مجلة حكمة
ألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ألوهية علي بن أبي طالب: النظام العقائدي النصيري

الكاتبماتي موسى
ترجمةإبراهيم قيس جركس

علي بن أبي طالب
الفصل السابع والعشرون من كتاب:
Extremist Shiites: The Ghulat Sects, Matti Moosa, Syracuse University Press, 1988, NY, PP. 324-336

بالنسبة إلى النصيريين، يُعَدُّ علي بن أبي طالب [المعنى] _ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة_ الظهور الأخير والأكمل من بين جميع الظهورات الإلهية، حيث أوحى خلاله بدين الإسلام والشريعة الإسلامية. وهو الذي اخترع محمد [الاسم/الحجاب] من نوره _كما شرحنا في الفصل السابق_ وعلّمه القرآن. إنّه ينبوع الإسلام. هو الله: إله القرآن ذاته.

مهما كانت الصفات والخصائص التي يعزوها المسلمون إلى الله، فالنصيريون ينسبونها إلى إلههم المعنى [علي]. بعضها ينسبونها إليه بصورته البشرية، وبعضها الآخر بألوهيته[[1]]. السؤال الأول في الكتيّب الديني “كتاب تعليم الديانة النصيريه” على الشكل التالي:

((س1: مَنْ هو ربنا الذي خَلَقَنا؟

الجواب: هو مولانا أمير المؤمنين، أمير النحل، علي بن أبي طالب، وهو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم))

أمّا السؤال الثاني فهو على النحو التالي:

((س2:من أين نعلم أنّ مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الله؟

الجواب: من شهادته ووصفه لنفسه في خطبة له مشهورة نطق بها على المنبر أمام كافة من حضر، وعَلِمَها أهل العقل والنظر، فقال: أنا عندي علم الساعة، وعَلَيّ دَلّت الرسل وبتوحيدي نطقت وإلى معرفتي دَعَت. أنا سَمّيتُ أسمائها، واسطَحتُ أرضها، وأرسَيتُ جبالَها، وأجرَيتُ أنهارها، وأخرَجتُ ثمارَها، أنا غَسَقتُ الغَسَق، أنا أطلَعتُ شمسها وأنَرتُ قَمَرَها، أنا خَلَقتُ الخَلق وبَسَطتُ الرِّزق، أنا رَبُّ الأرباب ومالِكُ الأرقاب، أنا العَلِيُّ العَلام، أنا قَرْم من حديد، أنا المُبدِئ المُعيد، أنا أولَجتُ عيسى في بطن مريم أمّهِ إيلاجاً، أنا أرسَلتُ الرُّسُل ونَبّأت النبيين))[[2]].

كما هناك إقرار آخر بألوهية علي [المعنى] في السورة الحادية عشر من “كتاب المجموع” أو “الدستور”، بعنوان (الشهادة) ويسمّيها العامة “الجَبَل”. الغريب في هذه السورة هو أنّ الاعتراف بألوهية علي مرتبط بالإسلام بوصفه إلهاً للدين. تبدأ السورة بالمقطع الافتتاحي التالي: ((السورة الحادية عشرة واسمها الشهادة والعامة تسميها “الجَبَل”: شَهِدَ الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إنّ الدين عند الله الإسلام، رَبّنا آمَنّا بما أنزَلتَ واتّبَعتَ الرسول فاكتُبنا مع الشاهدين بشهادة ع م س)).

ثم تستمرّ الشهادة على النحو التالي: ((أشهَدُ بأنّ ليس إلهاً إلا علي بن أبي طالب الأصلع المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي المقصود… أشهَدُ بأنّ الصورة المرئية، التي ظهرت في البشرية، هي الغاية الكلية، وهي الظاهرة بالنورانية، وليس إلهٌ سواها وهي علي بن أبي طالب وأنّه لم يُحَطّ ولم يُحصَر، ولم يُدرَك ولم يُبصّر، أشهدُ بأني نصيري الدين))[[3]].

كما يؤكّد النصيريون بأنّ الدليل على أنّ عليّ هو الله مَبني على شهادته الخاصة في القرآن، والتي يُزعَم أنّها تحتوي على معنى باطني يشير حصرياً إلى ألوهية علي. ويبدو هذا واضحاً وجلياً في “كتاب المشيخة”، حيث قيل أنّ علياً قال: ((أنا أنا، وأنا الذي آمَنَت بي بنو إسرائيل، وأنا الذي ناداني نوح فمنتُ له نِعمَ المُجيب، وأنا الذي ناداني ذو النون في الظلمات أن لا إله إلا أنت، وأنا الذي ناديتُ موسى وكَلّمته من الشجرة، وأنا الذي أرسلتُ إلى مريم من نفخ فيها من روحنا، وأنا الذي رفعتُ إدريس مكاناً علياً، وأنا الذي أظهرتُ عيسى ورفعته إليّ وأنا الذي طَلَبَتني القرون بعد القرون، وأنا الرحمن على العرش استوى وليّ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لي الأسماء الحسنى والمَثَل الأعلى والربوبية الكبرى والألوهية العظمى وكل ذي روحٍ ناطقةٍ بأمري، وما تسقط من ورقةٍ إلا أعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ بعلمي، ولا إله غيري ولا معبود سواي))[[4]].

ويمضي النصيريون لأبعد من ذلك بالقول أنّ النبي محمد قد شهد شخصياً بألوهية علي. وقد جاء في أحد الأسئلة من كتاب التعليم:

((مَنْ دَعانا إلى معرفة مولانا أمير المؤمنين؟

الجواب: رسوله محمد صلعم كما قوله في خطبة بيعة الدار:”اسمعوا الآن ما أقول لكم وإياكم تشكّون، اعلموا أني أدعوكم إلى الله عزّ وجل، إلا أنّ علياً مولاي ومولاكم لأنكم خواص أنصاري. … أدعوكم إلى علي بأمرٍ منه، وإياكم الريب إلا أنّ نبوّتي تحت ولاية علي، لأنّ علي الذي نبّاني إليكم وهو الذي خلقني من نور ذاته وهو ربي وربكم وخالقي وخالقكم فاتّقوه وطيعوه ووحّدوه وسبّحوه وقدّسوه واعبدوه لأنّ هو الله الذي لا إله إلا هو”))[[5]].

