الكاتب | الحسين بوتبغة |
من هو ماكس شترنر؟
ماكس شترنر (واسمه الحقيي يوهان غاسبار شميدت) فيلسوف ألماني له وضع خاص في تاريخ الفلسفة الأوروبية المعاصرة، فقد خل على هامش الحياة الفلسفية والجامعية في ألمانيا القرم 19، ولم يخلف سوى كتاب وحيد هو “الأوحد وملكيته” أثار ردود فعل نقدية قوية حين صدوره سنة ثم طواه النسيان بسرعة، ولن يعود الحديث عنه مجددا إلا في القرن 20 حيث سيعمل باحثون على إيجاد صلات بين هذا الكتاب وبين حركات فكرية كان لبعضها وزن خاص في الساحة الفكرية الاوروبية، وعلى رأسها الوجودية والفوضوية والفردانية. بل ذهبت بعض الدراسات المعاصرة إلى اعتبار شتيرنر ممهدا لينتشه، و”الأناني” في كتاب “الأوحد وملكيته” الصورة الأولى “للإنسان الأعلى” في كتاب “هكذا تكلم زرادشت”. لهذا الاعتبار، حاولنا في هذه المقالة عرض أهم أفكار شترنر ك ما عرضها في كتابه الأوحد والوقوف عند التأثير الذي يمكن أن يكون قد مارسه في تاريخ الفكرالفلسفي المعاصر في أوروبا .
1. ماكس شترنر في عصره
ولد ماكس شترنر سنة 1806 في بيروت بمنطقة تنتمي إلى شمال بافاريا، وتوفي سنة 1856 بيرلين.درس فقه اللغة واللاهوت والفلسفة بأكاديمية برلين على يد أساتذة منهم شلايرماخر وكارل ريتر وهانز رتير وف. و هيجل .عاش شترنر مغمورا وضل مغمورا بعد وفاته. لم يخلف مؤلفات ذات وزن في تاريخ الفلسفة. ويعتبر كتاب “الأوحد وملكيته” المؤلف الوحيد في تاريخ الفلسفية والذي سبق أن نشر على شكل مقالات في “المجلة البرلينية” التي كان يشرف عليها بوهل وفي “الجريدة الرينانية” التي كان يشرف عليها كارل ماكس. انخرط شترنر في حركة “الشباب الهيجيلي”، ولكنه لم يشارك إلا باحتشام في النقاشات الصاخبة والحادة لشبيبة برلين في إطار “نادي الدكاترة” الذي كان يحتضن النقاشات الفلسفية لجزء هام من النخبة الفكرية الألمانية. و بعد “الأوحد وملكيته”، لم ينشر شترنر سوى مقالين: الأول بعنوان “النقد المضاد” والثاني بعنوان “الرجعية الفلسفية” نشرا على التوالي سنة 1845 وسنة 1847، وكانا معا يتضمنان ردود شترنر على الانتقادات التي أثارها كتابه الرئيس .
وحتى يمكن فهم الخلفية النظرية لكتابة ونشر “الأوحد وملكيته” لا بد من استحضار بعض ملامح الحياة الفكرية في ألمانيا آنذاك. فقد كان الاعتقاد السائد في أوساط الشباب الهيجلي أن نقد المسيحية وتجاوزها هو مدخل ألمانيا إلى المعاصرة، أي إلى اللحاق ببريطانيا التي أنجزت ثورتها الصناعية وكانت تعيش حياة برلمانية، وبفرنسا التي قضت على الحكم المطلق عبر ثورة 1789و أسست للمواطنة والمساواة السياسية.
فكما أن مثقفي القرن 18 الفرنسيين حاملي رايات العقل والحرية في وجه الإقطاع والحكم المطلق، اضطروا إلى توجيه الضربات أساسا إلى الدعامة الروحية للإقطاع والحكم المطلق أي إلى الدين المسيحي، فإن مثقفي اليسار الهيجلي في كفاحهم ضد الإقطاع ورمزه الذي اعتلى عرش بروسيا سنة 1840 وهو ف. كيوم الرابع ،قد استهدفوا كذلك الدين المسيحي، خاصة وأن الهجوم على الدين كان أقل خطرا من المواجهة المباشرة مع الحكم المطلق. لقد كانت الأسلحة الموظفة في الصراع فلسفية، مفاهيمية، لكن الغايات كانت سياسية. وكان الكفاح ضد هيمنة هيجل وانتصاره للدولة البروسية ومماثلته بيت الدين والفلسفة باعتبارهما تعبيرين متنوعين “للروح المطلق” أو “العقل” هو المدخل للكفاح السياسي المناهض للحكم المطلق.
