مجلة حكمة
برنار ستيقلر الزمن والتقنية

نقد العقل التقني: مدخل لفكر “برنار ستيقلر” – قابريال ميهرانبرقار / ترجمة: عبد الوهاب البراهيمي


 “لا يحتمل أولئك الذين يقابلون التقنية بالحضارة، أن يكون الإنسان رماميّ prothétique دون صفة، وأنّ الزّمانية تنبثق من هذا العيب الأصلي، ومن فقدان وجهةِ أصلي. إنّهم لا يحتملونه لأنّه بالفعل صعب الاحتمال أحيانا، ولأنّه يجب أن تكون لهم طاقة تحمّل كبيرة. ولكنّهم لا يحتملونه أيضا لأنّ فقدان الوجهة اليوم على أشدّه: إنّ ما نخوضه من تجربة اليوم فريد من نوعه، غير محتمل تقريبا، ويجب أن تكون طاقة التحمّل كبيرة- ومع ذلك، يجب أيضا، وعلى نحو غريب، أن تكون هذه الطاقة جدّ حساسة بل مفرطة في الحساسيّة و ربّما علينا تغييره”(ب.ستيقلر) (TT2, 10) (1) التقنية والزمن

 


  • برنار ستيقلر: التفكير في التقنية اليوم

لاحظ ستيقلر في “المدخل عام” للجزء الأوّل من “التقنية والزمن”، وفي وصفه آثار الثورة التقنيّة كما نعيشها يوميّا في بداية القرن 21، ” الاضطراب” العميق الذي أحدثته التقنية في طريقة تفكيرنا في ذواتنا. سيسمح لنا تعليق قصير على هذه الفقرة بأن نستشفّ في ذات الوقت أهمّية وجدّة فلسفةٍ طموحها ليس أقلّ من التفكير في التقنية “بوصفها أفقا لكلّ إمكانية الحصول وكلّ إمكانية لمستقبل”. (TT1,11)

وإذا كان فهم التقنية راهنا ما يزال محدّدا بالأساس بمقولات الغاية والوسيلة، منذ الثورة الصناعيّة وما رافقها من التحوّلات الاجتماعية العميقة، فإن التقنية احتلّت، مع التطوّر المؤلم الذي دشّنته، كثافة جديدة، وجدت أقسام المعرفة صعوبة متزايدة في إدراكها. وقد أصبحت هذه الصعوبة، أثناء السنوات الأخيرة، التي وُضعت تحت لافتة ” التحديث” والتحرّر السياسي الاقتصادي في علاقة مباشرة بالتطوّر التقني-العلمي، صعوبة ملموسة في كلّ المجالات الاجتماعية: تظهر المسألة الجوهرية لعلاقة التقنية بالزمن على المسرح العام، يوميّا وسطحيّا، ولكن دائما بطريقة أكثر حسيّة. ويحمل كل يوم معه جدّته التقنية وما يصحبه ضرورة من عفاء وانتساخ: عفاء التقنيات الموجودة وقد تجاوزها الزمن، وانتساخ الوضعيات الاجتماعية التي ساهمت في وجودها: بشر وبلدان ومهن ومعارف وموروث من كلّ نوع، عليه أن يتكيّف أو يختفي من الوجود. وما هو حقيقي بالنسبة للبنى الاقتصادية والسياسية الشاسعة، هو كذلك بالنسبة إلى الأطر الحيوية ذاتها. فقد وَجد “فهم الكائن لكينونته” نفسه مضطربا بعمق وبشكل خطير. فكلّ شيء يحدث كما لو أنّ انفصالا يمكن أن يعلن بين التقنية- العلم من جهة والثقافة التي أنتجتها والتي التهمتها التقنية من جهة أخرى. (TT1, 28)

الملاحظة الأولى: بالرغم من أنّ التقنية تظلّ مفكّرا فيها منذ الثورة الصناعيّة بوصفها “وسيلة” لخدمة “غاية” (الإنسان والثقافة)، فإنّ هذا التعريف هو أقلّ وضوحا وبداهة بشكل متزايد (“الضبابية”). وبالفعل، فقد تحوّلت من جهة، ” الغاية” التي يفترض أنّها “تخدم”، بشكل عنيف وعميق، ومن جهة أخرى، تجد المعرفة النظريّة الموكول إليها إدراك الإنسان والعالم صعوبة في القيام بوظيفتها باعتبارها تظل متّصلة بالقسمة التقليدية (” القسمة”) بين العلم (خطاب حقيقي حول ما يوجد) والتقنية (تطبيق الاكتشافات العلميّة). وبالفعل نرى انتصاب، في مسار التصنيع ذاته، ما سيسمّى ” تقنية علم” أين يقع قلب العلاقة التقليديّة: العلم في خدمة التقنية، اسم آخر للابتكار، ومحرّك التطوّر الصناعي (ما كنّا نسمّيه لوقت قريب “تقدّم” progrés).

الملاحظة الثانية: تغيّرتْ، باسم ” التحديث”، القواعد المتحكّمة في الحياة الماديّة (الاقتصادية) والاجتماعية (السياسية) (“اختلال القواعد dérégulation) تحت الضغط المباشر للابتكار التقني- العلمي. ويتعلّق الأمر هنا أيضا بقلب غير مسبوق للغاية والوسيلة: فالزمان العمومي والشخصي لا ينقضي وفق رزنامة” إنسانية” بل وفق إيقاع ” المستجدّات” التقنية، و” القاعدة ” (“لليبيرالية” ) المصرّح بها: يجب “التكيف أو الاختفاء”.

الملاحظة الثالثة:  إنّ وضعية تأخّر العالم الإنساني عن العالم التقني، – كوضعية “عادية ” تَبْنِي علاقة الإنسان ذاته مع التقنية منذ البداية، وهي التي سيجعل منها “ستيقلر” موضوعا مركزيّا لتحليله في “التقنية والزمن” – هذا التأخّر إذن يبدو اليوم مستحيل التجاوز، ويثير فينا شعورا بالقلق والضائقة، ” وجودا قلقا” mal-être كما يقول العنوان الفرعي للجزء الثالث من كتاب” التقنية والزمن”. إنّ هذه الوضعية “خطيرة”، إذ أنّ الجواب عن سؤال ” ما الانسان؟” (“فهم  الكائن – هكذا l’etre-là  لكينونته ” كما يقول هيدجر) استبدل على نحو ما بالسؤال الذي يجيب، داخل السباق الفعلي للابتكار، عن السؤال” ماذا تستطيع التقنية- العلم؟ “. يصرّح هيدجر، أكبر فلاسفة قرن التقنية، قبالة هذا “الخطر”،- في كلمته الأخيرة في آخر مقابلة صحفية معه-:

“لن ينقذنا سوى إله”. يمثّل هذا التصريح في نظر ستيقلر، اعترافا بعجز الفلسفة، من أفلاطون إلى هيدجر، عن التفكير في التقنية. بينما يفضل ستيقلر – عوضا عن ” الخلاص” salut– المساهمة بمعيّة البعض في إثبات أنّ السؤال الفلسفي هو، وهو من جهة إلى أخرى، ومنذ نشأة الفلسفة، طاقة تحمّل وضعية أقول عنها تقنية- منطقية techno-logique: في نفس الوقت تقنية ومنطقية، مطرّقة دفعة واحدة على صليب تشكّله اللغة والأداة، أي ما يسمح بتجسيد الإنسان. (PPA,14)

  وبعبارة أخرى، لا يمكن “للخلاص” أن يأتي إلاّ من جهد ” تفكير” متأنّ وشجاع بل وجسور. وبالفعل لقد أصابنا الجمود “médusés بفعل شاشات الكومبيوتر والبيولوجيا التكنولوجية والانترنت: ” فالخطر” هو ” المدوس” (Méduse)- مثلما يعترف بذلك ستيقلر -،(هذا الحيوان الأسطوري)  لا نملك النظر إليه مباشرة”، غير أن ستيقلر سرعان ما يضيف:

لكن الميثولوجيا الإغريقية تقول بأنّه حينما نراه على المرآة (جهاز تبديل عاكس)، لا يتحجّر” (2). وتتمثّل أول خطوة لهذا “التفكير ” في الرجوع إلى أصول الزوج التقني – (أداة) منطقي (فكر)، إذ يتعلّق الأمر بـ” إظهار أنّ التحوّل المريع الشغاّل، قد بدأ منذ أربع ملايين سنة على الأقلّ.”(3)

 

  • التجسيد والذاكرة الفردية التقنية épiphylogenèse عند ستيقلر

يلتفت ستيقلر صوب علم الإحاثة paléontologie، وبالخصوص صوب أعمال عالم الإحاثة الفرنسي لوروا- قرهان L. Gourhanالتي وقع عرضها في كتاب ” الحركة والكلام ” (4)، من أجل محاولة التفكير في أصل العلاقة إنسان/ تقنية. وبالفعل، لا يملك عالم الإحاثة دليلا قاطعا على وجوده قبالة ” حفريات ” إنسانيّة، إذا لم يكن مصحوبا بـ”أدوات” (بحجر مصقول مثلا). وحينما اتخذت ” الحياة” على الأرض شكلها ” الإنساني”، لجأت نوعا ما إلى شيء آخر غير الحيّ: إنّها تنظّم اللاعضوي (صقل الحجر). بينما شروط البقاء عند الحيوان- الافتراس والدفاع – يضمنها برنامج جيني (داخلي)، بينما يضمن البقاء لدى الإنسان بـ”أعضاء ” اصطناعية “معينات” prothèses” تقنية “: دَخَلَ النموّ الحيوي، مع مسار تكوّن البشر hominisation، في مرحلة جديدة، مرحلة ” التجسيد” أو الإظهار extériorisation “:

يعتبر لوروا قورهان مسار تكوّن البشر قطيعة داخل حركة التحرّر(أوالتعبئة mobilisation)التي تميّز الحياة، من حيث أنّنا نتعامل بشكل فجئ، مع سيرورة تجسيد، بمثل ما أنّ ظهور الإنسان، من منظور علم الإحاثة، هو ظهور التقنية.(…) ويعتبر أنّ الحركة المستمرّة داخل سيرورة التجسيد هذه، مفارقة، من حيث أنّ لوروا – غورهان يقول بأنّ الأداة أي التقنية la tekné هي بالفعل المبتكرة للإنسان وليس الإنسان هو مبتكر التقنية. أو أيضا: يصنع الإنسان نفسه في التقنية بصناعته الأداة- ” بتجسيده نفسه ” تقنيّا. بيد أن الإنسان هنا “داخلي”: لا يوجد تجسيد لا يشير إلى حركة من داخل نحو الخارج. والداخل، مع ذلك، تبتكره هذه الحركة، فلا يمكن له إذن أن يسبقها. يتكوّن الداخل والخارج بالتالي في حركة تكوّنهما معا: حركة يبتكر فيها كلّ منهما نفسه في الآخر. (TT1,152)

 وتبيّن تحاليل دو لوروا- غورهان بدقّة أن هذا “التجسيد” يجري مع ذلك في مرحلتين تغطّي مليوني سنة من الأوسترالوبيتاك إلى نيوندارتاليان: أثناء مرحلة أولى تسمّى ” تكوّن قشرة الدماغ” corticalisation “، وفيها تنمو قشرة دماغ الجنس الإنساني cortex hominien تحت”ضغط” عملية صناعة واستخدام ” الأداة “. يغتني المخزون العصبي ويزداد تعقيدا ويسمح في المقابل بمستجدّات ” تقنية”. يوجد إذن أثناء هذه المرحلة تطوّر في ذات الوقت زوولوجي حيواني (داخلي) وتقني (خارجي) تتجاوبان على صورة المرآة. وتطبع المرحلة الثانية توقّف نموّ قشرة الدماغ: للإنسان النيوندارتالي في الجملة نفس بنيتنا العصبية ولا يمكن لتطوّر الكائن الحيّ الذي هو الإنسان أن يحدث إلاّ من خلال التقنية، والتنظيم واللاعضوي. وإذا لم يتطوّر النسق الكوريكالي أبدا (قشرة الدماغ) منذ النيوندارتال إلى الإنسان المعاصر فكيف نفسّر التطوّر الرائع للإنسان طيلة هذه العشرات من آلاف السنين؟  يجيب لوروا- قورهان ببيان أن التقنية هي موجّه الذاكرة. فحينما يموت الحيوان، فلا ينقل إلى نسله إلاّ جيناته ولا ينقل لهم ” تجربته” الفردية: لا ينقل لهم إلاّ ذاكرته الجينية، ذاكرة نوعه، نقلا نسمّيه فيلوجيني phylogénitique (phylum = race). حينما يموت رجل أستراليا l’australopithèque، فإنّ ما يتبقّى من أدواته هي التي تنقل التحسينات المحتملة التي أضافها إليها: ويصبح اللاعضوي (الحجر المصقول) ذاكرة “مجسّدة” ” تدوّن” التغييرات الفريدة لهذا “الصانع” أو ذاك وتنقلها إلى الجيل اللاحق. وبعبارة أخرى، فإنّ تطوّر النوع الإنساني، و”نوعه الجيني” phylogénèse” لا يحدث فحسب، مثلما هو لدى الأنواع الأخرى الحية بنقل إرثها الجيني بل أيضا وخاصّة- ومن هنا كانت السرعة المدهشة للنموّ الإنساني- بنقل الذاكرة الفردية/ المسمّاة “الذاكرة االفردية الجينية” épigénétique، التي تحفظ لا الإنسان الحيّ بل “تجسيده” son extériorisation” في الأداة والمنتوج التقني: تمثّل التقنية إذن ما يسمّيه ستيقلر الذاكرة الثالثة أو الذاكرة “إيبي-فيلو- جينية” (الذاكرة التقنية الجينية) لفظ محدث تكون فيه عبارة” فيلو phylo” ليس لها معنى برنامج بيولوجي بل برنامج “ثقافي”:

توجد لدى الإنسان ذاكرة ثالثة لا يملكها الحيوان. والتقنية هي التي تَحْمِلها وتشكّلها. فحجر مصقول، هو شكل من المادّة اللاعضوية منظّمة بالصقل: تخطّ (inscrit)حركة التقنيّ تنظيما يُنقل بواسطة اللاعضوي، ليفتح لأوّل مرّة في تاريخ الحياة إمكانية نقل المعارف المكتسبة فرديا، ولكن عن طريق ليست بيولوجية. هاهو لماذا ليست التقنية غير قابلة للفصل عن الذاكرة الإنسانية: وما يحدّد إنسانية هذه الذاكرة، أي روحيّتها، هو ما تملكه من إمكانية للنّقل من جيل إلى جيل . […] فالذاكرة الإنسانية غير قابلة للفصل عن التقنية بحكم كونها “ذاكرة فردية جينية” épiphylogénètique: أصفها هكذا لكونها الذاكرة الثالثة، وهي في الآن نفسه نتاج التجربة الفردية التي نسمّيها “ذاكرة فردية جينية” épi génétique، والركيزة أو الحامل لبرنامج ثقافي جيني، phylogénétique أي المكوّن لبرنامج phylum ثقافي ما بين جيلي intergénérationnel، هو حاصل تراكم المعارف، ما لا يمكن أن نسمّيه ببساطة النوع الإنساني، بل الجنس البشري. (PPA,48)

ويحاول ستيقلر بالاعتماد على مفهوم ” الذاكرة الفردية التقنية  épiphylogenèse” أن يفكّر في ” مادية ” و” روحية ” spiritualité  الذاكرة الإنسانية معا، على نحو في طابعها ” الخارجي ” و” الداخلي” الراسخ – التقني- منطقي techno-logique . وبتعمّده هذا يقوم ستيقلر بحركة فلسفية على طرفي نقيض مع أب الفلسفة أفلاطون. وستبدأ مغامرته (5) الفلسفية بمجابهة للميتافيزيقا على نحو ما وضعتها الفلسفية الإغريقية، وخاصّة في الحوار السقراطي الشهير “مينون”. 

 

  • الذاكرة: الذاكرة الحيّة anamnèse والذاكرة الميتةhypomnèse(1)

  أسمّي ميتافيزيقا احتجاب أصلي يؤدّي إلى سلوك نقدي يميّز الفيلسوف في دورانه الحتمي مثلما يدور اللبن، في دغمائية مؤسّسة على لعبة تناقضات بسيطة، يختزل فيها التركيب الأولي، حيث العنصر ليس هو بالضبط البسيط، تحديدا لأنّه بعدُ ” ثانوي” دائما، أي تقني، أو ” رمامي” prothétique. (PPA, 27)

لقد رأينا سابقا مع لوروا- قورهان أن أصل الإنسان لم يكن “بسيطا”: أوّلا لأنّ الإنسان ثم الأداة (“الملحق”، supplément، طرف اصطناعي prothèse)في “تناقض” من نوع فكر/مادّة. وعلى العكس، فالأصل l’origine هو مباشرة مركّب complexe بما أن “الإنسان يبتكر نفسه في التقنية” أو  أنّ ” قشرة الدماغ تنعكس في الحجر المصقول ” silex” والعكس بالعكس. في هذا المعنى سيقول ستيقلر بأنّ ” لا أصل للإنسان”، وانّه كان دوما تقنيا بعدُ (ملحق، اصطناعي). وحتّى إذا ما ألزم الفكر النقدي بداهة بالتمييز بين الإنسان والتقنية، والتفكير فيهما منفصلين في ” لعبة التناقضات البسيطة” فهو “ميتافيزيقي”. بيد أّنّه ومنذ نشأة الفلسفة مع أفلاطون، يتأكّد سلوك ” الفصل ” هذا يقيم تقابلا بين عناصر ” بسيطة”.

تعني الفلسفة “رغبة ومعرفة”: الفيلسوف هو إذن ذاك الذي لا يعرف، لكنه، في الحوار يبحث الكلام الحيّ عن المعرفة الحقيقيّة. ولا يتعلّق الأمر مع ذلك أوّلا بمعرفة من نوع رياضي بل بمعرفة تسمح باتخاذ قرار سياسيّ مناسب، بمعرفة تجيب عن السؤال: كيف نحيا معا في مدينة عادلة؟ غير أنّه وفي مقابل هذا الاستخدام ” الفيلو- صوفي ” philo-sophique “للوغوس”، يوجد آخر يمكن أن يصلح لبناء خطاب ” مقنع” و”ناجع”، مؤهّل للتلاعب بآراء المواطنين. ذاك هو التوظيف الذي يقوم به “السّفسطائيون”، الذين يسمّون هكذا خلافا للفلاسفة philo-sophes، لا يرغبون في المعرفة بما أنّهم ” يملكونها” في شكل ” مهارة” savoir- faire”، لتقنية خطابية لكنّها تمنحهم سلطة لا محدودة على عقول المواطنين. وبالفعل، يمكن بواسطة اللغة كتقنية خطابية، أن نقول كلّ شيء، وأن نحمل على الاعتقاد في كلّ شيء: هو الطريق مفتوح للرّيبية، للكلبيّة، ولا توجد معرفة حقيقيّة. وهذا هو بالنسبة إلى أفلاطون ما يمثّل الخطر المطلق الذي يهدّد المدينة.

