مجلة حكمة
قضية الحرية

قضية الحرية – صبا محمود / ترجمة: عبير العبيداء

الفصل الأول (قضية الحرية) من كتاب (سيـاسة التقوى) لصبا محمود، ترجمة: عبير العبيداء (مؤسسة ريم وعمر بالتعاون مع دار جداول للنشر – 2019)


على مدى العقدين الماضيين ظل السؤال الأساسي الذي شغل العديد من منظري النسوية، هو: كيف لقضايا الخصوصية التاريخية والثقافية أن تكون أساسًا لتحليلات وسياسات أي مشروع نسوي؟ ورغم أن هذا السؤال دفع بعديد المحاولات لدمج الاختلافات في الجنس والعرق والقومية والطبقة الاجتماعية ضمن النظرية النسوية، فإن مسألة التباينات الدينية ظلت نسبيًا غير مطروقة. إن العلاقة الشائكة بين الدين والنسوية ربما تبدو أكثر جلاء في النقاشات حول الإسلام، يعزى ذلك نسبيًا إلى العلاقة الجدلية تاريخيًا بين المجتمعات الإسلامية، وما أصبح يعرف بـ «الغرب»، ولكن أيضًا إلى التحديات التي فرضتها الحركات الإسلامية المعاصرة على السياسة الليبرالية العلمانية – التي مثَّلت النسوية جزءًا لا يتجزأ منها أو طرفًا إشكاليًا فيها. لم تزدد ريبة النسويين تجاه الحركات الإسلامية إلا في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001م التي شهدتها الولايات المتحدة، وما تبعها من معاداة هائلة لهذه الحركات منذ ذاك الحين. إذا كان العداء ضد أنصار الحركات الإسلامية في الماضي نابعًا من فكرهم الاجتماعي المحافظ، ومن رفضهم للقيم الليبرالية – وجوهرها حرية المرأة -، فإن اقترانهم – المسلَّم به تقريبًا الآن – بالإرهاب قد عزز من فكرة أنهم ممثلو اللاعقلانية الخطرة.

إنَّ دعم المرأة ومشاركتها في الحركات الإسلامية أثار ردودًا قوية من النسويات عبر مجموعة واسعة من الطيف السياسي. أحد ردود الفعل الأكثر شيوعًا هو افتراض أن النساء المناصرات للحركات الإسلامية هن بيادق في خطة أبوية [بطريركية] كبرى، لو تحررن من قيدها لعبَّرن بشكل طبيعي عن مقتهن الفطري للأعراف الإسلامية التقليدية التي كانت تكبِّلهن. حتى أولئك المحللون الذين يشككون في أطروحة الوعي الزائف التي تقوم عليها هذه المقاربة، فإنهم مع ذلك واصلوا تأطير المسألة ضمن تناقض جوهري: لماذا يناصر هذا العدد الهائل من النسوة عبر العالم الإسلامي حركة تبدو معادية «لمصالحهن وأجنداتهن» خاصة في لحظة أتيحت للمرأة فيها فرص تاريخية أكثر للانعتاق[1]؟. رغم الفوارق الجوهرية بين هذين التفاعلين، فإن كليهما يشتركان في افتراض أن ثمَّة شيئًا جوهريًا لدى المرأة ينبغي أن يجعلها ميَّالة لمعارضة الممارسات، والقيم والتعليمات التي تمثلها الحركات الإسلامية. ومع ذلك لنا أن نتساءل هل مثل هذا الافتراض صحيح؟ وما التاريخ الذي وصلنا عبره لافتراض صحته؟ أي خيال سياسي يمكن أن يؤدِّي بنا للتفكير بهذه الطريقة؟ الأهمّ من ذلك، إذا كان لنا أن نتجاهل مثل هذا الافتراض، أي أدوات تحليلية أخرى يمكن أن تتوفر لطرح مجموعة مختلفة من الأسئلة حول مشاركة المرأة في الحركة الإسلامية؟

في هذا الكتاب سوف نستكشف بعض التحديات المفاهيمية التي تطرحها مشاركة النساء في الحركة الإسلامية على النظرية النسوية على وجه الخصوص، وعلى الفكر الليبرالي – العلماني عمومًا من خلال مقاربة إثنولوجية لحركة نسائية مسجدية حضرية بما هي جزء من النهضة الإسلامية الكبرى في (القاهرة، مصر). لمدة سنتين (1995 – 1997م) أجريت دراسة ميدانية مع حركة تضم نسوة – ذوات خلفيات اقتصادية واجتماعية متنوعة – كن يقدمن دروسًا لبعضهن البعض، تركَّزت على دراسة وتدريس النصوص الإسلامية المقدَّسة، والممارسات الاجتماعية، وأشكال السلوك الجسدي التي تعتبر أساسية في صقل الذات الفاضلة والمثالية[2]. لقد مثَّل ازدهار هذه الحركة المرّة الأولى في التاريخ المصري، التي يعقد فيها مثل هذا العدد الكبير من النساء الاجتماعات العامة في المساجد، لتعليم بعضهن البعض العقيدة الإسلامية، وبالتالي تغيير الصفة الذكورية تاريخيًا للمسجد، وكذلك للتربية الإسلامية. وفي الوقت نفسه، فإن مشاركة المرأة في المجال الديني داخل هذه الساحات العامة للتربية الإسلامية، قد بنيت بشكل حاسم، وعملت على دعم التقاليد الخطابية التي تعتبر التبعية لإرادة متعالية (وفي كثير من الأحيان لسلطة الرجل) منتهى غايتها[3].

حركة نساء المسجد هي جزء من النهضة الإسلامية الأشمل أو الصحوة التي اجتاحت العالم الإسلامي – بما في ذلك مصر – منذ السبعينيّات على الأقل. «الإحياء الإسلامي» هو المصطلح الذي يشير ليس فقط إلى أنشطة المجموعات السياسية الموجهة نحو الدولة، بل أيضًا وعلى نطاق أوسع، إلى ثقافة المجتمع أو حساسيته الدينية التي تولَّدت في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. هذا ما يتجلى بوضوح في المجتمع المصري في الانتشار الواسع للمساجد في الأحياء وغيرها من مؤسسات التعليم الإسلامي والرعاية الاجتماعية، وفي الزيادة الكبيرة في عدد رواد المساجد رجالًا ونساءً، وفي الانتشار الملحوظ للمؤانسة الدينية. وتشمل الأمثلة على هذه الأخيرة اعتماد الحجاب، واستهلاك وإنتاج وسائل الإعلام، والكتابات الدينية بشكل كبير، ودائرة متسعة من المفكرين الذين يكتبون ويعلِّقون على الشؤون المعاصرة في الصحافة الشعبية من وجهة نظر يصفونها بأنها إسلامية.

أضحت مساجد الأحياء بمثابة مركز تنظيم للعديد من هذه الأنشطة، من نشر المعارف والتعاليم الدينية، وتوفير الخدمات الاجتماعية والطبية لفقراء مصر[4]. هذه الأسلمة للمشهد الاجتماعي والثقافي للمجتمع المصري هي في جزء كبير منها عمل حركة التقوى، التي تمثل الحركة النسوية جزءًا لا يتجزأ منها، والتي تنظم أنشطتها تحت مظلة مصطلح «الدعوة» (مصطلح أتولى شرح تطوره التاريخي في الفصل الثاني)[5].

ظهرت حركة نساء المسجد، كجزء من الصحوة الإسلامية، منذ خمسٍ وعشرين أو ثلاثين سنة عندما بدأت النسوة بتنظيم دروس دينية أسبوعيًا – في البدء كانت في منازلهن ثم في المساجد – لقراءة القرآن والحديث (السجل الموثوق للأقوال والأفعال المُثلَى للنبيّ)، وما ارتبط بها من مدونة تحليلية تأسيسية. لما بدأت دراستي الميدانية سنة 1995م كانت هذه الحركة قد أصبحت ذات شعبية كبيرة، حتى يكاد لا يكون هناك أي من الأحياء في هذه المدينة ذات الأحد عشر مليون نسمة، لم تقدم شكلًا من الدروس الدينية للنساء[6]. وحسب المشاركين فإن حركة المسجد قد ظهرت كردة فعل تجاه التصور بأن المعارف الدينية – كوسيلة لتنظيم الحياة اليومية – أصبحت مهمَّشة بشكل متزايد في ظل هياكل الحكم العلمانية الحديثة. عادة ما يصف منتسبو هذه الحركة تأثير هذا التوجه على المجتمع المصري «بالعلمنة» أو «العلمانية» أو «التغريب»، وهي صيرورة تاريخية أدت إلى تراجع المعارف الإسلامية (باعتبارها نظم معاملات ومجموعة مبادئ في آن معًا) إلى نظام عقائدي مجرد لا تأثير مباشر له على الجوانب العملية للحياة اليومية. وكردة فعل، تهدف حركة نساء المسجد إلى تنشئة عامّة المسلمين على هذه الفضائل والقيم الأخلاقية وضروب من التفكير ، التي يرى منتسبو الحركة أنها، إما أصبحت غير متوفرة أو غير ذات صلة بحياة عامّة المسلمين. عمليًا، هذا يعني إرشاد المسلمين ليس فقط في أدائهم السليم للواجبات الدينية والعبادات، ولكن الأهم من ذلك، في كيفية تنظيم سلوكهم اليومي وفقًا لمبادئ العقيدة الإسلامية والسلوك الفاضل.

على الرغم من تركيزها على قضايا التقوى، سيكون من الخطأ تمييز حركة نساء المسجد باعتبارها تنبذ السياسة. على العكس تمامًا، فإن نمط التقوى الذي تسعى الحركة لتحقيقه يقوم على تغيير العديد من جوانب الحياة الاجتماعية[7]. بينما سأناقش في الفصلين الثاني والرابع كيف ناهضت حركة المسجد مفاهيمنا الليبرالية المعيارية للسياسة بطرق مختلفة، فإنني أريد هنا أن أشير إلى مدى التغيير الذي أحدثته كل من حركة المسجد وحركة الدعوة بصفة أعم في المجتمع المصري. هذا التغيير في أنماط اللباس والحديث ومعايير تقييم ما يمكن اعتباره لائقًا من وسائل الترفيه للبالغين والأطفال وأنماط التصرف المالي والتدبير المنزلي وتوفير الرعاية للفقراء وآداب الحوار. في الواقع، لما أدركت الحكومة المصرية وقع حركة المسجد على وجه الخصوص وحركة الدعوة العامة في الروح الاجتماعية والثقافية للحياة العامة والسياسية في مصر، أخضعت هاتين الحركتين لقواعد الدولة وللتدقيق[8].

يحتل الأشخاص الأتقياء في حركة المسجد مكانًا غير مريح في البحوث النسوية، نظرًا لأنهم يتبعون ممارسات ومثلًا عليا تكمن في التقاليد التي منحت المرأة مرتبة التابع تاريخيًا. أصبحت مثل هذه الحركات مرتبطة بمصطلحات: كـ «الأصولية» و«استرقاق المرأة» و«التحجر الاجتماعي» و«الرجعية المتضخمة» و«التخلف الثقافي»… إلخ – ارتباطات أصبحت فيما بعد 11 أيلول/سبتمبر أحيانًا تعامل «كحقائق» ولا تحتاج تحليلًا أعمق. ورغم أنها يمكن أن تكون مهمة جديرة، فإن غايتي في هذا الكتاب ليست تفصيل الاختزالية التي يؤدي إليها هذا الربط بظاهرة موغلة في التعقيد. وليست غايتي استرداد «عنصر قابل للاسترجاع» داخل الحركات الإسلامية باستعادة قواها التحررية الكامنة لجعلها أكثر استساغة للوعي الليبرالي. بدلًا عن ذلك، أسعى في هذا الكتاب إلى تحليل تصورات الذات والقوة الأخلاقية والسياسة التي تمثل أساس هذه الحركة غير الليبرالية، من أجل التوصل لفهم المشاريع التاريخية التي تحركها[9].

هدفي، مع ذلك، ليس تقديم مقاربة إثنولوجية للإحياء الإسلامي. بل هو أيضًا مساءلة تلك الافتراضات الليبرالية المعيارية حول الطبيعة البشرية التي تمثل أساسًا لمحاسبة مثل هذه الحركة ـ مثلًا الاعتقاد بأن كل الناس لديهم توق فطري للحرية، وأننا جميعًا نسعى بشكل أو بآخر لتأكيد الاستقلال الذاتي كلما أتيحت لنا الفرصة لذلك؛ ذلك أن القوة الإنسانية تتمثل أساسًا في سلوكيات تتحدى المعايير الاجتماعية وليس في تلك التي ترسخها… الخ. هكذا فبالتالي فإن مقارباتي الإثنولوجية ستدعم الحجج الحالية – سواء أكانت محايثة أم مغايرة – للمفاهيم المركزية للفكر الليبرالي، بما أن هذه المفاهيم هي لإبلاغ ضروب متنوعة من النظرية النسوية، من خلالها تُدرس الحركات الإسلامية كالتي أنا بصدد تحليلها. كما سيتضح فإن العديد من المفاهيم التي سأناقش ضمن معجم النظرية النسوية، في الواقع، تشترك فيها مع عديد التخصصات وذلك – نسبيًا – لأن الافتراضات الليبرالية حول أسس الطبيعة والقوة البشرية، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التقاليد الفكرية الإنسانية.

 

السلطة والمقاومة (قضية الحرية)

كما اقترحت منذ البداية، فإن دعم المرأة الفعَّال للحركات الاجتماعية والدينية التي تروِّج لمبادئ تبعية المرأة، يمثِّل معضلة للمحللين النسويين. من ناحية يُنظر إلى المرأة بما هي مطالبة بإثبات وجودها في مجالات محددة مسبقًا على أنها ذكورية، بينما من جهة أخرى حتى المصطلحات الموظفة في ولوج هذه العوالم هي جزء من خطاب ضَمِنَ تاريخيًا خضوعهن لسلطة الرجل. بعبارة أخرى فإن خضوع المرأة للقيم الأنثوية كالخجل والحياء والتواضع تبدو شرطًا ضروريًا لدعم دورها في الحياة الدينية والسياسية. وفي حين كان عاديًا تعليل مشاركة المرأة في مثل هذه التنظيمات خلال الستينيات بأنه زيف للوعي أو استبطان لمعايير السلطة الأبوية عبر التنشئة الاجتماعية، إلا أن التأويَلات من هذا النوع قد أصبحت مصدر إزعاج متزايد. بناء على دراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ السبعينيّات التي ركّزت على القوة الإنسانية داخل هياكل التبعية، سعى النسويون لفهم كيف قاومت المرأة نظام السيطرة الذكوري عبر قلب مفاهيم الهيمنة في الممارسات الثقافية، وإعادة صياغتها لخدمة «مصالحهن وأجنداتهن». وظل السؤال المركزي ضمن هذه الدراسات: كيف تساهم المرأة في إعادة إنتاج نظام الهيمنة الخاص بها وكيف تقاومه أو تطيح به؟ هكذا يميل الباحثون في هذا الإطار إلى تحليل التقاليد الدينية من حيث الموارد المفاهيمية والعملية التي تقدمها للمرأة، واحتمالات إعادة توجيه وترميز هذه الموارد بما يتلاءم مع «مصالح وأجندات» النساء ـ ترميزًا يشير إلى موقع قوة المرأة[10].

عند ظهوره أول مرة، لعب التركيز على تحديد موقع قوة المرأة دورًا هامًا في تعقيد وتوسيع النقاشات حول الجنسانية في المجتمعات غير الغربية، بعيدًا عن سجلات التبعية والأبوية السطحية. لقد وفَّر التركيز على قوة المرأة، على وجه الخصوص، فرصة هامة لتعديل الدراسات حول الشرق الأوسط التي كانت قد اعتبرت المرأة العربية المسلمة ككائن سلبي خانع، تكبِّله هياكل السلطة الذكورية[11].

أخذت الدراسات النسوية على عاتقها إعادة صوت المرأة المغيب إلى تحليلات المجتمعات الشرق أوسطية عبر تصوير النساء كعناصر فاعلة، حياتهن أكثر ثراء وتعقيدًا مما صورته السرديات القديمة[12]. هذا التركيز على فاعلية المرأة في دراسات الجنسانية، وازته – إلى حدٍّ ما – نقاشات حول وضع المزارعين في دراسات اليسار الجديد، وهي مجموعة أعمال كانت أيضًا تسعى لاستعادة القوة الإنسانية – أحيانًا تعرف مجازًا بـ «الصوت» – للمزارع في تأريخ المجتمع الزراعي – وهو مشروع ضد الصيغات الماركسية التقليدية التي لم تمنح المزارع أي دور في صناعة التاريخ الحديث[13]. مشروع دراسات التابعين هو أحدث مثال على هذه البحوث[14].

لا يمكن التأكيد بما فيه الكفاية على أهمية البحوث النسوية حول قوة المرأة خاصة إذا ما تذكرنا أن وسائل الإعلام الغربية واسعة الانتشار، ما تزال تصور المرأة المسلمة على أنها مكبَّلة بأصفاد الاضطهاد الديني والأبوي بشكل لا مثيل له. رغم هذا الإقرار، فإنه من الأهمية بمكان دراسة الافتراضات والقيم الخطابية السائدة وخاصة كيف مثَّلت هذه الافتراضات عائقًا أمام دراسة تنظيمات كالتي نحن بصددها الآن. فيما يلي سأتولى دراسة كيف استُخدِم مفهوم القوة الإنسانية الذي غالبًا ما يُستشهد به من قِبل الباحثين النسويين – باعتبار أنه يحدد موقع القوة في الاستقلالية السياسية والأخلاقية للفاعل – في دراسة النساء المنخرطات في التقاليد البطريركية الدينية مثل الإسلام. لاحقًا، في الجزء الثاني من هذا الفصل، سأقترح طرقًا بديلة لتحليل مفهوم القوة، خاصة من حيث صلتها بالطاقات المتجسدة، ومن حيث إنها أداة تشكيل الذات.

عمل دجانيس بودي هو مثال بليغ وذكي عن العودة إلى المقاربات الأنتروبولوجية في تحليل القوة الجنسانية التابعة. أجرت بودي دراسة ميدانية في قرية تقع في منطقة ناطقة بالعربية شمال السودان، على طقس «الزار» النسائي [15]. عبر أثنوجرافيا غنية من الممارسات الطقوسية للمرأة، تقترح بودي أن في مجتمع يسيطر فيه الرجال على «الأيديولوجيا الرسمية» للإسلام، يمكن فهم ممارسات «الزار» على أنها فضاء لخطاب التبعية كما أنها «وسيلة لتشذيب وعي المرأة»[16]. تدَّعي بودي أن استحواذ النساء على الزار بمثابة «نوع من عملية الهيمنة المضادة… ردة فعل أنثوية ضد ممارسة مهيمنة، وما يستتبع ذلك منطقيًا من تفضيل الرجال، الذي في نهاية المطاف لا يفلت لا من مقولاته ولا من أصفادِه»[17] وخلصت إلى التأكيد على أن النساء اللواتي درستهن «يستخدمن ربما دون وعي، وربما استراتيجيًا، ما قد نفضل في الغرب أن نعتبره أداة اضطهادهن كوسيلة لتأكيد قيمتهن جماعيًا، عبر الاحتفالات التي ينظمنها وبشكل فردي، في سياق زواجهن، في آن معًا. وبذلك يؤكدن على تكاملهن الديناميكي مع الرجال. هذا في حدِّ ذاته وسيلة للمقاومة ووضع حدٍّ للسيطرة…»[18].