وقد شكل نشر كتاب “حياة يسوع” للدكتور دافيد شتراوس سنة 1835 بسبب ما دار حوله من نقاش إيدانا بنشأة “اليسار الهيجلي” وبداية التحرر من إرث هيجل. لقد أنكر دافيد شتراوس على المتدينين حرصهم على تجنيب إخضاع النصوص المقدسة للقواعد التي يطبقها النقد التاريخي على غيرها من النصوص. كما أنكر على هيجل مماثلته بين الدين والفلسفة، وأكد أـن رد المعتقدات الدينية إلى تصورات فلسفية يتضمن بالضرورة إفساد طابع الدين ومحتواه. وعلى النقيض من هيجل الذي كان يرى أنه يمكن إغفال الحقيقة التاريخية للقصص الديني والاحتفاظ بدلالته الرمزية وحدها، فإن شتراوس كان يرى أن هذا القصص يشكل جوهر المسيحية، وأن الأناجيل ليست رموزا فلسفية بقدر ما هي تعبير عن الرغبات والمطامح العميقة للجماعة المسيحية. وقد أنهى شتراوس الكتاب بتأكيد ما تنطوي عليه أقاصيص الأناجيل المعترف بها من تناقضات، وخلص من ذلك إلى أن حياة تاريخية للمسيح قائمة على مثل هذه الشهادات المتناقضة لا يمكن الوثوق بها.
وغير بعيد عن هذا التوجه النقدي، وإن من زاوية أخرى سار برونوباور (1809-1882 )وهو أحد الوجوه البارزة لحركة اليسار الهيجلي، في التعامل مع المسيحية وإعطاء نقدها مكانة بارزة في مشروع بناء مجتمع جديد، وذلك ما تكشفه عناوين أهم كتبه:”نقد تاريخ الوحي” (1988) “نقد إنجيل القديس يوحنا” (1840) “تاريخ الأناجيل الأربعة وانجيل يوحنا” (1841-1842) “نقد التفسير اللاهوتي للأناجيل” (1852) .
لقد جهد باور ليبين أن الجماعة المسيحية خلقت عقيدتها وجعلت السيد المسيح رمزا لأفكارها ومطامحها. وهذا ما جعل العهد الجديد في نظره بالمقارنة مع العهد القديم، يمثل درجة جديدة أعلى من تطور الوعي الكوني الشمولي. وعلى عكس دافيد شتراوس الذي لا يزال ينسب قيمة تاريخية لعناصر من حياة المسيح، سعى بارو إلى إثبات أن الأناجيل لا تتضمن أي ذرة من الحقيقة التاريخية، وأنها إبداع تلقائي لكتاب الإنجيل وان وعي البشرية ذاتها هو العنصر الخلاق للتاريخ المقدس.
وكان باور يعتقد باستمرار أن المهمة المنوطة حاليا بالبشر هي التحرر عن طريق النقد من سيطرة الدين، أي إلغاء العراقيل التي يضعها أمام تطور الوعي الكوني الشمولي، الذي لا يمكن أن يتجسد بشكل نهائي في أي مظهر روحي محدد. وهو بذلك يصفي الحساب مع أستاذة هيجل الذي ظل يعتقد أن المطلق قد وصل نهاية زحفه المتقدم في الدولة البروسية وفي الفلسفة الهيجلية نفسها.
إنه نفس التوجه الذي سلكه أحد فلاسفة القرن 19 الألمانيين المنحازين إلى المادية وهو لودفيغ فيورباخ(1804-1872) والذي نظر طوال حياته في مواجهة هيجل والهيجلية، وخصص جزءا من تفكيره لنقد ما كان يعتبر عائقا أمام تقدم ألمانيا وهو المسيحية.
هكذا شن فيورباخ نقدا شاملا على المسيحية، مواصلا بذلك التقليد الذي دشنه في ألمانيا القرن 19 دافيد ستراوس، وسار عليه غيره من الهيجليين الشباب. فهو قد أخضع النصوص الدينية للنقد، لا لاستخراج حقيقتها التاريخية أو مضمونها الفلسفي بل في محاولة لاكتشاف طبيعية الدين وأصله باعتباره مكونا أساسا من مكونات حياة البشر، وخصص لهذا الغرض كتاب “جوهر المسيحية” (1841) .