ويحتوي “كتاب المشيخة” على شهادة مماثلة ولكنها أكثر تفصيلاً عن النبي محمد يتحدّث عن ألوهية علي، نقلها سلمان الفارسي. يقول سلمان أنّ النبي دعاه ومعه عدّةٌ من أصحابه، بما فيهم علي، إلى بيت أُم سَلَمَة، إحدى زوجات محمد، وبعد أن تجمّع الصحابة، أخبرهم النبي أن يبتهجوا، لأنه دعاهم تملك لمصلحتهم ولخيرٍ فيهم وأن يسمعوا ويعقِلوا ما سيقوله لهم. الخطبة طويلةٌ جداُ، لذلك سأقدم هنا مقتطفات منها فقط.

((إسمعوا ما أقول لكم وإياكم والشك فيما تسمعون منّي: إعلموا أنّي أدعوكم إلى علي بن أبي طالب كما أدعوكم إلى الله، ألا إنّ علياً مولاي ومولاكم، ألا إنّ علياً نبّأني ألا إنّ نبوّتي تحت ولاية علي، ألا إنني خُلِقتُ من نور ذات علي، ألا إنّ علياً علّمني القرآن، ألا إنّ علياً أرسلني إليكم، ألا إنّ علياً ربي وربكم، ألا إنّ علياً معاقبكم فخافوه، ألا إنّ علياً رازقكم فاسألوه، ألا إنّ علياًله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، ألا إنّ علياً يعلم سرّكم ونجواكم ويعلمون ما تُبدون وما تكتمون، ألا إنّ علياً ربُّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو يُحيي ويميت، ربّكم ورب آبائكم الأولين، ألا إنّ علياً لا إله إلا هو رب العرش العظيم، ألا إنّ علياً له مقاليد السموات والأرض يُبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بكلّ شيء عليم وإليه تصير الأمور، ألا إنّ المؤمن من آمَنَ به قبل ولايته، ألا إنّ المسلم من أسلَمَ له بالحقيقة في معرفته، ألا إنّ الشهيد مَن شَهَدَ له بالربوبية وأقَرّ له بالوحدانية، ألا إنّ المغفور مَن غَفَرَ له علي، ألا إنّه لا مهرب منه إلا إليه، ألا إنّ علياً لا يُحَدّ ولا يوصف ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يتَخذ صاحبةً ولا ولد، ولم لكن له شريكٌ في المُلك ولم يكن له وليٌّ من الذلّ وكبّره تكبيرا، ألا إنّ علياً لا إله إلا هو الحَيّ القيوم لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ له ما في السموات وما في الأرض، مَن ذا الذي يشفع عنه إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء وَسِعَ كرسيه السموات والأرض لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، ألا إنّ علياً على كل شيءٍ قدير...))[[6]].
((هذا إلهُكُم فاعبدوه، هذا بارئكم فوحّدوه، هذا الذي أشرتُ في كتابي إليه، ودللتكم بقولي عليه، وقلت لكم هو الأول والآخر والباطن والظاهر وهو بكلِ شيءٍ عليم تلويحاً. وهذا القول قوله تصريحاً والذي كنت أدعو إليه، ها هو هنا ظاهراً فاعبدوه حقّ عبادته ووحّدوه مخلصين في توحيده))[[7]].

في الواقع، كتب النصيريين مليئة ومُتخَمَة بأحاديث وشهادات مماثلة فيها إشارات إلى ألوهية علي. وما على المرء سوى أن يقرأ كتاب المجموع والقدّاس اللذين أدرجهما سليمان الأذني في كتابه “الباكورة السليمانية” ليدرك تمام الإدراك أنّ النصيريون يؤمنون بعلي وحده كإله واحد لا شريك له. على سبيل المثال، قدّاس الإشارة، يبدأ بالعبارة الافتتاحية التالية: ((الحمد لله على التمام علي نور الأنام، علي ربُّ العزّة، علي فالق الحبّة، علي باري النسمة، علي ينبوع الحكمة، علي مفتاح الرحمة، علي سراج الظلمة، علي جبّار الجبابرة، علي مبيد الأكاسرة، علي صاحب القباب الفاخرة، علي إمام المحراب، علي قالع الباب، علي مفرّج الكربات، علي صاحب المعجزات، علي داحي الأرض، علي حُبّهُ فرض، علي نزهة الشيب، علي عالِم الغيب، علي مالك الدنيا، علي صاحب الآخرة والأولى، علي شقّ الصخر، علي نور الفجر، على نهر الخمر… علي مُعَلّل العلل، علي مفني حركات الدول… علي رافع السماء، علي بديع الزمان، علي رفيع الشان، علي كثير العجايب، علي ربُّ المشارق والمغارب، علي فارس الفوارس، علي مُحيي العظام الدوارس، علي مُنَزّل الكتاب، علي مُفَرّق السحاب، علي رَدّ الشمس، علي قابض على كل نفس، علي العزيز الجبّار، علي قادرٌ قهّار، علي ضارب بذوالفقار، علي حيدرة الكرّار، علي جبّار الأرض، علي صاحب النوافل والفرض، علي أحد فرد، علي هابيل، علي شيت، علي يوسف، علي يوشع، علي أساف، علي شمعون الصفا، وإلى هذا المعنى نسبّح ونقدّس ونهلّل ونكبّر ونمجّد ونعظّم إلى ما أشارت إليه الأولين، ودلّت على قدم معنويته الأنبياء والمرسلين، ونشير إلى ما أشار إليه شيخنا وسيدنا الحسين بن حمدان الخصيبي، ونشير إلى ما أشار إليه جَدُّهُ محمد بن نصير العبدي البكري النميري، ونشير إلى ما أشار إليه سلمان الباب، ودَلَّ على معنويته السيّد محمد الحجاب، في السبعة الأقباب، من هابيل الرضى إلى حيدرة أبو تراب، اعلموا يا إخواني أنّ إلهكم معنى المعاني القديم الأحد الفرد الصمداني، بولايته نرتفع إلى جِنان الرضى ةزيادة الأنوار. اعلموا أنّ هذه صلاتنا وحَجَّنا وزكاتنا وإشارتنا وعبادتنا في سِرِّ سِرِّنا وخالص يقيننا، إلى علي بن أبي طالب الأنزع البطين الذي لا يتجزّأ ولا يتبعّض ولا ينثني في قسم ولا يدخل في عدد ولا يحول ولا يزول ولا تغيّره الأزمنة والدهور))[[8]].