بالرغم من الثراء الإثنوجرافي لهذه الدراسة، فإن ما يبدو مناسبًا أكثر لأغراض مناقشتي هي الدرجة التي يبدو فيها العنصر الأنثوي في عمل بودي أحيانًا مقموعًا، وأحيانًا كوعي نسوي فعَّال، يصدح به ضد المعايير الثقافية للمجتمعات العربية الإسلامية ذات الهيمنة الذكورية[19]. كما تكشف دراسة بودي، حتى في الحالات التي يصعب فيها تحديد موقع قوة نسوية واضحة، فإنَّ هناك نزعة لدى الباحثين للبحث عن تعبيرات ولحظات من المقاومة التي قد تعتبر تحدِّيًا لهيمنة الذكور. عندما يظهر سلوك المرأة على أنه إعادة صياغة لما يبدو أنه «أدوات قمعهن الذاتية»، فإن المحلل الاجتماعي يمكن أن يشير إلى لحظات من إرباك ومعارضة السلطة الذكورية – وهي لحظات تقع ، إمّا في فجوات في وعي المرأة (أحيانًا تُقرأ على أنها وعي نسوي ناشئٌ) وإمّا في التأثيرات الموضوعية لسلوكيات المرأة، حتى وإن كان قد غاب عنها القصدُ. هكذا فإنّ مفهوم القوة، من زاوية التحليل هذه، يُدرَك على أنَّه القُدرة على تحقيق المصالح الذاتية رغم وطأة العرف والعادة والإرادة المتعالية، أو أي معيقات أخرى (أكانت فردية أو جماعية). وهكذا فإنّ الرغبة الإنسانية للحكم الذاتي والتعبير عن الذات، تمثل الركيزة الأساسية، الجمرة الخامدة التي يمكن أن تكوِّن شرارة اللهب، في شكل فعل مقاومة كلما سمحت الظروف.

انتقدت ليلى أبو لغد، إحدى الشخصيات الرائدة بين هؤلاء الباحثين الذين ساعدوا على إعادة تشكيل دراسة الجنسانية في الشرق الأوسط، بعض الافتراضات التي شكلت البحوث النسوية، بما في ذلك تلك التي وجدت في أعمالها السابقة[20].

كانت ليلى، في إحدى أعمالها السابقة قد قامت بتحليل الشعر النسوي في أوساط قبيلة أولاد علي البدوية، كممارسة مشروعة اجتماعيًا، شبه علنية بما هي تعبير عن مقاومة المرأة واحتجاجها على المعايير الصارمة للهيمنة الذكورية في الأوساط البدوية[21]. لاحقًا، في مقال تأملي حول هذا العمل، تطرح أبو لغد سؤالًا مثيرًا: كيف لنا أن نعترف بحالات مقاومة للنساء دون أن «ننسب لهن ضروبًا من الوعي أو السياسة التي لا تشكّل جزءًا من تجاربهن ـ شيء ما من قبيل الوعي النسوي أو السياسة النّسوية؟»[22]. في استكشاف هذا السؤال، تنتقد ليلى أبو لغد نفسها والبعض الآخر لكونهم منهمكين للغاية في «تحليل المقاومة وإيجاد المقاومين» على حساب فهم طريقة عمل السلطة[23].

في بعض أعمالي السابقة، كما في بعض أعمال الآخرين، هناك ربما ميل لمغازلة المقاومة، لقراءة كل أشكال المقاومة على أنها علامات وهَنِ نُظُمِ السلطة، ومرونة وإبداع الروح البشرية في رفضها الوقوع تحت الهيمنة. من خلال قراءة المقاومة بهذه الطريقة، نسقط التمييز بين أشكال المقاومة، وندرأ بعض الأسئلة حول طريقة عمل السلطة[24].

وكخطوة تصحيحية، توصي أبو لغد بأن تُستخدم المقاومة كـ «تشخيص للسلطة »[25]، لتحديد التحولات في العلاقات الاجتماعية للسلطة، التي تؤثر على المقاومين فضلًا عن أولئك الذين يهيمنون. لتوضيح وجهة نظرها، تقدم أبو لغد مثال النساء البدويات الصغيرات اللواتي يرتدين ملابس داخلية مثيرة، لتحدي السلطة الأبوية والأعراف الاجتماعية السائدة. وتقترح بدلًا من مجرد قراءة هذه التصرفات كلحظات من معارضة العلاقات السائدة في السلطة والتهرب منها، أن تُفهم على أنها تعيد ترسيخ أشكال بديلة للسلطة التي تضرب بجذورها في ممارسات الاستهلاكية الرأسمالية، وفي قيم وجماليات البرجوازية الحضرية[26].

تختم أبو لغد مقالها المثير بالملاحظة التالية:

ظلت حجتي… إنه علينا أن نتعلم أن نقرأ في مختلف المقاومات اليومية المحلية وجود مجموعة محددة من الاستراتيجيات وهياكل القوة. الانتباه إلى أشكال المقاومة في مجتمعات بذاتها يمكن أن يساعدنا أن نصبح ناقدي النظريات الجزئية أو الاختزالية للسلطة. ظلَّ المشكل أن من بيننا أولئك الذين لمسوا أن هناك شيئًا مثيرًا للإعجاب في المقاومة، وقد يميلون إلى النظر إليها آملين الإقرار بالفشل – ولو جزئيًا – لأنظمة القمع. ومع ذلك، يبدو لي أننا نحترم المقاومة اليومية ليس فقط بالقول بكرامة وبطولة المقاومين، ولكن بجعل ممارساتهم تعلمنا عن التفاعلات المعقَّدة لهياكل السلطة المتغيرة تاريخيًا[27].

رغم أن تركيز أبو لغد على فهم المقاومة باعتبارها تشخيصًا لأشكال مختلفة من السلطة، فهي تشكِّل خطوة تحليلية مهمة تتيح لنا تجاوز الثنائية البسيطة المقاومة/التبعية، وهي، مع هذا، تشير ضمنيًا إلى أن مهمة تحديد عمل ما على أنه «مقاومة» هي مهمة إشكالية إلى حدٍّ ما. وبتنقيح تحليلاتها السابقة، تقترح أنه من أجل وصف أشكال معينة من أعمال المقاومة فهي بحاجة أن تكون متموضعة داخل مجالات السلطة وليس خارجها. وهكذا، على الرغم من أن «أبو لغد» تبدأ مقالها بالتشكيك في نسبة «الوعي النسوي» لأولئك الذين لا يعتبرون النسوية فئة ذات مغزى[28]، فإن هذا لا يؤدي بها إلى الطعن في استخدام مصطلح «المقاومة» لوصف مجموعة كاملة من الأنشطة البشرية، بما في ذلك تلك التي قد تكون اجتماعيًا، وأخلاقيًا، أو سياسيًا غير مبالية بمهمة معارضة معايير الهيمنة. وأعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نسأل ما إذا كان من الممكن تحديد فئة كونية للأعمال – كتلك الخاصة بالمقاومة – خارج الشروط الأخلاقية والسياسية التي تكتسب بها مثل هذه الأعمال معنى معينًا؟ وعلى درجة الأهمية نفسها يطرح السؤال التالي: هل تفرض فئةُ الأعمال المقاومة غائية السياسة التقدمية على المنطق التحليلي للسلطة – تلك الغائية التي تجعل من الصعب علينا أن نعرف ونفهم أشكالًا من الوجود والفعل، التي لا تتلخص بالضرورة في سرديات هدم المعايير وإعادة بنائها؟

ما فشلت الدراسات البصيرة مثل تلك التي أنجزتها «بودي» و«أبو لغد» في أشْكلتِه هو كونية الرغبة في التحرر من علاقات التبعية، ومن نُظُمِ هيمنة الذكور بالنسبة للنساء، بما هي مركزية في الفكر الليبرالي والتقدمي، ويفترضها مفهوم المقاومة الذي تقول به. إنَّ هذا الافتراض بأنَّ قوة المرأة هي من جنس مقاومة علاقات الهيمنة، وما يصاحب ذلك من إضفاء صفة الطبيعية على الحرية باعتبارها مثلًا أعلى من الناحية الاجتماعية، ليست مجرد أخطاء تحليلية غير مقصودة من طرف كُتَّاب النسوية. بدلًا من ذلك، أزعم أن افتراضاتهم تعكس توترًا عميقًا داخل الحركة النسوية، يُعزى إلى الطابع المزدوج لها كمشروع تحليلي وتوجيه سياسي في آن معًا[29]. وعلى الرغم من تعدد الفروع والاختلافات ضمن النسوية، فإن ما يمنح التقليد النسوي تناغمًا تحليليًا وسياسيًا، هو المنطلق بأنه كلّما تشكَّل المجتمع لخدمة مصالح الذكور، كانت النتيجة إما إهمال شؤون المرأة أو قمعها مباشرة[30]. تقدم النّسوية، بالتالي، تشخيصًا لوضع المرأة عبر الثقافات، ووصفة لتغيير وضع النساء المهمَّشات، التابعات أو المضطهدات[31]. هكذا فإن الإفصاح عن شروط الحرية النسبية التي تمكِّن النساء من صياغة وتحديد الأهداف والمصالح بملء إرادتهن، يظلّ غاية السياسة والتنظير النسويّيْنِ. ولما كانت الحرية معيارية في النسوية كما في الليبرالية، فإن أولئك الذين يريدون الحدَّ من حرية المرأة، هم أحرى بالتمحيص النقدي بدلًا من أولئك الذين يرغبون في تمديدها[32].

 

الحركة النسوية وقضة الحرية

حتى نسبر أغوار مفهوم الحرية – الذي يشكِّل أساس الدراسات النسويِّة – بعمق أكثر، أجد أنه من المفيد أن نفكر في التفريق الرئيسي لدى المنظِّرين الليبراليين بين الحرية السلبية والإيجابية[33]. يقصد بالحرية السلبية غياب العوائق الخارجية في تقرير المصير اختيارًا وعملًا، سواء طرحت من قبل الدولة أو الشركات أو الأفراد[34]. تُفهم «الحرية الإيجابية»، من ناحية أخرى، على أنها القدرة على تحقيق إرادة ذاتية مستقلة، يجري تصميمها عمومًا وفقًا لما يمليه «العقل الكوني» أو «المصلحة الشخصية»، وبالتالي لا يعيقها تأثير العرف، أو الإرادة المتعالية والتقاليد. باختصار، الحرية الإيجابية يمكن وصفها بأنها أفضل قدرة لسيادة النفس وتقرير المصير، والحرية السلبية على أنها غياب القيود من أنواع مختلفة على قدرة الفرد على التصرف كما يشاء. من المهم أن نلاحظ أن فكرة تحقيق الذات في حدِّ ذاتها ليست من ابتكارات التقاليد الليبرالية، ولكن كانت موجودة تاريخيًا بأشكال متنوعة كالمفهوم الأفلاطوني لسيادة النفس على الشهوات، أو المفهوم الديني لتحقيق الذات من خلال تحوُّل الذات، كما يتجلى ذلك في البوذية ومجموعة متنوعة من التقاليد الصوفية، بما فيها الإسلام والمسيحية. مساهمة الليبرالية الفريدة هي ربط مفهوم تحقيق الذات مع تحقيق استقلالية الفرد، حيث تتساوى عملية تحقيق الذات مع القدرة على تحقيق رغبات «الإرادة الحقيقية»[35].

على الرغم من أنه لا يزال هناك جدال كبير حول تشابك مفاهيم الحرية السلبية والإيجابية[36] أريد التأكيد على مفهوم استقلالية الفرد الذي يعتبر أساسيًا لكليهما، وما يصاحب ذلك من إكراه وموافقة، بما هي عناصر بالغة الأهمية لطبوغرافيا الحرية. حتى يكون الفرد حرًّا (المرأة)، يجب أن تكون تصرفاتها نتيجة «لإرادتها الخاصّة» بدلًا من العرف والتقاليد، أو الإكراه الاجتماعي. وبقدر ما يكون الحكم الذاتي في هذا التقليد من النظرية السياسية الليبرالية مبدأ إجرائيًا، وليس ميِّزة وجودية أو موضوعية لهذا الموضوع، فإنه يحدِّد الشرط الضروري من أجل سن أخلاقيات الحرية. وهكذا، فحتى الأعمال اللاليبرالية، يمكن جدلًا أن تغتفر إذا ثبت أنها أُنجزت من قبل امرأة حرة تعمل وفق مشيئتها.

على سبيل المثال، فالمُنظِّر السياسي جون كريستمان، يحترم الموقف للإهتمام حيث يختار العبد أن يستمر في أن يكون عبدًا حتى عندما تتم إزالة العقبات والمعوقات الخارجية[37]. فمن أجل أن يُعتبر مثلُ هذا الشخص حرًّا؛ يقول كريستمان إن ذلك يتطلب حساب العملية التي اكتسب بها هذا الشخص رغبته في العبودية. يؤكد كريستمان أنه مادامت هذه الرغبات والقيم «وُلِدَت وفقًا للشروط الإجرائية لتشكيل تفضيل الحكم الذاتي الذي ينشئ الحرية؛ فعندها، بغض النظر عن «محتوى» تلك الرغبات، فإن التصرفات التي تثيرها ستكون حرّة (إيجابيًا)»[38]. بعبارة أخرى، ليس جوهر الرغبة ولكن «أصلها هو الذي يهم في الحُكْمِ على الاستقلال الذاتي»[39]، والحرية بهذه الصيغة تتمثل في القدرة على «اختيار» رغبات المرء إراديًا بغض النظر عمّا إذا كانت رجعية [غير ليبرالية][40].

تمثل مفاهيم الحرية الإيجابية والسلبية، مع ما يتطلبه ذلك من الحكم الإجرائي المستقل، الأساس لكثير من نقاشات النسويين. فعلى سبيل المثال، يبدو أن المفهوم الإيجابي للحرية يهيمن على مشاريع التأريخ النسوي (يشار إليها أحيانًا بـ «قصتها») التي تسعى لرصد مواقف اتخذتها المرأة ذاتيًا عبر التاريخ والثقافة، دون أن تعيقها قواعد السلطة الأبوية أو إرادة الآخرين[41]. ويبدو أن المفهوم السلبي للحرية يسود في الدراسات الجنسانية التي تستكشف تلك المساحات في حياة المرأة المستقلة عن نفوذ الرجل، وربما الوجود القسري، والتعامل مع مثل هذه المساحات بما هي حافلة أو مثقلة بإمكانيات الإنجاز أو لتحقق المرأة ذاتها. هكذا سعى الكثير من مؤرخي النسويّة وعلماء الأنتروبولوجيا من العالم العربي والإسلامي لتحديد تلك الظروف والحالات التي يبدو أن النساء سعين فيها لصياغة خطاب «خاص بهن» وبملء إرادتهن (مثل الشعر والنسيج، وحرية العبادة، وما شابه ذلك)، في بعض الأحيان تصبغ صبغة تحررية هائلة ممارسات الفصل بين الجنسين ـ التي كانت تقليديًا تفهم على أنها إقصاء للمرأة من المجال العام للسياسة التقليدية[42].

ليست نيتي التشكيك في التحول العميق الذي أحدثه خطاب الحرية والاستقلالية الليبرالي في حياة المرأة في كافة أرجاء العالم، ولكن للفت النظر للطرق التي مكَّنت هذه الافتراضات من أن تصبح معتادة في الدراسات حول الجنسانية. من الواضح أن مفهومي الحرية الإيجابية والسلبية – في آن معًا – ظلا يستعملان بشكل مثمر لتوسيع آفاق ما يمثِّل مجال الممارسات والنقاشات النسويّة الشرعية. ففي السبعينيّات على سبيل المثال وكردة فعل على دعوات نسويي الطبقة الوسطى من البيض بحل مؤسسة العائلة النووية(*) – التي اعتبروها مصدرًا أساسيًا لقمع المرأة – استدلَّ النسويون الأميركيون ومن أصول أفريقية أن الحرية لديهم إنما تتمثل في القدرة على تكوين الأُسَرِ بما أن التاريخ الطويل للعبودية والإبادة الجماعية والعنصرية قد أدير تحديدًا عن طريق تحطيم مجتمعاتهم وروابطهم الاجتماعية[43]. عمقت مثل هذه الحجج فهم النسويين لـ «تحقيق الذات/نجاح الذات» بجعل تصورات الطبقة والعنصر والانتماء العرقي مركزية، وبالتالي إجبار النسويين على إعادة النظر في مفهوم الاستقلال الذاتي للفرد على ضوء مسائل أخرى.

منذ ذلك الحين أطلق عدد من النسويين حملة نقد لاذع ضد تصور الليبرالية للاستقلالية من زوايا نظر مختلفة[44]. إذ كان النقَّاد القدامى قد لفتوا النظر للتصورات الذكورية المؤسِسَة لقيمة الاستقلالية[45] فإن العلماء المحدثين قد عابوها من حيث تركيزها على الخصائص الجزئية، الفردانية والقطعية للذات على حساب خصائصها العلائقية، التي تكونت عبر التفاعلات الاجتماعية داخل أنماط الاجتماع البشري[46]. وبالتالي كانت هناك محاولات متعددة لإعادة تعريف الاستقلال الذاتي من أجل التقاط الطابع العاطفي والتضامني والاجتماعي للناس، وبخاصة النساء[47].

ركَّز أصحاب النظرية ما بعد البنيوية – وهم الأكثر راديكالية – نقدهم للاستقلال الذاتي في إطار تحدٍّ أشمل للطبيعة الخدَّاعة لذاك الموضوع العقلي والمتعالي، الذي لا سلطان عليه، والذي يفترضه فكر الأنوار بصفة عامة، والتقاليد الليبرالية على وجه الخصوص. يقول هؤلاء النقَّاد بأن الفكر العقلاني يؤمِّن نطاقه وسلطته العالمية من خلال الإقصاء الضروري لكل ما هو جسدي، أنثوي، عاطفي، لا عقلاني، وغير موضوعي[48]. ومع ذلك لا يمكن لهذا الإقصاء أن يكون جوهريًا أو مفهوميًا من خلال اللجوء إلى تجربة أنثوية غير إشكالية، جسدًا أو تخيلًا (على وتيرة بوفوار وإيرغاري)، ولكن يجب التفكير في هذا الإقصاء من خلال شروط الخطاب المتعالي الميتافيزيقي نفسه، الذي يسنُّ هذه الإقصاءات[49].