إن فيورباخ يعالج مسألة الإنسان من خلال مقولة “الاستلاب” فالمزايا الرئيسية للإنسان –في نظره- تم استلابها في كائن مفارق، أي تم تحويلها إلى موضوع مستقل ذي وجود فوق-إنساني، وهو نفس ما قامت به الفلسفة الهيجلية التي حولت ماهية الطبيعية وماهية الإنسان إلى “الفكرة المطلقة” التي أضحت العنصر المحرك والمنظم للعالم، وتحكم على الطبيعية والإنسان بألا يكونا سوى تجليين لهذه الفكرة .
هذا، إذن، هو المناخ الفكري الذي نشأ فيه م. شترنر ودرس و ألف كتابه الوحيد “الأوحد و ملكيته”، مناخ ساد فيه الاعتقاد وسط النخبة المثقفة ممثلة في معظمها بالحركة الهيجلية الشابة بأن الدين هو مصدر معاناة ألمانيا وسبب تأخرها. لقد كانت إشكالية اليسار الهيجلي تتمثل في اعتقادها أن تصورات البشر الخاطئة، أن أوهامهم قد انفصلت عنهم وصارت كائنات مستقلة، فإذا بهم خالقو هذه التصورات ومبدعو هذه الأفكار يركعون أمام مخلوقات عقولهم. ولهذا، فالحلول التي قدموها تتمحور كلها، رغم الاختلاف الظاهري، في أن تجاوز وضع الاستلاب يكمن في تغيير وعي بوعي، في مقايضة وعيهم الحالي الذي هو سبب كل الشرور بوعي جديد يقابل ماهيتهم الحقيقية.( خصص ماركس / انجلز الجزء الأساس من كتابهما “الإيديولوجية الألمانية” لنقد اليسار الهيجلي ممثلا في فيورباخ و الأخوين إدغار و برونو باور و شترنر).
-II الأوحد وملكيته أو الفردانية في أقصى صورها
نشر ماكس شترنر في أبريل 1842 مقالا في “المجلة الرينانية” التي كان يرأس تحريرها كارل ماركس بعنوان “المبدأ الخاطئ لتربيتنا أو الإنسية والواقعية” تناول فيه بالتحليل إيجابيات التعليم الكلاسيكي ومكامن قوة التعليم الحديث أو العصري، وانتهى إلى رفض الإنسية والواقعية معا، وانتصر لما كان يسميه “الشخصانية” ملحا على ضرورة تركيز التربية على هدف واحد أساس هو تفتح الإرادة الفردية.
والحقيقة أن هذا المقال يكتسب أهميته عند الكاتب من كونه تضمن بذور ما سيصبح “نظرية” ماكس شترنر والتي سيعرضها مفصلة في كتابة الرئيس “الأوحد وملكيته” المنشور لأول مرة سنة 1844، هذا الكتاب الذي يرسم فيه الكاتب صورة لحركة الشباب الهيجلي في السنوات الحاسمة من حياة هذه الحركة .”لقد تعرض هذا الكتاب أكثر من غيره لتأويلات مختلفة ولسوء فهم عامر. وقد كان، خلافا لكل ما قيل فيه من أنه متشرد فلسفي بدون أصول، نتاجا أصيلا للهيجلية التي تلفظ آخر نفسها. وفهم النظرية التي يعرضها الكاتب عبر صفحاته يقتضي الوقوف على مفاهيمه الأساسية وخصوصا مفهومي الاستلاب والاستملاك”[1]
مفهوم الاستلاب يمتد ليشمل، عند شترنر، كل القوى التي لا يشكل الفرد أصلها، وبالخصوص “إنسان فيورباخ” أي الانسان كمقولة فلسفية مجردة. أما الاستملاك أو إعادة التملك، فهو بالعكس استعادة الفرد لكل القوى المنزوعة منه، سعيا وراء تحقيق ذاته باعتباره أوحدا مطلوب منه إخضاع قوى السيطرة في حدود اكتسابه الوعي بأنها لا تستقي قوتها إلا من جهله بدوره كخالق مطلق
قسم شترنز كتاب “الأوحد وملكيته” إلى جزأين رئيسين عنون الأول بـ “الإنسان” والثاني “بالأنا” وذلك على غرار فيورباخ في “جوهر المسيحية”. وهكذا، وضع الانسان مقابل إله فيورباخ، ووضع الفرد مقابل إنسان فيورباخ، وحدد منذ البداية هدف الكتاب في مواجهة إنسية فيورباخ، ومن ثمة تأكيد واحدية الأنا المتحرر من جميع القيود.
