مجلة حكمة
أفول التفلسف الأيوني مطارح سقراط وأفلاطون

أفول التفلسف الأيوني: قراءة في أطاريح أمبادوقليس، أنكساغور، لوقيبوس، ديموقريط، ديوجين، أرخيلاوس، هيبو، ميطرودور – د.الطيب بوعزة


-1-

… بل أسقطساط أربعة لا أسطقس واحد، يقول أمبادوقليس.

بذور لانهائية العدد ممتزجة في خليط بدئي، يقول أنكساغور.

 ذرات لانهائية العدد، بشكول مختلفة، تسبح في فراغ لانهائي، يقول لوقيبوس وديموقريط .

إنَّه أمر ملفت للنظر أن تتشارك هذه الفلسفات المتزامنة، وتتعاضد لتوطيد الاعتقاد ذاته المرتكز على  تعديد الـ”أرخي” ([1]) (المبدأ/الأصل) وتكثيره، ضدًا على الأنطولوجيا الإيلية، ومغايِرةً للتوحيد الملطي.

وهو أمر يستوجب الاستفهام عن الحوافز والإشكالات المعرفية، التي اضطرت هؤلاء الفلاسفة، إلى إجراء هذا التعديل الجوهري في النظرية الملطية التي اكتفت، في منحاها العام، بتعيين الكلي في مبدأ واحد.

فما الذي جرى في مجرى العقل الإغريقي؛ حتى اضطره إلى هذا التعديل في الرؤية الأيونية إلى العالم، بدءًا من منتصف القرن الخامس؟

وما هي الحصيلة النظرية لهذا التعديل على مستوى تطوير التفلسف؟

هل سيثمر دفقًا جديدًا يحرك نموذج التفكير ما قبل السقراطي، أم سيكون نهاية تعلن أفوله، مؤذنة بوجوب الانتقال إلى نموذج في النظر الفلسفي جديد؟

-2-

شهد منتصف القرن الخامس (ق م)  محاولة تعديل في أساس التفلسف الملطي. صحيح أنَّ هذا التفلسف اشتغل، منذ لحظة نشأته، بحسِّ الإبداع والمغايرة؛ حيث بيَّنَّا في كتابنا “الفلسفة الملطية“، كيف أنَّ الملطيين الثلاثة لم يكونوا  نسخًا “كربونية” متشابهة،  بل خالف أنكسيمندر طاليس بتغيير المبدأ/الأصل من الماء إلى الـ”أبيرون”،  وخالفهما معًا ثالثهما أنكسيمنس الذي عيّن الـ”أرخي” في الهواء؛ ولكن رغم ذلك، فإنَّ حسَّ الإبداع لم يمس طريقة التفكير في ماهيتها المنهجية، بل مسَّ ثمار إجراء تلك الطريقة ونتاجها؛ حيث ظلَّت مشدودة إلى لحاظٍ يحرص على إرجاع الكثرة إلى الواحد. بينما نرى في هذه اللحظة الجديدة التي نؤرخ لها بهذا الكتاب، قلبًا لهذا الثابت الملطي؛ حيث يقوم النهج الجديد على إرجاع الكثرة إلى الكثرة لا إلى الواحد.

فما الذي اضطر أهل النظر إلى سلوك هذا المسلك الجديد في تفسير العالم؟

منذ بداية تكوين التفكير الفلسفي الملطي، نلحظ أنَّ مشروعه في تفسير العالم اصطدم بمشكلة الموازنة بين الهوية والاختلاف؛ حيث إنَّ القول بأنَّ عنصرًا واحدًا تكونت منه جميع الكائنات على اختلافها، طرح مشكلة على مستوى الاستدلال. وهو ما نلمس محاولة معالجته في أواخر نتاجات الفكر الملطي، حين اضطر أنكسيمنس إلى ابتداع نظرية التكثيف والتخلخل، لتفسير واحدية الهوية واختلاف الكينونات الناتجة عنها. وهو ما نلحظه أيضًا في نظرية اللوغوس الهيراقليطية التي جعلت الاختلاف محايثًا للمبدأ/الأصل، فتخلصت من ثمَّ من مشكلة تباين الهوية الأصلية مع الكثرة المختلفة الناتجة عنها.

لكن مع ذلك، بقي يهجس بداخل الوعي الأيوني هاجس خادش لمعقولية التفسير:

حقًا، كيف يمكن للماء أن يصير نارًا؟

وكيف يمكن للنار أن تتحول إلى ماء وتراب؟

وكيف يمكن أن يتحصل من مَسْكَةِ هواء، صخر جلمود؟

كانت هذه الهواجس من بين الأسباب التي اضطرت أمبادوقليس إلى تكثير المبادئ، فخلص إلى تفسير الاختلاف بتعديد الهوية لا بتوحيدها. وهو ما نلحظه أيضا عند معاصره أنكساغور الذي أصر على تقديم الأصل كتعدد هوياتي، مضيفا بأنَّ الفصل الماهوي ([2]) يستحيل حصوله حتى بعد تدخل ال”نوس” الذي أحدث الفصل في الخليط البدئي فتكون العالم، حيث لا زال ،وسيبقى، في كل شيء مقدار من كل شيء؛ إذ إنَّ قوله في الشذرة السادسة (ب6): “لا شيء يمكن أن يكون مفصولًا أو يصير مستقلًا، ولكن كل الأشياء، كما في البداية، لا تزال مجتمعة معًا الآن([3])، وتوكيده على أنَّ الـ”أرخي” بذور لانهائية العدد، دليل على انشغاله بمسألتي الهوية والاختلاف، ومحاولة لتجاوزها، بجعل الاختلاف محايثًا للهوية ذاتها([4]). وهكذا قدَّم، مثله مثل أمبادوقليس، حلًّا للإشكال على أساس تكثير الأصول، لا توحيدها.