إنّ عملية تأليه علي المبيّنة في المقطع السابق تتنافى مع روح الإسلام ورسالته، وهذا ما ينتهك كلاً من القرآن والسُّنّة النبوية. فبالنسبة لتيار الإسلام الأرثوذكسي، تعتبر هذه التصريحات محض تجديف وكفر. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنّ الشيعة الإثنا عشرية يتبرّأون من الغُلاة و تأليههم علي، إلا أنّ اعتقادهم بالوجود الأبدي للأئمة وسلطتهم الإلهية، بمن فيهم علي، وإيمانهم بعصمة هؤلاء الأئمّة، فإنّ ذلك يعزّز قناعتنا بأنّ الإثنا عشرية أنفسهم يؤمنون بالطبيعة القدسية لعلي.

أحد الألقاب الممنوحة لعلي _المعنى_ له دلالة خاصة ضمن النظام اللاهوتي النصيري. وكما سنناقش في فصلٍ لاحق من هذا الكتاب، فإنّ علياً أول شخصٍ بين شخوص الثالوث النصيري المقدس. ولهذا يطلق عليه لقب “المعنى”، وهو مصطلح يشير من الناحية اللاهوتية إلى المُقَرّر السببي، علّة العِلَل، وسبب الأسباب، والعنصر البدئي، والحقيقة الإلهية، ومعنى جميع الموجودات والمخلوقات. فاستخدامهم لقب “المعنى” لعلي، يوضّح الاعتقاد النصيري بأنّ علي هو الله، مصدر كل شيء وغايته. فمعنويته (نموذج ألوهيته البدئي)، التي كشف عنها محمد، هي جوهر الله. فالمعنى هو اسم اللاهوت في كافة ظهوراته فيما يخصّ الاسم والباب، الشخصان الثاني والثالث من الثالوث. ولأنّ هذه المعنوية لا يمكن فهمها في سياق منفصل عن الإسم، فقد كان من الضروري أن يصبح الاسم [محمد] وسيطاً لإطهار معنوية علي وألوهيته. وكما يقول أبو عبد الله بن هارون الصائغ، قال سيّده الخصيبي أثناء حديثه عن معنوية علي، أنّ علي هو محمد، لكنّ محمد ليس علي، لأنّ الألوهية مقصورة على المعنى (المُقَرّر السببي)، تماماً كما الحرارة خاصية من خصائص النار. أي أنّ النار تحتوي على حرارة، لكنّ الحرارة لا تحتوي على النار بكليتها. فالنار تحتوي نوراً ودخاناً ونشاط، بالإضافة إلى الحرارة، في حين أنّ الحرارة لوحدها لا تحتوي على جميع هذه العناصر. وهكذا، بينما يحتوي علي على محمد، وكل ما في القبّة المحمدية (فترة من فترات الظهور والتجلي)، لا يحتوي محمد كامل الحقيقة الإلهية[[9]].

بقول أبي عبد الله ابن هارون الصائغ في مسائله ((وكذا الاسم من معناه بدأ وإليه عاد وانتهى، وكان بدؤه منه انفصال ورجوعه إليه اتصال، فإنّه ولو أظهر نورية الانفصال فإنّه بنفس الحقيقة بمعنى الاتصال كإشعاع القرص من القرص… وكالضوء من النار والحركة من السكون وكالنطق من الناطق وكالنظر من الناظر، موصول بالنور، منفصل بمشاهدة الظهور)).

نلاحظ أنّ مصطلح “المعنى” ليس مقتصر على الفرقة النصيرية، فقد استخدمه المُقتَنَى بهاء الدين، أحد الكُتّاب الدروز الأوائل، حينما قال ((الحمد لله الذي ميّز نفسه عن كل الكائنات الأخرى، أنّه وحده “معنى” كل الظهورات الإلهية)). يقول دي ساس الذي يقتبس هذا المقطع: ((تعبير “معنى” مقدّس بشكلٍ خاص لدى الأنصارية [النصيريين] حتى في الوقت الحاضر. إنّه يشير إلى اللاهوت المستتر بالصورة البشرية))[[10]].

ومن خلال رغبتهم في التأكيد على ألوهية علي، ينكر النصيريون أنّه من لحم ودم. ويعتقدون أنّه ظهور نوراني. وتتضح هذه النقطة في كتاب التعليم، حيث يُطرح السؤال التالي: ((س: إن كان مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الله فكيف تجانس مع المتجانسين؟… الجواب: إعلَم أنّ مولانا أمير المؤمنين لا يتجانس مع المتجانسين، بل أنّه احتجب بمحمد في كَوره ودَوره وتَسَمّى علياً))[[11]]. بمعنى آخر، كان علي “غلافاً” للإله، وكان هذا الغلاف محتجب بغلاف آخر، وهو محمد، الحجاب[[12]].

ولكن إذا كان علي لا يعتبر جسداً ودم، فكيف ننظر لحقيقة أنّ معظم علاقات علي الشخصية وردت مفصّلة ضمن في الكتابات والنصوص النصيرية؟ فهي تتحدّث عنه باعتباره رجلاً هاشمياً من كِلا طرفي عائلته. وقد وردت أسماء إخوته _حمزة وجعفر وطالب وعقيل_ وتمّت تسمية أبنائه الحسن والحسين_ وبناته _زينب وأم كلثوم_ وورد وصف قبره بالقرب من الكوفة في العراق[[13]]. ويرد تفسير هذا التناقض الظاهر في السورة الرابعة عشرة من “كتاب المجموع”، بعنوان “البيت المعمور”. جاء فيها: ((بِسِر طالب وعقيل وجعفر الطيّار هم أخوة علي بن أبي طالب نورٌ من نور، وجوهرٌ من جوهر. وعلي بن أبي طالب مُنَزّهٌ عن الأخوة والأخوات والآباء والأمهات أحداً أبداً، موجود باطن بغير غُمود. سِرّ البيت وسقف البيت وأرض البيت وأربع أركان البيت. أمّا البيت فهو السيد محمد وسقف البيت وأربع أركان البيت)). حسب هذه السورة، إنّ إخوة علي، على غرار علي نفسه، هم نور من نور، وجوهر من جوهر. وعلي تعالى عن الأخوة والأخوات والأبوّة والبُنُوّة. فهو أزلي أبدي موجود أبداً. إنه خفيّ لكنه غير محجوب، بمعنى أنه، إنّه خفيّ بطبيعة جوهر ألوهيته. إنّه سرّ البيت، والسقف، والأرض، والركن الصلب، أي أنه كل وجميع أفراد البيت، أو عائلة النبي، الذين يؤلّفون _معه_ وحدة إلهية متفرّدة[[14]].

