَ العقل الفطري و النظري. قال: «فأمّا ما هو في المعنى في الحقيقة لا غيره: فهو غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه لم يطّلع عليها العبادُ بعضهم من بعض، ولا اطّلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا بحسّ، ولا ذوق، ولا طعم. وإنما عرّفهم الله (اياها) بالعقل منه. فبذلك العقل عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم ومعرفة ما يضرهم»()

ولئن كان هذا المنحى يتمسكُ بالأصول، إنه لم يمنع، ظهور الثيوسوفيا إلى الواجهةِ، فشاعت في مصر مع ذي النون المصري، وفي العراق مع أبي يزيد البسطامي وأبي بكر الشبلي والحلاج.

في حيازة المفهوم

بقدْر ما كانَ القرن الرابع الهجري ينفتح على ثقافات وافدة، اتسعت الأيديولوجيا، ما أدّى إلى صدِام حادٍ، وكانَ المعتزلة والأشاعرة يمثلون اتجاهين معلنين. وحاولت الاتجاهات الباطنية، كالإسماعيلية، أن تشكلَ حضوراً من مكانٍ بعيدٍ. وما كانَ التصوّفُ بمعزلٍ عن البنيةِ الفكريّة والثقافيّة لهذا القرن، فدخل الصوفيّة، من الناحية الأيديولوجية، معترك الصراع على حيازة المفهوم، لا سيما أن المنحى الثيوسوفي أعيد انتاجه أيديولوجياً مع «إخوان الصفا»، في البصرة وبغداد، اللتين كانتا حاضنتين رئيستين للتصوّف بعد الكوفة. ولا يُنسى، في هذا الإطار، ضعف السلطة العباسية، وصعود المناوئين سياسياً، فحكمَ الفاطميون مصر، والبويهيون العراق، والحمدانيون في سوريا. وكانَ هؤلاء على موقفٍ من الأيديولوجيا الرسمية.

نتجَ حرصٌ شديدٌ لاستعادةِ الأصوليّة الصوفيّة التي ظهرت مع المحاسبي والجنيد()، لتكونَ نسقاً يَشِدُ المفهوم، ثم تحوزه جماعةٌ، وما كان للنسقِ أن يظهر إلا بتوسل «الكتاب والسنة»، فجرى العرف الصوفيّ أن يتكئ على آياتٍ وأحاديثَ، ثم يمدُ الصلةَ بينَ التصوّف و «أهل السنة»، أو الاتجاه الأشعري تحديداً الذي وجد عند المحاسبي والجنيد الإصلاح الذي نادى به(). ويبدو هذا في كتاب «اللمع في التصوّف» للسراج الطوسي، و «التعرف لمذهب أهل التصوف»، للكلاباذي. وفي مظنته ما يدفع أن يكونَ المؤلف قصدَ إلى دلالة «المذهب» أيديولوجياً، لا سيما في تناوله مسألة «خلق الأفعال» التي تبناها الأشاعرة، وتعميمها بوصفها عقيدة الصوفية كلهم. قال الكلاباذي: «أجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وارادته ومشيئته»(). وقد حاولَ، أيضاً، أن يشيع إجرائياً قضية «الإسناد» الصوفي، وهي قضية أفاد منها السلمي، تلميذ السراج، في كتابة «طبقات الصوفية». وقد استوت المحاولات عند القشيري، فقدّمَ بوضوحٍ التصوف بصبغةٍ أشعرية، ومارس نوعاً من الحيازة في صدق وصف «الصوفي» على مصاديق بذاتها. قال: «ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زهاداً. فانفرد خواصُّ أهل السُّنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم «التصوف». »(). ولا يبعد أن هذه المحاولات أرادت، بقصدٍ فردي، أو تخطيط جماعة، أن تشكل ذاكرة تأسيسية إن جاز توظيف «استراتيجية» الذاكرة والنسيان عند بول ريكور.

في المنهج

لم تطل العنايةُ، في المدوّنة القدمى، التجربة الفوقية إلا في حدود محاولات أرادت تصحيحَ فهمٍ، وكان المدار فيها ثلاثة أمور: تعريف التصوّف والصوفيّ، وبيان المنتمى، وتدوين ما توافر في اللحظة الشفاهية، والتأليف في المنازل والمقامات والطبقات، ثم دعت الحاجةُ إلى أمر رابع وهو بيان المصطلح.