وهذا التكثير الذي بدا صريحًا في نظرية الأسطقساط الأربعة عند أمبادوقليس، وفي بذور أنكساغور، هو ما  يبدو أيضًا عند الأبديريين، لوقيبوس وديموقريط، اللذين “ابتدعا” نظرية الذرة([5])، حيث قالا بأنها لانهائية من حيث العدد، ومختلفة من حيث الشكل.

وعليه؛ يمكن رسم خط تطور نظرية الـ”أرخي”، بالقول إنَّ التفلسف الملطي قدم تنظيرًا رسم وجهة تفسير العالم بالبدء من الكثرة للخلوص إلى الواحد/الأصل؛ فاستلم الفكر، في هذه اللحظة التي نؤرخ لها، ذلك التنظير الملطي؛ فغيَّر رسم مساره بالقول: من الكثرة إلى الكثرة، بدلًا من الكثرة إلى الوحدة.

-3-

غير أننا لا نرى هذا سوى تغيير في ترسيم مسار التفسير، و ليس نفيًا جذريًا له؛ إذ ظلَّ أمبادوقليس وأنكساغور والأبديريان([6]) ينتهجون النزوع الأيوني، رغم التجديد الذي أجروه على نظرية المبدأ/الأصل (الـ”أرخي”). كما أنَّه لا يمكن فهم هذا التطوير دون استحضار ذلك المستجد الفلسفي الصادم لنمط التفلسف الملطي، أعني المستجد الإيلي؛ حيث إنَّ معالجة إشكالية الهوية والاختلاف، كانت تجري في سياق جدل نظري مع المدرسة الإيلية، سياق اضطر أولئك الفلاسفة إلى ابتداع فكرة تكثير الأصول. إذ حاولوا تجاوز النفي الإيلي للاختلاف وما يتصل به من نفي الحركة. أي تجاوز الإشكال الذي أسسته ببراعة الأنطولوجيا البرمنيدية.

أجل، إنَّ تفسير هذه المرحلة الفكرية المهمة في صيرورة العقل الإغريقي، لا يمكن أن يتحصل من دون استحضار الأشكلة الإيلية؛ إذ كل هؤلاء الفلاسفة الذين جاؤوا لاحقين لبرمنيد، استشعروا ثقله، وعانوا من قوة  استشكالاته التي أحرجت عقلهم الأيوني إحراجًا بالغًا. وقد سلف أن لاحظنا، في كتابنا “كزينوفان والفلسفة الإيلية“، كيف أنجز الإيليون نقلة نوعية بمفهوم الـ”إيون”. تلك النقلة التي وصفناها بأنها ثالث نقلة فلسفية كبرى، بعد نظرية الـ”فيزيس” التي بلورتها الفلسفة الملطية، ونظرية “الكوسموس” التي ابتدعتها الفيثاغورية. كما أشرنا إلى أنَّ اتجاه الفلسفة الإيلية كان نفيًا جذريًا لنمط التفلسف الملطي/الأيوني؛ حيث نفت التغير والكثرة، فنزعت بذلك مشروعية القول الفلسفي في الكون كتعدد وصيرورة.

وحاصل استحضار هذه الصيرورة أنَّ فلاسفة النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، استلموا مشكلتين كبيرتين:

الأولى: قصور التفلسف الملطي عن تفسير الاختلاف بواحدية الأصل.

والثانية: نفي الاختلاف نفيًا مطلقًا. فانتفى بالتبع كل مسار التفكير الملطي القائم على الاعتراف بالكثرة ومحاولة تعليلها بإرجاعها الى الواحد.

إنها لحظة أشكلة عميقة أسستها ببراعة تلك الفلسفة اليانعة في المجال الإيطالي، التي فاجأت العقل الأيوني بنقدٍ جذري هزَّ كيانه النظري القائم على الاعتراف بموجودية الكثرة والتغير؛ فانتهى الأمر إلى نفي جدوى نمطه في التفكير من أساسه. حيث ألغى برمنيد، بمقولة الـ”إيون” (أي الوجود الضروري)([7])، جدوى الاستفهام، الذي يقال بأنَّه كان شاغل النظر الملطي، أي الاستفهام عن أصل الوجود/العالم، ومآله.