يشير كتاب “الهَفت الشريف” المنسوب للمفضل بن عمر الجُعفي نقلاً عن الإمام جعفر الصادق بوضوح إلى أنّ الأئمّة، وعلى رأسهم علي، ليسوا خاضعين لقوانين الطبيعة والحياة والموت التي تنطبق على باقي أفراد الجنس البشري. فحسب الإمام الصادق، عندما يريد الله إظهار إمام، فإنه يرسل روحاً من عنده فيدخل في الإمام المستقبلي، وبذلك يتطهّر من كل دَنَس  أو خطيئة[[15]]. وحسب كُتيّب التعليم النصيري الذي حصل عليه كارستين نيبور، من الواضح أنّ النصيريون يؤمنون بأنّ محمداً، و فاطر [فاطمة]، إلى جانب الحسن والحسين ومحسن (أبناء علي الثلاثة من زوجته فاطمة، ويقال أنّ محسن مات وهو في بطن أمّه)، هم في الحقيقة شخصٌ واحد، جميعهم علي [المعنى][[16]]. وهؤلاء الخمسة يؤلّفون ما يسمّى “بأهل الكِساء”، أي أسرة النبي، ويعتقد العَلَم الشيعي المتشدّد الشُعَيري أنّهم كائنات إلهية قدسية[[17]]. في هذا الصدد، الفرق الوحيد بين النصيريين وأتباع الشُعَيري هو أنّ الأخير يعتبر علي من بين الخمسة، في حين أنّ النصريين يعتبرون محسن الخفي هو الشخص الخامس، ويعتقدون أنّ هؤلاء الخمسة يشكّلون وحدة إلهية واحدة ترمز لعلي.

ويتجلّى اعتقاد النصيريين بألوهية علي في استخدامهم للألقاب والأسماء الكثيرة التي ترد في الكتاب المقدس والقرآن منسوبةً فقط لله. لقد ذكرنا سابقاً أنّه وفقاً لمصادر نصيرية، فإنّ المعنى والاسم والباب لهم أسماء ثلاثية: مَثَلية، وذاتية، وصِفاتية. لكنّ دراسة متأنّية للمصادر النصيرية تبيّن لنا أنّ جميع هذه الأسماء لأشخاص الثالوث النصيري الثلاثة تشير إلى علي، وله وحده.

خلال الفترات السبعة لظهوره في صورة البشر، حمل علي عدّة أسماء، بالرغم من كونه كيان واحد. يقول العالم النصيري البارز الخصيبي [توفي سنة 957م] في مقدّمة كتابه “الهداية الكبرى” أنّ هذا الكتاب يحتوي على أسماء رسول الله محمد وأسماء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة والأئمّة من علي وحتى محمد المهدي. ويستأنف الخصيبي قوله بأنّ هناك ثلاثمائة اسم لعلي في القرآن، الأمر الذي يتنافى مع معتقد بقية المسلمين بأنّ لله تسعةٌ وتسعون إسماً هي الأسماء الحُسنى. ويقدّم أمثلة مستنداً إلى القرآن وبالأخص الآيتان 17 من سورة هود: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً}، وسورة النبأ، 1 و2: { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ليبيّن أنّ علياً هو النبأ العظيم[[18]]. ويذكر أيضاً أنّ اسن علي جاء في كتب شيت، وإدريس (أخنوخ)، ونوح، وإبراهيم، وهي كتُب منحولة من دون شك. وبالسريانية، يسمّى “مُبين” (واضح)، وفي العبرية يسمّى “هيولى” (المادة البدائية)، و”الأمين”، و”ثَبات”، و”بَيان”، و”يَقين”، و”إيمان”.

كما يؤكّد الخصيبي أنّ علي يسمّى “إلياس” في التوراه، و”أريا” في المزامير، وأنّ الزَّنج يسمّونه “كيبيا” أو “حَبينا”، تحريف لكلمة “أبونا”، وهو لقب المتروبوليت الإثيوبي، وأنّ الحبشيين يسمّونه “تبريك” (لَعَب بكلمة “بطريق”، أو البطريارك). وفي اللغة العربية يسمّى “حيدرة” (أو الأسد)، لأنه كان بيطش بإخوته الأكبر سناً منه. ويلقّب بأبو الحَسَن والحسين. أبو شِبِر وأبو شَبير (ابني هارون في التراث الإسلامي)، أبو تُراب (لقب أعطاه إيّاه النبي)، أبو النور، وأبو الأئمّة[[19]].

حتى الآن، هذه القائمة من الأسماء تختلف قليلاً عن الأسماء الواردة في “كتاب المشيخة”[[20]]. ولكن، بالإضافة إلى ذلك، يورد الخصيبي أسماء أخرى لعلي، بعضها شائع بين النصيريين وبين تيّار الشيعة الرسمي. يسمّى علي، على سبيل المثال، قسيم الجَنّة والنار، وقاضي الدين، ومُنجز الوعد، ومُهلك الجان الأعظم، وكاشف الكرب، وسفينة النجاة، والقرم الحديد الذي هو في الله أبداً جديداً[[21]].

كما يمنح الخصيبي علي بن أبي طالب لقب أمير النحل (أي المؤمنون الشيعة)، وهي تسمية مميّزة لدى النصيريين وشائعة جداً في كتاباتهم ونصوصهم. ويقيم النصيريون هذه التسمية على أساس حديث قديم منقول عن الإمام جعفر الصادق عن النبي محمد، الذي قال: ((إنّ مَثَلَ المؤمن لكَمَثَل النحلة، أكلت طيباً، ووضعت طيباً))[[22]]. وهذا الحديث عبارة عن ترديد لصدى ماجاء في القرآن {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [سورة النحل: 68]. في هذه الحال، يؤمن النصيريون أنّ المقصود “بالنحل” في هذه الآية هم المؤمنون النصيريون.

ونجد في كتيّب التعليم المزيد من الأسماء التي أعطِيَت لعَلِيّ إلى جانب الأسماء التي ذكرها الخصيبي. فقد أعطيت هذه الأسماء لعلي من قبل العديد من الشعوب بما فيهم العرب، العبرانيين، الهندوس، الأفارقة، الأرمن، الدَّيلَم (سكان المنطقة الجبلية جنوب بحر قزوين)، وحتى الكائنات التي يعتقد النصيريون أنّها كانت موجودة قبل آدم[[23]]. من الواضح أنّ ما أراده الخصيبي وصاحب كتاب التعليم هو التأسيس لاعتراف وإقرار عالمي بعلي كإله لجيمع الأمم والشعوب بما يتّفق مع تأليههم لعلي وإيمانهم بألوهيته.