ظلت التجربة خبيئةً وراء هذه الأمور الأربعة، وكان بها حاجةٌ إلى من يُظهرها، غير أن خاصيتها الفردية، وغموضها، منعا أن تظهر على غير الصوفي. وقد حاولَ الصوفيّة المؤسسون أن يتوسلوا بياناً، غير أن التجربة تزداد خصوصية وغموضاً، لا سيما في ما عُرف بـ «الشطح»، كما عرف عند إبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية و أبي يزيد البسطامي والحلاج والشبلي .

وما كان للتجربة أن تظهر إلا بتوسل منهج، فاختار صوفيةٌ «الكتاب والسنة» بوصفهما منهجاً نصيّاً شائعاً، وجرى العرف الصوفيّ في التأليف أن يتكئ على آيات وأحاديث، ويبدو هذا في كتاب «منازل السائرين» لأبي إسماعيل الهروي (ت 481هـ)، اذ افتتح المنازل والدرجات بآيات قرآنية. وفي ما ألفه آخرون نوعٌ من هذا التوسل، كالمحاسبي (ت 243هـ) في «فهم القرآن ومعانيه».

وسلكت جماعةٌ سلوكاً آخر، ففسروا القرآن كالتستري (ت319هـ)، و السلمي. و لم يعن توسل المنهج النصي كثيراً على ظهور التجربة، بل تجاوز إلى نوعٍ من المشاكلةِ مع الاتجاهات الباطنية، فلاقى نقداً حاداً(∗)

إن عنايةَ المدونة القدمى بالتجليات، و الشطح، ثم الميل إلى منهج نصي، وحيازة المفهوم أيديولوجياً، دفعت أن يُفهم التصوّف على أنه قطيعة مع العقل، وفي التجربة ذاتها ما يعزز هذا الفهم. وقد أظهرَ المحاسبي موقفاً من القطيعة، وقصدَ إلى إيضاح دور العقل، غير أنها محاولة، كما تقدم، لم تجدِ نفعاً، إذ اتجهت بالعقل إلى غير ما قرّ في الاشتغال النظري.

وقد سعى «إخوان الصفا» إلى إثارة المشكل، في تحذيرهم من مجافاة العقل النظري، وتوكيدهم على دوره ووظائفه والتقائه مع المنهج النصي. ولا يُعدم، عندهم، أنه منهجٌ في معرفة الحقائق. وقد ذهبوا، أيضاً، إلى توكيد المعرفة الشهودية، وهي طور من أطوار المعرفة، وقد قصدوا إلى توسعٍ لم يألفه الصوفيّة(). وفي المقابل، حاولَ ابن سينا، أن يفرق بين مساري التصوّف والبرهان.

يمكن القول: إن الصوفيّة عجزوا عن إظهار التجربة، واكتفوا بالتأليف بتوسل البيان، ولم يفيدوا مما طرحه «إخوان الصفا»، ومحاولة ابن سينا (∗). حتى جاء الغزالي وكانَ قد أعلن القطيعة مع الفلسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، ثم «المنقذ من الضلال»، غير أن محاولاته لم تستقل عن العقل في بنيتها العميقة(∗). و ما يشفع أنها مازت التجربة ميزاً أبستمولوجياً. وامتدت هذه المحاولة إلى السهروردي، غير أنه لم يُظهر التجربة بقدْر ما أفاد منها في تشيد حكمة الإشراق.  

لا تعدو هذه المحاولات أن تكون مدخل فهم جديد لمحي الدين بن عربي؛ ليظهر التجربة بتوسل المناهج الأخرى، وقد أفاد منها جميعاً. وكان أثره في العرفان النظري كبيراً.