وفي بداية الكتاب، شرع في رسم لوحة لتطور الحياة الإنسانية من الطفولة إلى النضج عبر مراحل ثلاث هي الواقعية، ثم المثالية، فالأنانية. وكما عند هيجل، فإن التطور هنا ثلاثي اللحظات، تأتي فيه اللحظة الثالثة بمثابة تركيب يتجاوز الصراع بين الأولى والثانية. هكذا، فإن الواقعية (وهي مرحلة الطفولة) تضل في صراع مع المثالية (الشباب/المراهقة) تنفي إحداهما الأخرى إلى أن تنجح الأنانية (وهي مرحلة النضج) في صهرهما في كل واحد.
ويمتد ديالكتيك الحياة الإنسانية هذا إلى مجال التاريخ في فصل سماه شترنر “الأقدمون والمحدثون”. وإذا كان هيجل يجعل الروح المطلق محركا للتاريخ، ويجعل هدف الحركة الديالكتيكية للتاريخ تحقيق العقل والحرية، فإن شترنر يجعل النضال التحرري الذي يخوضه الانسان كي يؤكد نفسه بوصفه أنا خاصا وفريدا هو محرك التاريخ ا، وانتصار الأنا هو الغاية النهائية التي يسعى إليها التاريخ. وهكذا، يقسم شترنر التاريخ إلى مرحلتين كبيرتين: مرحلة ما قبل التاريخ ويسميها “الأقدمون” ،ثم مرحلة التاريخ الإنساني الحقيقي وهي ما يطلق عليه اسم “المحدثون”.
إن العالم القديم الذي يمثل مرحلة ما قبل تاريخ البشرية يتميز، حسب شترنز، بالواقعية أي أن اهتمام الإنسان فيه كان منصبا بشكل رئيس على الأشياء أي على الطبيعة. وكان لا بد من تجاوز مرحلة التعلق المطلق بالطبيعة، وهذا ما يبرر الانتقال إلى العصر الوسيط الذي هو حلقة وسط بين العالمين القديم والحديث أي ما يسمى بلغة هيجل نقيض القضية وتتميز هذه المرحلة بسيطرة الافكار مما يجعلها مثالية ،إذ يتحرر البشر من هيمنة الطبيعة ليسقطوا تحت هيمنة الروح. وهذا التطور تدشنه المسيحية التي تضع المادة في مرتبة أدنى من مرتبة الروح. وقد تم الانتقال –في نظر شترنر- عبر تنبه الحركة السوفسطائية في العالم القديم إلى أهمية الفكر والأفكار التي اعتبروها خير وسيلة للكفاح ضد العالم. إن فكر السفسطائيين كان حادا يمكن أن يخدم أية قضية. ولكن، لكي يتم تحرير الفكر بشكل كامل من أسس الطبيعة والأشياء، كان لا بد من تكامل “قوة الذكاء” المميزة للسوفسطائيين مع “طهارة القلب”. ولم يكن هذا من عمل سقراط كما عند هيجل، بل من عمل حركة الشكاك.
يقول شترنز: “لقد قلنا أعلاه إن العالم (الطبيعة) كان حقيقة بالنسبة للأقدمين. كذلك يجب أن نقول هنا: كان الروح (الأفكار) حقيقة بالنسبة للمحدثين. ولكن يجب في كلتا الحالتين أن نضيف هذا التحديد الهام: حقيقة حاولوا أن يتغلغلوا وراء لا حقيقتها، وقد انتهوا إلى اكتشافها”[2].
وعلى هذا النحو ينتقل شترنر بالإنسانية إلى مرحلة ثالثة من مرا حل تطورها التاريخي تتميز باستعادة الانسان السيطرة على عالم الأشياء وعلى عالم الأفكار معا، وإخضاع هذين العالمين للإرادة.
بعد هذا الوصف المفصل لتطور الإنسانية، ينتقل شترنر إلى دراسة “الروح”، فيحكم على كل العصور السابقة بأنها عهود مثالية، ويحدد مهمة العهد الجديد الذي يعتبر هو مدشنه ونبيه، بأنها تحرير الإنسان من جميع الاغلال. وفي أفق تحديد هذه المهمة – النبوءة يوسع نقده ليشمل جميع الحركات الروحية والفكرية التي يعتبرها تعبيرات عن المثالية التأملية التي تضع كفرضية للبحث أولوية الروح، ومنها بشكل خاص الكاثوليكية والبروتستانتية والفلسفة الهيجلية.
لذا، فإن نقده لهذه الاتجاهات والحركات هو في الأخير نقد “الروح” فإذا كان هيجل يرى في تحقق الروح تحققا للعقل وللحرية، فإن شترنز يعتبر أن رفعة الروح هي تدني الأنا. وبمقدار ما يصبح الروح سيدا بمقدار ما يصبح الأنا عبدا. إن القيمة العليا التي يضعها شترنر في مركز الصدارة في مواجهة الروح وكل القيم السائدة، هي الأنا. وسوف يكون همه الرئيس الكشف عن جميع الأغلال التي تحول دون تحرر الأنا، فكرية كانت هذه الأغلال أو اجتماعية.