ومن خلال تلاعب لغوي باسم “علي”، الذي يعني حرفياً “العَلِيَ، العالي”، يقول مؤلف كتاب “الأسوس” أنّ مصطلع علي يعني “أعلى”/”الأعلى”، فوق كل اسم، ويغلب كل اسم[[24]]. من الواضح أن نيّة المؤلّف هنا هي أن يعزو الصفات الإلهية لاسم علي، الذي كان ومايزال مستخدماً عند المسلمين وغير المسلمين على حدٍ سواء، وبدون أيّة دلالات روحية.

وفقاً لما قاله دوسو، ينادي النصيريون ((علي علي الله))، ذاكراً اسم فرقة أخرى من الغلاة، العَلي-إلهية أو الإلهية، واسم “علي الأعلى”[[25]]. ولا يذكر دوسو أي مصادر نصيرية ورد فيها اسم “علي الأعلى”، وبدلاً من ذلك، يشير إلى دي ساس، الذي يصرّح بأنّ هذا الاسم ورد ضمن نص درزي يعالج مسألة ظهور اللاهوت في صورة بشرية[[26]]. بعد ذلك يتابع دوسو مقترحاً تفسيراً اشتقاقياً لهذا الاسم. فهو لا يعتقد أنّه من أصل عربي، لأنّه إذا كان كذلك، فستتم كتابته بصيغة “علي تعالى”، وهو اسم لله يعني “الله الأعلى” باللغة العربية. ويخمّن دوسو أنّ صيغة الاسم “علي الأعلى” مستمدّ من لقب “إيل-إيليون” الإلهي القديم، الذي يعادل اسم “زيوس أوفِستوس” اليوناني، والإله الفينيقي المعروف من قبل اليونانيين باسم “أدونيس”[[27]]. لكنني أرى أنّ منطق دوسو غير مقنع إطلاقاً. فالإمام جعفر الصادق يستخدم اسم “علي الأعلى” في كتاب “الهفت الشريف”، صـ147، إشارة إلى الله ((منتسبين إلى العَليّ الأعلة الذي يظهر)). “الأعلى” هو بالـتأكيد كلمة عربية أصيلة، وهي عنوان السورة رقم 87 من القرآن.

وتكشف دراسة معمّة للنظام العقائدي النصيري عن وجود عناصر فارسية عميقة الجذور تمنح الفرس مكاناً بارزاً ضمن المنظومة العقائدية النصيرية لطائفة علي. وهذه النقطة محورية جداً حساسة لأنّ علي كان عربياً، هاشمياً نقياً مثل ابن عمّه النبي محمد، والأرجح أنّه لم تكن أي علاقة بالفرس أو ملوكهم. ومع ذلك فقد أطلق عليه النصيريون لقب “تاج الأكاسرة”، من خسرو (أحشويرش) كما كان العرب يسمّون الملوك الساسانيين في بلاد فارس[[28]]. ومن بين الأسماء المَثَلية التي أُطلِقَت على علي من آدم إلى محمد المهدي، نجد أسماء ملكين فارسيين هما: أردشير وسابور[[29]].

ويقال أنّ الظهورات السبعة للإله من هابيل إلى علي وقعت في سبع قباب أو قِبَب، بما في ذلك القبّة الإبراهيمية، والقبّة العربية، والقبّة المحمدية، والقبّة الفارسية، التي أظهر فيها علي [المعنى] نفسه[[30]]. يُطلَق على علي في الكتب الفارسية اسم “نُمَير”، وتعني النار[[31]]. وهذه إشارة بأنّ علي مرتبط بالعبادة الفارسية للنار، كما سنرى لاحقاً.

إنّ ارتباط علي بالملوك الفارسيين أكثر من مجرّد مصادفة. إنّها نتيحة محاولة مُتَعَمّدة ومقصودة من قبل الكتاب النصيريين، عكس تفوّق الفرس على العرب من خلال علي، بالقول أنّ ملوك الفرس كانوا الوسيط الذي ظهر من خلالهم علي [المعنى] واسمه وبابه في عالم النور. وهذا ما أشار إليه الطبراني في كتابه “مجموع الأعياد” عند حديثه عن مهرجان النوروز (اليوم الجديد)، الذي تبدأ فيه السنة الفارسية الجديدة، يقول الطبراني: ((وقد كان المولى [علي] عَزّ عِزّه ظهر في ملوك الفرس، وأظهر أسماءه وأبوابه ومراتب قُدسِهِ العالَمَ الكبير النوراني منهم السلام)).

ثمّ يتابع الطبراني قائلاً: ((وقد أوضح ذلك سيّدنا الخصيبي قدّس الله روحه في رسالته وبيّنه في مقالته في السياقة))[[32]].

يناقش الخصيبي في رسالته ظهورات المعنى علي منذ عهد آدم عبر فترات مختلفة، وخصوصاً الفترة الفارسية. ويذكر أنّه في هذه الفترة أو القبّة، أظهر علي (الذي كان آدم نفسه) نفسه بشخص أردشير بن بابك الفارسي أول ملك من ملوم الأسرة الساسانية من نسل خسرو، الملوك الساسانيين، ثمّ أظهر نفسه في شخص سابور، ابن أردشير. بعد ذلك، ظهر علي بين العرب في شخص لؤي ابن كِلاب (سَلَف النبي محمد وابن عمه علي). يشرح الخصيبي أنّ اسم لؤي يعني “الذي يلوي”، مشيراً إلى أنه ألوى الأنوار من أرض فارس إلى أرض الحجاز لظهور المعنى والاسم والباب فيها[[33]].

يشرح الخصيبي كذلك أنه عندما ترك اللاهوت علي [المعنى] الفرس ليُظهِر نفسه بين العرب، خلّف حكمته فيهم ليتمّ تناقلها على التوالي بين ملوكهم، فهم يقومون بالحكمة بمقام المعنى والاسم والباب. ومع ذلك، حدث تغيير في زمن كِسرى [خسرو، أو أحشويرش] أنوشروان، فبسبب كبريائه، عصى الرب محمد، وبسبب معصيته، خسر الفرس ملكيّتهم[[34]].