ومن الطبيعي أن ينظر الأيونيون بشيء من الاستثقال لهذا الوافد الجديد، الذي دمَّر أساس الحكمة الأيونية وألغاه، مؤسسًا لنمط آخر من التفكير يرنو إلى بناء فكر جديد، بسؤالات نوعية تقع خارج مجال النظر الملطي/الأيوني. ومن الطبيعي أيضًا أن لا يستسلم الأيونيون بسهولة لهذا الفكر، وأن يحاولوا استعادة سؤالهم الملطي من جديد للنظر في إمكانه النظري؛ لعله يثمر جوابًا يتجاوز الأشكلة البرمنيدية العصية. لكن تلك الاستعادة كانت مرغمة على تبديل الأساس المفهومي، الذي ارتكز عليه فكرهم الملطي الأيوني السابق تبديلًا عميقًا، وذلك بجعل المبدأ/الأصل كثرة لا وحدة.

-4-

 لكن إذا نظرنا إلى ما جاوز هؤلاء المجددين (أمبادوقليس، أنكساغور، لوقيبوس، ديموقريط)، سنلحظ أنَّ مشاريعهم الفلسفية لم تكن دفقًا قادرًا على ضمان استمرارية  نمط التفلسف الأيوني؛ بل إنها كانت منتهى قدرة إبداع ذلك النمط في التفكير، وخاتمة مؤذنة بأفوله.

ودليل ذلك، أنَّه إذا استبقنا التحليل بوضع لحاظ منهجي جامع، فيصح في تقديرنا القول بأنَّ ثمة مسارين اثنين سار فيهما التفلسف في هذه اللحظة التاريخية، التي تبتدئ من منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وتنتهي عند لحظة سقراط. ونعني بذينك المسارين:

  • مسار إعادة بناء جديدة لنمط التفلسف الأيوني وفق أساس التكثير.

  • ومسار التقليد المعلن بمحاكاته عن نهاية ذلك النمط وافتقاده للقدرة على الإثمار المبدع.

وبالتعداد الرياضي؛ فإنَّ ماصدق البحث في هذين المسارين، هو ثمانية فلاسفة تشاركوا في محاولة استعادة التفلسف الأيوني، ومجاوزة الأشكلة الإيلية؛ كان لأربعة منهم عطاء نظري إبداعي تأسيسي، بينما اقتصر أربعة آخرون على استعادة المحصول الملطي/الأيوني السابق بلحاظ التقليد.

أما أصحاب النظر الإبداعي التأسيسي؛ فهم من أشرنا إليهم سابقًا، أي: أمبادوقليس، وأنكساغور، ولوقيبوس، وديموقريط.

وأما الذين كانوا علامة على النهاية الفعلية للتفلسف الأيوني بنزعتهم التوفيقية التقليدية؛ فهم:

ديوجين الأبولوني، وأرخيلاوس الأثيني، وهيبو ([8])، وميطرودور اللامباسكي.

غير أنَّ هذا الجمع والتصنيف لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن دقائق التمايزات الملحوظة بينهم. فإنْ كانوا قد تشاركوا في محاولة استعادة التفلسف الملطي/الأيوني، وتجاوز الحاجز الإشكالي الإيلي؛ فإنَّ هذه الاستعادة وتلك المجاوزة لا تعنيان الاتفاق على كيفية الإجراء ومحصوله، بل ثمة اختلافات دقيقة تفصل بينهم. كما أنَّ ثمة خيارات منهجية في تأسيس الرؤية إلى العالم تجعلهم متباينين في التنظير لماهية انتظام الوجود (العالم)؛ وآية ذلك أنَّ بعضهم – أعني بشكل خاص لوقيبوس وديموقريط – أسَّس لقراءة ميكانيكية للوجود، حاولت بناء رؤية إلى العالم، اعتمادًا على مبادئ طبيعية محايثة للكينونة؛ بينما جَانَبَ بعضٌ آخر تلك الكيفية في القراءة، مبلورًا نظرية تعلل انتظام كينونات العالم بمبدأ تجريدي مفارق. وهو ما يبدو عند أنكساغور، الذي ابتدع لحاظًا جديدًا بمقولة “النوس”؛ فكان مغايرًا للتفسير الذري القائم على الضرورة المادية.

ثم إذا تأملنا هذا الحدس المتفرد الذي بدا عند أنكساغور، في ابتداعه نظرية العلَّة العاقلة، والتجديد النوعي الذي تمثله نظرية الذرة الأبديرية؛ فإنَّ ذلك يكشف عن أنَّ حاصل استعادة نمط التفكير الأيوني يستبطن اختلافًا في دقائق النظر وتفاصيل محاصيله. وعليه؛ ينبغي أن نحترس حتى لا يؤول التصنيف إلى تعليب يلغي الخصوصية ويمحو الفرادة. ولا يتحصل هذا الاحتراس إلا بالانتقال من الإشكالية الكلية الجامعة بين هؤلاء الفلاسفة، إلى دراسة الإشكاليات الجزئية التي تخص كل واحد منهم.

ولتحقيق هذا المطلب الأولي؛ نحتاج إلى إيضاح مناط البحث، وهذا لا يتحصل إلا ببناء المستوى الإشكالي، عن طريق تحديد دقيق للمسائل التي تستوجب الدرس، وتأسيس الفرضيات التي نحتاجها لقراءة ناتج الفكر الإغريقي في هذه اللحظة المفصلية في تطوره.

