﴿وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ قرآن، الشورى، 13.
"لا تحبّوا العالم" رسالة يوحنا الأولى، 2: 16.
الزمن العلماني: تقديم
هل الإنسانية تغيّر قبلتها من جديد؟ أو “ماذا يعني أن نقول: إنّنا نعيش في الزمن العلماني؟” تكمن طرافة نقاشات الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في أنّه يخيّر عمدا أن يجدّف ضدّ التيّار السائد حول قضية ما، حتى يجعلنا نكتشف أنّ هذا التيّار في واقع الأمر لا وجود له إلاّ في مخيلة طبقة معيّنة من تاريخ أنفسنا، وخاصة في طريقة معيّنة من فهم أنفسنا الحديثة.
وهو ما فتئ يأخذ بأيدينا إلى جهة سردية، خاملة الذكر، مهجورة، لم نكن لنسير فيها من فرط الاحتكام إلى الصيغة الرسمية من أنفسنا الحديثة، تلك التي تقدّمنا بوصفنا نتاجا لصناعة الهوية الحديثة: الهوية الأنوية، الفردانية، الكونية، الصورية، ذات النزعة العلمية، الوضعية، المستنيرة، “الملحدة”، أو على الأقلّ “المحايدة” دينيًّا.
لكنّ ما نكتشفه مع تايلور ليس كذب الحداثة أو زيفها أو بطلانها أو عدميّتها؛ بل فقط أنّها منحازة بشطط ما إلى صيغة ما من تاريخ هويتها، وأنّها لا تؤرّخ لكلّ “نفوسها” الحديثة على قدم المساواة، وخاصة أنّها تسيء فهم جانب خطير جدّا ممّا حدث باسم الروح الحديثة، ونعني بالتحديد مصير الدين الذي كان يمثّل العنوان الأخلاقي الأكبر للإنسانية “قبل الحديثة” إلى حدود القرن الرابع عشر.
وبالتالي فهي لا تحتاج إلاّ إلى استرجاع سردي لكل تلك الأجزاء من الفهم الحديث لأنفسنا، والتي طمسها نوع معيّن من العنف التأويلي آن الأوان للتحرر منه. وأبرز هذه الأجزاء المطموسة من الهوية الحديثة هو دور الإصلاح الروحي فيها، وبخاصة جسامة هذا الدور وتجذّره في عمق الهوية الحديثة، وفي صلب النظام الأخلاقي الذي بنته لنفسها الجديدة.
ومن ثمّ فإنّ تايلور ليس ممّن يعجبه نقد الحداثة؛ بل فقط يميل ميلا لطيفا إلى استدراجها إلى مواقع ولادتها، دافعا بها إلى إعادة اكتشاف نفسها، وذلك بتحريرها قدر الإمكان من وطأة الصيغة الواحدية أو الهووية التي فرضها “عصر التنوير” وحوّلها إلى الصيغة الوحيدة من تاريخ أنفسنا الحديثة. نعني صيغة الإنسانية التي نجحت لأوّل مرة في تاريخ النوع في الخروج “الملحد” من عصر الأديان والدخول بلا رجعة في “عصر دنيوي” جذري وغير مسبوق.
هذه الصيغة السردية لتاريخ العلمنة الحديثة هو الأمر الذي يضعه تشارلز تايلور موضع سؤال، بكل حنكة فلسفية، وبكل جرأة على التفكير المضياف الذي يقبل ليس فقط العيش المشترك بل أيضا “التفكير المشترك”، وبالتالي بكل استعداد لقبول كلّ مناحي التعدّد والآخرية والتعقّد، التي صاحبت فكرة الحداثة نشأة ومسارات ونتائج.
أمّا الكتاب العمدة الذي وضعه تايلور لهذا الغرض فهو بعنوان “عصرٌ علماني” (1)، هكذا من دون أيّ تعريف آخر. وهو يضمّ تصديرا قصيرا ومقدّمة (ص 1-22) وخمسة أقسام، تحت العناوين التالية “عمل الإصلاح”(ص23-218) و” نقطة المنعطف”(ص 219-295) و” أثر النوفا”(ص 297-419) و”سرديات العلمنة”(ص421-535) و”شروط الإيمان”(ص 537-772) ويشفع كل ذلك بشبه “خاتمة: الكثير من القصص”(ص 773-776)، وأخيرا “هوامش” جميع الفصول (ص 779-851) و”فهرس” المواد والأعلام والأماكن (ص 853-874).