ما يقصده الخصيبي هو أنّ الملوك الفارسيين كانوا تجسيداً للدين الإلهي، الذي ظهر منذ عهد آدم إلى علي. لكن عندما أظهر علي نفسه في عهد محمد، الذي نزل فيه دين الإسلام، الذي مصدره علي ذاته، نقل علي نور الدين من الفرس إلى العرب. لقد عصى الملك الفارسي أنوشروان الوحي الجديد، وبالتالي فقد حكمه لصالح العرب. ومع ذلك، يحاول الخصيبي تخفيف خسارة الفارسيين للحكم لصالح العرب بقوله أنهم استمرّوا في احتفالهم بعيد النوروز والمهرجان، اللذين أقامهما ملوكهم، تماماً كما يحتفل العرب بالأعياد الثلاث: الفطر وعيد الأضحى وعيد الغدير التي أقامها السيد محمد [الاسم]. كل هذه المهرجانات والاحتفالات سيتم الاحتفال بها حتى ظهور القائم بالأمر، آخر الأئمّة: الإمام المهدي[[35]]. وهذا يعني أنّ الفُرس كانوا قبل كل شيء في الظهور الإلهي لعلي، واسمه، وبابه، ولم يخسروا مكانتهم الروحية، حتى بعد أن أظهر نفسه بين العرب في القبّة المحمدية، وأنّ الفُرس استمرّوا في المحافظة على تراث الإله علي من خلال الاحتفال بأعيادهم الوثنية، التي أصبحت نظير المهرجانات الإسلامية التي أقامها النبي. إلا أنّ هذه النقطة التي أوردها الخصيبي تصبح بلا جدوى عندما ندرك أنّ محمد لم يحدّد عيد الغدير أو يسنّه، وأنّ الاحتفال فيه يؤكّد ادّعاء الشيعة بأنّ النبي عيّن علياً خليفةً له في يوم غدير خُمْ.

وفي فصلٍ خاص من كتابه “رسالة في السياقة”، يبيّن الخصيبي الحكمة الروحية العليا وموقف الملوك الفارسيين، الذين يعتبرهم ظهورات للثالوث النصيري: المعنى والاسم والباب. كما أنّه ينسب شرفاً عظيماً للفرس لأنّ الباب (سَلمان) كان فارسياً، والحكمة التي يمتلكها مستمدّة من الفُرس. علاوةً على ذلك، ظهر الباب/ سَلمان الفارسي، بصحبة الشخصين الآخرين من الثالوث، المعنى والاسم، في مقامين من أول مَلِكَين ساسانيين فارسيين: أردشير ابن بابك، وأبن أردشير سابور. ويؤكّد الخصيبي أنّه من خلال هذه الظهورات، تلقّى الملوك الفرس الحكمة الإلهية، التي ظلّت تنتقل في خط غير متقطّع إلى آخر ثلاثة ملوك منهم، الذين يسمّيهم الخصيبي: شروين، وخِروين، وخسرو. ومضى يقول أنّه من خلال هذه الظهورات، هؤلاء الملوك جاؤوا أيضاً لاحتلال مكان المعنى والاسم والباب، لأنّهم كانوا خُدَّاماً للمعنى علي، وكانوا يمتلكون المعرفة الكاملة به. هذا التصريخ في الحقيقة بالغ الأهمية. ويقصد الخصيبي هنا أنّ الثالوث النصيري، الذي هو جوهر العقيدة النصيرية، أصبح رمزاً للفارسية لأنّ الباب (سلمان) فارسي. كما يشير الخصيبي إلى أنّ الحكمة الإلهية والوحي الإلهي ليسا حكراً على العرب، بل والفرس أيضاً. وخَلُصَ الخصيبي إلى أنّ الربّ عندما ترك الفُرس، أودع حكمته لديهم، ووعدهم بالعودة[[36]].

وبينما يخطئ الخصيبي في اعتباره لهؤلاء الملوك الفارسيين الثلاثة “الثالوث الأخير”، يتّضح أنّه نيّته أساساً كانت إظهار أنّ هؤلاء الملوك الفارسيين يجسّدون الأشخاص الثلاثة للثالوث النصيري. بعبارة أخرى، المعنى علي، والاسم محمد، والباب سلمان الفارسي، ممّا يعني أنّ الفرس جزء من النظام اللاهوتي العَلَوي كما العرب تماماً. وفي الوقت نفسه، يؤسّس الخصيبي للتفوّق الروحي للفرس على العرب بتأكيده على أنّ العرب (والأغلب أنّه يقصد هنا المسلمون السُّنّة)، خسروا السر الإلهي، بينما حافظ الفرس عليه وصانوه: ((وإنّ المولى جلّت قدرته خلّف حكمته في الفرس وانتقل عنهم وهو راضٍ عليهم، وأوعدهم أنّه يعود فيهم وهو الذي قال أنّ الله تعالى أودعكم سِرّاً وأظهر فيكم أمراً ووفّقكم لقبوله وأنّكم ضيّعتموه وأنّ الفُرس حفظته، وهو لمّا اظهر فيهم الغيبة بالنار والظهور بها والنور والظهور به))[*][[37]].

وهكذا، أصبح النظام الديني للفرس، القائم على عبادتهم للنار والنور، بشير الوحي الجديد لمحمد. ويضحى هذا البيان أكثر أهمية عندما نعرف أنّ الخصيبي قال في رسالته “الفقه” التي ذكرها الطبراني: ((فعظّمت الفرس النار وارتقبت الظهور منها، فلذلك الظهور فيهم. فَهي دائماً تقيمها وتبديها وتوقدها وتترقب ظهوره ووعده)). وبما أنّ اللاهوت يتجلّى في صورة المعنى علي، أصبح المعنى علي يجسّد النار وهو إله الفرس، وليس العرب. لقد خسر العرب امتيازاتهم الروحية حسب مذهب الخصيبي عندما رفضوا الإيمان بسر معنوية المعنى علي، بينما حافظ الفرس عليه. ويتمثّل هذا السر في ظهور المعنى علي بالنار والنور، الذي يشبّهه الخصيبي بنار الأجَمَة المشتعلة التي رآها موسى عندما خاطبه الله[[38]].

ثمّ يورد الطبراني حديثاً منقولاً عن المفضّل بن عمر الجُعفي ينقله عن الإمام جعفر الصادق، الذي قال فيه ((كان المعنى عَزَّ عِزَّه في زمن الفرس يظهر في كل عامٍ مرّتين في انقضاء البرد من الحَرّ وانقضاء الحَرّ من البرد، فسُمّي انقضاء البرد من الحر النوروز، وسُمّي انقضاء الحر من البرد المهرجان. واتّخذوهما عيدين لهم وكان المعنى الأكبر إذا ظهر في الأكوار ظهر بالإكليل))[[39]].