ومن هنا نفهم لماذا لا ينادي شترنر بالنضال ضد الدين وضد الفلسفة المثالية الذين اعتبرهما جل مفكري عصره يكرسان استلاب الإنسان، بل ينادي بالكفاح كذلك ضد جميع المعتقدات السياسية والاجتماعية السائدة. ومن ثمة فإن نقده يمتد إلى الاتجاهات السياسية المعارضة للحكم المطلق في بروسيا والتي يجمعها ،رغم اختلافها، تحت اسم واحد هو الليبرالية، وهي:الليبيرالية البورجوازية أو السياسية كما يسميها، و الليبيرالية الإنسية وهي فلسفة فيور باخ، والليبرالية الاشتراكية والشيوعية التي يسميها الليبرالية الاجتماعية. فهو يؤاخذ على الأولى كونها تستعبد الأنا للدولة، وعلى الثانية كونها تطمس الأنا الفردي بإعلائها من شأن كائن أعلى مطلق هو “الإنسان”. أما الثالثة، فرغم كونها تسعى إلى إلغاء الملكية الخاصة، فإنها لا تلبث أن تضعها في أيدي مالك أكثر استبدادا هو “المجتمع”.
ومن أجل الانتصار في معركة المصير هذه التي على الأنا أن يخوضها ضد جميع أشكال الكبح والاستعباد، ليس أمام الأنا سوى تمرد فردي به يتم التخلص من جميع المعتقدات والأفكار التي تقيده. هكذا، وبعد أن يزيح كل العراقيل، فإن شترنر يخطوإلى الأمام ليكشف عن “البديل” الموعود وذلك في فصل مستقل من كتاب “الأوحد وملكيته عنوانه “الأنانية”.
فبينما يندد فيورباخ مثلا بالأنانية ويعتبرها من نتائج استلاب الإنسان في الدين، تقفز الأنانية عند شترنر إلى مرتبة القيمة العليا والهدف الأسمى الذي ينبغي للفرد أن يجند كل طاقاته الخلاقة لتحقيقه. إن الأنانية هي الحل السحري للمشكلة الاجتماعية، والتمرد أو العصيان – لا الثورة – هو طريق التحرر الذي يفترض أن يقود إلى إنشاء اتحاد للأنانيين يطلق عليه شترنر اسم “الرابطة” أو ” التجمع”، وهو مفهوم استعارة من العالم الفرنسي جوزيف فوريي(1768-1830) وأفرغه من مضمونه الاجتماعي الذي يربطه بتغيير جذري للعلاقات الإجتماعية.
ويطور شترنر مفهومه للأنانية من خلال مفهومين هما: الحرية والملكية أو التملك. فعلى الإنسان الأوحد أن يخلق عالمه الخاص وأن يحقق شخصيته ويؤكد أناه الفردي المتميز ويحلها محل جميع “الكائنات” التي احتلت إلى الآن مركز الصدارة. لكن ذلك لن يتأتى له عن طريق الحرية وحدها.