فما هي سؤالات البحث؟

-5-

التزامًا بالترتيب الزمني؛ سنبدأ كتابنا هذا بدرس فلسفة أمبادوقليس، أما عن وجهة البحث وإشكاليته؛ فإنَّنا لن نتوسع فقط في إيراد وإيضاح أفكار فيلسوف أكراغاس([9])، بقصد استكمال النقص الذي تشهده الكتابة العربية فيما يخص هذا الفيلسوف بالذات، حيث كانت جد مقلة في الاهتمام به؛ بل سنحرص على مدارسة أهم إشكالية في الدراسات الأمبادوقليسية([10]) وهي مدى أصالة وفرادة أطروحته المعرفية.

ومقصودنا ببحث مسألة الفرادة، راجع إلى أنَّ المشروع الفلسفي لأمبادوقليس قائم على نهج التوفيق. وهو النهج الذي جعل كثيرًا من الفلاسفة والمؤرخين ينظرون إليه كحاطب ليل لم يفعل سوى جمع ما تفرق واختلف عند سلفه. وهو الموقف الذي لم أجد له ما يقنع بانتهاجه؛ حيث تبينت لي إمكانية إجراء لحاظ آخر، يعترف بتوفيقية أمبادوقليس، دون أن ينفي أصالته في التأسيس النظري.

فكيف ينبغي اختبار هذا اللحاظ وتطبيقه على الفلسفة الأمبادوقليسية، ونحو أي وجهة ينبغي توجيه بناء الإشكال وتفكيكه؟

إنَّ القول بأنَّ أمبادوقليس انتهج التوفيق والجمع بين الأطاريح الفلسفية التي سبقته، إشارة ضمنية إلى وجوب توجيه البحث نحو اختبار درجة الانسجام النظري في هذا المشروع التوفيقي؛ حيث إنَّ التركيب بين محاصيل معرفية متباينة مختلفة، لن ينجح إلا بتأسيس صيغة ترفع الاختلاف أو تصهره في منظور جديد. وإذا كان أمبادوقليس قد أنجز ذلك، فمعنى ذلك أن توفيقيته ليست تلفيقية؛ بل تحويل نظري استطاع تمثل التراكم المعرفي السابق، وإنتاج صيغة نظرية قادرة على الجمع والتوليف؛ للاستواء كنسق.

لكن أَنَّى لنا الحديث عن تحقيق أمبادوقليس للانسجام في التركيب النظري بين نواتج العقل الفلسفي السابق، بينما ثمة حديث متداول في الدراسات الأمبادوقليسية، يفيد بأنَّ فيلسوف أكراغاس عجز حتى عن التوفيق بين أفكاره هو! وآية ذلك انصراف أكثر من دارس إلى توكيد التعارض بين قصيدتيه “التطهيرات” و”الطبيعة([11])؟!

تلك هي الإشكالية التي نراها حقيقة بالبحث لإدراك دلالة الفلسفة الأمبادوقليسية، وتبين مقدار قيمتها.

-6-

وبالانتقال من أمبادوقليس إلى أنكساغور، يمثل أمامنا ذاك الرجل الذي كان “الوحيد الذي احتفظ بعقله في وسط من المجانين الذين سبقوه([12])، على حد قول أرسطو في متن “الميتافيزيقا“! ومناسبة إطلاق هذا التقريظ، من قبل المعلم الأول – الذي كان شديد الاستعلاء على من سبقه من الفلاسفة – هو ابتداع أنكساغور للعلة العاقلة (“النوس”). غير أنَّ هذا الإبداع ، الذي كان محلَّ التقريظ من قبل أرسطو، وكذا من قبل أفلاطون، هو ذاته الذي كان محلَّ النقد والمؤاخذة من قِبَلِهما. إذ بعد أن سرد لنا أفلاطون، في محاورة “فيدون” لحظة انبهار سقراط عندما سمع قارئًا يتلو من كتاب أنكساغور قوله: “الـنوس (العقل) هو أصل جميع الأشياء“، سارع إلى القول بأنَّ سقراط انتابته خيبة عظيمة لما أخذ الكتاب وبدأ في قراءته؛ لأنَّه تبيَّن له أنَّ أنكساغور نفسه لم يقدر قيمة إبداعه، فتناسى الـ”نوس”، وبدأ في تفسير الكوسموس بالطريقة الفيزيائية ذاتها التي فسَّر بها الفلاسفة الملطيون.

وما انتهت إليه القراءة الأفلاطونية، أي ضمور القيمة الإجرائية لمفهوم النوس في النسق الفلسفي الأنكساغوري، هو ذاته ما انتهى إليه أرسطو أيضًا؛ حيث نقرأ في متن “الميتافيزيقا“، قوله بأنَّ أنكساغور الذي ابتدع مفهوم النوس، لم يحسن توظيفه، بل وضع في حالات عديدة “أي شيء كعلة باستثناء الفكر (الـ”نوس”)”([13]).