كما يبدو التفوّق الروحي للفرس على العرب واضحاً في كتاب تعليم الديانة النصيرية، فيما يتعلّق بالاحتفال بعيد النوروز. ففي السؤال التسعين من الكتيب يسأل عن خبر النوروز، وتكون الإجابة على شكل قصيدة للخصيبي يقول فيها:

نوروزُ حقٌ مُستفيدٌ غانم

متحقّقٌ بولاء أكرم هاشم

يوم أبان الله فيه ظهوره

قبل الأعارب في قِباب الأعاجم

وسما بها نحو السما، فأبصروه

فيها مراجيحاً برأيٍ حازم

ولسلسلٍ فيه ظهورٌ مهيمنٌ

متابعاً لقديمنا المتقادم

فاشرب من الخمر الزلال فإنه

يوم تجلّى نوره بغمائم

يوم الغدير وقد أشار محمد

بالقصد نحو إله رب العالم

ومعنى القصيدة أنّ النوروز هو الحقيقة التي أسّس لها أكثر الهاشميين نبلاً. إنه اليوم الذي أظهر فيه الله [المعنى علي] نفسه في القبة الفارسية قبل أن يظهر في القبة العربية، حيث رفع هذه القباب الفارسية إلى السماء العليا[[40]].

إنّ الأبيات التي أوردناها سابقاً تظهر العديد من المكوّنات الفارسية الكامنة داخل النظام العقائدي النصيري. وكما أشار القس صموئيل لايد محقاً، فإنّها تحتوي على ((أفكار وخيالات جامحة مردّها على الأغلب بعض الفُرس)). ويشير لايد بأنّ هذه الأبيات موجودة ضمن قسم من كتاب المشيخة بعنوان ((ما قاله [الفارسي] أبو علي البصري، خلال إقامته في شيراز في العام 327 للهجرة [938 للميلاد]))[[41]].

إنّ حقيقة أنّ هذه الأبيات تمجّد الفرس وترفعهم فوق العرب تؤكّد لنا على الأصل الفارسي للمفاهيم النصيرية ونظامهم العقائدي اللاهوتي. وكما يشير عبد الحسين مهدي العسكري فإنّ هذه الأبيات تُفشي “التحزّب النصيري تجاه الفرس، وتشير إلى الكراهية (الشعوبية) التي يكنّها غير العرب، وبالأخص الفُرس، تجاه العرب))[[42]].

وقد لاحظ هذا النمط من الكراهية النصيري المرتد سليمان الأذني، حيث يقول في كتابه “الباكورة”: ((وقبلاً لم يقبلوا أحداً من الطوائف الغريبة إلا أن كان من العُجم، لأنّ أهل العُجم يعتقدون بألوهية علي بن أبي طالب نظيرهم وبلا شك سلفاؤهم من العُجم والعراق))[[43]]. ويبدو أنّ الأذني محقّ، لأنّ مؤسس الطائفة النصيرية، محمد بن نصير كان من أصل فارسي.

يظهر العنصر الفارسي الأكثر وضوحاً في الرابطة بين النور والنار وبين ظهور الإله. ويشكّل كلاً من النور والنار جزءاً أساسياً من النظام العقائدي-الديني الفارسي. وقد رأينا سابقاً في وصف مزايا النوروز أنّ المعنى عندما غادر الفُرس ليُظهِر نفسه بين العرب، أودَعَ حكمته عند الفرس ووعدهم بالعودرةإليهم.

وطبقاً للخصيبي، أودع المعنى علي سرّه [ظهوره كإله] مع العرب وأمرهم بالحفاظ عليه وصونه، لكنهم فشلوا في مهمتهم. ومع ذلك، وبعد أن ترك الإله الفُرس حافظوا على ظهوره واستمروا في ذلك من خلال تقديسهم للنور والنار، حيث انتظروا ظهور المعنى من خلالهما[[44]]. وسيكون هذا الظهور، وفقاً لما جاء في كتاب “فقه الرسالة”، بين الفرس لأنّهم لم يُخمدوا النار التي يتطلّعون إلى ظهور الإله منها وتنفيذ وعده الذي وعدهم به أثناء ظهوره بينهم[[45]].

لقد لخّصنا حتى الآن هذه الأبيات لنبيّن المدى الذي بلغه الكتّاب النصيريين وعلماؤهم في تبجيلهم للمعنى علي كظهور من ظهورات الإله، وجعل ظهوره امتيازاً فارسياً حصرياً مرتبطاً بعبادة النور والنار، وهي جزء أساسي من العقيدة الدينية الفارسية. الكُتّاب النصيريون الأوائل، وأغلبهم من أصل فارسي، قاموا بإضفاء الصبغة الفارسية على المعنى علي كإله للسماح للفرس بالتفاخر أمام العرب بأنّ المعنى علي الهاشمي قد أضحى إلهاً “فارسياً”، حيث فقده العرب لعدم استحقاقهم به. إنّ جعل المعنى علي إلهاً فارسياً قد أتاح للفرس فرصة التفاخر به، بالرغم من أنّ العرب، ولديهم نبيّهم محمد العربي، فإنّ الفرس لديهم المعنى علي، الذي خلق محمد من نور ذاته. ومن هنا، يمكن للفرس والنصيريين التفاخر بتفوّقهم الروحي على العرب.

وفي الفصل القادم سنبحث في الثالوث النصيري، وبالتحديد سندرس طبيعة الأقنومين الآخرين من الثالوث، الاسم والباب، وعلاقتهما بالمعنى وببعضمها الآخر.

 


[1]) رسالة التوحيد، علي بن عيسى الجسري، المكتبة الوطنية بباريس Arab MS. 1450, fol. 47. مناظرة الشيخ النشابي، مصدر سبق ذكره، fols. 80-81 و103. وأيضاً لايد، اللغز الآسيوي، صـ133.

[2]) انظر “كتاب تعليم الديانة النصيرية”، المكتبة الوطنية بباريس Arab MS. 6182, fol. 2. وكتاب لايد، اللغز الآسيوي، صـ271. وانظر أيضاً: أبو موسى الحريري، “العلويون النصيريون”، صـ55. وحسب تفسير علي ابن إبراهيم في كتاب “التفسير”، صـ283، النحل هم المؤمنون الشيعة.

[3]) هذه السورة مذكورة في كتاب الأذني “الباكورة السليمانية”، صـ26-27، و”كتاب المشيخة” ضمن كتاب لايد، اللغز الآسيوي، صـ114.

[4]) كتاب المشيخة، صـ205. سلسلة التراث العلوي، ج9، كتب العلويين المقدسة، تحقيق وتقديم أبو موسى الحريري والشيخ موسى، دار لأجل المعرفة، ديار عقل، لبنان، 2008.