فالحرية ليست أكثر من التخلص من شيء غير مرغوب فيه، وبمقدار ما يحقق الفرد حريته، بمقدار ما يخلق واجبات وحدودا جديدة. إن الأنا يتحقق بشكل كامل فقط حين يصبح الإنسان مالكا مطلقا. يقول شترنر:”باعتبارك مالكا، فأنت حر فعليا من كل شيء، وما بقي عالقا بك فأنت قبلته بمحض اختيارك، بكل طيبة خاطر. إن المالك إنسان مولود حرا، أما الإنسان الحر فليس سوى إنسان راغب في الحرية”[3]
ويعتبر شترنر أن طريق تحقق الأنا وتحرره يمر عبر الثورة ضد الدولة وضد جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والأسرية التي لا يرى فيها إلا قيودا تكبل الأنا. فهو يدين الدولة ويعتبر أنها اتحاد بين الإرادة الخاصة والإرادة العامة يتم على حساب الأنا الذي يفقد فيها إرادته وقوته لفائدة قوة غريبة تماما.يقول شترنر “الدولة لا تتابع أبدا إلا هدفا وحيدا: ضبط وتقييد وإخضاع الفرد وجعله تابعا لعمومية ما (..) والنشاط الوحيد الذي تشجعه هو الذي يرتبط بالهدف الذي تسعى إليه هي ذاتها.تبحث الدولة عبر رقابتها ومراقبتها وشرطتها على تعطيل كل نشاط حر، والإنسان من حيث هو يعيش في الدولة ليس غير إنسان اصطناعي.”[4]
ومثلما يرفض الدولة، فإن شترنر يرفض كذلك جميع المؤسسات السابقة عليها أو المرتبطة بها، وعلى رأسها الأسرة ويدعو إلى التحرر من القيود التي تفرضها على الفرد” الأناني”، يقول: “الفرد الذي لا تكون عنده الغريزة الانانية قوة بما يكفي يخضع: إنه يتم الزواج الذي يرضي أسرته. وعلى عكس ذلك، إذا كان الدم الأناني يغلي في عروقه بما يكفي من الاضطرام، فإنه يفضل أن يكون”مجرما” تجاه الأسرة ويتملص من قوانينها”[5]
واعتبارا لكون الحديث عن الدولة يحيل من بين أمور كثيرة على الحياة السياسية وعلى التنظيمات التي تمارس من خلالها السياسة وهي الأحزاب،فإن لشترنر وجهة نظر خاصة تجاه الأحزاب المختلفة التي عرفت نشأتها في ألمانيا القرن 19، يقول: “الحزب ليس إلا دولة داخل الدولة” و”السلم” ينبغي أن تسود في سرب النحل الصغير هذا كما في الكبير(…) الحزب مناقض لعدم الإنحياز، وهذا الأخير هم تجلي الأنانية(…)الأفراد أو الأوحدون هل ينتمون إلى حزب؟ إيه ! كيف قد يسعهم أن يكونوا أوحدين إذا كانوا ينتمون إلى حزب؟”[6]
نحن إذن أمام دعوة صريحة إلى التخلي عن أي التزام اجتماعي أو سياسي سواء في مواجهة الاستبداد (حال ألمانيا القرن 19) أو في مواجهة التفاوتات الاجتماعية التي ظهرت الحركة الاشتراكية ثم الشيوعية في اوروبا العصر الحديث لتقديم حلول لها. يقول شترنر:”تتخذ الأنانية سبلا أخرى في اتجاه القضاء على بؤس العامة. إنها لا تقول: انتظر ما ستعطيك إياه أي سلطة مكلفة بتقسيم الخيرات باسم الجماعة(…)،إنه تقول:ضع يدك على ما تحتاجه و خذه.إنه إعلان حرب الجميع ضد الجميع. أنا وحدي أقضي بما أريد الحصول عليه”.[7]
هي إذن عودة إلى حالة الطبيعة، حالة حرب الجميع ضد الجميع مثلما تحدث عنها توماس هوبز، حيث لا مجال للحديث عن الحق إلا حق الأقوى أو عن قانون إلا قانون القوة، إذ مثلما لا يعترف شترنر بأي واجب، فإنه بطبيعة الحال لا يعترف بأي قانون، يقول: «شرعي أو غيري، عادل أو جائر، ما أهمية ذلك عندي ؟ لا أحد غيري محتاج ليبين لي ما تمكنني منه قدرتي، إنها تعطيني الإذن الوحيد الذي يلزمني. الحق صولجان مجانين أنعم به علينا شبح؛ القوة هي أنا ذاتي، أنا القادر، أنا مالك القدرة.”[8]
إن مصدر الحق إذن ليس ما تفرضه القوانين بل هو القدرة والقوة التي يمتلكها الفرد، يقول:
«لا تترك الحق يجول بحريه. عد به إلى مصدره، أي إليك أنت، وسيكون حقك: سيكون عادلا ما هو عادل بالنسبة إليك."[9] .
إن جميع دعوات تحقيق العقل في التاريخ التي دبجها هيجل، وكل الحديث الماركسي عن التاريخ الذي يبشر بزوال استغلال الإنسان للإنسان وببناء إنسانية جديدة تقوم في إطارها العلاقات على التعاون، يواجهها شترنر بأنها نتاج قرون من الثقافة حجبت عن الإنسان الفرد، الأوحد، حقيقته وسجنته داخل أوهام. “التاريخ يبحث عن الإنسان: لكن الإنسان هو أنت، هو أنا، هو نحن. بعد أن اعتبرته كائنا غامضا، ألوهية، وبحثت عنه بادئ دي بدئ في الإله ثم في الإنسان(…) وجدته في نهاية المطاف في الفرد المحدود، في الأوحد.”[10].