في علاقة المنهج بالمعرفة

لا غرو أن جعل الصوفيّة، لا سيما المتأخرون، الكشف والشهود عنواناً للتجربة، وأرادوا بالكشف رفع الحجاب. وبالشهود الاطلاع على الحقائق بعد الكشف. واتفقوا على أن مدارهما القلب، وخطوا سلوكاً خاصاً لبلوغهما، كالتصفية والتزكية وغيرهما مما قرّ في المدوّنة. ووسموا الغاية شهود الحقائق عياناً بلا توسط علمٍ نظري. ومازوا التصوّف، من هذه الناحية، مما ينجم عن الجدل والبرهان. ووضعوا في الطريق منازل ومقامات. غير أن المشكل في الأمر، أن ثمة علاقة بين المنهج والمعرفة، لم يتنّبه لها الصوفيّة، ولا الغزالي، وقد تنّبه لها السهروردي و ابن عربي. وهو مدار بحث الأبستمولوجيا الحديثة «نظرية المعرفة». ويتجلى المشكل، في أنّ المنهج لا يفضي إلى معرفة موحدة، مادامَ ثمة تداخل بين الذاتي و الموضوعي. والتصوّف وإن اتكأ على الذاتي، بقي فيه أثر خفيّ للموضوعي، تظهره المخرجات المعرفية. و إلا بماذا يُفسر الاختلاف بينَ وحدة الشهود والوجود، وفي المقابل، الاختلاف في «الكثرة»، بينَ وهمية وواقعية؟.

إذن، لا بد من منهجٍ يقيم التجربة الصوفية ويفسرها تفسيراً موضوعياً. هكذا أدرك السهروردي وابن عربي الحاجةَ إلى منهجٍ، هو البرهان، غير أن المساءلة تجاوزت المنهج إلى المعرفة؛ لأنّ الفلسفة/ البرهان، لا تجري استدلالاً إلا بعد حيازة «الحدّ/ الماهية»، والسهروردي وابن عربي كانا يقصدان إلى الاستدلال بمعزلٍ عن السيّاق النظريّ، أي  أنهما يأخذان «الماهية» مشاهدةً (∗). يقول السهروردي: «وقد رتبت لكم قبل هذا الكتاب وفي أثنائه عند معاوقة القواطع عنه كتباً على طريقة المشائين، ولخصت فيها قواعدهم…وهذا سياق آخر، وطريق أقرب من تلك الطريقة وأنظم وأضبط وأقل إتعاباَ في التحصيل. ولم يحصل لي أولاً بالفكر بل كان حصوله بأمر آخر ثم طلبت الحجة عليه، حتى لو قطعتُ النظر عن الحجة مثلاً ما كان يشككني فيه مشكك» (). ويقول ابن عربي: «فإن الحق ـ تعالى ـ الذي نأخذ العلوم عنه، بخلو القلب عن الفكر، والاستعداد لقبول الواردات هو الذي يعطينا الأمر على أصله، من غير إجمال ولا حيرة. فنعرف الحقائق على ما هي عليه، سواء كانت المفردات، أو الحادثة بحدوث التأليف، أو الحقائق الإلهية، لا نمتري في شيء منها. فمن هناك هو عِلْمُنا. والحق ـ سبحانه ـ معلّمنا، ورثا نبويا، محفوظا، معصوما من الخلل والإجمال والظاهر.»().

وفي أفق هذه المساءلة، يتجلى مشكل آخر، أن الفلسفة ليست استدلالاً للإفهام أو الزاماً بالمحاجة، وإنما منهج خاص في المعرفة، له مبادئ أولية، وغايةٌ: هي تشيد رؤية كونية على عماد فكري. وهذا لم يتفق، كلياً، في التقارب الصوفيّ الفلسفيّ، بل هو أشبه بمزاولة علم الكلام، غير أن مريدي ابن عربي، لا سيما القونوي، حاولوا دفع هذه المشكلات بتحويل التصوّف علماً نظرياً، غير أنهم قلبوا الفلسفة رأساً على عقِب، حيث وضعوا «وحدة الوجود الشخصية» موضوعاً، ما أدّى إلى توسعة في المسائل الفلسفية، وفي آليات اشتغال المنهج، إضافة إلى إحداث تحول في طبيعة التفكير الفلسفي من الماهية إلى الوجود.