فيما يلي، أود مواصلة الدفع في الاتجاه الذي افتتحته المناقشات ما بعد البنيوية. على وجه الخصوص، حجتي في فك ارتباط مفهوم تحقيق الذات عن إرادة الاستقلال أدين بها لنقَّاد ما بعد البنيوية لموضوع التعالي والطوعية، ونماذج السلطة القمعية. ومع ذلك، وكما سيتضح، فإن تحليلي ينحرف أيضًا عن هذه الأطر إلى درجة أني أشك في الميل الهائل داخل البحوث النسوية ما بعد البنيوية إلى وضع تصور للقوة باعتبار أنها تقويض أو إعادة وضع الأعراف الاجتماعية، لتحديد موقع القوة داخل تلك العمليات التي تقاوم الهيمنة ونماذج السلطة المهيمنة والمشخصنة. بعبارة أخرى سأستدل على أن الموضوع السياسي المعياري للنظرية النسوية ما بعد البنيوية يرتكز مفهوميًا في الغالب على ثنائية التبعية والتقويض. هكذا تستبعد هذه الدراسات أبعادًا من العمل الإنساني الذي لا ترتقي حالته الأخلاقية والسياسية إلى منطق القمع والمقاومة. ولكي يتسنى فهم أنماط العمل هذه المثقلة بأسباب وتواريخ أخرى، سأقترح أنه من الأجدر فصل مفهوم القوَّة agency عن أهداف السياسة التقدمية.

من الواضح تمامًا أن فكرة الحرية والتحرر، باعتبارها المثل الأعلى السياسي؛ هي جديدة نسبيًا في التاريخ المعاصر. فقد ازدهرت العديد من المجتمعات، بما فيها الغربية، مع تطلعات أخرى غير هذه. ولهذا السبب، لم تستنفد سردياتُ الحرية الفردية والجماعية الرغباتِ التي يعيش بها الناس في المجتمعات الليبرالية. وإذا كان لنا أن ندرك أن الرغبة في التحرر من المعايير أو تقويضها، ليست رغبة فطرية تحفز جميع الكائنات في جميع الأوقات، ولكن أيضًا تتم بوساطة الظروف الثقافية والتاريخية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نحلِّل عمليات القوة التي تبني أنواعًا مختلفة من الأجهزة، والمعارف، والقيم الذاتية التي لا تتبع إنجاز السياسات التحررية؟

ببساطة، وجهة نظري هي هذه: إذا كانت القدرة على إحداث تغيير في العالم، وفي النفس؛ محدَّدة تاريخيًا وثقافيًا (من حيث ما يمثل «التغيير» والوسائل التي يتم بها تنفيذ ذلك في آن معًا)؛ فإنه لا يمكن تحديد مفهوم القوة ومعناها بشكل مسبق، ولكن يجب أن ينبثق من خلال تحليل مفاهيم معينة، تمكِّن وسائل محددة من الوجود، والمسؤولية، والفعالية. إذا نظرنا بهذه الطريقة، فإن ما قد يبدو أنه حالة من السلبية المؤسفة والانقياد من وجهة نظر التقدميين، قد يكون حقًا شكلًا من أشكال القوة، ولكن ذلك لا يمكن فهمه إلا من داخل خطابات وهياكل التبعية التي تهيئ الظروف لتفعيلها. بهذا المعنى، لا تتجلى سعة القوة فقط في تلك الأعمال التي تقاوم المعايير، ولكن أيضًا في تلك الوسائل المتعددة التي من خلالها نعيش المعايير. قد يُجادَل بأن هذا النوع من التحدي للوضع الطبيعي الممنوح للرغبة في الحرية في تحليلات الجنسانية ينطوي على خطر إضفاء الطابع الاستشراقي على المرأة العربية والمسلمة في جميع الأنحاء مرة أخرى – معيدًا أخطاء دراسات الاستشراق فيما قبل السبعينيّات التي عرَّفت المرأة الشرق الأوسطية على أنها آخر سلبي ومنقاد ومجرد من الوعي المستنير الذي لدى «أخواتها الغربيات»، وبالتالي محكوم عليها بحياة التبعية والذلّ للرجل. ومع ذلك سأؤكد أن دراسة الظروف الخطابية والعملية التي توصَّلت المرأة من خلالها لصقل أشكال مختلفة من الرغبة في العمل الأخلاقي والقدرة عليه، هي مشروع مختلف جذريًا عن الاستشراق الذي يُرجع الرغبة في الخضوع إلى جوهر فطري ثقافي لا تاريخي. في الواقع، إذا قبلنا بفكرة أنّ كل أشكال الرغبة منظَّمة خطابيًا (مثل ما تدَّعي كثير من البحوث النسوية الأخيرة)، فمن المهم أن نستنطق الظروف العملية والمفاهيمية التي بموجبها تطفو مختلف أشكال الرغبة، بما في ذلك الرغبة في الخضوع لسلطة معترف بها. ولا يمكننا فقط التعامل مع تلك الرغبات على أنها طبيعية، ونقتصر على تلك الرغبات التي تضمن ظهور السياسة النسوية.

لنتمعن، على سبيل المثال، نساء الحركة المسجدية اللاتي عملت معهن. فمهمة تحقيق التقوى وضعت هؤلاء النسوة في صراع مع مختلف هياكل السلطة. وبعض هذه الهياكل تموضعت في معايير العقيدة الإسلامية المؤسساتية، والبعض الآخر في قواعد الخطاب الليبرالي، والبعض في سلطة الآباء والأمهات والأقارب من الذكور، والبعض الآخر في مؤسسات الدولة. ومع ذلك، فإن الأساس المنطقي وراء هذه الصراعات كان بلا سند، وبالتالي لا يمكن فهمه إلا بالرجوع للمساواة بين الجنسين، أو لمقاومة سلطة الرجل. ولا يمكن لممارسات هؤلاء النسوة أن تُقرأ على أنها إعادة تكريس لتلك الأدوار التقليدية، بما أنّ حركة النساء المسجديات قد أعادت تكريس الممارسات الجنسانية للبيداغوجيا الإسلامية، ودور المساجد كمؤسسة اجتماعية بشكل كبير[50]. وردًّا على ذلك يمكن للمرء، وبطبيعة الحال، أن يقول: إنّه – بغض النظر عن قصد هؤلاء النساء، يمكن تحليل الآثار الفعلية لممارساتهن من حيث دورها في إعادة تعزيز أو تقويض هياكل هيمنة الذكور. طالما سلَّمنا بأن مثل هذا التحليل ممكن وكان مفيدًا في بعض الأحيان، أود أن أقول رغمًا عن ذلك إنه: لا يزال مرهونًا بشروط ثنائية المقاومة والتبعية، ويتجاهل المشاريع والخطابات والرغبات التي لم تأسرها هذه الشروط (مثل تلك المتبعة من قبل النساء اللاتي عملت معهن).

تقدم الدراسات حول الشعبية المتجددة للحجاب في مصر الحضرية منذ السبعينيّات أمثلة ممتازة عن هذه القضايا. انتشار مثل هذه الدراسات[51] يعكس تفاجؤ الباحثين لأنه، خلافًا لتوقعاتهم، فقد عاد العديد من «النساء المصريات الحداثيات» لارتداء الحجاب. بعض هذه الدراسات تقدم تفسيرات وظيفية، وتذكر مجموعة متنوعة من الأسباب التي تجعل المرأة ترتدي الحجاب طواعية (على سبيل المثال، الحجاب يجعل من السهل على النساء تفادي التحرش الجنسي في وسائل النقل العام، ويخفِّض تكلفة الملابس للمرأة العاملة… وهلم جرا). دراسات أخرى عرَّفت الحجاب باعتباره رمزًا لمقاومة تسليع جسد المرأة في وسائل الإعلام، وبشكل عام لهيمنة القيم الغربية. رغم أنّ هذه الدراسات قدَّمت إسهامات هامة، فمن المستغرب أنّ مؤلِّفيها لم يعيروا الاهتمام الكافي للفضائل الإسلامية من تواضع الإناث أو التقوى، وخاصة بالنظر إلى أن العديد من النساء اللاتي ارتدين الحجاب يعللن قراراتهن على وجه التحديد ضمن هذه الشروط[52].

بدلًا من ذلك، في كثير من الأحيان يشرح المحللون دوافع النساء المحجبات من حيث النماذج المعيارية للسببية الاجتماعية (مثل الاحتجاج الاجتماعي، الضرورة الاقتصادية، الشذوذ، أو الاستراتيجية النفعية)، في حين تُمنح مصطلحات مثل: «الأخلاق»، «الألوهية»، والفضيلة؛ موقع التصورات الوهمية للمُهَيمَن عليهم[53]. هذا لا يعني، بالطبع، الإيحاء بأنه علينا أن نحصر تحليلاتنا في الفئات الشعبية. بدلًا من ذلك، أريد أن أدعو ليقظة حاسمة ضد القيم الخطابية السائدة التي تستتبع أي عملية ترجمة، خاصة عندما تدَّعي لغة العلوم الاجتماعية لنفسها أنها كونية شفَّافة بينما تُصوَّر اللغة المستخدمة من قبل «الناس العاديين» كتقريب هزيل لواقعهم[54].

ينبغي أن تكون حجتي مألوفة لدى علماء الأنتروبولوجيا الذين لطالما أقروا بأنّ المصطلحات التي يستخدمها الناس لتنظيم حياتهم ليست مجرد مظهر لتصورات مشتركة عمومًا حول الكون ومكانة الفرد فيه، ولكنها في الواقع مكوِّنة لأشكال مختلفة للشخصية، والمعرفة، والتجربة[55]. لهذا السبب لقد وجدت أنه من الضروري، في الفصول التالية، أن ننتبه بعناية للمنطق الخاص لخطاب التقوى: المنطق الذي لا يلازم قصد الفاعلين، ولكن في العلاقات التي يجري التعبير عنها بين الكلمات والمفاهيم والممارسات التي تشكل على وجه الخصوص تقليدًا خطابيًا[56]. أود أن أؤكد، مع ذلك على أنّ السعي لفهم تماسك التقليد الخطابي ليس تبريرًا لهذا التقليد، ولا للقول ببعض الجوهرية غير القابلة للاختزال أو بالنسبية الثقافية. بدلًا من ذلك، هو لاتخاذ خطوة ضرورية نحو تفسير القوة التي يصدر عنها الخطاب.

 

النظرية النسوية ما بعد البنيوية والقوة (قضية الحرية)

من أجل شرح مقاربتي النظرية باستفاضة، اسمحوا لي أن أبدأ بدراسة حجج «جوديث بتلر»، التي لا تزال، بالنسبة للكثيرين، المنظِّر البارز للفكر النسوي ما بعد البنيوي ، والتي ظلت محور حجج أعمالي الخاصة. تعتمد تحاليل بتلر أساسًا على رؤيتين مستمدتين من ميشيل فوكو، واللتان أصبحتا معروفتين الآن. أولًا، السلطة، وفقًا لفوكو، لا يمكن أن تفهم فقط على أنها نموذج الهيمنة باعتبارها شيئًا يملكه ويستعمله الأفراد، أو أعوان السلطان على الآخرين، مع القصد أو البنية أو الموقع المنفرد الذي يترأس العقلانية والتنفيذ. وبدلًا من ذلك، فالسلطة يجب أن تُفهم على أنها علاقة استراتيجية للقوة التي تتخلل الحياة والتي تنتج أشكالًا جديدة من الرغبات، والأهداف، والعلاقات، والخطابات[57]. ثانيًا، كما يجادل فوكو فإن «التابع» لا يسبق علاقات السلطة، في شكل وعي منفرد ، ولكن يتم إنتاجه من خلال هذه العلاقات، والتي تشكل الشروط اللازمة لإمكانيته. تشكل ما يسميه فوكو «مفارقة الإخضاع» أساس مقولاته: فالعمليات والظروف ذاتها التي تُؤمّن تبعية التابع، هي أيضًا الوسائل التي يصبح من خلالها كائنًا واعيًا ذا هوية[58]. بعبارة مغايرة قد يقول البعض: بأن القدرات الملازمة للتابع، بمعنى، قدراته التي تحدد أنماط قوته – ليست بقايا ذات غير تابعة كانت موجودة قبل عمليات السلطة، لكنها نتاج تلك العمليات[59].

مثل هذا الفهم للسلطة وتشكّل التبعية، شجعنا على تصور القوة لا كمجرد مرادف لمقاومة علاقات الهيمنة، ولكن بوصفها القدرة على الفعل التي تنشئها وتفعِّلها علاقات محددة من التبعية. واستنادًا إلى رؤى فوكو، تسأل بتلر السؤال الرئيسي: «إذا كانت السلطة لا تسعى فقط للسيطرة أو قمع الذوات القائمة، ولكن أيضًا تشكل هذه الذوات، فما هو هذا التشكيل؟»[60]. عن طريق التشكيك في الوضع الما قبل ـ خطابي لمفهوم الذات التابعة، والاستفسار بدلًا من ذلك عن علاقات القوة التي أنتجتها، تقطع بتلر مع أولئك المحللين النسويين الذين صاغوا مسألة الشخصية من حيث الاستقلالية النسبية للفرد عن المجتمع. وهكذا فإن القضية بالنسبة لبتلر ليست كيف يشرّع المجتمع للفرد (كما كانت لأجيال من النسويات)، ولكن ما هي الشروط الخطابية التي تدعم هذا الصرح الميتافيزيقي: الفردانية المعاصرة.

تكمن مساهمة بتلر البارزة للنظرية النسوية في اعتراضها على ثنائية الجنس/الجندر التي كانت بمثابة الأرضية التي كثيرًا ما انبنى عليها النقاش النسوي، على الأقل منذ 1940م. تكمن المشكلة لدى بتلر في تمييز الجنس/الجندر في افتراض أن هناك مسألة تمثيل مسبقة أو جسمًا مجنسنًا يمهد لإرساء الجنسانية ثقافيًا. تقول بتلر ليس فقط بعدم وجود جنس متخيَّل مسبقًا أو (جسم محسوس) لا يتشكل بالفعل من قبل نظام تصوير الجنسانية، ولكن أيضًا إن خطاب الجنسانية هو في حد ذاته مكوَّن من المواد التي يحيل إليها (وبهذا المعنى فهو لا تمثيلي)[61].

تقول بتلر: «الادِّعاء بأنّ الخطاب هو تكويني ليس الادّعاء بأنه مصدر ومسبّب ما يعترف به، أو ما يؤلفه كليًا؛ بالأحرى، هو أن تدَّعي أنه لا يوجد إحالة إلى الجسد النقي الذي ليس بتشكيل آخر لذاك الجسد في آن معًا. بهذا المعنى، فالقدرة اللغوية على الإشارة إلى الجسد – المجنسن غير منفية، ولكن تمّ تغيير معنى«المرجعية». بمصطلحات فلسفية، فالادعاء التقريري [الخبري الثبوتي] دومًا هو إلى حدٍّ ما أدائي [طلبي إنشائي]»[62].

أيُّ عملية، إذن، يتم من خلالها تفعيل عملية تجسيد التابع حسب الجنس والجندر؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا تلجأ بتلر لتحليل مؤسسات وتقنيات تشكيل التابع، كما فعل فوكو، ولكن إلى تحليل اللغة بوصفها نظامًا ترميزيًا من الدلالات من خلالها يتم إنتاج التابعين وتعديلهم.

على وجه الخصوص، تبني بتلر على إعادة «دريدا» تأويل فكرة أوستون؛ «الأدائي» «على أنه سلطة التكرار التي في الخطاب لإنتاج الظواهر التي ينظمها ويقيدها»[63]. لدى بتلر، يُشكّل التابع أدائيًا في الجنس والجندر ماديًا، من خلال سنّ معايير متكررة للتباين الجنسي heterosexual، والتي تُنتج بأثر رجعي، من جهة، «ظهورَ الجنسانية باعتبارها عمقًا داخليًا ثابتًا»[64]، ومن ناحية أخرى، الحقيقةَ المفترضة للاختلاف الجنسي التي تعمل على مزيد من تعزيز حتمية الغيرية الجنسية. وعلى النقيض من تقليد طويل من البحوث النسوية التي تعامل المعايير بمثابة فرض اجتماعي خارجي يقيِّد الفرد، تفرض علينا بتلر أن نعيد النظر في هذا التضاد بين الخارجي والداخلي بالقول: إن المعايير الاجتماعية هي الأرضية اللازمة التي من خلالها تدرك التابعة، وتمارس سلطتها.

تجمع بتلر بين تحليل فوكو للتبعية مع نظرية التحليل النفسي، ولا سيما اعتماد المفاهيم اللاكانية عن «الارتهان» و«الإذلال» للتأكيد على بعض العمليات الإقصائية التي تراها ضرورية لتشكيل الخاضع. تجادل بأن الخاضع إنما يتم إنتاجه في وقت واحد من خلال التنصل الضروري من الهويات، وأشكال الإخضاع، والمنطق الخطابي، وما سمَّته بـ «مكونات التابع الخارجية»[65]، الذي يسِمُ عالم كل ما هو مسكوت عنه، لا يوصف، ومبهم لدى الخاضع، ولكن تظل مع ذلك، ضرورية للخاضع حتى يدرك ذاته وصياغاته[66]. يسنُّ هذا الارتهان أدائيًا وبشكل مكرر، بمعنى أنّ التابع الذي يتحدث داخل مجال التكلُّم الممكن بالنسبة إليه، يعيد التوسُّل ضمنيًا بالارتهان الذي يعتمد عليه، وبالتالي يعتمد عليه مرة أخرى[67].

بالنظر إلى نظرية بتلر حول التابع، فليس من المستغرب أن تحليلها للأدائية يعكس تصورها الخاص للقوة؛ في الواقع، كما تقول: «إن قابلية الأدائية للتكرار هي نظرية القوة»[68]. وبقدر ما يكون استقرار الأعراف الاجتماعية هو عامل في تشريعها المتكرر، فالقوة، حسب بتلر، ترتكز على الانفتاح الأساسي لكل تكرار واحتمال أن يكون قد فشل أو أعيد ترميزه لأغراض أخرى عدا تدعيم المعايير. وبما أن كل أشكال التشكيلات الاجتماعية يعاد تشكيلها من خلال تجديد المعايير، فإن هذا يجعل هذه التشكيلات مهددة أو ضعيفة لأنه يمكن أن تفشل كل إعادة صياغة أو تجديد. وهكذا فشرط إمكانية كل تشكيل اجتماعي هي أيضًا «إمكانية تعطيله»[69]. توضح بتلر هذه النقطة بإيجاز بالنظر إلى الجنس أو الجنسانية:

كأثر لرواسب الممارسة التكرارية أو الطقوسية، يكتسب الجنس تأثيره المطبَّع، ومع ذلك، فإنه أيضًا بموجب هذا التكرار يتأكد من وجود ثغرات وتفتُّح شقوق تعتبر عدمَ استقرارٍ تأسيسًا  في تلك التكوينات، كتلك التي تهرب أو تتجاوز المعيار… عدم الاستقرار هذا هو احتمال التصدع [التعطيل] في عملية التكرار ذاتها، وهي القوة التي تبطل كل الآثار التي يمكن من خلالها أن يستقر «الجنس»، وتضع دعمَ معايير الجنس في أزمة إنتاج محتملة[70].