يفتح الاستخدام “التقني” للوغوس” الباب للإفراط ubris(في اللغة الإغريقية )، و بالتالي لكلّ جور الاستبداد والحرب الأهلية. ويضيف ستيقلر:

تصبح مسألة ” الإفراط” مع أفلاطون والفلسفة، مسألة إفراط في التقنية، في الاصطناعي بوجه عام، في المحاكاة mimésis، في الفنّ، وفي الشعر والموسيقى، لأنّ كل ذلك بعض من “المهارة” التقنية في نظر أفلاطون”. (PPA,29)

  • تحليل

وسنرى، في التحليل الذي اقترحه ستيقلر للمحاورة السقراطية ” مينون”، فيم يمنع السلوك الميتافيزيقي تحديدا، من التفكير في العلاقة إنسان/تقنية على نحو آخر غير التفكير فيه وفق صيغة تناقض: استخدام الذاكرة كطريق إلى الحقيقة، إلى المعرفة الحق، أو الذاكرة الحيّة (المعروفة أيضا باسم “التذكّر” réminiscence) ضدّ استخدام الذاكرة ” الاصطناعية” أو ” الميتة”   hypomnèse) أساسا على شكل ” كتابة”écriture”). و”سليعب” الحوار على نحو ما، كما في مسرحية، دور هذا النزاع في فصلين:

المشهد 1: يلتحق شابّ أثيني، “مينون” بدرس لسفسطائي، يعتقد أنّه سيتعلمّ بقربه ما هي “الفضيلة”. وفي طريقه يلتقي سقراط الذي يقترح عليه قبل الذهاب لسماع “الأخصائي”، أن يفكّر بنفسه، دون آراء مسبقة، فيما يمكن أن تكون الفضيلة حقّا. ينتهي سقراط، في ثنايا الحوار الذي أقيم بينه ومينون، إلى أن يقول لمينون، الذي لم يتوصّل إلى شيء آخر غير تقديم الأفعال “الفاضلة” المستمدّة من التجربة:” لوصف فعل فاضل، علينا معرفة ما هي الفضيلة، ومعرفة ماهيتها. بيد أنّ ماهيتها لا توجد في التجربة، ويجب البحث عنها في موضع آخر.” حينها أعترض مينون على سقراط بـ”الإحراج” aporie الذي عرف باسمه: لا يمكننا البحث عن شيء لا نعرفه بعدُ. أو، لا نعرف الفضيلة وعندئذ، إذا ما وجدناها فلن نتعرّف عليها؛ أو، نعرفها بعدُ وحينئذ يكون البحث عنها لا معنى له. دمار كلّ فيلو- صوفيا كبحث (رغبة) عن الحقيقة: لا يمكننا معرفة ماهية أيّ شيء، ويجب أن نكتفي بالرّيبية وتدبير شؤون حياتنا بالتجربة، حالة بحالة، وهذا ما يقترحه السفسطائيون بالضبط، القادرون على إثبات، بتقنيتهم اللغوية، كلّ….ونقيضه. وليس سقراط بزعمه البحث عن الحقيقة سوى، في أحسن الحالات، حالما، وفي أسوئها، مخادعا. وأمام هذا المأزق – أبوري في اللغة الإغريقية- ” للوغوس”، لاستخدام “منطقي” للغة،  سيلجا سقراط إلى استخدامه ” الميتو- منطقي” أو “الأسطوري اللغوي” فيروي أسطورة ما يسمّى بالتذكّر، حكاية يلخّصها في هذه العبارات:

بأن النفس إذن خالدة وأنها عاشت حياة متعدّدة وأنها شاهدت كل ما يحدث هنا وفي  الـ”هاداس” Hadès فإنّه لا شيء قد تعلمته. ثمّ ألا يكون من غير المدهش أنه، في شأن الفضيلة وفي غيرها، بإمكانها تذكّر ما عرفته من قبل. وكما أنّ كل شيء يستقيم في الطبيعة، وأن النفس قد عرفت كلّ شيء، فلا شيء يمنع من أن تذكّرها شيئا واحدا، وهو ما يسمّيه البشر تعلّما، أن تجد بنفسها كل الأشياء الأخرى، شريطة ان تكون شجاعة و لا تملّ من البحث، ذلك أن البحث والتعلّم ليسا شيئا آخر غير التذكّر.(6) هكذا يختفي إحراج مينون: يمكن أن نبحث عن الفضيلة ونتعرّف عليها حينما نجدها، إذ ” العثور” عليها يعني نا “العثور عليها من جديد” retrouver، ما عرفناه في حياة سابقة وكنا قد  “نسيناه” ببساطة. ولمعرفة الحقيقة، وماهية الأشياء، يجب على النفس أن تُجهد “الذاكرة”، جهدا يسمّيه أفلاطون “أمناز” amnèse الذاكرة الحيّة، من أجل إعادة” تذكّر” se resouvenir ” ما عرفته ولكنّها نسيته.” (6)

-المشهد 2: يطلب مينون مع ذلك، وهو الذي يريد حقّا تصديق الأسطورة، أن يقنعه سقراط عقليا، ببرهنة بأنّ ” التعلّم” هو بالفعل ” إعادة تذكّر”. حينئذ يدعو سقراط أحد العبيد الشبان الذين هم في خدمة مينون و دون أن ” يعلّمه” أيّ شيء بل اكتفى بطرح أسئلة عليه حول الأشكال التي رسمها بنفسه على الرّمل، ويساعده على أن ” يجد” بنفسه معرفة هندسية بأكملها بخصائص المربّع. يستنتج ستيقلر من هذه ” البرهنة” المطبقة على شاب أمُّيِّ، جملة من الاستتباعات الفلسفية التي تصلح لديه لإثبات ” أطروحته” المركزية حول الزوج إنسان / تقنية.

  1. تعني الذاكرة الحيّة l’amnèse أوّلا أنّه ” لا يمكن أن توجد معرفة إلاّ بوصفها إنتاج من يُعبّر عنها، لا بما هي مطلقا استيلاما من خارج. فالمعرفة لا ” نتسلّمها” بل ” نتصوّرها”- الفكرة يجب أن تكون مفهوما.