وإذا ما نحن قبلنا بهذا النقد الأرسطي؛ فيصح لنا أن نقلب عبارة التقريظ السابقة، فنقول إنَّ ذاك الذي يزعم أرسطو أنَّه احتفظ بعقله في وسط من المجانين، كان أَجَنَّ منهم جميعًا؛ إذ سرعان ما فقد عقله، وصار يضع أيَّ شيء علة باستثناء العقل!

لكن مهلًا، أَحَقًّا لم يبصر أنكساغور قيمة نظرية النوس؛ فأضعف قدرتها الإجرائية في تفسير العالم؟

إنَّ فرضيتنا في معالجة هذا الإشكال الجوهري في الدراسات الأنكساغورية([14]) هو أنَّ النقد الأفلاطوني /الأرسطي – الذي نراه قد تكرر في كثير من الكتابات الفلسفية اللاحقة – لم يكن يطلب الأجرأة الأنكساغورية لمفهوم النوس، بل كان يطلب أن يستعمل فيلسوف كلازومين مفهومه هذا وفق الطريقة التي يبتغي كل من أفلاطون وأرسطو أن يجرى الاستعمال وفقها!

وعليه؛ فإنَّ أطروحتنا تتجاوز الزعم الأفلاطوني/الأرسطي القائل بأنَّ ثمة عطالة في الإجراء الوظيفي للـ”نوس” في الفلسفة الأنكساغورية، للبحث في كيفية تمثل أنكساغور لمعنى تلك الوظيفة وكيفيات أدائها. وسيكون مرتكزنا في البحث هو التمييز بين الحضور المفارق للنوس وبين حضوره المحايث كقانون ناظم للكينونة.

-7-

وبعد أمبادوقليس وأنكساغور يتمهد الطريق إلى بحث الفلسفة الذرية التي جاء بها لوقيبوس وديموقريط. تلك الفلسفة التي قلنا بأنها أعادت تأسيس نمط التفلسف الأيوني بطريقة إبداعية بدلت في أساسه المفهومي، تبديلًا جذريًا. حيث ابتدعت نظرية الذرة، وبررت إمكان الحركة بموجودية الفراغ، على نحو جاوز الاعتراض الأنطولوجي الإيلي القائم على رؤية اتصالية تقول بفكرة امتلاء الوجود ونفي الحراك.

أما محل الاستشكال في الفلسفة الذرية؛ فيتعدد مجاله ويتفرع:

وسيكون البدء بإجراء منهجي لبناء المبحث، يقوم على عدم فصل لوقيبوس عن ديموقريط، بإفراد موقفه الفلسفي بدراسة مستقلة؛ حيث سنقتصر على تخصيص لوقيبوس بمبحث الهوامش، ووجيز في شأن الشذرة الوحيدة المتبقية من مكتوباته([15])؛ ولن نفرده ببحث يُبِينُ عن فلسفته، كما تفعل بعض كتب تاريخ الفلسفة؛ لأنَّنا نرى أنَّ تمييز إسهامه عن إسهام تلميذه (ديموقريط) مطلب يستحيل إنجازه؛ لعدم إمكان التمييز بين ما له على وجه التخصيص، وبين ما هو من إضافة  تلميذه على وجه التعيين. وإذا أضفنا هذا إلى دعوى النحل والسرقة التي نعت بها تعامل ديموقريط مع النتاج الفلسفي لأستاذه؛ فإنَّ الجمع بينهما في بيان الفلسفة الذرية نراه أقوم طريق إلى كتابة تاريخ تلك الفلسفة باحتراس وأمانة.

غير أنَّ الإشكال السابق (هل ينبغي إفراد فكر لوقيبوس بالدرس، مع فصله عن فكر ديموقريط، أم ينبغي الجمع بينهما؟)، ليس سوى تعيين لمجال البحث،  أما محتواه؛ فهو أكثر أهمية وأولى بإسهاب القول فيه.

وأول سؤالات المحتوى يخص دلالة الذرة ذاتها:

هل هي معطى مادي، أم جوهر روحي؟

وفرضيتنا هي نفي  الدلالة الروحية عن الذرة. غير أنَّ توكيد تلك الفرضية يستلزم بحثًا دلاليًا، فضلًا عن مدافعة تأويلات مخالفة. ومسوغ هذا الإشكال هو أنَّ نفي الدلالة الروحية معترض عليه باللفظ الذي استعمله ديموقريط نفسه، لوصف ذرته، وأعني به لفظ “أيديوس” الذي يعني من بين ما يعنيه في اللسان الإغريقي “الفكرة”؛ إذ كيف يجوز وصف الذرة الديموقريطية بأنها مادية، بينما توصيفها في الشذرات يفيد مدلولًا روحيًا (أيديوس)؟!