من المهم أن نلاحظ أن هناك العديد من النقاط التي تجاوزت بها بتلر مفاهيم القوة والمقاومة التي انتقدتها في وقت سابق. في البدء، تشكك بتلر فيما وصفته بـ «الأنموذج التحرري للقوة»، وهو الأنموذج الذي يفترض أن جميع البشر بوصفهم بشرًا «وُهبو الإرادة، والحرية، والقصدية» التي «يبطل عملُها علاقاتِ السلطة، التي تعتبر خارجيةً بالنسبة للتابع»[71].

بدورها، تحدد بتلر إمكانية وجود القوة داخل هياكل السلطة (وليس خارجها)، والأهم من ذلك، تشير إلى أن تركيبة المعايير المبنية على التكرار، لا تخدم فقط تعزيز نظام معين من الخطاب/السلطة، ولكنها توفر أيضًا وسيلة لزعزعته[72]. بعبارة أخرى، ليس هناك إمكانية «التعطيل» للأعراف الاجتماعية بصورة مستقلة عن «تفعيل» التقاليد. وبالتالي فالقوة تكمن، في القدرة على التكرار المنتج. تقاوم بتلر أيضًا هذا الزخم لربط معنى القوة بغائية محددة سلفًا للسياسة التحررية. ونتيجة لذلك، فإن منطق التخريب وإعادة التصوير لا يمكن أن يكون محددًا سلفًا من وجهة نظر بتلر لأن أعمال إعادة التصوير/التخريب هي، حسب رأيها، طارئة وهشَّة، وتظهر في أماكن لا يمكن التنبؤ بها وتتصرف بطرق تربك توقعاتنا[73].

أجد أنّ نقد بتلر للمفاهيم الإنسانية للقوة والاستعباد جِدُّ مقنع ، وفي الواقع، حججي في هذا الكتاب تستلهم منها بشكل واضح، ومع ذلك، وجدت أنه من المفيد القول إن تميز عمل بتلر، مع بعض التوترات، يرجع إلى توسيع نطاق تحليلاتها إلى مجموعة ـ إلى حدٍّ ما مختلفة ومترابطة ـ من الإشكاليات. أحد التوترات الرئيسة في عمل بتلر يدين لحقيقة أنه في حين أنها تؤكد على علاقة حتمية بين تدعيم وزعزعة المعايير ومناقشتها للقوة، فإنها تميل إلى التركيز على تلك العمليات للسلطة التي تعيد ترميز وقلب المعايير. وهكذا على الرغم من أن بتلر تصر مرارًا وتكرارًا على أن جميع أعمال التخريب هي نتاج تعبيرات العنف التي تسعى لمعارضتها، فإن تحليلها للقوة غالبًا ما يحبِّذ تلك اللحظات «التي تفتح الاحتمالات لإعادة ترميز تعبيرات الانتهاكات ضد أهدافها المنتهِكة»[74]، أو تلك التي توفر فرصة مناسبة «لإعادة صياغة جذرية» للأفق الرمزي المهيمن[75]. وبعبارة أخرى، فإن مفهوم القوة في عمل بتلر ينمو، في المقام الأول، في سياقات حيث توضع المعايير موضع التشكيك أو موضع إعادة الصياغة[76].

من الواضح أن تحليل بتلر لمفهوم القوة ينبغي أن يفهم في السياق المحدد للتدخلات السياسية التي انخرط فيها عملها. وقد طورت بتلر الممارسة النظرية على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، مستندة بقوة إلى القلق تجاه أعمال العنف التي تمارسها معياريّة التباين الجنسي والطرق التي تحدد إمكانيات الوجود الإنساني المعيش. تنظيرها للقوة بالتالي يجب أن يكون مفهومًا في بعده الأدائي: باعتباره الإجراء العملي السياسي الذي يستهدف زعزعة الخطابات المهيمنة عن الجنس والجنسانية. وكممارسة نصِّية تقع داخل مساحة الأكاديمية؛ فإن سياق تدخُّل بتلر لا يقتصر على الخطابات القانونية والفلسفية، أو الشعبية التي تحللها، ولكن يشمل أيضًا الاستقبال الذي اكتسبه عملها داخل مجال البحوث النسوية.

كانت بتلر مجبرة على الدفاع عن نفسها ضد هذه التهمة الموجهة لها من قبل مجموعة من النسويين، بأن عملها له تأثير هدَّام على أي مخطط للسياسة التقدمية في الإصلاح الاجتماعي من خلال تفكيك مفاهيم التابع والسلطة التي تتيح ذلك[77]. لمواجهة هذه الادعاءات، موضَعَتْ بتلر عملها باستمرار ضمن ارتباطٍ بمشروع التعبير عن سياسة ديمقراطية راديكالية[78] وبذلك فقد أكدت تلك الأنماط من القوة، المضادة للهيمنة[79]. ومن النتائج المهمة لهذه الجوانب من عمل بتلر (واستقباله) هو أن تحليلها لقوة المعايير لا تزال ترتكز على إطار جدلي، يجري فيه تقويض و/أو هدم المعايير، وتكرار و/أو إعادة ترميزها، بحيث يستطيع المرء الظفر بالقليل من عمل معايير الأداء تتجاوز هذا السجل من القمع والتقويض داخل بنية التابع.

لا يتم تدعيم المعايير فقط و/أو تقويضها، ولكن، أود أن أقترح أنها تُؤدَّى، وتُتقمص، وتُجَرّبُ بطرق متنوعة. وهذه نقطة أعتقد أن بتلر لا توافق عليها. في الواقع، في كتاباتها في كثير من الأحيان تعود إلى مجاز «النفس» ولغة التحليل النفسي لتلتقط كثافة الروابط التي يرتبط الفرد من خلالها بالقوة الإخضاعية للمعايير[80]. استكشاف بتلر لهذه الكثافة يبقى في كثير من الأحيان خاضعًا من جهةٍ لاهتمامها الكلي بتتبع إمكانيات المقاومة للقوة التنظيمية للمعيار[81]، ومن ناحية أخرى إلى نموذجها للأدائية، التي تُفهم في المقام الأول على أنها هيكل مزدوج من تدعيم وإعادة الترميز والتفعيل/التعطيل، للمعايير.

تابع المعايير

أود أن أدفع بمسألة المعايير كذلك إلى الأمام في الاتجاه الذي أعتقد أنه يسمح لنا بالتعمق في تحليل تكوين التابع، وأيضًا معالجة مشكلة قراءة القوة في المقام الأول، من حيث هي مقاومة لانتظام بِنى المعيارية. على وجه الخصوص، أود أن أتوسع في فكرة بتلر أن المعايير ليست مجرد إكراه اجتماعي على التابع، ولكنها تشكل جوهرها الداخلي الحميم. ولكن في القيام بذلك، أريد الابتعاد عن إطار ثنائي – لا أدري، تُفهَم المعايير وفقًا له على أنها نموذج الإقدام والإحجام، الدعم والتقويض، بدلًا من التفكير في مجموعة متنوعة من الطرق التي بها تعاش المعايير وتستبطن، يُطمَح إليها، ويوصَل إليها، وتُكتَمَل. كما سأبين لاحقًا، أن هذا يتطلب أن نستكشف حقيقية العلاقة المتلازمة بين الشكل الجوهري الذي يتخذه الفعل المعياري، ونموذج التبعية الذي يفترضه (تعبيرات محددة للإرادة، والعاطفة، والعقل، والتعبير الجسدي)، وأنواع السلطة التي تنبني على مثل هذا الفعل. واسمحوا لي أن أوضح من خلال مناقشة مشكلات المفهوم الثنائي للمعايير التي تطرح عند تحليل ممارسات حركة المسجد.

تأمل، على سبيل المثال، الفضيلة الإسلامية، المتعلقة بالتواضع أي: احتشام وحياء الإناث التي يتمسك بها العديد من المسلمين المصريين ويثمنونها[82]. وعلى الرغم من الإجماع حول أهميتها، هناك جدل كبير حول كيف يجب أن نعيش هذه الفضيلة، وبخاصة حول ما إذا كان تحقيقها يتطلب ارتداء الحجاب. والغالبية العظمى من المشاركين في حركة المسجد (وحركة التقوى الأكبر التي تشكل حركة المسجد جزءًا لا يتجزأ منها) يقولون: إن الحجاب هو عنصر ضروري في فضيلة الحياء، لأن الحجاب يعبِّر عن «الاحتشام الحقيقي» وهو الوسيلة التي من خلالها يتم تحقيق الحياء. إنهم يرسمون، بذلك، علاقة حتمية بين المعيار (الحياء) والشكل الجسدي الذي يتخذ (الحجاب) مثلما أن جسد المحجبات يصبح الوسيلة الضرورية التي من خلالها تخلق فضيلة الحياء ويُعبَّر عنها. وعلى النقيض من هذا الفهم نجد موقفًا (مرتبطًا بكتَّاب علمانيين بارزين) يرى أنَّ فضيلة الحياء لا تختلف عن أي سمة إنسانية أخرى مثل الاعتدال أو التواضع: هو وجه من وجوه الشخصية، ولكنه لا يُلزم أي واحد (إمرأة) بتعبيرات معينة مثل ارتداء الحجاب. والجدير بالذكر أن هؤلاء المؤلفين يعارضون الحجاب، ولكن ليس فضيلة الحياء، التي لا تزال تعتبر مناسبة لسلوك الإناث. فالحجاب، حسب رأيهم، جرى استثماره بأهمية لا مبرر لها عندما جرى الحُكم من خلاله على احتشام المرأة[83].

الجدل حول الحجاب هو جزء واحد فقط من مناقشة أكبر بكثير في المجتمع المصري، حيث الخلافات السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين، وحتى بين الإسلاميين من مختلف الانتماءات، يعبَّر عنها من خلال الجدل حول طقوس السلوك الأدائي. رغم أني سأعود إلى هذا الجدل في (الفصل 4)، فما أريد أن أشير هنا إليه هو أن الأكثر إثارة للاهتمام من سمات هذا النقاش، لا يكمن كثيرًا فيما إذا كانت معيارًا من معايير الاحتشام قوِّضت أو دُعِمت، ولكن في الطرق المختلفة جذريًا، التي يفترض أن المعيار يعاش ويستبطن فيها. والجدير بالذكر أن كل رأي يفترض تصورًا مختلفًا للعلاقة بين السلوك الجسدي وفضيلة أو معيار الاحتشام: فلدى أتباع حركة التقوى، السلوك الجسدي هو في جوهر التحقيق السليم للمعيار، ولدى خصومهم، هو عنصر طارئ وغير ضروري في سَنِّ الحياء.

بعض الأسئلة التي تلي هذه الملاحظة هي: كيف يمكننا تفسير العمل الذي يؤدِّيه الجسد في هذه التصورات المختلفة للمعيار؟ وهل يُفهَم السلوك الأدائي بشكل مختلف في كل وجهات النظر هذه، وإذا كان الأمر كذلك، كيف ترتبط الذات بشكل مختلف بسلطة المعيار في كل من هذين التخيلين؟، وعلاوة على ذلك، ما أنواع الموضوعات الأخلاقية والسياسية المفترضة من هذين التخيلين، وما أشكال الحياة الأخلاقية والسياسية التي يسمحان بها أو يمنعانها؟ هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها طالما أننا لا نزال ضمن منطق ثنائية الإقدام والإحجام للمعايير. ما تحتاجه الأسئلة، بدلًا من ذلك، هو أن نفجِّر فئة المعايير إلى مكوناتها للتحقق من الشكل الجوهري الذي تتخذه المعايير، وفحص المرفقات التي تولِّدها مورفولوجيا معين داخل طبوغرافيا [تضاريس] النفس..

سبب الحث على هذه الخطوة يرجع إلى اهتمامي بفهم كيف يساهم العمل الأخلاقي – الافتراضي المختلف في بناء أنواع معينة من التابعين، تابعين لا يمكن الإلمام بالتشريح السياسي لهم، دون تطبيق تدقيق نقدي على الشكل الدقيق الذي تأخذه تصرفاتهم. هذه الطريقة في تحليل المناقشات المعاصرة حول الفضائل أو القواعد الإسلامية لها أيضًا عواقب على كيفية فهم التأثير السياسي الذي ولَّدته حركة التقوى داخل المجتمع المصري. كثيرًا ما يقول باحثو الحركات الإسلامية بأن تجدد أشكال الاتصال الاجتماعي الإسلامية (مثل الحجاب، الاهتمام المتزايد بالأداء الصحيح للشعائر الإسلامية، وانتشار الجمعيات الخيرية الإسلامية) ضمن مجموعة من المجتمعات الإسلامية تفهم كأحسن تعبير عن المقاومة ضد الهيمنة الثقافية السياسية للغرب، فضلًا عن كونها شكلًا من أشكال الاحتجاج الاجتماعي ضد فشل التحديث في الأنظمة الإسلامية ما بعد الاستعمار[84]. حسب هذا الرأي، مشروع استعادة الفضائل الإسلامية الأرثوذوكسية يعتمد بشكل حاسم على وجود موقف معارض لما يمكن تعريفه بشكل عام بأنه روح الحداثة العلمانية الليبرالية ـ روح غالبًا ما يكون وكلاؤها من الأنظمة الإسلامية ما بعد الاستعمار، في تعاون وثيق مع القوى الغربية المهيمنة.

رغم أن هذا التفسير ليس خاطئًا تمامًا، ويغطِّي جانبًا هامًا من الحركات الإسلامية، إلا أنه يقلِّل من تعقيدها إلى مجرد مجاز عن المقاومة دون الانتباه بما يكفي إلى الأسئلة الأساسية مثل: ما هو على وجه التحديد الذي عارضته الحركات الإسلامية من أوجه الهيمنة الغربية، أو ما بعد الاستعمار، أو روح الليبرالية العلمانية؟ ولأي غاية؟ والأكثر أهمية، ما هي أشكال الحياة التي يمكن لهذه الحركات أن تدعمها، والتي لا يمكن حصرها بسهولة في علاقة الرفض للنظام السائد القائم حاليًا؟ علاوة على ذلك، كما سأبين في (الفصل 2)، هل العلاقة بين الإسلاموية والعلمانية الليبرالية هي علاقة قرب وتشابك بدلًا من مجرد المعارضة البسيطة أو التكيف، كما في هذا الشأن – وبالتالي فإنه يجب تحليلها من حيث المواجهات التاريخية والمتحولة وغير المتوقعة التي أحدثها هذا القُرب. أريد أن اقترح أنه من الأفضل تتبع هذه العلاقة من خلال الانتباه إلى خصوصية المصطلحات التي شهدتها المناقشات حول الفضائل الإسلامية (أو المعايير الإسلامية الأرثوذكسية) في التاريخ الحديث. كما آمل أن أبيِّن في الفصول التالية، أن هذه المناقشات ترتبط حتمًا بظهور أشكال جديدة من التابعية قد أثارتها العمليات العلمانية بشكل عرَضي في أعقابها. من أجل تمهيد الطريق لمثل هذا الاستكشاف، اسمحوا لي أولًا أن أوضِّح ما أعنيه عندما أصرُّ على أننا منكَبُّون على أشكال جوهرية تأخذها الفضائل الإسلامية في النقاشات المعاصرة حول الأسلمة، وما هي المخاطر التحليلية في متابعة مثل هذه المقاربة.

 

المعايير الظاهرية والتشكل الأخلاقي (قضية الحرية)

يقول الناقد الثقافي جيفري مينسون بشكل مقنع، إن إحدى الطرق التي لا يزال بها إرث الأخلاقية الإنسانية ، ولا سيما في صيغته الكانطية، مهمًّا للفكر ما بعد التنويري، هو في قلة الاهتمام النسبية بمورفولوجيا السلوكيات الأخلاقية، بمعنى شكلها الدقيق ونموذجها[85]، يقول مينسون: إن هذا التراث يمكن عزوه بقدر بعيد على الأقل إلى كانط، الذي اعتبر الأخلاق المناسبة في المقام الأول مسألة عقلانية تستلزم ممارسة ملكة العقل، باستثناء السياقات المحددة (من الفضائل الاجتماعية، العادة، تشكيل الشخصية،… وهلم جرّا) التي ينكشف فيها الفعل. أود أن أضيف أن إرث كانط يصبح مُهمًا في ضوء تقاليد الأخلاق الأرسطية التي يعمل على إزاحتها ـ تقليد تتحقق فيه الأخلاق وتتمظهر على حدٍّ سواء من خلال الأشكال السلوكية الخارجية[86]. ضد هذا التقليد، جادل كانط أن الفعل الأخلاقي يمكن أن يكون أخلاقيًا فقط إلى الحدِّ الذي لم يكن نتيجة لفضيلة معتادة، ولكن نتاج ملكة العقل النقدية. يتطلب هذا الأخير أن يكون الفعل أخلاقيًا بصرف النظر عن ميول الفرد وعاداته وتصرفاته[87]. إن تصغير كانط النسبي للفعل الأخلاقي لمستوى الإرادة يتعارض مع القيمة الممنوحة للشكل المعين للفعل الأخلاقي في نظر أرسطو[88]. مسألة الدافع، والقصد، والاختيار في التقليد الأرسطي مهمة أيضًا، بالطبع، ولكن فقط بالنظر إلى الممارسات الفعلية.

إحدى نتائج هذا المفهوم الكانطي للأخلاق، هو النقص النسبي في الاهتمام بالشكل الظاهر الذي تتخذه الممارسات الأخلاقية، والتراجع العام لحركة السلوك، والسلوك الاجتماعي، والآداب الاجتماعية في تحليلاتنا للأنظمة الأخلاقية. كما يشير مينسون، فحتى الباحثون مثل بورديو، الذي ركزت أعماله على ممارسات اللباس، والوضع المادي، وأنماط السلوك ـ أشياء يسميها بورديو: «فن الاستذكار العملي» للثقافة ـ لا يعتبرون هذه الممارسات مثيرة للاهتمام إلا بقدر ما نقوم: بتقييم موضوعي يكشفها كعلامات ورموز لواقع أكثر عمقًا وأكثر جوهرية من الهياكل الاجتماعية والمنطق الثقافي[89]. وأنا أتفق مع مينسون: عندما ينظر بورديو إلى مجموعة متنوعة من الممارسات التي تميِّز مجموعة اجتماعية بعينها (مثل أساليبهم في تناول الطعام، والتنشئة الاجتماعية، والترفيه)، فإنه يهتم في المقام الأول بكيفية تجسُّد هذه الممارسات، وكيف ترمز إلى روح الجماعة مثل الأديولوجيات التي يتبناها الأعضاء وتتجمد في طبقتهم الاجتماعية أو فئتهم[90]. وقد يقول قائل، مع ذلك، أن دلالة الممارسة الجسدية لا تُستنفد من خلال قدرتها على العمل كمؤشر على الوضع أو الطبقة الاجتماعية، أو الوضع الأيديولوجي للمجموعة[91]. خصوصية الممارسة الجسدية هي أيضًا مثيرة للاهتمام لهذا النوع من العلاقة التي يفترض أن الفعل يشكِّلها، حيث تحليل شكل معين يأخذه الجسد قد يغير التصور المفاهيمي لدينا للفعل نفسه. علاوة على ذلك، فإن السلوك الجسدي ليس مجرد علاقة المعنى بالنفس والمجتمع، لكنه أيضًا يمنح النفس أنواعًا معينة من القدرات التي توفر المادة التي من خلالها يتصرّف العالم.