  2. غير انّه علينا أن نضيف بسرعة بأنّ هذا ” التصوّر” لا يحدث دون مساعدة ” تثبيت” أو تسجيل inscription ” يسمّى “hypomnèse ذاكرة ميتة (اصطناعية) “في اللفة الإغريقية-: هنا أشكال هندسية مرسومة على الرّمل، قد يستحيل من دونها على الذاكرة” إعادة التذكّر”، أي “إتّباع” برهنة. وما يظهره العبد مينون، هو ضمن أيّة شروط تكون البرهنة ممكنة (هندسية، أوفلسفية أو غيرها). نقول، في اللغة المعتادة، بأنّ برهنة “تتقدّم”، فهي تَجْري في الزمن إذن: إنّه مَدُّ زمني. علينا إذن باستمرار الاستنجاد بالذاكرة لتذكّر لحظات، ومراحل البرهنة. بيد أنّه قد يحدث، كما نقول عادة، أن ” تنسحب” الذاكرة: ليست موثوقة، وهو ما يسمّيه ستيقلر” محدوديتها الاحتفاظية” finitude rétentionnelle “، وهو ما يحمله على أن يجد لها “حاملا أو داعما” support يمثّل بالضبط ” الشكل ” الهندسي أو الكتابة التي هي مستقرّة. ويسمح هذا الاستقرار، مجسّدا في شكل أو علامات (كتابية) متماثلة دوما مع ذاتها، للفكر من أن ” يجد فيها ذاته”، والتعرّف على موضوعاته: يفرض ” عيب” الذاكرة إذن على المدّ الزمني تكييفا مكانيا هو الفكر.

  3. لكن،- وهنا بالذات موضع” نسيان” الميتافيزيقا، نسيان الميتافيزيقا للتقنية، أي لحظة التجسيد أو التخارج التي من دونها لن يوجد “استدخال” أو إدخال “للمفهوم”- لا يقول مينون ولا سقراط ولا بالتالي أفلاطون، شيئا عن هذه الحركة الضرورية المتمثّلة في رسم الشكل الهندسي: الذاكرة الحيّة l’amnèse تنسى الذاكرة الميتة(الاصطناعية) hypomnèse. هذا ما يسمّيه ستيقلر” أطروحته”:

 تضع هذه الأطروحة فكرة أن الذّاكرة هي دوما ” ذاكرة ميتة”، إنّها دوما تقنية، حتى حينما يتعلّق الأمر بالذاكرة المعيشة، بالذاكرة الحيّة: فالأنامنيزيسanamnésis (التذكّر réminiscence) هو دوما محمول ومسكون بالهيبومنوزيس hypomnésis   الذاكرة الميتة أو الاصطناعية(الذاكرة التقنية mnémotechnique)، لكنها تكون كذلك غالب الأحيان على نحو مخفيّ لأنها “مطبَّعَة” naturalisée” أي إنّها هنا: مَحَتْ تقنيتها، واصطناعيتها وامتدادها الإصطناعي prothéticité، وتاريخيتها، طالما أضحت ” طبيعة ثانية” لا ترى من نفسها أكثر ممّا لا يمكن للسمك أن يرى الماء رغم كونه عنصرا ينتمي إليه”. t. (id.)

يمكن لستقلر أن يلاحظ اختلافه مع أفلاطون والميتافيزيقا بمقارنة نفسه بسمكة طائرة(7)، والتي بخروجها من “عنصرها”، المسمّى”المايوجد بعدُ” أو أيضا ” حوض الذاكرة الفردية الجينية”bain épiphylogénétique، يمكن أخيرا التفكير فيها:

حينما يقول أفلاطون على لسان سقراط بأنّ النفس خالدة، وأنّها إذن قد تأملت بعدُ في حياتها السابقة الماهيات التي يمكن لها، لهذا السبب أن تستعيدها – هكذا شأن مينون وحسابه المربع، أو معرفته لماهية الفضيلة-، فهو يطرح أنّ هناك المايوجد بعدُ، وأنّه في هذا المايوجد بعدُ تقيم الأسئلة ومخارجها. لكن، وخلافا لأفلاطون، أعتقد أنّ هذا اليوجد بعدُ هو بالأساس خارج وأنّ هذا الخارج، الذي هو العالم، خاضع في تنظيمه، لشرط الذاكرة التقنية الجينية épiphylo-génétique التي تبدّل، أثناء نموّها، الحياة من داخل. أما “الداخل”، فهو يستبطن الخارج، لكنه باستبطانه، ينساه: ينسى عمليته الخاصّة ويطبّع إذن معرفته”. (PPA, 55)

  • 4. كلّ إنسان هندسي أو فيلسوف ” بالقوّة”. ولكن حتّى يصير “بالفعل”، عليه أن يلجا إلى اصطلاح تعبيري idome(يتأكّد سقراط قبل أن يبدأ ” البرهنة” من أن ّ مينون يتكلّم جيّدا اللغة الإغريقية )- نحن نفكّر بالضرورة داخل لغة-، ومن رسمه للأشكال، أي من ” الذاكرة الاصطناعية” mémoire artificielle (لغة، كتابة).إذن، إذا أبح ستيقلر فيلسوفا ” بالفعل”، فبقراءته لكتابات أفلاطون، والذاكرة الاصطناعية(hypomnèse) “للكلام الحيّ” لسقراط. ولم تكن ” ذاكرته الحية” amnèse للمعرفة الفلسفية ممكنة إلاّ في عنصر قراءة نصوص تنقل، أو”تعيد”- روح  أفلاطون:

أتحدّث عن روح المعنى، حيث تكون المعرفة متكوّنة إذن بعودة revenance أولية ؛ ولكن أتحدّث أيضا عن تجسيد مادّي للزمن كشرط لهذه الروح، وفي هذا المعنى، أستمرّ في اعتبار نفسي ماديّا. يتعلّق الأمر بداهة بماديّة جدّ استثانية: مادية هي نوعا ما “روحانيّة”، من حيث أنّه لا يقول بأنّ الفكر قابل للاختزال في المادّة، بل أنّ المادّة هي شرط الفكر أو الروح، في كلّ معاني الشرط”. (PPA, 39)

 

  • من الذاكرة التقنية إلى الذاكرة التكنولوجية الصناعية

يمكننا، في نهاية هذا الشوط الأوّل الذي أوصلنا من رجل أستراليا australopithèque إلى فلسفة أفلاطون، أن نشير مع ستيقلر إلى أنّه، ومنذ ” الأصل”، كانت التقنية، في الزوج إنسان/تقنية، حاملا أو عمادا للذاكرة، “وسطا” milieu” (أوّلي، وخارجي) معه وفيه – وبفضله –  يتطوّر” الداخلي” (الفكر، الإنساني). لأجل هذا، تسمّى التقنية ” وسط الذاكرة التقنية الجينية” milieu de la mémoire épiphylogénétique”، وسيحاول ستيقلر أن يقوم، داخل هذا ” الوسط التقني” بتمييز أساسي يجد مبرّره بالذات في المرور من الماقبل تاريخ إلى التاريخ: حتى لو اعتبرنا الحجر المصقول للإنسان الأسترالي بوصفه ” عمادا للذاكرة”، فليس هو بداهة، في نفس مستوى حوار لأفلاطون. فالتقنية التي تحمل، “تُخَاِرجُ ” وتنقل هذا الأخير – الكتابة اللفظية- هي جزء من مجال ” الذاكرة التقنية” أو تقنية الاحتفاظ في الذاكرة (بالحساب والكلام والفكر، و “الذكرى” الخ.) تؤرّخ بأكثر بقليل من عشرة آلاف سنة:

” كل ملحق هو تقنية وكلّ تقنية هي حامل لذاكرة ” تُخَاِرج” أو تجسّد برنامجا. غير أنّ كل ملحق ليس مع ذلك تقنية للاحتفاظ في الذاكرة: فالملحقات التي هي بالخصوص ذاكرة تقنية، لاتظهر إلاّ بعد النيوليتي le néolithique. ويبدأ ” تاريخ الكائن” (الكائن بما هو نحن) مع تاريخ الحرف”. (TT2,16)

  ويشير ستيقلر بدقّة، بتناوله مسألة هذا المجال الخاص للتقنية الذي هو الذاكرة التقنية، وداخلها مسألة الكتابة، أنّه يجب أن نمنح مكانا مميّزا للكتابة الأبجدية. وبالفعل، بينما نقرأ حوارا لأفلاطون، نكون على يقين تام بأنه ينقل لنا تحديدا ” فكر” كاتبه، وأنّ معناه هو نفسه بالنسبة إلى كلّ قارئ، و لا يكون الأمر كذلك مع الملفوظات التي حفظتها الكتابة المسمارية لبلاد الرافدين: يظلّ معناها غير مبهم إلى الأبد لأنّه مرتبط بسياق تدوينها. وبعبارة أخرى يجب علينا، كي ننفذ إلى معناها الدقيق، أن نكون قد عشنا الحدث الذي دوّنوه. بيد أنّه مع الكتابة الأبجدية يكون التدوين دقيقا، أي حاوٍ على كلّ العناصر الضرورية التي تسمح لقارئ يملك ” نظام شفرات” التدوين، أن ينفذ إلى معناه. هذا التدوين ” الدقيق” الذي تقوم به الكتابة الأبجدية يسمّيه ستيقلر “أورتيتيك othothétique”ضبط الموضع”، لفظ محدث مكوّن من كلمتين يونانيتين:”أورتوتاز” orthotès  الدقة والضبط  و” تيزيس” thésis وتعني موقع position أو وضع . لقد رأينا، لحظة البدء في تحليل ” المينون” أنّ الكتابة بالنسبة إلى أفلاطون- بوصفها تقنية- ومن حيث هي من جهة الاصطناعي، تتضمّن خطرا على المدينة. وليس للفكر، من حيث هو “حوار داخلي وصامت مع ذاته” (أفلاطون، السفسطائي263e)، من حاجة لكي يُكتب حتّى يُمارس. إنّه التنازل الوحيد الذي يمنحه للتخارج أو التجسيد: يمكن للفكر أن يتّخذ شكل كلام حيّ يسمّيه ” خطاب” discours . وإذا كان له رغم كلّ شيء أن يكتب، فإنّما، كما بيّنه التحليل الذي قام به ستيقلر للمينون، لأنّه ” نسي” الطابع البنيوي الاصطناعي” hypomnésique ” للذاكرة الحية anamnèse. وهذا التسجيل تحديدا أو التدوين الحرفي – ” ضبط الموقع” orthothétique – لفكر أفلاطون، هو الذي سيسمح لكلّ قرّاءه، من أرسطو إلى …ستيقلر، بالنفاذ إليه، أي بتذكّره من جديد، ومن ممارسة “ذاكرته الحيّة”. وبالفعل، فإنّ ما يخشاه أفلاطون، هو أن الفكر، في شكله الكتابي يمكن أن” يساء تأويله”:

إنّ ما يضعه التدوين “الضبط موضعي” orthothétique في خطر ليس مدلول الخطاب، بل اتجاهه son sens.  وليس الإقرار بأنّ الذاكرة الاصطناعية الحية قد تحمل خطرا، هو ما يفصلني في هذه النقطة عن أفلاطون: سأبيّن على العكس بعد قليل فيم نعيش في هذه اللحظة ذاتها خطر عصر ذاكرة اصطناعية؛ وأنّ ما أعترض عليه هو الإقرار الأفلاطوني الذي تكون وِفقَه الذاكرة الميتة l’anamnès نقيض الذاكرة الحيّة أو الاصطناعية  l’hypomnèse. لكنّ هذا يعني أيضا، أنّه يجب من الآن فصاعدا تجاوز الديالكتيك مثلما نسمّيها إلى مبدأ  التناقض، لأنّ النسيج الاصطناعي للذاكرة هو في بِنيته منفتح عل تعدّد التأويلات: تلك هي تعاقبية dia-chronicité  الفكر”(PPA, 65- 66) (8.

حينما يُنتج تطوّر الذاكرة الثالثة للإنسان – الذاكرة الفردية التكوينية أو الجينية hépiphylogenèse- من بين التقنيات، ذاكرتها التقنية ومع هذه الكتابة الأبجدية- التي يسمّيها ستيقلر” التأليف الأوّل لضبط موضعي للذاكرة ” première synthèse orthothétique de la mémoire أو أيضا ” التأليف الحرفي” synthèse littérale” -، فنحن نشهد في المكان، حيث طوّر هذا الأخير تسارعا رائعا لهذا التطوّر الذي هو التطوّر ذاته ” للحضارة ” المتوسّطية (يونانية أساسا) ثمّ غربيّة. يستخلص ستيقلر من هذا الواقع، القاعدة التالية: من بين كلّ الأشكال التي تتّخذها “التقنية”، تكون أشكال الذاكرة التقنية” هي صاحبة أقوى تأثير، والأعمق والأكثر دواما، على تطوّر العالم الإنساني. و ما يستتبعه أنّ كل تغيير لتقنيات توريث الماضي تؤدّي بالضرورة إلى تغيّرات في كلّ مجالات الوجود الإنساني: الاقتصادية والسياسية والعلمية والدينية و الفنية الخ. يفسّر لنا الفيلسوف لماذا كان الأمر كذلك. فما تحدثه الذاكرة التقنية من تغيّرات عميقة، هو لأنّها تمسّ مباشرة ما يسمّيه فلاسفة القرن 20م- وبالخصوص هيدجر- ” نشوة الزمن l’extase du temps، أي العلاقات بين الماضي والمستقبل والحاضر”. وبعبارة أخرى تغيّر هذه التحوّلات في العمق