وإذا قلنا إنَّ الفلسفة الذرية كانت، مثلها مثل كل الفلسفات الناشئة في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، محكومة بالإشكالية الإيلية؛ فلا بدَّ أن ندرس موقفها من مفهوم الفراغ، لنتبيَّن كيف استطاعت أن تتجاوز الاعتراض الإيلي الذي نفى الأساس الأنطولوجي لإمكان الحركة، بتسفيه أي قول يعتقد بوجود اللاوجود. ومعلوم أنَّ محورية مفهوم الفراغ لا تقل عن محورية مفهوم الذرة في النسق الفلسفي الأبديري، إلى درجة أن أبيقور لما تأمل في الوظائف التي أعطاها ديموقريط لذلك المفهوم، نعته بـ”ليوكريط”، أي بائع الفراغ، الذي ملأ بمهارة “كل” الثقوب الإشكالية التي أقامتها الفلسفة الإيلية!

وبحث النظرية الذرية الإغريقية يستدعي – ولا بدَّ – سؤال المصدر، الذي استند عليه لوقيبوس وديموقريط لتأسيس تلك النظرية.

وهنا سنكون أمام خيارات ثلاثة:

  • إما تأصيل تلك النظرية الذرية بالعامل الداخلي، فنرجعها إلى فكرة “الجذور” (الأسطقساط) الأمبادوقليسية.

  • وإما تأصيلها خارج السياق الثقافي اليوناني، أي استحضار التأثير الهندي؛ حيث ثبت أنَّ الفلسفة الهندية كانت قد سبقت إلى ابتداع فلسفة ذرية شبيهة في بعض جوانبها بذرية لوقيبوس/ديموقريط.

  • وإما الجمع بين الخيارين معًا.

-8-

وبعد بحث دلالات الفلسفة الذرية وإشكالاتها، سننتقل إلى بحث المسار الثاني، الذي وسمنا استحضاره لنمط التفلسف الملطي/الأيوني بأنَّه استدعاء تقليد واحتذاء، لا تجديد وإبداع.  وهو موضوع ضميمة جمعنا فيها أواخر الفلاسفة الأيونيين، أي: ديوجين الأبولوني، وأرخيلاوس الأثيني، وهيبو، وميطرودور اللامبساكي. والنظر في النتاج المعرفي لهؤلاء الفلاسفة الأربعة يكشف اشتراكهم في انتهاج الموقف الانتقائي التقليدي. وهذا ما يدفع نحو الاستفهام عن سبب انسياقهم جميعًا في ذلك المسار.

كما أنَّ معاينة توقيتهم التاريخي، والنظر إلى اللحظة الفلسفية التي جاوزتهم، أي اللحظة السوفسطائية/السقراطية، يدفع نحو مساءلة من نوع آخر، وهي:

ما سبب أفول العقل الأيوني في هذه اللحظة بالضبط؟

ما الذي جعل هذا النمط في التفلسف يستنفذ كل إمكانه النظري، فلا ينبثق عنه جديد؛ بل يكتفي بالحذو والتقليد؟

لقد سيَّجنا هذه اللحظة التاريخية، التي نبحثها في ما يتلو من صفحات، من منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حتى لحظة سقراط. وهذا التسييج لم يكن اعتباطيًا، ولا هو حاصل تكلف مصطنع؛ بل هو مجرد توصيف لواقع تاريخي. إذ يشير ذلك التسييج إلى الوضعية الزمنية الحرجة التي وجد فيها نمط التفلسف الأيوني، وضعية يصح لنا أن نصفها بأنها لم تكن مناسبة له، ولا مستعدة لاستقباله واستضافته؛ حيث كانت لحظة سقراط إيذانًا بنهاية هذا النمط الفلسفي. وآية ذلك؛ أنَّ حتى أكثر فلاسفة هذه اللحظة اقتدارًا وإبداعًا وتجديدًا، أعني ديموقريط، لم يحظ في هذا الزمن الفلسفي بأي حظوة أو قبول؛ ويكفينا دليلًا قوله هو نفسه: “زرت أثينا وأقمت فيها، ولا أحد عرفني!([16]).

واستحضاري لهذا المقول مقصود؛ للإشارة إلى أنَّه إذا كانت أثينا لم تعرف ديموقريط، أو لم ترد أن تتعرف عليه، فذلك علامة على أنَّ عصره الفلسفي رفض اقتباله. إذ إنَّ أثينا في هذه اللحظة التاريخية صارت المركز الذي انتقل إليه مشعل الفكر الفلسفي؛ ومن ثمَّ فتجاهلها له يعني تجاهله من قِبَلِ كل الزمن الفلسفي المستجد.

وإذا كان هذا مصيرَ ديموقريط، وهو من هو؛ فلا مسوغ للتساؤل عن مصير غيره من الفلاسفة، الذين أصروا على الاستمرار في النهج الفلسفي الأيوني بحسِّ الاتباع والتقليد، مثل هيبو وميطرودور.

ولعلنا لن نبالغ لو قلنا إنَّه يحق لأثينا (اليونان) أن تتجاهل هذا النمط في التفكير؛ لأنها كانت قد بدأت تستشعر حاجة ثقافية جديدة تستلزم فكرًا جديدًا يتحرك خارج المدار النظري الذي اشتغلت فيه الفلسفة الأيونية والإيلية؛ حيث انفتحت أثينا على مدار مغاير هو مدار الأنسنة مع السوفسطائيين وسقراط. ذلك المدار الذي يؤشر على استنزال نظر اللوغوس من سؤال العالم إلى سؤال الإنسان.