 

الأخلاق الإيجابية (قضية الحرية)

هناك تقليد آخر من الأخلاق، الإلهام الأرسطي، والذي يوفِّر وسيلة لمعالجة بعض المشاكل التي نوقشت أعلاه. تعتمد أعمال ميشال فوكو المتأخرة على هذا التقليد لصياغة ما يسميه كلير كالبروك بجدارة: «المفهوم الإيجابي للأخلاق» الذي يمتد بمجال الأخلاق إلى «ما وراء مفاهيم المعايير، والتبريرات، والشرعية، والمعنى، ليشمل النظر في الممارسات والأنفس، والأجساد، والرغبات التي تُحدِّدُ (ويُساعَدُ في تحديدها عبر) الأخلاق»[92].

تصور فوكو للأخلاق الإيجابية أرسطي، بمعنى أنه يعتبر الأخلاق لا كفكرة، أو كمجموعة من القواعد التنظيمية، ولكن بوصفها مجموعة من الأنشطة العملية وثيقة الصلة بطريقة معيَّنة في الحياة[93]. تم تضمين الأخلاقيات في هذا المفهوم في مجموعة من الممارسات المحددة (ما يسميه أرسطو: «ممارسات الفضيلة»). لا يمكن طرح مسألة الأخلاق التداولية الكانطية إلا من وجهة نظر هذه الاستعدادات التي تشكَّلت من خلال هذه الممارسات. بحسب هذا الرأي، لا تسلْ ماذا تعني نظرية أخلاقية معينة، ولكن ماذا تفعل[94]. وعلى النقيض من كتابات معاصرة حول «أخلاقيات الفضيلة»، فاستخدام فوكو للأخلاق الأرسطية لا يبغي تأكيد صلاحيتها الكونية، أو استعادة مختلف عناصرها من أجل حل المشاكل الأخلاقية المعاصرة كاستعادة فكرة الغاية، أو الفكرة الجماعية للحياة الطيبة[95]. بدلًًا من ذلك، حسب فوكو، يسمح لنا هذا التقليد أن نفكر في الأخلاق على أنها دائمًا محلية ومخصوصة، وتتعلق بمجموعة معينة من الإجراءات، والتقنيات، والخطابات التي من خلالها تتكوَّن موضوعات أخلاقية بشكل مخصوص جدًّا[96]. فيما يلي، سوف أواصل في الاتجاه الذي فتحه هذا المنهج، ليس فقط لأنني أجد أنها غنية تحليليًا، ولكن أيضًا لأنّ، كما سأشرح في (الفصل 4)، جوانب من التقليد الأرسطي كان لها تأثيرٌ في تشكيل الممارسات الدعوية في الإسلام.

يميز فوكو الممارسات الأخلاقية عن «الأخلاق» مع الاحتفاظ بالأخيرة للإشارة إلى مجموعة من المعايير والقواعد والقيم والأوامر. «الأخلاق»، من جهة أخرى، تشير إلى تلك الممارسات والتقنيات، والخطابات التي من خلالها تُغيِّر التابعةُ نفسها من أجل تحقيق حالة معينة من الوجود، أو السعادة، أو الحقيقة[97]. لدى فوكو، الأخلاق هي: طريقة السلطة التي «تسمح للأفراد أن يُحْدِّثُوا بوسائلهم الخاصة أو بمساعدة الآخرين، عددًا معينًا من العمليات على أجسادهم وأرواحهم، وأفكارهم، وسلوكهم، ونمط وجودهم»[98] من أجل تحويل أنفسهم إلى تابعين بملء إرادتهم لخطاب أخلاقي معيَّن. وعلى الرغم من اهتمامه بجهود الفرد في تشكُّل نفسه، فالتابع حسب تحليل فوكو ليس متطوعًا، مستقلًا يكيِّف نفسه بطريقة متقلبة. بدلًا من ذلك، ينشأ الأشخاص في حدود مجموعة محدَّدة تاريخيًا من الممارسات التكوينية والأوامر الأخلاقية المحدَّدة سلفًا – يسميها فوكو بـ «وسائل التبعية». – هكذا يعامل فوكو التبعية لا كمساحة خاصة من صقل الذات، ولكن كنتيجة لطريقة السلطة في خلق مجموعة من القواعد الأخلاقية التي تدعو التابعة لتكيف نفسها في اتفاق مع مبادئها. «التبعية الأخلاقية» بدورها، تشير إلى النماذج المتاحة «لإنشاء وتطوير العلاقات مع الذات، للتفكُّر في النفس، ومعرفة النفس وفحصها، ولتفكيكها ذاتيًا، وللتحولات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها بنفسه كتابع»[99].

ومع ذلك، حسب فوكو، فالعلاقة بين القوانين الأخلاقية وطرق التبعية لم تحسم بعد، بمعنى أن التابع ببساطة قد يتوافق مع القوانين الأخلاقية (أو يقاومها). بدلًا من ذلك، يرى فوكو أن هناك العديد من الطرق المختلفة لتشكيل علاقة مع قوانين أخلاقية، بحيث أن كل واحدة تحدد علاقة خاصة بين قدرات الذات (الإرادة، والسبب، والرغبة، والعمل… وهلم جرا)، ومعيار معيّن. هذا الشكل الدقيق الذي تأخذه الطاعة لمدونة قانونية الأخلاقية ليس طارئًا ولكنه عنصر ضروري في التحليل الأخلاقي، لأنه وسيلة لوصف البنية المعينة للتابع الأخلاقي. وبعبارة أخرى، فقط من خلال تحليل الشكل والطابع الخاص التابع الأخلاقي يمكن للمرء أن يدرك هذا النوع من التابع الأخلاقي الذي تم تشكيله. هذه الممارسات هي ممارسات تقنية – حسب فوكو – وتشمل الجسدية والتقنية والتمارين الروحية، وسبل تحقيق الذات، وكلها «إيجابية»، بمعنى أنها واضحة وجوهرية في الحياة اليومية. والجدير بالذكر، أنّ أهمية هذه الممارسات لا تكمن في المعاني التي تدل على الممارسين، ولكن في العمل الذي يقومون به في تنشئة الفرد. وبالمثل، فإن الجسد ليس وسيلة للدلالة، ولكنه المادة والأداة اللازمة التي من خلالها يتشكل التابع.

أجد تحليل فوكو للتشكيل الأخلاقي مفيدًا بشكل خاص لتصور القوة أبعد من حدود نموذج ثنائية سنِّ/وتقويض المعايير. على وجه التحديد، فإنه يلفت انتباهنا إلى مساهمة الأشكال الخارجية في تطوير القدرات الأخلاقية الإنسانية، وإلى أنماط محددة من القوة الإنسانية. بدلًا من حصر القوة في تلك الأعمال التي تعطِّل علاقات السلطة القائمة، يشجعنا عمل فوكو أن نفكر في القوة: (أ) من حيث القدرات والمهارات اللازمة لإجراء أنواع معينة من الإجراءات الأخلاقية، و(ب) من حيث ارتباطها ارتباطًا حتميًا بالممارسات التهذيبية التاريخية والثقافية المحددة التي من خلالها يتشكل التابع. مفارقة التبعية أمر أساسي في صياغة فوكو، بمعنى أن القدرة على الفعل يتم إنشاؤها وتفعيلها عبر علاقات محددة من التبعية. لتوضيح هذا التناقض، يمكن أن نأخذ مثال عازفة البيانو الموهوبة التي تخضع نفسها لنظام الممارسة التأديبية المؤلم عادة، وكذلك إلى هياكل التلمذة التراتبية، من أجل اكتساب القدرة – والقوة المطلوبة – للعزف بإتقان. الأهم من ذلك، تعتمد قوتها على قدرتها على التعلم، وهي حالة تعرف كلاسيكيًا بـ «الانقياد». على الرغم من أننا قد وصلنا إلى ربط الانقياد بالتخلي عن القوة، فإن المصطلح يعني حرفيًا التطويع المطلوب من شخص ما من أجل أن يتعلم مهارة أو معرفة معينة ـ معنى يحمل شعورًا أقل بالسلبية منه بالكفاح والجهد والإجهاد والإنجاز[100].

 

نماذج التبعية وحركة المسجد (قضية الحرية)

المقاربة التي أقترح يمكن تفصيلها بالرجوع إلى العناصر الأربعة التي يفترض فوكو أنها محورية لدراسة الأخلاق. ومع ذلك، فهذا المخطط الرباعي لا يمكن أن يؤخذ على أنه خطة لدراسة الأخلاق. بدلًا من ذلك، فائدة إطار فوكو التحليلي تكمن في حقيقة أنه يثير مجموعة من الأسئلة حول العلاقة بين المدونات الأخلاقية والسلوك الأخلاقي، والمسائل التي هي ملائمة فقط من خلال فحص ممارسات محدَّدة عبرها تدرك المعايير الأخلاقية المحددة تاريخيًا. يشير العنصر الأول، الذي يدعوه فوكو «جوهر الأخلاق»، لتلك الجوانب من الذات التي تخص مجال الحكم الأخلاقي والممارسة الأخلاقية. جوهر الأخلاق في المسيحية في القرون الوسطى، على سبيل المثال، كان الجسد والرغبة، في حين أن الجزء من النفس الأكثر إخضاعًا للتحليل والعمل في الفترة المعاصرة هي المشاعر[101]. الجانب الثاني من الأخلاق، الذي يسميه فوكو: «طريقة التبعية»، يشير إلى كيف يُحرَّض الناس أو يدعون إلى الاعتراف بالتزاماتهم الأخلاقية – على سبيل المثال، سواء من خلال القانون الإلهي، القاعدة العقلية، أو النظام الكوني. كما أشار نيكولاس روز إلى أن هذا الجانب من الأخلاق يُوجِّه انتباهنا إلى نوع من السلطة التي من خلالها يتمكن التابع من الاعتراف بحقيقة نفسه، والعلاقة بينها وبين أولئك الذين يُعتبرون مالكي الحقيقة[102]. الجانب الثالث من الأخلاق ذو علاقة بالإجراءات التي ينفذها المرء على نفسه من أجل أن يصبح تابعًا أخلاقيًا – فهو عملية يتم تحليلها تحت عنوان: «تقنيات النفس». أخيرًا، المكون الرابع من الأخلاق هو الغاية: نمط الوجود الذي يسعى المرء لتحقيقه ضمن نموذج موثوق محدَّد تاريخيًا.

تحليل فوكو للأخلاق مفيد لفهم الجوانب الرئيسة لحركة المسجد النسائية التي عملت معها، وحركة التقوى عمومًا. ممارسات هذه الحركات تفترض مسبقًا وجود خطة إلهية لحياة الإنسان تتجسد في القرآن والأدب التفسيري، والمدونات الأخلاقية المستمدة منها، وأن كل فرد مطالب باتباعها. يُستدعى المشاركون في الحركة المسجدية للتعرف على التزاماتهم الأخلاقية من خلال التوسل بالنصوص الإلهية والأدبيات المهذِّبة. ومع ذلك فإن هذا النوع من الأخلاق ليس قانونيًا بحتًا. فليس ثمة سلطات مركزية تفرض القواعد الأخلاقية وتعاقب المخالفين. بدلًا من ذلك، حركة المسجد لديها الزخم القوي ذو الطابع الشخصي الذي يطالب كل شخص بتبني مجموعة من الممارسات النُّسُكية لتشكيل السلوك الأخلاقي[103]. كل فرد يجب أن يفسر المدونات الأخلاقية، بما يتوافق مع التوجيهات التقليدية من أجل اكتشاف كيف يمكنه كفرد، أن يحقق على أفضل وجه الخطة الإلهية لحياته.

بالمقارنة مع التيارات الأخرى داخل الصحوة الإسلامية، حركة المسجد فريدة من نوعها بدرجة غير عادية من التركيز التربوي الذي تضعه على علامات التدين الخارجية ـ الممارسات الطقوسية، وأساليب الانسجام مع النفس، واللباس،… وهلم جرا. ينظر المشاركون في الحركة المسجدية إلى هذه الممارسات باعتبارها وسيلة ضرورية وحتمية لتحقيق شكل التدين الذي يزرعونه. بالنسبة للمشاركين في حركة المسجد، فإن حركات الجسد المختلفة هي التي تشكل الأساس المادي للمجال الأخلاقي. هناك نظام محكم من التقنيات التي يمكن بها فحص حركات وقدرات الجسد والعمل عليها، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. دروس المسجد هي مساحة مهمة حيث يُكتَسبَ التدريب على هذا النوع من ممارسة الزهد. كما سوف أستكشف في وقت لاحق، تُعَلَّم النساء تحليل حركات الجسد والروح من أجل إقامة التنسيق بين الحالة الداخلية (النوايا وحركات الرغبة والفكر، وما إلى ذلك) والسلوك الخارجي (الإيماءات، والإجراءات، والكلام، وما إلى ذلك). والواقع أن هذا التفريق بين الجوانب الداخلية والخارجية للذات يوفر المحور المركزي الذي تُنظَّم من خلاله مجموعة كاملة من الممارسات النُّسكية. كما سنرى في (الفصل 4)، فمبدأ التنسيق هذا له آثار على الطريقة التي يمكن من خلالها تحليل العلاقة المفاهيمية التي ينشئها الجسد مع الذات ومع الآخرين، وبشكل أوسع، العلاقات المتغيرة للذات مع هياكل السلطة والنفوذ.

النموذج الغائي الذي يسعى المشاركون في حركة المسجد لتحقيقه في حياتهم يعتمد على السلوك المثالي للنبي وصحابته. سيكون من السهل رفض هذا المثل الأعلى باعتباره حنينًا ورغبة في مضاهاة الماضي التليد، وهو ماض لا يمكن تلبية متطلباته من خلال مقتضيات الحاضر. ورغم ذلك فالقيام به سوف يضيع علينا أهمية مثل هذه الغاية للسلوك الأخلاقي العملي. وفي أوساط المشاركين في المسجد، الجهود الفردية لتحقيق الذات لا تهدف لاكتشاف رغبات ومشاعر المرء «الحقيقية» أو لإقامة علاقة شخصية مع الله، ولكن لشحذ القدرات العقلانية والعاطفية وذلك لمقاربة النموذج الأرقى للذات التقية (انظر الفصل 4). النساء اللاتي عملت معهن لا يعتبرن محاولة محاكاة نماذج السلوك المسموح كعبء اجتماعي خارجي يقيد الحرية الفردية. وبدلًا من ذلك، فإنهن تعاملن مع أشكال الأداء المسموح به اجتماعيًا، كإمكانيات - أرضية إن صح التعبير – يتم من خلالها تحقيق الذات. ونتيجة لذلك، إحدى الأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب هي: كيف يمكننا تصور الحرية الفردية في سياق لا يمكن فيه بسهولة افتراض التمييز بين الرغبات الخاصة للتابع والأداء المفروض اجتماعيًا، وحيث التبعية لبعض أشكال السلطة (الخارجية) هي شرط لتحقيق التابع لقدراته؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكن للمرء أن يجعل من مسألة السياسة جزءًا لا يتجزأ من تحليل بنية الذات؟[104]

 

الأخلاق والسياسة (قضية الحرية)

قد يثار اعتراضان على اقتراحي بأن نفكِّر في القوة من حيث التشكيل الأخلاقي، ولا سيما في صياغته الفوكوية. أولًا: يمكن القول إنه على الرغم من اعتراضاتي على الفهم الإنسانوي لسيادة التابع ، فإنني في الواقع قد التجأت مرة أخرى إلى نظرية القوة المركَّزة على التبعية من خلال تحديد موقع القوة ضمن جهود الذات؛ وثانيًا: قد يدَّعي البعض أنني تجنبت الخوض في مسألة حاسمة كالسياسة والتحولات الاجتماعية التي كانت صياغة القوة كمقاومة موجهة في المقام الأول لمعالجتها. الاعتراض الأول هو، على ما أعتقد، يستند إلى بعض سوء الفهم الشائع حول معنى أن يقال إن التابع هو نتاج السلطة. إنه غالبًا ما يفترض أن الحديث عن التشكيل الذاتي الأخلاقي يتطلب بالضرورة عاملًا واعيًا بذاته، يشكل نفسه بطريقة شبه بروميثية(*)، تُفعِّلُ إرادته، وبالتالي، تؤكد «قوته الخاصة» ضد القوى الهيكلية. هذا افتراض غير صحيح لعدة أسباب. وعلى الرغم من أنني أركِّز على ممارسات المشاركين في حركة المسجد، فهذا لا يعني أن الأنشطة والأعمال التي يؤدُّونها في حدِّ ذاتها هي نتاج إرادتهم الحرة؛ بدلًا من ذلك، حجتي هي أن هذه الأنشطة هي نتاج التقاليد الخطابية الموثوقة التي يفوق منطقها وقوتها بكثير وعي التابعين المُخوّلين بها. إن نوع القوة هذه التي أنا بصدد استكشافها هنا لا تنتمي إلى النساء أنفسهن، وإنما هي نتاج للتقاليد الخطابية الطارئة تاريخيًا التي وُجِدْنَ فيها، وتستدعي النساء للتعرف إلى أنفسهن عبر الفضائل ورموز هذه التقاليد، وأنهن يأتين لقياس أنفسهن بالنسبة لـ المثل المصقولة من قبل هذه التقاليد. في هذا المعنى الهام، يُجعل الفرد مُمْكِنًا بالمنطق الخطابي للتقاليد الأخلاقية التي تسن. الانعكاسية الذاتية ليست سمة كونية للإنسان هنا، ولكن كما يقترح فوكو، هي نوع خاص من العلاقة بالنفس التي يعتمد شكلها أساسًا على ممارسات التبعية التي ينتج من خلالها الفرد.