هكذا، يتبين كيف يقود شترنر النزعة الفردية والفوضوية إلى حدودها النهائية داعيا إلى إلغاء جميع المؤسسات التي تقيد انبثاق الأوحد واعتلاءه عرش التاريخ، يقول:”طالما ضلت مؤسسة واحدة قائمة لم يسمح للفرد بإزالتها، فإن الأنا ما يزال بعيدا عن أن يكون ملك ذاته وأن يكون مستقلا.
كيف الحديث عن الحرية مادام يتوجب علي أن أؤدي يمين الولاء لدستور، لميثاق، لقانون، مادام يتوجب علي أن أتعهد بالانتماء “قلبا وقالبا” لشعبي؟ كيف لي أن أكون أنا ذاتي، ما لم يكن مسموحا لملكاتي بالتطور إلا بقدر ما “لا تعكر تناغم المجتمع؟”[11]
أثر كتاب “الأوحد وملكيته” في تاريخ الفلسفة
نجد أنفسنا ، إذن، مع كتاب” الأوحد و ملكيته” لا أمام مؤلف فلسفي يساجل فلاسفة معاصرين أو سابقين حول القضايا المختلفة التي تشغل اهتمام المفكرين في ألمانيا القرن 19، بل أمام “بيان” يتضمن قواعد الاعتقاد والعمل موجهة إلى الفرد، إلى الاناني، إلى “الأوحد” تحدد له ما ينبغي أن يهتم به وما ينبغي أن يكون موقفة بشأن الروح، والدين، والدولة، والمجتمع، والأسرة، والزواج، والملكية والحق والقانون إلخ…صحيح أن أسماء فلاسفة العصر خاصة هيجل وفيورباخ وباور ترد في ثنايا فقرات الكتاب، لكن ليس بهدف مناقشتهم بل بهدف بيان تهافتهم ومن ثمة إزاحتهم حتى يحتل الفكر الجديد المعلن لانتصار الفرد، الأناني، مركز الصدارة.
غير أن هذا الكتاب، على عكس مؤلفات هيجل وفيورباخ و ماركس مثلا، لم يجد صدى يذكر في الساحة الفكرية الأوروبية وقوبل مثل صاحبه – بالتهميش والإهمال، وفي ذلك يقول روبير روكلير، أول من نقل الكتاب إلى اللغة الفرنسية سنة 1899،:”طيلة خمسين سنة يتكثف التعتيم حول اسمه وحول أثره، وحدهم بعض الفضوليين الذين تجبرهم بحوثهم على التنقيب في الزوايا المغبرة للمكتبات، قلبوا بأصابع مرتابة أوراق هذا الكتاب المنبوذ.”[12]
قد يكون لفكر شترنر أثر في اوروبا أواخر القرن 19 والنصف الأول من القرن 20، غير أنه كان ضعيفا لو كنا نقصد بذلك تأثيره على تيارات الفكر الفاعلة في المساحة الأوروبية آنذاك، والتي كان أغلبها متوجها إلى المسألة الاجتماعية. ومن الدارسين من يعتبره نبي النزعة الفوضوية التي نشأت وبدأت دائرة المبشرين بها تتسع في ذلك الوقت. والحقيقة أن تأثير ميخائيل باكونين (1841-1876) وب.جوزيف برودون (1809-1865) و بيار كروبوتكين (1842-1921) على نشأة الحركة الفوضوية(خاصة في صيغتها الاجتماعية المتميزة عن الاتجاه الفرداني الذي تبناه شترنر) وانتشارها كان أكثر وضوحا وحاسما مما كان لماكس شترنر. وربما يعود ذلك إلى أن هؤلاء الثلاثة كانوا أكثر التصاقا بالحركات العمالية وبالأوساط الثقافية الفاعلة فيها في لندن وباريس وموسكو وغيرها. فباكونين مثلا الذي نفي إلى باريس منذ 1842، شارك في ثورة 1848 وفي جميع الحركات الثورية التي عرفتها كثير من البلدان، وانتهى به المطاف في لندن حيث سينظم إلى الأممية العمالية الأولى، ثم انفصل بعد ذلك عن الحركة العمالية المنظمة معلنا نفسه عدو الدولة وعدو الدين وعدو الملكية الخاصة، ومناديا بالفوضوية من خلال مؤلفات متعددة منها بشكل خاص “الدولة والفوضوية”(1873).
وفي اتجاه آخر، يذهب بعض الباحثين إلى التأكيد على التأثير الكبير الذي مارسه كتاب “الأوحد وملكيته” على الحركة الوجودية في شقها غير المؤمن مع سارتر وهايدجر وآخرين. وفي الصدد، يبرز بشكل خاص اسم الفيلسوف الفرنسي هنري أرفون (1914-1992) الذي يعتبر بحق أحد المختصين القلائل في فكر ماكس شترنر، والذي خصص لإبراز تأثيره في الفلسفة الوجودية كتابا مستقلا بعنوان” في أصول الوجودية: ماكس شترنر”(1954) وآخر بعنوان “ماكس شترنر أو تجربة العدم”(1973).