صحيح أنَّ أثينا عرفت برمنيد([17])، واحتفت بقدومه؛ لكننا نرى هذا التعرف مسوغًا من حيثية أخرى، وهي أنَّ التفلسف الأثيني في طبعته السقراطية/الأفلاطونية وجد في برمنيد ما يؤسس لمبدأ الواحد الثابت، الذي سيصير لدى سقراط حدًّا ماهويًا، وعند أفلاطون كينونة أنطولوجية مفارقة.

-9-

ذاك قول يستجمع الشخوص الثمانية التي سنتناولها بالدرس في هذا الكتاب، وتلك إلماحات إلى بعض المسائل الإشكالية التي عليها مدار النظر والمفاكرة، للاقتراب من فهم أطاريحهم.

وكتابنا هذا، “أفول نمط التفلسف الأيوني“، جزء سادس موصول بسلسلة “تاريخ الفكر الفلسفي الغربي.. قراءة نقدية“، تلك السلسلة التي أصدرنا منها عبر مركز نماء للبحوث والدارسات، خمسة أجزاء، كان:

أولها: كتاب “في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة” (2012).

وثانيها: كتاب “الفلسفة الملطية، أو لحظة التأسيس” (2013).

وثالثها: كتاب “فيثاغور والفيثاغورية، بين سحر الرياضيات ولغز الوجود” (2014).

ورابعها: كتاب “هيراقليط فيلسوف اللوغوس” (2015).

وخامسها: كتاب “كزينوفان والفلسفة الإيلية” (2016).

واندراج هذا الكتاب السادس ضمن هذه السلسلة، لا يعني فقط انضمام كمٍّ نثري إليها؛ بل ثمة إهاب منهجي يجمعه بها، حيث يتناغم هذا السفر مع الكتب الخمسة السابق ذكرها، من حيث النهج والأدوات المتوسلة. وهو النهج الذي يقوم على إعطاء الأولوية إلى الإنصات إلى  المنطوق الشذري ([18])، واستمداد دلالات دواله، مع الاحتراس من الإسقاطات التأويلية اللاحقة التي جانبت القراءة التأصيلية.

الطيب بوعزة

 طنجة في 22 ربيع الأول 1437

 2   يناير  2016


[1] – ال”أرخي” لفظ إغريقي محوري في تاريخ النظرية الفلسفية اليونانية، حيث يشير إلى معنى المبدأ/ الأصل، الذي تكون به العالم. ومن بين الأسباب التي جعلت هذا اللفظ محوريا في عملية التأريخ لتشكل النظرية الفلسفية أنَّ أرسطو لم يجعله فقط جانبا من جوانب اهتمامات الفكر ما قبل السقراطي، بل اختزل فيه كل اهتمامات ونتاجات ذلك الفكر، وقد انتقدنا هذا الاختزال كما انتقدنا التأويل الأرسطي المعطى لمعنى ال”أرخي”، وذلك في كتابنا “الفلسفة الملطية” فليراجع للاستزادة.

[2] – صحيح إنَّ مفهوم الهوية أو الماهية لم يستعمل في هذه اللحظة من تطور الفكر الفلسفي؛ لكن طريقة تفكير فلاسفة، منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، في مسألتي الكثرة والواحد، تفيد  إدراكهم لمسألة الاختلاف واستعصاء تفسيرها بالمبدأ الواحد؛ مما سوَّغ لنا استعمال ذلك المفهوم.

[3] -Simplicius, Commentary on Aristotle’s Physics, 164.26–165.1

[4] – إشكالية الهوية والاختلاف في فلسفة أنكساغور تحتاج معالجة نظرية محترسة بسبب تداول الاصطلاح الأرسطي؛ حيث استعمل  أرسطو في  وصف الأصول الأولية الأنكساغورية اللفظ الإغريقي ال”ميوميريس”  ὁμοιομερής  ، الذي يعني ال”متشابهات” أو ال”متجانسات”  ، بينما لا وجود في ما تبقى من شذرات أنكساغور أي استعمال لهذا اللفظ في التوصيف، بل اللفظ المستعمل هو لفظ  ال”سبيرماطا” σπέρματα  أي “البذور”. ومن ثم فاستقدام التعبير الأرسطي لتوصيف المبادئ الأولية التي قال بها أنكساغور يؤدي، في تقديرنا، إلى إساءة فهمه. وسنفصل القول في ذلك في موضعه من الباب الثاني.

[5] – ليس في النظرية الذرية اختلاف هوياتي؛ بل فقط تكثير في العدد والشكل. لكن رغم ذلك يصح أن ننظر إلى اختلاف الأشكال بوصفه محاولة لتبرير الاختلاف رغم وحدة الهوية الذرية. خاصة وأنَّ الفلسفة الأبديرية لها اعتبار خاص للذرة ذات الشكل الدائري، يعلو بها على غيرها من الذرات ذات الشكول الأخرى، كما سنبيِّن في  الباب الثالث من هذا الكتاب.

[6] – أي لوقيبوس وديموقريط.