دعوني الآن أهتم بالاعتراض الثاني: إن تأكيدي على القوة كتشكيل ذاتي ـ أخلاقي يستبعد عالم السياسة. هذا الاعتراض في بعض جوانبه يعكس التمييز القديم في النظرية السياسية الليبرالية التي تعتبر الأخلاق والفضيلة مسائل خاصة، والقضايا المتعلقة بالسياسة بالضرورة عامة. هذا التمييز إشكالي لأسباب متنوعة ليس أقلها وجود خلاف قوي داخل التقليد الليبرالي نفسه حول الدور السليم الذي يجب أن تلعبه الأخلاقيات والفضائل، في إنشاء الأنظمة السياسية الليبرالية[105]. هذا التقسيم بين الأخلاقي والسياسي أصبح أعسر في الاستمرار، إذا ما أخذنا في الاعتبار الفكرة التي أصبحت شائعة جدًا في الأوساط الأكاديمية اليوم، وهي أن كل أشكال السياسة تتطلب وتَتخِذ نوعًا معيَّنًا من التابع الذي يتم إنتاجه من خلال مجموعة من الممارسات التهذيبية التي هي في صلب الجهاز التنظيمي لأي ترتيب سياسي حديث.

رغم أن صحة هذه الرؤية مُسلَّم بها عمومًا، إلا أنه نادرًا ما يُعكس خطُّ السؤال: كيف لتصور معين للذات أن يتطلب ويفترض أنواعًا مختلفة من الالتزامات السياسية؟ أو بعبارة أخرى، أي نوع من التابع يفترض أن يكون معياريًا ضمن مخيال سياسي معين؟ إنّ طرح هذه المسألة على هذا النحو لا يفترض أن تستتبعه أن السياسي يتولَّد من الشخصي، على وجه التحديد، لأنه كما سبق القول أعلاه، فالذات تنتج اجتماعيًا وخطابيًا، نتيجة أعمال السلطة بدلًا من أن تسبق هذه العمليات. على هذا النحو، فإن التحقيق في تكوين الذات لا يأخذ الاختيارات الشخصية وميولات الفرد لتكون موضوعًا للدراسة، ولكن بدلًا من ذلك يحلِّل الترتيبات الطارئة تاريخيًا للسلّطة التي تنتج من خلالها التابع المعياري. لقد وجدت هذا الإطار قويًا بقدر ما يساعد على تعديل طبيعة التابع المعياري في النظرية النسوية الليبرالية، مما يجعل من الممكن مقاربة حياة المشاركين في المسجد بطرق لا تحددها الحقائق التي تؤكد هذه الدراسات أنها ذات طابع كوني.

تشير صياغة فوكو للأخلاق إلى وجود وسائل للتحقيق في مختلف تقنيات تشكيل التابع، ولا سيما في تلك التقاليد التي تركز على وسائل فردانية (أكثر منها شرعية) للتبعية. المنظِّر السياسي ويليام كونولي يفسر عمل فوكو حول فنون الذات باعتباره اعترافًا ضمنيًا بالطرق الحاسمة التي لا يكون وفقها الانخراط بالسياسة مجرد نمط من المداولات بل هي قضايا ناشئة من «وسائط التقييم الغريزية». كونولي يتحدى التأويلات العقلانية السائدة للسياسة، بحجة أن الأحكام السياسية لا تستلزم ببساطة تقييم المبادئ الأخلاقية، ولكنها تصدر من توافق الذوات بين الأشياء والعمل، وفي حين أنها ليست قابلة دائمًا للتمثيل والإعلان، فهي مع ذلك فعَّالة فيما يخص السلوك الاجتماعي والسياسي[106]. في الواقع، عندما نتعرف على أن التشكيلات السياسية تفترض ليس فقط وسائط متميزة من التفكير، ولكن تعتمد أيضًا على وسائط وجدانية للتقييم، عندئذٍ يأخذ تحليل الممارسات الأخلاقية لتشكُّلِ الذات، أهمية سياسية جديدة بوضوح.

نيكولاس روز، التي استطلعت العلاقة بين فنون الذات لفوكو وممارسات الحكم في المجتمعات الغربية الليبرالية المتأخرة، ترى أن الاهتمام التحليلي بالسياسة ـ الأخلاقوية «يسمح بإمكانية فتح تعليم أشكال الحياة والتصرف الذاتي تجاه صعوبة، ولا نهائية مسألة النقاش والنزاع»[107]. هذه هي النقطة التي تحمل صدى نظرة نسوية منذ أمد بعيد، حيث أنّ أي تحول سياسي بالضرورة يستتبعه العمل على هذه السجلات المتضمنة للحياة التي في كثير من الأحيان طُوقت من عالم «السياسة الخالصة».

 

الأخلاق والقوّة (قضية الحرية)

كيف لهذا التداخل بين الأخلاقي والسياسي أن يؤثِّر على نقدي للمفاهيم السائدة للقوة في التصورات الليبرالية التقدمية؟ أولًا: أرجو أن أكون قد أوضحت أنني لست معنية بتقديم نظرية القوة، بل أصرُّ على أن معنى القوة يجب استكشافه في إطار قواعد المفاهيم التي ينتمي إليها. حجتي في سطور هو أننا يجب أن نُبقي على معنى القوة مفتوحًا والسماح له بالخروج من «داخل الشبكة الدلالية والمؤسساتية التي تحدِّد الطرق الخاصة التي تربطها بالناس، والأشياء، والذات وتجعلها ممكنة»[108]. وهذا هو السبب في أنني أصرُّ على أن مفهوم القوة يجب فصله عن أهداف السياسة التقدمية، إن ربط هذه المسائل ببعضها، كثيرًا ما أدَّى إلى حصر مفهوم القوة داخل نطاق المقاومة ضد عمليات قمع السلطة المسيطرة. هذا لا يعني أبدًا أن القوة لا تتجلى في هذه الطريقة؛ في الواقع فإنها في بعض الأحيان تكون كذلك. ولكن الأسئلة التي تستتبع هذه الملاحظة البسيطة نسبيًا، معقَّدة ويمكن استكشافها بشكل مفيد، لكن أودُّ أن أقترح ذلك، من خلال العلاقة بين الأخلاق والسياسة.

تأمل، على سبيل المثال، حقيقة أن ممارسات جماعة المسجد غالبًا ما تشكِّل تحديًا لقواعد هيمنة المؤانسة الليبرالية العلمانية، فضلًا عن جوانب من الحكم العلماني الليبرالي[109]. ومع ذلك، أثَّرت هذه التحديات على ظروف العلمانية بطريقة تجاوزت الحدَّ، سواء بتجاوزها نوايا أتباع حركة التقوى أو توقعات أشد معارضيهم. على سبيل المثال، وكما سيظهر في (الفصل 4)، فتأويل أتباع حركة التقوى للطقوس والشعائر الإسلامية قد أثبت بشكل كبير أنه مقلق للإسلاميين المؤمنين بالدولة، بقدر ما هو مقلق لمنتقديهم العلمانيين، بسبب التحدِّي الضمني الذي يطرحه هذا التفسير على الفرضيات الرئيسة حول الدور المسند إلى الجسد في المتخيل القومي. ونتيجة لذلك قوبلت الممارسات المفترض أنها غير سياسية لحركة المسجد، بالآليات التأديبية للدولة من جهة، ومن ناحية أخرى، بنقد قوي لهذا النوع من التدين من قبل المسلمين العلمانيين – الليبراليين والأحزاب السياسية الإسلامية، الذين يشتركون في نظرة الهوية القومية. يمكن القول إن القوة السياسية لحركة المسجد – «المقاومة» التي تشكلها ضد العلمانية – هي نتيجة طارئة وغير متوقعة لآثار الممارسات الأخلاقية التي أحدثتها في المجال الاجتماعي.

ما أريد أن أؤكد عليه هنا نقطتان مترابطتان: أولًا: أنه من المستحيل أن نفهم القوة السياسية للحركة دون فهم سليم لسلطتها الأخلاقية. والثانية: أن قراءة أنشطة حركة المسجد في المقام الأول من حيث المقاومة التي تشكلها لمنطق الحكم الليبرالي العلماني، وما يصاحب ذلك من أنماط التواصل الاجتماعي تتجاهل بعدًا كاملًا من السياسة، الذي لا يزال غير مفهوم، وتعوزه النظريات ضمن أدبيات السياسة والقوة.

لاحظ أن أنشطة حركة المسجد، مثل بقية حركة التقوى، نادرًا ما تشترك مع تلك المؤسسات والممارسات التي عادة ما ترتبط مع عالم السياسة، مثل: المشاركة في عملية الانتخابات، إقامة دعاوى على الدولة، وكذلك استخدام النظام القضائي لتوسيع وضع الدين في الحياة العامة… وهلم جرا[110]. ونتيجة لذلك فمن السهل أن نتجاهل الطابع السياسي لهذه الحركة وأنشطتها لتسقط من «الرادار السياسي» للمحلل. والواقع أنه من الشائع جدًا لدى الباحثين دراسة حركات من هذا النوع، فالحركات التي تركِّز على قضايا الإصلاح الأخلاقي لا سياسية في طبيعتها[111]. ومع ذلك فإن هذا التوصيف هو خطأ سياسي وتحليلي جسيم، لأن القوة التحويلية لحركات مثل هذه هائلة، وفي كثير من الحالات، تفوق كل المجموعات السياسية التقليدية.

الفعالية السياسية لهذه الحركات هي – أودُّ أن أقترح – نتيجة العمل الذي يُؤدَّى في عالم القِيم؛ تلك الاستراتيجيات من التهذيب التي من خلالها تُصَاغُ ارتباطات بأشكال محددة تاريخيًا من الحقيقة. وبالتالي فمشاريعها السياسية، لا يمكن أن تفهم إلا من خلال استكشاف الممارسات الأخلاقية. هذا يتطلب أن نعيد النظر لا فقط في الفهم التقليدي لدينا عن ما يشكل السياسة، ولكن أيضًا ما هو جوهر الأخلاق. جزء من العمل التحليلي لهذا الكتاب موجه لمواجهة هذا التحدي.

 

الأخلاق والنقد (قضية الحرية)

قد تتساءل نسوية تُعنى بعلاقات عدم المساواة بين الجنسين: كيف لنا أن نفكر في إمكانية تقويض وتحدي تلك الأعراف الأبوية التي تؤيِّدها حركة المسجد؟ ومن خلال فصل مفهوم القوة عن السياسة التقدمية لأغراض التوضيح التحليلي، هل تخلينا عن أي وسيلة تحكيمية ونقدية تمارس تبعية المرأة؟ وأي منها تمنح نوعًا من المساواة بين الجنسين؟ هل غفلت عن مشروع النسوية الموجّه سياسيًا في الضغط على حدود مظروفها التحليلي؟ الردُّ على هذه الأسئلة لا يمكن أن يُعطى في بعض الجمل أو الفقرات، ولكن كما آمل، سيظهر ضمن سياق هذا الكتاب. هنا أريد فقط أن أقترح بعض الطرق الأولية للتفكير في هذه الأسئلة.

وبادئ ذي بدء، فإن سؤال كيف يمكن لنظام هرمي من العلاقات بين الجنسين تؤيِّده حركة المسجد أن يتغير عمليًا، هو من ناحية، من المستحيل الإجابة عليه، ومن ناحية أخرى ليس لنا أن نسأل هذا السؤال. إذا كان هناك درس واحد تعلمناه من مكائد نسوية الاستعمار وسياسة «الأخواتيَّة العالمية»، هو أن أي تحول اجتماعي وسياسي هو دائمًا نتيجة النضالات المحلية الطارئة والمخططة، والتي لا يمكن لمخطَّطها أن يصاغ أو يُتوقع سلفًا[112]. وعندما يتم فرض جدول الأعمال هذا أو الإصلاح من الأعلى أو من الخارج، فهو عادة يكون عنيفًا، ومن المحتمل أن تكون نتائجه أسوأ بكثير من أي شيء يُسعى إلى تغييره[113]. أما بالنسبة لكيفية تصورنا للمقاومة نظريًا نظرًا لنموذج التبعية الذي يميز ممارسات حركة المسجد، فسوف نقدم بعض الأفكار في (الفصل 5) عندما نحلل العلاقة المتبادلة بين «الأدائية»، «التجسيد»، و«القوة». هنا، يكفي أن أقول: إنني أعتقد أن قضية مقاومة أساليب الهيمنة لا يمكن طرحها خارج الأشكال المتجسدة من الارتباط التي يتيحها وضعٌ معين من التبعية.

أما بالنسبة لمسألة ما إذا كان منهجي يدعو إلى تعليق النقد تجاه الطابع الأبوي لحركة المسجد، فردي هو أني لا أحثُّ على مثل هذه المواقف. ولكن ما أحثُّ عليه هو التوسع في الفهم المعياري للنقد، السائد جدًا بين العديد من التقدميين والنسويات (ولقد ضممت نفسي بينهم في كثير من الأحيان). النقد، من وجهة النظر هذه، هو هدم موقف خصمك بنجاح وكشف لا معقولية حجته وعدم تناغمها المنطقي. هذا فهم محدود جدًا وضعيف لمصطلح النقد. النقد، في اعتقادي، هو أقوى عندما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال أن نكون مجددًا في عملية الانخراط في رؤية الآخرين للعالم، وأننا قد نتعرف على أشياء لم نكن نعرفها بالفعل قبل أن نتعهد بهذا الارتباط. وهذا يتطلب أن ننتقل من حين لآخر لنقد الذات، لنترك الباب مفتوحًا أمام احتمال أننا قد نعيد تشكيل أنفسنا من خلال لقاء مع الآخر.

إنه في ضوء هذا المفهوم الموسَّع للنقد، خلال عملي الميداني، اضطررت إلى التشكيك في النفور[114] الذي غالبًا ما تضخم بداخلي ضد ممارسات حركة المسجد، وخاصة تلك التي تضع المرأة موضع التبعية داخل المجتمع المصري. هذا الشعور الذي أشاركه مع العديد من التقدميين العلمانيين والليبراليين الذين يشعرون بعدم الارتياح العميق عندما يواجهون الحركات المحافظة اجتماعيًا من النوع الذي أصف هنا، وهو شعور يعاودني باستمرار مع التعاطف الذي أتلقَّاه من الجمهور الذي يندهش من قدرتي على الصمود في وجه حياة الزهد لمُخبريَّ ـ للرواة، وفي الغضب الذي يشعله منهجي الحجاجي لفشله في إدانة الرواة بوصفهم «الأصوليين»[115].

ظلت استراتيجيتي في التعامل مع هذا الاشمئزاز تَجَنُّب لغةَ الشجب التي تميز العديد من دراسات الحركة الإسلامية المعروفة في الأوساط الأكاديمية اليوم. أجد مثل هذا الوضع غير مفيد في مهمة فهم ما يجعل هذه الممارسات قوية وذات مغزى للشعب الذي يمارسها. ولكن الأهم من ذلك، أني قد فتنت بدافع من الاشمئزاز الذي تثيره حركة المسجد لدى باحثي النسوية التقدميين من أمثالي، وعدم قدرتنا على تجاوز ردَّة الفعل العميقة هذه. قد نذكر أنفسنا بأن حركة المسجد (مثل حركة التقوى الأكبر والتي هي جزء منها) ليست حركة فاشية ولا مقاتلة، كما أنها لا تسعى إلى السيطرة على الدولة وجعل مصر ثيوقراطية. على هذا النحو، فإنها مختلفة تمامًا عن الحركات السياسية ـ الدينية الأخرى مثل حركة «الهندوتفا»(*) في الهند، و«إيمونيم غوش»(**) في إسرائيل، والجماعة الإسلامية في باكستان، أو المجموعة الدولية ـ القاعدة. ومع ذلك، فإن عمق الانزعاج الذي يثيره الطابع الدعوي لهذه الحركة بين الليبراليين والمتطرفين، والتقدميين على حدٍّ سواء غير عادي.

أعتقد أن المرء يحتاج إلى إذابة الجليد عن حركات «المحافظة الاجتماعية» مثل حركة التقوى التي تجعل الليبراليين والتقدميين غير مرتاحين، وإلى دراسة عناصر تكوينها والحساسيات التي تشكِّل هذا الانزعاج. وهذا ما يأخذ المهمة على وجه الاستعجال خاصة منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر، 2001م حيث جرى تجميع مجموعة غير متجانسة من الصور والأوصاف مع «المحافظة الاجتماعية الإسلامية» (أهمها وضع المرأة كتابعة في المجتمعات الإسلامية) ومثلَّت كل ما يفترض أنّ الليبراليين واليساريين يجدونه تهديدًا لصرح معتقداتهم وقيمهم ونظامهم السياسي بأكمله[116]. يُعدُّ هذا الكتاب في نواح كثيرة، استكشافًا لـ «أنماط تقييم سحيقة» – إذا اقتبسنا من كونولي مرة أخرى -، التي تنتج مثل هذا التفاعل بين العديد من زملاء اليسار الليبرالي من المفكرين والنسويين، بقدر ما هو استكشاف للحساسيات التي تحرك مثل هذه التنظيمات. وبالتالي فالهدف من هذا الكتاب، هو أكثر من الأثنوجرافية: هدفه هو حصر تلك الافتراضات حول العلاقة التأسيسية بين العمل والتجسيد، بين المقاومة والقوة، بين الذات والسلطة، التي تؤسس لحُكمنا على الحركات اللاليبرالية مثل حركة: «نساء المسجد».

ومن خلال هذا اللقاء بين نسيج اشمئزازي الخاص وبنية حياة النساء اللاتي عملت معهن أدركت أن التقارب بين السياسي والأخلاقي بالنسبة لي قد حصل مرة أخرى بصفة شخصية. خلال إجراء العمل الميداني وكتابة هذا الكتاب، أدركت أنّه لا بد من دراسة مسؤولة سياسيًا لا تنطوي على مجرد كونها وفية لرغبات وتطلعات (مخبري – الراوي) وحثِّ جمهوري على «فهم واحترام» تنوع الرغبات التي تميز عالمنا اليوم[117]. كما أنها ليست كافية للكشف عن افتراضاتي الخاصة أو تحيِّز زملائي العلماء وعدم تسامحهم.