العرفانية الجديدة

لما كان التصوّفُ، حتّى القرن السابع، في تحوّلٍ، فإن المفهوم مرّ بارتدادات مختلفةٍ، وأسهم هذا في استعادة الثيوسوفيا عند البسطامي والحلاج، وكان جلال الدين الرومي يمثل هذه الاستعادة؛ امتداداً للعرفانية الذوقية بموقفها الرافض للمناهج والأيديولوجيا، وربما كانَ سنائي الغزنوي أول من استعادَ الرفض. قال: «لن تستطيع أن تصل حضرة المولى عن طريق الهيولى والعلة الأولى»()

وقد اتفق أن يلتقي الرومي، في حياته، أربعةَ تجارب صوفيّة. وكانَ فريد الدين العطار أول من التقاه، وهو شيخٌ لوالده بهاء الدين ولد، وقد تأثرَ الرومي بصاحبِ تذكرة الأولياء، حتّى قالَ فيه: «لقد طافَ العطارُ بلاد العشق السبعة، وما برحنا في منعطفِ الزقاق الأول»(). وكانَ يقصدُ إلى مقامات العطار في منطق الطير، النفس، والقلب، والعقل، والروح، والسر، والخفي، والأخفى. 

وموقف العطار يشاكل موقف سنائي. قال العطار: «كل من يحمل هذا الاسم (أي فيلسوف) في طريق العشق، فلن يكون خبيراً في مجال الدين بالعشق»(). أمّا الصوفيان الآخران، فهما: ابن عربي، والقونوي. لكنَ الرومي لم يتأثر بهما كثيراً، بل كانَ اللقاء الأعمق تأثيراً في تحولِ الرومي(∗)، هو لقاء شمس تبريز. وقد نتج عنه قطيعتان: قطيعة مع المناهج. و قطيعة مع التصوّف الأيديولوجي.

والتبريزي كان على موقفٍ من المناهج. قال: «يقال الفخر الرازي قد كتبَ ألف ورقة في تفسير القرآن، بل يقال إنها خمسون ومائة ألف ورقة، والفخر الرازي لا يبلغ أن يكون غباراً في طريق أبي يزيد البسطامي، وما هو إلا كمثل حلقة على الباب، ليس على ذلك الباب الخاص، بل حلقة من حلقات الباب الخارجي.»()، أمّا رفضه للتصوّف الأيديولوجي، فقال: «أقل ما عند المصطفى عليه الصلاة والسلام لا أهبه مقابل مائة ألف رسالة للقشيري والقريشي وغيرهما، لا طعم لها، ولا ذوق.»().

ويردّد الرومي هذين الموقفين، قال: «إلى متى تتباهون بقولكم: حدّثنا وحدّثنا؟ وتمرحون في ميدان الرجال وأنتم تمتطون سرجاً بغير خيول، أما من أحد منكم ينطق بخبر فيه: حدّثني عن ربي»(). ولا يبعد أن يكون هذا الموقف رفضاً لما قرّ في مدوّنة القرن الرابع الهجري، أي ما شاعَ بـ «الإسناد» عند الكلاباذي والسلمي والقشيري. وكانَ الرومي يقصد إلى استعادة الفهوانية وقفةً ومخاطبةً. وفي رفضِ المناهج، قال:

 «يقول العقل: «الجهات الست حدٌ حاجزٌ لا طريق وراءه»

يقولُ العشقُ هناك طريق، وقد ذرعته مرّات

رأى العقلُ سوقاً فشرع في التجارة

ورأى العشقُ وراءَ سوق العقل أسواق

ما أشبه العديد من الأخفياء بمنصور [الحلاج]، ثقةً منه في روح العشق زهدَ المنابرَ، واعتلى أعوادَ المشانق»()

هكذا عادَ التصوّف عرفاناً ذوقياً، وكان المدار فيه العشق، ومن هنا يبدو التصوّف لحظةَ دهشٍ، لا تُنال بمسالكَ قبليّة، أو عناية تنبه، إنه يشبه أن يكون جذباً. فإذا صار الصوفي إلى هذه اللحظةِ، انتهك ثم تجاوز، كلّ ما هو قار، فيمضي إلى ما وراء العقل، فتتحقق له معرفة مفارقة، يشاهد بها الجانب الآخر في الوجود، سرّ الأشياء جميعاً. فينتهي إلى مقايضةِ المعارف كلّها باللانهائي، المطلق. وفي هذا المنظور، لا يبقى تعريفٌ للتصوّف سوى الدهش والحيرة().