شروط التزمين temporalisation، أي شروط التفريد l’individuation أي المسار الذي نكون به أفرادا أو مجموعات، ما نحن عليه: نحن بالفعل كائنات زمنيّة و تشرط حوامل الذاكرة الفردية الجينية supports épiphylogénétiques لزمنيتنا أساسا علاقتنا بالزمن، أي بذواتنا، من حيث أنّنا نستمرّ في الوجود، ومن حيث أنّنا بالأساس في وضع المستقبل، ومن حيث أنّنا نسخّر كامل طاقتنا وكامل انشغالنا بمحاولة توقّع(دون جدوى في الغالب، ولكن ليس من دون أثر) ما سنصير عليه- وحتّى ما سيحدث للعالم بعدنا”.(PPA, 73)

بيد أن تطوّر الذاكرة التقنية قد تخطّى مرحلة جديدة، حاسمة، مع ما نسمّيه عادة ” الثورة الصناعية” والتي قد يكون من العدل، في منظور ستيقلر تسميتها “ثورة الذاكرة التقنية الثانية” (الثورة الأولى ثورة الكتابة). وبالفعل، ظهرت في القرن 19م

تقنيات جديدة لحفظ الذاكرة، ذاكرة تقنية جديدة، ذاكرة كتابية، مثل التأليف الحرفي ولكن في معنى جديد. تسمح تكنولوجيا التأليف التناظري للإدراك المرئي والسمعي، الفوطوغرافيا والفنونغرافيا، مثل الأبجدية، بحفظ وتوريث عنصر من الماضي بشكل دقيق، بعد أن يثبّت على حامل مادّي. لكن لا يتعلّق الأمر هنا بملفوظ شفهي رموزه الخطية تستعيد تشكيل “فونام”، أو صوتيات اللغة ومن خلالها المعنى، ولكن بذبذبات مضيئة وصوتية مثلا، ناتجة عن موضوع إدراك- صوت أوركاسترا، ذبذبات مضيئة منبعثة من منظر أو من وجه”.. (PPA, 70)

تميّز هذه الذاكرة التقنية الجديدة تقدّما يمكن أن نسمّيه ” ثوريا” من حيث طريقة الاحتفاظ بالماضي، بما أنها تسمح بإعادة

تشكيل طبقات من الماضي أوسع بكثير من تلك التي تمثّل جوهر حضارة الكتاب – حيث بالتأكيد يقيم النحت والرسم والأشكال الفنية لتمثّل الماضي. الخز  لكن لا يتعلّق الأمر هنا تحديدا بتدوين أو تسجيل لضبط الخطّ.” (PPA, 71)

 

  • تصنيع الذاكرة و” عدم الرضى”

  إذا كانت ” محامل الذاكرة التقنية الجينية” لزمانيتنا، كما ذكّرنا بذلك ستيقلر، تشرط أساسا علاقتنا بالزمن، أي بأنفسنا من حيث أنّنا نظلّ دوما مستقبلا”، فإنّ الأمر يتعلّق الآن ببيان كيف “ستشرط” هذه الذاكرة التكنولوجية هذه العلاقة. لكن وكما لمّحنا إلى ذلك في المقدّمة، فإنّ هذه العلاقة ” تخلق حالة ” عدم رضى”: وسيركز ستيقلر كل جهده التحليلي النقدي منذ الآن على أسباب ” عدم الرضى هذا، الذي أدخلته ذاكرتنا الحيّة و” بيان فيم نحيا في هذه اللحظة عصر خطيرا من الذاكرة الحية”.  ولتوضيح ذلك، سيبدأ ستيقلر بوضعِ موازٍ بين، من جهة، الانحطاط الخطير لمحيطنا الحيوي الذي أدى  إليه التصنيع العالمي المفرط و، من جهة أخرى، الانحطاط الذي لا يقل خطورة ” لمحيطنا الهوائي”« pneumatosphère » (كلمة وضعتها إحالة إلى ” هوائي”، عبارة قديمة للفلسفة تعني ” علوم الفكر”) وذلك من أجل محاولة بناء  الأسس الفلسفية لما يسمّيه ” إيكولوجيا الفكر“:

“من حيث أنّ تحوّل الذاكرة التقنية قد خضع لمراقبة الصناعة، وقد تميّز القرنان الأخيران جوهريا بمسار تصنيع للذاكرة، ودخلنا في مسألة ما أسمّيه إيكولوجيا الفكر، أي اقتصاد سياسي وصناعي يرتكز عل استغلال صناعي لأزمان الوعي، من حيث أن هذه الأخيرة بوصفها كتلا من الأنا لها أجساد مستهلكين وتشكّل الأسواق العالمية التي تحتاجها الصناعة الضخمة لاستهلاك استثماراتها الكبيرة جدّا دائما، أين ينحطّ الوعي المستغلّ في  أقصى إمكانياته الزمانية، ينحطّ بفعل هذا الاستغلال مثلما يحدث لعديد الميادين أو بعض الأنواع الحيوانية(PPA, 74)“.