ولعل تأكيد الفلاسفة الوجوديين، وعلى رأسهم ج.ب.سارتر (1905-1980) ،على الطابع الجذري للحرية الإنسانية وإلحاحه على مسؤولية الشخص عما يكونه، والتأكيد على كون الإنسان مشروعا دائم التحقق وغير مالك لماهية ثابتة سابقة على وجوده، هو ما يجعل الربط بين شترنر وبين الحركة الوجودية غير المؤمنة بشكل خاص أمرا مقبولا سواء كما برهن على ذلك هـنري أرفون أو كما ذهب إلى ذلك باحثون آخرون منهم الفرنسي ميشال أونفراي خلال القرن21.
هذا، مع العلم أن فيلسوفا آخر معاصرا لشترنر هو الدنماركي سورين كير كغارد (1813-1855) – و الذي يشترك معه في إعلانه العداء للنسق الهيجيلي اعتبارا لكون النسق لا يمكن أبدا أن يحيط بالوجود-كان أبرز تأثيرا في الحركة الوجودية الناشئة، بل يعتبر مدشنها الرئيسي. وكيركغارد رغم إلحاحه –مثل شترنر- على أولوية الفرد كمركز لاهتمام الفلسفة، ورغم تأكيد أهمية الحرية باعتبارها جوهر الفرد، فهو يولي أهميته كبيرة للدين وللإيمان الديني. وسوف تجد أغلب مفاهيمه وهي: الوجود، الحرية، الفرد، الإختيار، القلق، العدم إلخ.. طريقها إلى الكتابات الفلسفية الرئيسة للوجودية عند غابرييل مارسيل، وكارل ياسبرز، وج.ب.سارتر، و مارتن هايدجر وغيرهم. وهذا ما يجعله أكثر تأثيرا على الحركة الفلسفية الوجودية بشقيها المؤمن وغير المؤمن، أكثر مما فعل ماكس شترنر وكتابه “الأوحد وملكيته”.
وعلى الرغم من عدم وجود أدلة أو شهادات كافية تدل على أن نيتشه (1844-1900) قرأ كتاب شترنر “الأوحد و ملكيته”، فإن وجود بعض أوجه التشابه في المواقف الفكرية يذهب في اتجاه تأييد فرضية كون نيتشه قد تأثر في حدود معينة بماكس شترنر وإن كان لا يذكره في أي من مؤلفاته أو آثاره الفكرية.
فالمفكران يعليان من مكانة الفرد ويرفعانه إلى مستوى القيمة العليا، ويرفضان الدولة رفضا مطلقا، ويعارضان الأخلاق السائدة، ويرفضان جميع الدعوات للمساواة التي رفعتها التيارات الاشتراكية والشيوعية، ويشهران إلحادهما ورفضهما للقيم والأخلاق المسيحية.
لكن، بالرغم من وجود تشابه واضح بين “الأناني” عند شترنر وبين “الإنسان الأعلى” عند نيتشه على أساس أن الأول هو الشكل البدائي للثاني، فإن الربط بين الفيلسوفين بالطريقة التي تجعل الأول مؤثرا على الثاني أو ممهدا مباشرا له، يبقى مجرد فرضية تعوزها الأدلة “المادية”.
الهوامش
- Henri Arvon:Aux sources de l’existentialisme: Max Stirner. P.U.F-1957- page:35.
- ماركس / انجلز: الإيديولوجية الالمانية – ترجمة فؤاد أيوب –الطبعة الأولى 1976 – دار دمشق. ص: 134.
- ماركس- انجلز: نفس المرجع – ص: 328.
- ماكس شترنر: “الأوحد و ملكيته” – ترجمة د.عبد العزيز العبادي – منشورات الحمل- ط 1 – بيروت 2016 – ص: 306.
- نفس المصدر – ص: 297.
- نفس المصدر – ص.ص: 315-317.
- نفس المصدر – ص.ص: 344-345.
- 8- نفس المصدر – ص: 284.
- نفس المصدر – ص: 279.
- نفس المصدر – ص: 327.
- نفس المصدر – ص: 293.
- نفس المصدر – توطئة – ص 7.
- Arno Munster: Le moi, l’unique et le néant. Nietzsche et Stirner – in Revue Germanique Internationale N°-11.1999-pages: 157-172.