[5]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، السؤال رقم 3.

[6]) كتاب المشيخة، صـ206

[7]) المصدر السابق.

[8]) الأذني، كتاب الباكورة السليمانية، صـ46-48. لايد، اللغز الآسيوي، صـ246-248. رسالة البيان لأهل العقول والأفهام ومَن طلب الهُدى إلى معرفة الرحمن، مخطوطة رقم [Arab MS. 1450, fol. 54b] المكتبة الوطنية بباريس، وكتاب الأسوس، مخطوطة رقم[Arab MS. 1449, fol. 54,] المكتبة الوطنية بباريس.

[9]) مسائل أبي عبد الله بن هارون الصائغ، نقلها ابن هارون عن سيّده أبو عبد الله بن حمدان الخصيبي، مخطوطة [Arab MS. 1450, fols. 52-53]، المكتبة الوطنية بباريس.

[10]) De Sacy, Exposé, 1:60

[11]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، السؤال الرابع، مخطوطة [Arab MS, 6182, question 4, fol. 3]، المكتبة الوطنية بباريس.

[12]) كتاب المشيخة.

[13]) المصدر السابق. انظر أيضاً: كتاب تعليم الديانة النصيرية، المسائل 45-48. المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 6182, questions 45-48] ((س45: ماذا تُدعى بالظاهر أم مولانا أمير المؤمنين؟. الجواب: تُدعى فاطمة ابنة أسد ابن هاشم ابن عبد مُناف، ولم يكن في زمانه هاشمي ابن هاشمية غيره. س46: من هم أخوة مولانا أمير المؤمنين؟. الجواب: هم حمزة وجعفر وطالب وعقيل. س47: من هم أبناء مولانا أمير المؤمنين بالظاهر؟. الجواب: هم حسن والحسين وابنتاه زينب وأم كلثوم)).

[14]) الأذني، الباكورة السليمانية، سورة البيت المعمور، صـ30.

[15]) رسالة التوحيد، علي بن عيسى الجسري، المكتبة الوطنية بباريس Arab MS. 1450, fol. 47. مناظرة الشيخ النشابي، مصدر سبق ذكره، fols. 80-81 و103. وأيضاً لايد، اللغز الآسيوي، صـ133.

[16]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، سؤال 21. المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 6182, question 21, fol. 6]. مخطوط كتاب التوحيد، المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 1450, fols. 45-46]

[17]) أبو الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري، كتاب مقالات الشيعة، صـ14-15. والشهرستاني، كتاب المِلَل والنِحَل، ج2، صـ13.

[18]) الشيخ أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، كتاب الهداية الكبرى، موجود في كتاب هاشم عثمان، العلويون صـ229-297، وخصوصاً 229 و230.

[19]) السابقق، صـ230-231. وانظر أيضاً، ابن بابويه، معاني الأخبار، صـ59-60.

[20]) كتاب المشيخة، ضمن كتاب لايد، اللغز الآسيوي، صـ115.

[21]) الخصيبي، كتاب الهداية الكبرى، في كتاب هاشم عثمان، العلويون، 231-232.

[22]) السابق، صـ230. كتاب الهَفت الشريف، صـ93. وكتاب المشيخة، ضمن كتاب لايد، اللغز الآسيوي، صـ87-88. الأسئلة 45 و50 من كتاب تعليم الديانة النصيرية، مخطوط المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 6182]، ومعظم السُوَر في كتاب المجموع.

[23]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 6182, questions 43 and 50]، كتاب المشيخة، في كتاب اللغز الآسيوي، صـ115، والسورة الأولى من كتاب المجموع “الترابية” أو “الفتح الأول”

[24]) كتاب الأسوس، المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 1449, fol. 42b]. وأبو موسى الحريري، العلويون النصيريون، صـ59.

[25]) Dussaud, Histoire et Religion des Nosairis, 51

[26]) Ibid., 5 1 -5 2 ; and D e Sacy, Expose, 1:31—32

[27]) Dussaud, Histoire et Religion des Nosairis, 52. ليس هناك أي دليل يؤكّد لنا أنّ فاطمة ابنة النبي زعمت أنها قدسية وأطلقت على نفسها لقب “العلي الأعلى”. انظر: Corbin, Cyclical Time and Ismaili Gnosis, 145-46, n. 214.

ويقول ابن بابويه في كتابه “معاني الأخبار” أنّ الله استمدّ اسمه “العَلي الأعلى” من اسم علي بن أبي طالب.

[28]) Lyde, The A sian Mystery, 115.

[29]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، المكتبة الوطنية بباريس، [Arab MS. 6182, question 14, fol, 5]

[30]) كتاب المشيخة ضمن كتاب لايد، اللغز الآسيوي، صـ118. وكتاب تعليم الديانة النصيرية، المكتبة الوطنية بباريس [Arab MS. 6182] السؤال الخامس.

[31]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، السؤال 43.

[32]) Al-Tabarani in Catafago, “N o tic e s Sur Les Anser iens,” 161—62.

[33]) Ibid, 161-62.

[34]) Ibid., 163.

[35]) Ibid.

[36]) Ibid., 164—65. انظر أيضاً العسكري، العلويون والنصيرية، صـ104-105

[37]) الطبراني، كتاب مجموع الأعياد، عنى بتصحيحه رودولف شتروتمان، المجلّد 27 من مجلة “الإسلام”، هامبورغ 1943-1944، صـ190.

[*] للاطلاع أكثر عن هذه النزعة الشعوبية عند الفرس راجع مقال ((المكوّن الفارسي في العقيدة النصيرية-العلوية: كتاب “مجموع الأعياد” أنموذجاً)) لمَئير بار-آشِر وآرييه كوفسكي، ترجمة إبراهيم قيس جركس، منشور على الموقع:

http://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%88%D9%91%D9%86-D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A9/#_edn3

 

[38]) الطبراني، كتاب مجموع الأعياد، صـ203

[39]) الطبراني، كتاب مجموع الأعياد، صـ202.

[40]) كتاب تعليم الديانة النصيرية، السؤال 90

[41]) Lyde, The A sian Mystery, 137—38.

[42]) العسكري، العلويون والنصيرية، صـ105

[43]) الأذني، الباكورة السليمانية، 81-82

[44]) الطبراني، كتاب مجموع الأعياد، Catafago, “Notices Sur Les Aseriens,” 165

[45]) السابق، صـ167. وكتاب مجموع الأعياد نسخة شتروتمان، صـ190. ولايد، اللغز الآسيوي، صـ292.