ولنفهم جيّدا طبيعة “الخطر” الذي يعرّضنا له تصنيع الذاكرة من خلال الذاكرة التقنية التناظرية، و الرقمية اليوم، يجب العودة إلى ” الثورة الأولى”، ثورة الكتابة الأبجدية التي تمثّل هي الأخرى في نظر أفلاطون ” خطرا” على ” المدينة”. وبالفعل، يَكْمُنُ هذا الخطر، كما رأينا في سمة ” قابلية التأويل” لكل نصّ. وستكون الميتافيزيقا إذن محاولة “لسدّ الطريق” نوعا ما أمام هذه الإمكانية بالإقرار بحقائق مطلقة أبدية – “المثل” الأفلاطونية المعروفة- والتي ستجدها النفس في جهد ” التذكّر” anamnèse”.  لكن، يؤكّد ستيقلر نقيضا لهذه المقاربة “الدغمائية”، أن النصّ، بحكم كونه مكتوبا، يسمح لكلّ قارئ بتأويله حسب مكان وزمان القراءة ويسمح إذن، بوجود فكر – ” معنى”- متفرّد يسمّى ” ديا- كروني” dia-chronique”(تعاقبي). بيد أنّه، مثلما تطبّق هذه القراءة، على ذات النصّ الذي تبنى دلالته بفضل ” الضبط الموضعي الأبجدي” orthothécité alphabétique، يُخلق في نفس الوقت” تزامن ” synchronie” هو الذي يمثّل الجماعة، ” نحن” le nous” المدينة. إنّ تعاقبية التأويلات – ” المعاني”- وتزامنية النصّ و ” معناه” هي نتائج هذا الواقع،  كون الذاكرة التقنية الأبجدية تقيم مساواة مبدئية بين من يقرأ ومن يكتب. فكِلاهما يتحكّم في التقنية، وتؤّسس هذه الوضعية المساواة بين المواطنين، أي تساويهم أمام (النص المكتوب) القانون: كل مواطن يمكن له أن يقرأ ويكتب القانون. بيد أنّ هذه العُدَّة، بوصفها شرطا للديمقراطية على نحو ما ظهرت في اليونان القديم، هي ما ستضعه ” الثورة الثانية” للذاكرة التقنية، موضع استفهام. وبالفعل، حينما ظهرت في نهاية القرن 19م الذاكرة التقنية التناظرية، وقع تجاوز مرحلة جديدة من التجسيد أو التخارج. بينما مع الكتابة الأبجدية، يكون الكاتب والقارئ هما اللذان يرمّزان ويفكّكان رموز التسجيل  orthothétique بواسطة ذاكرة تقنية جديدة، وستكون الأجهزة (التصوير والفونوغرافيا والسينماتغرافيا، الخ) هي التي تؤمّن هذه الوظيفة المزدوجة. سيتميّز إذن العصر الصناعي بقطيعة بين المساواة التي تؤسّس العصر ” الحرفي” littérale”: ستكون من هنا فصاعدا الأجهزة، من جهة، وبالتالي المنتجون لهذه الآلات، مزوّدين بـ”معرفة” تكنولوجية هم وحدهم متحكّمون فيها-، و من جهة أخرى، المستخدمون لهه الأجهزة- وبالتالي المستهلكون دون أي كفاءة إن في طريقة تسجيل الذاكرة وإعادة إنتاجها (تجسيدها). إنّ فقدان الكفاءة “التقنية” هو في الواقع فقدان لمراقبة الزمن”الفردي”، أي التعاقبية، شرطا لمسار التفريد، الذي بواسطته يصبح كل وعي ما هو عليه.

إنّ اللاتناظر المفاجئ الذي يحدث مع تقنية الذاكرة التكنولوجية التناظرية (…) يستبدل مساواة المواطنين باللامساواة والتفاوت بين المنتجين والمستهلكين الناتج عن التقسيم الجديد للعمل وعن الأدوار الاجتماعية بنشر المكننة. machinisme. إنّ هذه اللامساواة الرمزية التي تصاحب اللامساواة الاقتصادية هي على الأقلّ أكثر خطورة مما هي عليه: إنّها تفصل الأفراد عن زمانهم أي عن ذواتهم. . (PPA, 90)

 

(يتبع)

 

 

المصدر

 


هوامش:

  – الفقرات المكتوبة بخط مائل شواهد نصية لستيقلر(رمز tt  كتاب “التقنية والزمن ” لستيقلر.. والتفلسف بالعَرَض ppa …)

-التعريفات مأخوذة من مدونة: الجمعية العالمية لسياسة صناعية للفكرhttp://www.arsindustrialis.org,

 « Association internationale pour une politique industrielle de l’esprit » , créée en 2005 par Georges Collins, Marc Crépon, Catherine Perret, Bernard Stiegler et Caroline Stiegler

ذاكرة حية وذاكرة اصطناعية Anamnèse (Hypomnèse)-1

من أصل يوناني  ana(الرجوع) وmnémé (ذكرى). تعني هذه العبارة إذن ذاكرة، تذكّر.لا يكفي الحفظ لا بد من استعادة أو إحداث، وباختصار تذكّر ما احتفظ به. لجل ذلك نميّز  في الذاكرة بين بعدين: التسجيل الذي يسميه اليونان منيزيس mnésis واللاتينيون mémoria وإعادة الذكرة او التذكّر anamnésisi عند الاغريق وreminiscientia عند اللا تين. وتعني l’hypomnèse كل التاقنيات للذاكرة (المذكّرات  والتمارين وغيرها ” فنون الذاكرة”  التي تسمح بالتسجيل المادي من كل نوع و تسمح بالتالي بالتذكّر.

2- التفريد: individuation مسار نموّ الفرد في مجتمعه بفضل فعالية المجتمع. ويختلف عن الفردنة  individualisation  حيث ينمو الفرد باستقلاله عن المجتمع نسبيا.

          3 – تفريد بسيكو -إجتماعي مصطلح لـ” سيموندان ” في كتاب ” التفريد النفسي والاجتماعي ” والذي يعني مشاركة التفريد الذاتي في مسارالتفريد الجماعي، بحيث لا اوجد إلا ضمن جماعة: تفريدي هو تفريد الفريق الذي أنتمي إليه.

4-ذاكرة فرديةتقنية  L’épiphylogénèse لفظ مستحدث مكون من كلمتين: phylogénèse و épigénèse ويعني هذا عوامل نموّ النوع الانساني التي ليست جينيّة . يعرف ستيقلر اللفظ épiphylogénèse بوصفه تقننة الكائن الحي حينما تخلق الأدوات الّدماغ

   Mnémothechnologie5- – تقنية الذاكرة تحيل في ذات الوقت إلى الذاكرة  ولكن أيضا إلى دراسة ادوات وتقنيات، التقنيات والأدوات التي تساعد على عمل الذاكرة.    

6 –  تقنيات الذاكرة mnémotechnique مجموع الطرق التي تساعد على الحفظ في الذاكرة  بواسطة تداعي المعاني  وكل طريقة تسمى mnémonique

7- العلم التقنيTechnoscience تكنولوجيات السمعي البصري والاتصالات والاعلامية . خضوع تكونولوجيات الفكر لمعاييرالسوق تحصرها في وظيفة ” تكنولوجيا مراقبة”.

8-الاحتفاظ  عن ستيقلر retentionما يحتفظ به أو يحصّله الوعي من ماضي (احتفاظ أولي) و بما يحتفظ به من ذكريات (احتفاظ ثانوي ) واحتفاظ ثالث ويخص النوع البشري هو ما يتبقى من تركمات طوال التاريخ ويساعد على نمو الفرد داخل الجماعة من خلال تجسيده في ادوات وتقنيات الخ