كشخص توصَّل للاعتقاد – مثل عدد من الحركات النسائية الأخرى – أن المشروع السياسي للنسوية ليس محدَّدًا سلفًا، ولكن يجب أن يناقش باستمرار ضمن سياقات محددة، وضمن الأسئلة التي كنت أسألها لنفسي مرات ومرات: ما الذي نعنيه عندما كنا نقول كنسويات: إن المساواة بين الجنسين هي المبدأ الرئيسي للتحليل والسياسة لدينا؟ كيف يؤثر ولوجي داخل النسيج السميك لحياة «مخبري – الراوي» على انفتاحي على هذا السؤال؟ هل نحن على استعداد لتأييد المهمة العنيفة أحيانًا المتمثلة في إعادة صياغة المشاعر وعوالم الحياة، والارتباطات، حتى يتسنى للمرأة من هذا الصنف الذي عملتُ معه أن تُعَلَّمَ تقدير مبدأ «الحرية»؟ وفضلًا عن ذلك، هل الالتزام بمبدأ المساواة في حياتنا ينعم علينا بالقدرة على معرفة أن هذا المثل الأعلى يجسد ما يتحقق أو ما ينبغي أن يتحقق لأيّ شخص آخر؟ إذا لم يحدث ذلك، كما هو الحال بالتأكيد، عندها أعتقد أننا بحاجة لإعادة التفكير، بتواضع أكثر مما اعتدنا عليه، ماذا تعني السياسة النسوية حقًا؟[118]. حقيقة أن طرح هذه الأسئلة لا يعني أنني أدعو إلى التخلي عن موقفنا الحاسم تجاه ما نعتبره ممارسات غير عادلة في خضم حياتنا، أو أننا دون تمحيص نتبنَّى ونؤيد أنماط حياة الورع للنساء اللاتي عملت معهن. القيام بذلك فقط يعكس اليقينَ الغائيَّ الذي يميز بعضًا من إصدارات الليبرالية التقدمية التي انتقدت في وقت سابق. بدلًا من ذلك، اقتراحي هو أن نترك الباب مفتوحًا أمام إمكانية أن يكون يقيننا السياسي والتحليلي قد تحول في عملية استكشاف حركات غير ليبرالية من النوع الذي درسته، إلى أن حياة النساء اللاتي عملت معهن قد يكون لديها شيء تعلمه لنا يتجاوز ما يمكن أن نتعلمه من القيود الاجتماعية والعلمية لتجربة «الفهم والترجمة». في هذا المعنى، يمكننا القول عن التوتر بين الجوانب الوصفية والتحليلية للمشروع النسوي إنه يمكن تركه مفتوحًا بشكل مفيد، وإنّه لا ينبغي أن يكون ممنوعًا قبل الأوان من أجل «الوضوح السياسي». كما يذكرنا المنظِّر السياسي ويندي براون بأنّ: «القول بتفريق الحياة الفكرية عن السياسية ليس قولًا بفصلهما، والغاية التي نبغي هنا هي… تقدير الحوار الهادف، حتى المتوتر، الممكن بين الحياة الفكرية والحياة السياسية عند الحفاظ على مسافة ديناميكية ومتوترة»[119].

إذا كان هناك موقف سياسي معياري يكمن وراء هذا الكتاب، فهو أن نلحَّ على أن ننكبَّ – أنا وقرَّائي – على دراسة لا تفترض أن المواقف السياسية التي نتبنى ستكون بالضرورة مبررة، أو توفر الأرضية لتحليلنا النظري، ولكن بدلًا من ذلك فتح المجال أمام احتمال أن نطرح على السياسة سلسلة كاملة من الأسئلة التي كانت تبدو وكأنها مبتوتًا فيها عند مباشرة الدراسة أولًا.


[1]     يبدو أن هذه المعضلة تضاعفت لكون مشاركة المرأة في الحركات الإسلامية في عدد من البلدان (مثلًًا إيران، مصر، إندونيسيا، ماليزيا) لم تقتصر على الفقراء (أي: أولئك الذين لهم «انجذاب طبيعي» للدين). بل إن الحركة لاقت تأييدًا واسعًا في أوساط الطبقات ذات الدخل المتوسط والعالي.

 

[2]     بالإضافة إلى حضور الدروس الدينية في عدد من المساجد من مختلف الأوساط الاجتماعية والاقتصادية، أخذت على عاتقي المشاركة بصفة ملاحظ بين المعلمين ومرتادي المساجد، لحضور الدروس في سياق حياتهم اليومية. زد على ذلك أني حضرت دروسًا في الفقه الإسلامي والشعائر الدينية مع شيخ من جامعة الأزهر الإسلامية.

 

[3]     على النقيض، من ذلك، وعلى سبيل المثال، هنالك حركة في أوساط النساء في الجمهورية الإسلامية في إيران كان هدفها إعادة تفسير النصوص المقدسة، لاستخلاص نموذج أكثر إنصافًا من العلاقة بين النساء والرجال المسلمين. انظر: (أفشار 1998؛ مير حسيني 1999؛ نجم أبادي، 1991 – 1998م).

 

[4]     حسب المصادر المتاحة، ارتفع العدد الإجمالي للمساجد في مصر من حوالي 28000 سنة 1975م إلى 75000 سنة 1985م (زيغال 1996م، ص 174) عام 1995م كان هناك 120000 مسجدًا (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية 1996م، ص 65). من بين 50000 مسجدًا المحصاة سنة 1985م فقط 7000 بنتها الحكومة. (غافني 1991م، ص47).

 

[5]     ثمة ثلاثة عناصر هامة تكوِّن النهضة الإسلامية: المجموعات والأحزاب السياسية الموجهة نحو الدولة، والمناضلون الإسلاميون (الذين تقلَّص وجودهم خلال التسعينات) وشبكة من الجمعيات الاجتماعية الدينية

 

[6]     غير الربحية التي توفر خدمات خيرية للفقراء وتقوم بالنشاط الدعوي. في هذا الكتاب سأستعمل مصطلحي «حركة الدعوة» و«حركة التقوى» بشكل متبادل للإحالة على شبكة الجمعيات الاجتماعية – الدينية وأحد فروعها الرئيسة هي حركة المسجد.

       تراوح عدد الحضور في هذه الاجتماعات من عشر نساء إلى خمسمائة امرأة بحسب شعبية المدرس.

 

[7]     على عكس بعض العادات الدينية الأخرى (كالحركة البوريتانية الإنكليزية) حيث تحيل «التقوى» أساسًا إلى حالات روحية باطنية، واستعمال مصطلح: «التقوى» في العربية من قبل منتسبي حركة المسجد، يحيل إلى اتجاه أو استعداد باطني وطريقة تدبير عملية. انظر: تناولي لمصطلح التقوى في الفصل الثاني.

 

[8]     انظر: الفصل 2.

 

[9]     بالنسبة للدراسات التي تستحوذ على الطابع المعقَّد للحركات الإسلامية، ومجموعة واسعة من الأنشطة التي غالبًا ما يتم جمعها تحت تسمية الأصولية انظر: (عبادي فيشر 1990م؛ باون 1993م؛ إسبوزيتو 1992م؛ هافنر 2000م؛ هيرشكاند 2001 أ و2001 ب ؛ 2004م؛ بيلتز 2002م؛ سالفاتور 1997م؛  ستارت 1998م).

 

[10]    توجد أمثلة من العالم الإسلامي في: (بودي 1989م؛ هالي 1987م؛ هيغلاند 1998م؛ ماكليود 1991م؛ طوراب).للاطِّلاع على مناقشة مماثلة حول الحركات المسيحية الإنجيلية انظر: (بروسكو 1995م؛ ستاسي 1991م).

 

[11]    لمراجعة الدراسات حول الشرق الأوسط، انظر: (أبو لغد 1990م أ).

 

[12]    أبو لغد 1986م؛ التركي 1986م؛ عطية 1982م؛ س. دايفس 1983م؛ داوير 1978م؛ إيرلي 1993م؛ فيرنا 1985م؛ ويكان 1991م.

 

[13]    هوبسباوم 1980م، جيمس سكوت 1985م.

 

[14]    انظر: على سبيل المثال جوها وسبي فاك 1980م ليس من الغريب إذن أنه بالإضافة إلى السعي لإعادة النفوذ إلى المزارعين، فإنّ رانجيت غوها – أحد مؤسسي مشروع دراسات التبعية ـ طالب أيضًا المؤرخين بمعاملة المرأة كفاعلة لا كوسيلة في عديد الحركات. (غوها 1996م، ص 12).

 

[15]    هي طريقة استشفاء واسعة الانتشار تستخدم الأساليب الإسلامية ووساطات الأرواح، وتكون عضويتها من الإناث إلى حد كبير (بودي 1989م).

 

[16]    المصدر نفسه، ص 345 .

 

[17]    المصدر نفسه، ص7.

 

[18]    المصدر نفسه، ص 345.

 

[19]    للاطِّلاع على مقاربة – مغايرة إلى حدٍّ ما – لممارسات نساء «الزار» في السودان، والتي، مع ذلك، تستخدم مفهومًا مماثلًا لمفهوم القوة، انظر: هيل 1986 – 1987م.

 

[20]    أبو لغد 1990 ب، 1993م.

 

[21]    المصدر نفسه 1986م.

 

[22]    المصدر نفسه 1990م ب، ص47.

 

[23]    المصدر السابق 1990م ب، ص 43.

 

[24]    المصدر السابق 1990م ب، ص 24.

 

[25]    المصدر السابق ب، ص 24

 

[26]    المصدر السابق ب، ص 50.

 

[27]    المصدر السابق ب، ص 53.

 

[28]    المصدر السابق ب؛ ص 47.

 

[29]    كما لاحظ عدد من علماء النسوية، ففي كثير من الأحيان يكون هذان البعدان من المشروع النّسوي في توتر منتج ضد بعضهما البعض. انظر: (براون 2001م؛ بتلر 1999م. موهانتي 1991م؛ روزالدو 1983م؛ ستراذرن 1987، 1988م).

 

[30]    على الرغم من الخلافات داخل الحركة النسوية، فإنّ هذا هو المنطلق المنطقي المشترك بين المجموعات النسوية على اختلاف مواقفهم السياسية بما في ذلك الراديكالية، الاشتراكية والليبرالية، والتحليل النفسي، وهذا سِمَةُ مجال الخطاب النسوي. حتى في حالة الحركة النسوية الماركسية والاشتراكية الذين يرون أن تبعية المرأة تحددها العلاقات الاجتماعية للإنتاج الاقتصادي، ثمّ على الأقل اعتراف بالتوتر المتأصل بين مصالح المرأة وتلك المصالح التابعة للمجتمع بصفة أشمل، والتي يهيمن عليها الذكور. (انظر: هارستوك 1983م؛ ماكينون 1989م). لأجل حجة أنتروبولوجية حول الطابع الكوني لعدم المساواة بين الجنسين، انظر: (كولير وياناغيزاكو 1989م).

 

[31]    انظر: ستراثرن 1988م، ص 26 – 28.

 

[32]    جون ستيوارت ميل، وهو شخصية محورية في الفكر الليبرالي والنسوي، يقول: «عبء الإثبات من المفترض أن يكون مع أولئك الذين هم ضد الحرية؛ الذين يؤكدون على أيّ قيد أو حظر… وبداهة الافتراض هي في صالح الحرية…» (ميل 1991م، ص 472).

 

[33]    برلين 1969م؛ 1جرين 1986م؛ سيمهوني 1993م؛ تايلور 1985م ج.

 

[34]    في الفلسفة السياسية الكلاسيكية، نجد أن تطبيقات هذه الفكرة (التي تم تحديدها مع فكر بنثام وهوبز) الأكثر شيوعًا هي في المناقشات حول الدور المناسب لتدخل الدولة في الحياة الخاصة للأفراد. وهذا هو أيضًا الذي ارتكزت عليه النسويات في مناقشة مقترحات للتشريع ضد الدعارة. انظر: على سبيل المثال، (برتقي 1990م ماكينون 1993م؛ روبين 1984م؛ سامويس كولاكتف 1987م).

 

[35]    (غراي 1991م) الصبغة الغامضة للإرادة البشرية التي تشكَّلت وفقًا للعقل والمصلحة الشخصية في حدِّ ذاتها أسالت الكثير من الحبر بين مجموعة من المفكرين الليبراليين مثل: هوبز، سبينوزا، هيغل، وروسو (هيلر، سوسنا، وويلبري م1986، تايلور 1989م). في المجتمعات الغربية الليبرالية اللاحقة، لعبت تخصصات التحليل النفسي وعلم النفس دورًا حاسمًا في تحديد الماهية الحقيقية للـ«أنا الداخلي الحقيقي»، وما يصاحب ذلك من تحديد ما ينبغي أن تكون طبيعة احتياجاته، ورغباته. (انظر: على سبيل المثال. هاكنغ 1995م؛ روز 1998م).

 

[36]    انظر: هانت1991م؛ ماكالوم 1967م؛ سيمهوني 1993؛ واست 1993م.

 

[37]    كريستمان 1991م.

 

[38]    هذه المقاربة «الإجرائية» أو «المحتوى المحايد» للاستقلال الذاتي دُعِيَ إليها بشدة من قبل المنظرين المعاصرين مثل راولز، هابرماس، ودوركين (رغم خلافاتهم). وهو يتناقض مع المقاربة «الواقعية» للاستقلال الذاتي حيث ينظر لأفعال الشخص على أنها لا تتطلب فقط أن تكون نتيجة لاختياره، ولكن أيضًا يجب أن تلتزم، في مضمونها، بالمعايير والقيم التي تحدد مسبقًا والتي تعرف قيمة الاستقلال الذاتي. في النسخة الأخيرة، الشخص الذي يختار طوعًا أن يصبح عبدًا لن يعتبر حرًا. ورغم ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ المقاربة الواقعية ليست سوى نسخة أشدّ، وأقوى من المقاربة الإجرائية للاستقلال الذاتي. حول هذا الموضوع والقضايا ذات الصلة، انظر: فريدمان عام م2003، خصوصًا الصفحات 19 – 29.

 

[39]    كريستمان م1991، ص 359.

 

[40]    لقد ولد هذا المبدأ الليبرالي الثابت عددًا من المفارقات في التاريخ. فعلى سبيل المثال، القوانين البريطانية في السماح بممارسة ساتي (حرق الأرملة) في مستعمرة الهند، على الرغم من المعارضة الرسمية لهذه الممارسة، في الحالات التي يمكن فيها للمسؤولين تحديد أن الأرملة كانت غير مكرهة، بل ذهبت «عن طيب خاطر للمحرقة». (لمناقشة ممتازة لهذا الجدل، انظر: ماني م1998). وبالمثل، فإن بعض نقاد السادو مازوشية في الولايات المتحدة يقولون: إنه يمكن إجازة الممارسة شرط أن يقوم بها البالغون بالتراضي الذين لهم «الاختيار»، في هذه المسألة، ولا تكون نتيجة «الإكراه».

 

[41]    لمناقشة مستنيرة للمشروع التأريخي «لها، قصة،» انظر: (جوان سكوت 1998م. ص 15 – 27).

 

[42]    أحمد 1982م؛ بودي 1989م؛ ويكان 1991م.

(*)   يطلق مصطلح الأسرة النووية أو الأسرة النواة على الأسرة المتكونة من الزوجين وأبنائهما فقط؛ فهي لا تشمل أي أقارب آخرين. (أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (ط2) بيروت: مكتبة لبنان).

[43]    انظر: على سبيل المثال (برانت 1984م؛ كولينز 1991م؛ أ. دافيس 1983م؛ لورد 1984م) بالمثل «بيان النسوية الأسود» الذي أصدرته جماعة نهر كامباهي الذي رفض طلب انفصال لنسويات البيض المثليات على أساس أن تاريخ الاضطهاد العنصري، يطلب من النساء السود الدخول في تحالفات مع الأفراد الذكور في مجتمعاتهم المحلية، حتى يتسنَّى لهن مواصلة القتال ضد العنصرية المؤسسية. (هال، بال، سكوت، وسميث 1982م).

 

[44]    لمناقشة مثيرة للاهتمام عن التناقضات الناتجة عن المكانة المتميزة الممنوحة لمفهوم الحكم الذاتي في النظرية النسوية، انظر: (آدمز ومنسن 1978م).

 

[45]    تشودراو 1978م؛ دجيليغان 1982م.

 

[46]    بن حبيب 1992م؛ يونغ 1990م.

 

[47]    فريدمان 1997م، 2003م؛ جوزيف 1999م؛ نيدلسكي 1989م.

 

[48]    بتلر 1999م؛ غاتنز 1996م؛ غروز 1994م.

 

[49]    لمناقشة ممتازة هذه النقطة في دراسات حول الأخلاق النسوية، انظر: (كولبروك 1997).

 

[50]    انظر: الفصول 3 و5.

 

[51]    الجندي 1981م؛ هوفمان – لاد 1987م، ماكلويد 1991م؛ رضوان 1982م؛ زهور 1992م.

 

[52]    انظر، في المقابل: مناقشة ليلى أبو لغد المثيرة للاهتمام لمسألة الحجاب باعتباره جانبًا هامًا من مفهوم الحياء (الحشمة) بين البدو المصريات. (أبو لغد 1986م، ص 159 – 167).

 

[53]    على سبيل المثال، في دراسة استقصائية أجريت بين طالبات الجامعات المحجبات في القاهرة، فإن غالبية المستجوبات نقلن أن «التقوى» هي دافعهن الأساسي لارتداء الحجاب. وفي معرض تعليقها على نتائج هذا الاستطلاع، أشارت عالمة الاجتماع شريفة زهور إلى أنه: «بدلًا من التقوى المكتشفة حديثًا» ادَّعى مخبروها أنّ الدوافع الحقيقية للحجاب تتلخص في الحوافز الاقتصادية والاجتماعية، وفي الفوائد التي تعود على النساء المحجبات في المجتمع المصري. (زهور 1992م، ص 83).

 

[54]    للاطِّلاع على مناقشة معمقة للمشاكل المترتبة عن ترجمة المفاهيم المتعالية والميتافيزيقية إلى لغة عصر العلمانية وتاريخها، انظر: (شاكرابارتي 2000م؛ رانسيير 1994م).

 

[55]    لاستكشاف ممتاز لاستخدام اللغة في البناء الثقافي للشخصية، انظر: (كاتون 1990م؛ كين 1997م؛ روزالدو 1982م)؛ وانظر أيضًا: نقد مارلين ستراثارن لمفاهيم الغرب «للمجتمع والثقافة» التي يوظفها نهج النسوية التفكيكية في تحليل العلاقات بين الجنسين في المجتمعات الغربية. (ستراثان 1992م، ب).

 

[56]    مفهوم «التقليد الخطابي» هو من طلال الأسد 1986م. انظر: مناقشتي لأهمية هذا المفهوم في حُجّتي الشاملة في الفصل الثالث.

 

[57]    فوكو 1980 – 1978م.

 

[58]    بتلر 1993 – 1997م ج، فوكو 1980 – 1983م.

 

[59]    جانب هام من تحليلات فوكو للسلطة هو تركيزه على ما أسماه: «تقنياتها»، مختلف الآليات والاستراتيجيات التي من خلالها تمارس على نقطة التطبيق على الذوات والأشياء. تختلف «بتلر» عن «فوكو» في هذا الصدد في أن عملها هو ليس استكشافًا لتقنيات السلطة، بقدر ما هو لقضايا الإنجاز، والمساءلة، وتنظيم نفسية السلطة. مع مرور الوقت، أفصحت «بتلر» عن اختلافاتها عن «فوكو» في أماكن مختلفة. انظر: على سبيل المثال: (بتلر 1993م، 248 ن. 19؛ 1997م ج، ص 83 – 105؛ 1999م، ص 119 – 144؛ وبتلر وكونولي 2000م).

 

[60]    بتلر 1997م ج، ص 18.