[7] – نشير هنا إلى أننا حدَّدنا وفق المنطق الإيلي دلالة الـ”إيون” بوصفه نفيًا للمؤشرات الزمنية، رغم أنَّ الدلالة اللغوية للفظ في اللسان الإغريقي تفيد الوجود الحاضر أو الوجود الآن. فليراجع كتابنا “كزينوفان والفلسفة الإيلية”، لِتَبَيُّنِ هذا التعديل الدلالي ومسوغاته.

[8] – وسمنا ديوجين بالأبولوني، وأرخيلاوس بالأثيني، وميطرودور باللامبساكي ، أي وسمنا  كلّا بموطنه، ولم ننعت هيبو  باسم بلده؛ لاستعصاء تحديد مكان توطينه وفق ما هو وارد في سير ودوكسوغرافيا فلاسفة الإغريق .

[9] – نسبة إلى مدينة أكراغاس موطن ميلاد أمبادوقليس.

[10] – نستعمل في كتابنا هذا  عبارة “الدراسات الأمبادوقليسية” للدلالة على الأبحاث التي تناولت أمبادوقليس بالدرس. ويمكن أن نرجع مبتدأ هذا الدرس إلى متني “مينون” و”ثياتيتوس” لأفلاطون.

[11] – من بين ما ينسب لأمبادوقليس من كتب، كتاب/قصيدة “التطهيرات”،  وكتاب/قصيدة “في الطبيعة”.

[12] – Aristote, Metaphysique. I, 3; p. 984b 15

[13] – Aristote, Metaphysique.A,4.905a 13,R.P. 155d; DV46A47

[14] – نستعمل في كتابنا هذا عبارة “الدراسات الأنكساغورية ” للدلالة على الأبحاث التي تناولت أنكساغور بالدرس.

[15] – أقول شذرة وحيدة رغم أنَّ الجمع الدوكسوغرافي يورد ثلاثة إيرادات في فصل لوقيبوس تحت مقام “ب” “B”. أولها: نقل عن أخيل طاتيوس Achille Tatius؛ والإيراد الثاني: نقل عن مخطوطات هيركولانوم Papyrus d’Herculanum؛ والثالث: قول مروي في متن “الآراء” لأيتيوس Aétius. وهذا الإيراد الثالث هو الوحيد الحامل لمنطوق معرفي؛ لذا جاز أن نقول إنَّ المتبقى من لوقيبوس شذرة واحدة.

[16] – Démocrite,B,116,Diogène Laerce,Vies,IX,30.

[17] – استحضرنا في كتابنا “كزينوفان والفلسفة الإيلية” سرد أفلاطون لواقعة زيارة برمنيد إلى أثينا ولقائه بسقراط. وقلنا بأنَّه:

“عندما نتحدث هنا عن حضور برمنيد إلى أثينا؛ فإنَّنا لا ننظر إليها كمقامٍ جغرافي؛ حيث قلنا بأنَّه لا يعنينا ارتحال برمنيد، أو عدم ارتحاله من بيته في إيليا للمقام ضيفًا في بيت بيثودوروس، بل يعنينا الاستفهام عن سبب استحقاقه للمقام داخل المحاورة الأفلاطونية بالهالة التي بدا بها. أي ننظر إلى أثينا هنا كمحلٍّ فلسفي، كرمزٍ ثاوٍ في الجغرافية الأفلاطونية، وعليه؛ ينبغي توجيه لحاظ التفكير إلى السمت النظري للفكر الإيلي، الذي جعل أفلاطون يحتفي به”.

الطيب بوعزة، كزينوفان والفلسفة الإيلية، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت 2016، ص138- 139.

وانتهينا خلال البحث إلى أنَّ مكمن السمت النظري الذي جعل الأفلاطونية تحتفي ببرمنيد هو تأسيسها لنظرية “الوجود الضروري.” بمدلوله كوحدة وثبات.

[18] – ترجمنا كثيرا من الأقوال والشذرات، كما أوردنا في بعض المواضع نص الترجمة العربية التي أنجزها  الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني في كتابه “فجر الفلسفة اليونانية”. ولكن كلما وجدنا في النص المترجم استدخالا لألفاظ غير واردة في الأصل ، نبهنا إليه. كما حرصنا عند كل إيراد على إثبات نص الترجمة الإنجليزية لباطريسيا كورد، وريتشارد د.مكيران،في الهامش.

كما قد يلاحظ القارئ أننا قد نعتمد في بعض الإحالات حينا على النص الإنجليزي ؛ فنثبت مثلا الإحالة على سمبليقيوس في تعليقه على متن السماء هكذا (Simplicius, Commentary on Aristotle’s  De Caelo)، وحينا آخر نثبتها بالإحالة على النص الفرنسي (Simplicius,Commentaire sur le Traité du ciel)، وسبب ذلك اختلاف المصدر الذي نعتمده في استقراء النقل الدوكسوغرافي، فغالبا في الإحالة الإنجليزية نعتمد على باطريسيا كورد، وريتشارد د.مكيران، أما في الإحالات الفرنسية فنعتمد غالبا على الموسوعة الدوكسوغرافية في ترجمتها الفرنسية التي أنجزها جون بول دومون.