 

[61]    متأثرتين بأعمال جيل دولوز، قدمت فيلسوفتا النسوية إليزابيث غروز ومويرا غاتنز، نقدًا مماثلًا لإشكالية التمييز بين التجسيد والتمثيل التي تدعم ثنائية الجنس/النوع الاجتماعي [الجندر] (غاتنز 1996م، غروز 1994م). رغم أنهما كانتا مشابهتين لبتلر في رفضهما لأي نداء بسيط لهيئة مسبقة التمثيل، أو لأنطولوجيا أنثوية كأساس لصياغة السياسة النسوية، فإنهما تختلفان عن بتلر في أنهما يمنحان الجسد القوة التي يمكن أن تؤثر على نظم التمثيل، بناء على شروط غير تلك التي من النظام نفسه. لمناقشة مثيرة للاهتمام عن الاختلافات بين هؤلاء المناظرات، انظر: (كالبروك، 2000م أ).

 

[62]    بتلر، 1993م، ص 10 – 11.

 

[63]    بينما لدى أوستن يستمد الأدائي قوته من الأعراف التي تحكم فعل الكلام، فحسب دريدا يجب أن تفهم هذه القوة من حيث طابع التواتر في جميع العلامات. (انظر: دريدا 1988م). للاطِّلاع على نقد مثير للاهتمام من قراءة دريدا لأوستن، انظر: (كافيل 1995م؛ بتلر 1993م، ص 2).

 

[64]    بتلر 1997م، ص 14.

 

[65]    المصدر نفسه ص 3.

 

[66]    للاطِّلاع على مناقشة بتلر لكيفية أن مفاهيم فوكو للسلطة والخضوع يمكن أن تمزج بشكل مفيد مع عمل فرويد ولاكان، انظر: (بتلر 1997 ج، ص 83 – 105).

 

[67]    بتلر أ ص 39 – 40.

 

[68]    بتلر أ ص، ص 24.

 

[69]    المصدر نفسه ب، ص 14.

 

[70]    بتلر أ ص، 1943، ص 10) يعتمد تحليل بتلر لإنتاج التابع جنسيًا وجنسانيًا على نظرية عامة في تشكيل الخضوع، والتي تتأكد بأكثر تجليًا في كتاباتها اللاحقة. انظر: (بتلر 1997 أ – 1997م، وبتلر، لاكلو، وجيجك 2000م).

 

[71]    ابن حبيب وآخرون. 1995م، ص 136.

 

[72]    مرددة صدى فوكو، تقول بتلر: «مفارقة الإخضاع هي على وجه التحديد أن هذا الخاضع الذي من شأنه أن يقاوم هذه المعايير هو في حد ذاته ممكن بسبب، إن لم يكن نتاج، هذه المعايير. على الرغم من أن هذا القيد التأسيسي لا يمنع إمكانية القوة، إلا أنه يحددها كممارسة تكرارية أو تمفصليه، جوهرية للسلطة، وليس في علاقة متعارضة مع السلطة» (بتلر 1993م، ص 15).

 

[73]    انظر: تحليل بتلر لهذا الموضوع في «الجنسانية تلتهب» في (بتلر 1993م، وبتلر 2001م).

 

[74]    بتلر 1993م، 122.

 

[75]    بتلر، ص 23 على سبيل المثال، في مناقشة مسألة القوّة، تكتب بتلر: «مقاربة تكرار الخضوع تبين كيف يمكن أن تتمثل القوة جيدًا في معارضة وتحويل الظروف الاجتماعية التي يتم من خلالها إنتاج ذلك» (بتلر 1997ج ص 29)، لاحظ التكافؤ المشار إليه هنا بين القوة وقدرة أفعال القول على معارضة البنى المعيارية. مثل هذه التصريحات المتكررة تكون في توتر مع العبارات التحذيرية الخاصة، في هذه الحالة داخل النص نفسه، عندما تذكر القارئ أن القوة يجب ألا تصوّر على أنها «دائمًا وفقط مقابل السلطة» (بتلر 1997ج، ص 17).

 

[76]    تشير إيمي هوليوود في قراءتها لبتلر، إلى أنها ورثت من دريدا تثمين إعادة الترميز ـ اتجاه الكلام وفعل القول إلى الانفصال عن دلالاته السابقة، ولكن في حين أن دريدا، تقول هوليوود، لا يزال أخلاقيًا وسياسيًا محايدًا تجاه هذه الخاصية للغة وعلاماتها، كثيرًا ما تقرأ بتلر إعادة الترميز على أنها إيجابية سياسيًا (هوليوود 2002م، 107 ن ص 57).

 

[77]    انظر: على سبيل المثال، بوردو 1993م، والتبادل في بن حبيب وآخرون 1995م.

 

[78]    بالنسبة لمعظم مشاركات بتلر مؤخرًا في هذا المشروع، انظر: (بتلر، لاكلو، وجيجك 2000م). واضح من هذا النص أنه في حين أن بتلر غير مرتاحة، أكثر من المحاورين لها، لنظرية كونية لتغيير جذري، إلا أنها لا تزال مهتمة بالتنظير حول الشروط المؤدية إلى خلق إمكانية سياسية ديمقراطية راديكالية.

 

[79]    خذ على سبيل المثال، البيان التالي لبتلر والذي تصف فيه اعتراضها الفوري على موضوع تركز نظرية القوة على الإخضاع، مع الاطمئنان إلى أن اعتراضاتها لا تحول دون إمكانية مقاومة الخضوع: «إذًا… لا بد للإخضاع أن يرتبط بالخضوع… ثم إنها لن تستدعي فكرة التابع كأرضية للقوة، بما أن هذا التابع هو في حدِّ ذاته نتاج عمل السلطة التي تحدد مسبقًا أهداف ومجال القوة. ومع ذلك فلا يستتبع هذه الرؤية أننا جميعًا دائمًا محاصرون بالفعل، وأنه لا يوجد أي أمل في مقاومة التنظيم، أو شكل الخضوع الذي يتخذه التنظيم». (بتلر، لاكلو، وجيجك 2000م، ص 151).

 

[80]    انظر: على سبيل المثال، بتلر 1997م ج.

 

[81]    ترى بتلر، على سبيل المثال، أن فكرة الإخضاع لفوكو يمكن أن تكون مثمرة، إن استُكملت ببعض الإصلاحات المعينة من نظرية التحليل النفسي. بالنسبة لبتلر قوة هذه الإضافة يبدو أنها تكمن في، – لا سيما – قدرتها على معالجة «مشكلة تحديد مكان أو مقاربة المقاومة: أين تحدث المقاومة تجاه، أو في تشكيل رقابية الخاضع؟ هل أن حصر [فوكو] مفهوم التحليل النفسي الغني للذات في الروح السجينة [في المراقبة والعقاب] تنفي إمكانية مقاومة التطبيع وتشكيل التابع، وهي المقاومة التي تظهر على وجه التحديد من عدم التكافؤ بين الذات والتابع؟». (بتلر 1997م ج، ص 87).

 

[82]    التي نوقشت في الفصل 5.

 

[83]    انظر: الفصل 5.

 

[84]    بورغت وداول 1997م أسبزيتو 1992م. غاول 1996م؛ روي 1994م.

 

[85]    مينسون 1993م.

 

[86]    الانخفاض الواضح في الأهمية الممنوحة للطقوس الدينية في المسيحية ما بعد الإصلاح، يشكُّل مسارًا آخر من هذا التطور نفسه. انظر: (طلال. الأسد  (م1993.

 

[87]    كانط واضح في اعتراضه على الأخلاق التي هي نتيجة الفضائل المعتاد عليها، المكتسبة من خلال عملية طويلة من تشكيل الشخصية: «عندما يصبح العزم الراسخ على الامتثال للواجب عادة، فإنه يسمى فضيلة حتى بالمعنى القانوني، في طابعها التجريبي (ظاهرة الفضيلة). الفضيلة هنا لديها سمة الالتزام بالإجراءات القانونية…. الفضيلة، في هذا المعنى،… تبعًا لذلك تكتسب شيئًا فشيئًا، ولدى البعض تعني التعود الطويل (في التقيد بالقانون) بفضلها يمر الإنسان من خلال الإصلاح التدريجي للسلوك وتدعيم مُثُلِه – من الميل إلى الرذيلة لنقيضها. ولكن ليس أدنى تغيير للقلب ضروري لذلك؛ فقط تغيير العادات…. ومع ذلك، ينبغي أن يكون الإنسان ليس فقط صالحًا من الناحية القانونية، ولكن أيضًا أخلاقيًا (لإرضاء الله) أي: فاضلًا وفقًا للطبيعة الجلية [الفضيلة] (virtus novmenom)، وبالتالي ليس في حاجة إلى أي حافز آخر ليتعرف على أي واجب آخر،  إلا تصور الواجب نفسه ـ بمعنى أنه طالما أنّ أساس ثوابت الإنسان تبقى غير نقية، فإنه لا يمكن أن تتم من خلال الإصلاح التدريجي، ولكن يجب أن يكون بدلًا من ذلك من خلال ثورة في استعداد الإنسان…. ولذا فإن «الرجل الجديد» لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نوع من ولادة جديدة، كما لو كانت خلقًا جديدًا… وتغييرٍ للقلب» (كانط 1998م، ص 67 - 68).

 

[88]    وهذا لا يعني أن «الأخلاقية» لدى كانط مجرد مسألة فردية، تسترشد بالاختيار الفردي، ولكن بدلًا من ذلك، يُعدّ العمل أخلاقيًا فقط بقدر ما كان في اتفاق مع شكل من العقلانية المتفق على صحتها كونيًا. كما يشير تشارلز تايلور، فالقانون الأخلاقي لكانط يجمع بين سمتين: يلتزم الجميع بالعمل بما يتوافق مع العقل، و«هي سمة أساسية من سمات العقل: أن يكون صالحًا للجميع، لجميع المخلوقات العقلانية على حدٍّ سواء. وهذا هو أساس أول شكل من أشكال الضرورة الحتمية لدى كانط: أنه يجب أن أتصرف وفقًا للحكمة التي يمكن أن أعتبرها في نفس الوقت قانونًا كونيًا. لأنه إذا كان لي الحق في إرادة شيء ما، فلكل من شاء الحقُّ فيه أيضًا، وإنه يجب بالتالي أن يكون شيئًا يمكن أن يُراد للجميع» (تايلور 1985م ب، ص 323).

 

[89]    مينسون 1993م، ص 31.

 

[90]    انظر: على سبيل المثال، بورديو1977 – 1990م.

 

[91]    في «الخطاب المثير» (باتلر 1997أ)، تشيد بتلر بعمل بورديو حول الهابيتوس [العادة] «habitus» لحساسيتها لكيفية تجسد الموقع الاجتماعي والثقافي للفرد في تصرفاته. ومع ذلك فهي تنتقده، لعدم اهتمامه بإمكانات الجسد لمقاومة هذا النظام من الدلالة وتشكيل تحدٍّ لمنطقها. من وجهة نظري هنا، فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في حين تريد بتلر التأكيد على كيفية أن يصبح الجسد في موقع مقاومة للإملاءات الاجتماعية، وبينما يشدد بورديو من جهته على الجوانب التي تحدُّ من السلطة الاجتماعية المتجسدة؛ فإن كليهما يحلل الجسد من خلال منطق ثنائية تقويض و/أو تعزيز المعايير الاجتماعية. ما وقع تجاهله هنا هي طرائق مختلفة يمكن من خلالها للجسد أن يستبطن أو يعيش السلطة التنظيمية للمعايير والطرائق التي لا يمكن الإلمام بها عبر ثنائية منطق المقاومة والقيد.

 

[92]    كالبروك 1998م، ص 50.

 

[93]    هذا لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يعني أن مفهوم فوكو للأخلاق هو مضاد لكانط بأي معنى بسيط. لمناقشة ثاقبة لتأثير كانط على عمل فوكو اللاحق حول الأخلاق، خاصة عن دمج الأخلاق والحرية، انظر: الفصل بعنوان: «تحسين الذات». في (هايكنغ 2002م).

 

[94]    ويقول كالبروك: إنّ تفسير فوكو للأخلاق القديمة هو «الأخلاق الإيجابية التي يتم تقييم الأفعال فيها وفقًا لما يقومون به وليس ما يعنوه، ولكل منهم صفة أو شكل خاص به». (كالبروك 1998م، ص 43).

 

[95]    (انظر: على سبيل المثال، ماكنتاير 1984م؛ تايلور 1995م) التقليد الأرسطي الجديد في «أخلاقيات الفضيلة» يدعو عمومًا لإعادة إعطاء الأولوية للفضيلة كمفهوم أخلاقي مركزي على مفهوم «الصلاح» أو «الحق» في الفكر الأخلاقي المعاصر. حول أخلاقيات الفضيلة، انظر:(أنسكمب 1981م؛ فوت 1978م، لوفيباند 2002م).

 

[96]    (فوكو 1990، 1997م أ، 1997م ب، 1997ج، مارتن، غوتمان، وهوتون 1988م). وانظر: أيضًا (ديفيدسون

 

[97]    1994م، فوبيان 2001م، ورابينو 1997م). لقراءة مقارنة تجمع بين عمل فوكو حول الأخلاق مع دراسات على الأخلاق الفضيلة، انظر: (لوفيباند 2002م).

       على الرغم من أن فوكو يميز بين الأخلاقيات «الموجهة قانونيًا» و»الموجهة أخلاقيًا»، فإنّه لا يعتبرهما غير قابلين للقياس. على سبيل المثال، يقول فوكو: إن المسيحية قد كان لها كلا الأخلاقيتين تعملان جنبًا إلى جنب، حتى لو كان خلال فترات مختلفة، فالتركيز النسبي على كل صنف قد يختلف. (فوكو 1990م، ص 30).

[98]    فوكو 1997م ب، ص 225.

 

[99]    المصدر نفسه 1990م، ص 29.

 

[100]   إحدى معاني الانقياد المذكورة في قاموس الإنكليزية أكسفورد هي: «نوعية قابلية التعلم، والاستعداد والرغبة في تلقي التعليم، والاستعداد لتدريسه، وقابليته للتدريب» (قاموس أكسفورد 1999م).

 

[101]   فوكو 1997م ب، ص 263.

 

[102]   روز 1998م، ص 27.

 

[103]   الفصل الثاني يصف الطرق التي تم بها تسريع هذا الاتجاه الفرداني في القرن العشرين.

 

[104](*)      بروميثية نسبة إلى بروميثيوس.

 

[105]   انظر: بوكوك م1985، سكينر م1998.

 

[106]   كونولي 1999م، ص 27 – 46، يعتمد كونولي على أعمال عدد من الفلاسفة في صياغة هذه الحجة. فيكتب ما يلي: «التفكير في حدِّ ذاته (بالنسبة لدولوز وأبيقور، وسبينوزا، وبرغسون، وفرويد، ونيتشه أيضًا) يعمل على أكثر من صعيد واحد؛ وهو يتحرك من مستوى الافتراضي (هو حقيقي في فعاليته، لكن ليس فعليًا في توفره) وذلك الفعلي (والذي يتوفر للتمثيل، ولكن ليس مكتفيًا بذاته)، على سبيل المثال، توفر الكثافة المعقولة للأفكار الأولية مخزونًا تنطلق منه أحيانًا مفاجأة تزعزع التفسيرات الثابتة، وترتفع ضغوط جديدة بشكل دوري لعرقلة ممارسات العقلانية القائمة، وتنطلق الدوافع الجديدة للهوية في بعض الأحيان لتعديل سجل العدالة والشرعية التي أنشئت على أساسها الهويات الثابتة». (كونولي 1999، ص 40).

 

[107]   نيكولاس روز، 1999م ص 192.

 

[108]   طلال الأسد 2003م، ص 78.

 

[109]   انظر: الفصلين 2 و4.

 

[110]   هذا لا يعني، بالطبع، أن حركة التقوى أو النساء المسجديات لا يعتمدن على هياكل الحكم الحديث لتنظيمها. كما ستوضح حججي في (الفصل 2)، توفر التطورات السياسية الحديثة الظروف اللازمة لظهور وازدهار حركة التقوى في مصر. ما أنا بصدد لفت النظر إليه هنا هو ببساطة، أن حركة التقوى لا تسعى إلى تغيير الدولة أو سياساتها، لكنها تهدف إلى إصلاح المجال الاجتماعي والثقافي.

 

[111]   انظر: على سبيل المثال، بينين وستورك: 1997م؛ جول 1996م؛ ميتكالف 1993 – 1994م؛ روي 1994م.

 

[112]   أبو لغد 2002م؛ أحمد 1982م، لزرق 1994م، سبيفاك 1987م

 

[113]   انظر: على سبيل المثال، كولير 1997؛ ماني 1998؛ ماسال 1994.

 

[114]   هذا المصطلح اغتنمته من مناقشة إليزابيث بوفنيلي المثيرة حول كيف أنّ خطاب التعددية الثقافية ينحصر بشكل خطير فيما تؤسس له الليبرالية كـ «ممارسات [أو «منفرة» ]» ثقافيًا، (بوفنلي 2002م).

 

[115]   لاحظت سوزان هاردينغ منذ أكثر من عشر سنوات أنه على الرغم من الزيادة في دراسة «المجموعات المهمَّشة ثقافيًا» ضمن مجموعة من التخصصات الأكاديمية، هناك غياب ملحوظ للدراسات التي تركِّز على الفئات التي تعتبر «آخر ثقافيًا وسياسيًا» من وجهة نظر الباحثين التقدميين ـ الليبراليين كما يكتب عنها الأصولي البروتستانتي هاردينغ في الولايات المتحدة الأميركية (هاردينغ 1991م). ولا تزال هذه الفئات «البغيضة ثقافيًا» تفهم بطريقة مغايرة على أنها رجعية، أصولية، متخلفة، لا عقلانية، وهلم جرا من دون أي اعتبار لكيف أن ظروف الحداثة العلمانية كانت حاسمة في إنتاجها واستقبالها معًا. (انظر: هاردينغ 2000م).

(*)    هو مصطلح ابتدعه السياسي الهندي فيناياك دامودار سافاكار في عام 1923م، وهو الشكل السائد من القومية الهندوسية في الهند.

(**)   حركة دينية قومية غير مرتبطة بالعمل البرلماني، ومنطلقها أن من حق اليهودي إقامة استيطان له في كل موقع من أرض «إسرائيل».

[116]   انظر: هيرشكند ومحمود 2002.

 

[117]   راجع محمود 2001م أ.

 

[118]   وهنا أريد أن يكون واضحًا أن تعليقاتي ليست موجهة فقط إلى «النسويات الغربيات»، ولكنها تشمل أيضًا نسويات «العالم الثالث» وجميع أولئك الذين يقعون في مكان ما داخل تضاريس الاستقطاب، لأن هذه الأسئلة تورط كل واحد منا بالنظر إلى الزخم التحرري للتقليد النسوي.

 

[119]   براون 2001م، ص 43.