– “ماذا يعني أن نقول: إننّا نعيش في عصر علماني؟”(ص1) تلك هي الجملة الأولى من تصدير الكتاب. ومن الواضح أنّ تايلور يتحدث هنا باسم “نحن” معيّنة جدّا، هي نحن الغرب. قال: “أنا أعني ‘نحن’ التي تعيش في الغرب”. وفجأة أصبح كلّ الكتاب يدور حول قصّة العلمانية في الغرب الحديث. لكنّ قراءة هذا الكتاب الخطير تحت هذا الأفق الهووي سوف تسيء فهمه بشكل مريع؛ فقد تبدو “النحن” غربية من الناحية السردية؛ إلاّ أنّها من الناحية الإشكالية لا تلبث أن تقنعك بأنّها لا تعدو أن تكون “نحن” الإنسانية الحالية بكل أعضائها.
صحيح أنّ تايلور يضعنا- “نحن”- تحت اسم “البلدان الإسلامية” في موضع “الآخر” الذي لم يشارك مباشرة في مغامرة العلمنة الحديثة، إلاّ أنّ هذا لا يمنع أبدا ولم يمنع من وقوع “الأزمنة الحديثة” علينا، علاوة على أصلنا الإبراهيمي المشترك والذي لا يؤخذ في الاعتبار حقّ قدره إلاّ عرضاً.
ونحن سوف نجتهد فيما يلي في استكشاف المناحي الأساسية من سردية تايلور عن الزمن العلماني، يقودنا في ذلك التساؤل التالي: بأيّ معنى توفّر فكرة “الزمن العلماني”(في المعاني الثلاثة للعلمانية التي حدّدها تايلور في هذا الكتاب) سياقا جديدا لفهم العبارة المعاصرة عن “عودة الدين” في أفق الإنسانية الراهنة؟
العلمانية تُقال على معان ثلاثة
ينطلق تايلور من الفكرة السائدة عن ارتباط الدولة بالدين، على أساس أنّ الغرب يتميّز بأنّه مكوّن من “مجتمعات علمانية”؛ لأنّه يمتلك دولة لم تعد في رابطة رسمية بالكنيسة أو بالله، وصار الدين، غائبا أو حاضرا، مسألة “خاصة” أو شخصية. لكنّ قصد تايلور هو محاولة امتحان هذا الفهم السائد للعلمنة في الغرب، وهو أمر انتهى به إلى التمييز بين ثلاثة أنحاء من الفهم لهذه المسألة: في المعنى الأوّل، تبدو العلمنة بمثابة وضع حيث تكون الفضاءات العمومية “مفرغة من الله”(2) وعملية “إفراغ الدين من الدوائر الاجتماعية المستقلة”(ص2)؛ ويصحب هذا النوع من الموقف حُكم ما على عدم صلاحية الإيمان باعتباره ينتمي إلى العصور قبل الحديثة، حيث كانت المجتمعات عبارة عن “جماعة من المصلين”(3) وليس من المواطنين.
وفي المعنى الثاني تشير العلمنة حصرا إلى عملية “فصل الكنيسة والدولة”، وذلك يعني أنّ “العلمانية العمومية”(4) لا تمنع استمرار الحياة الدينية، بحيث يمكننا “أن نتحدث عن أزمنتنا باعتبارها علمانية” في مقابل عصور “دينية” سابقة؛ ولكن من دون منع المؤمن من الذهاب إلى كنيسته.
أمّا المعنى الثالث، وهو رأس الأمر في خطّة تايلور، فهو يبدو في التبلور ما إن نبدأ في إعادة الفحص عن “العصر بوصفه علمانيا”، لافتين النظر- هذه المرة- ليس إلى المعنى الأوّل (فراغ الساحة العمومية من الدين)، وليس إلى المعنى الثاني (الفصل بين الدين والدولة)؛ بل إلى معنى مستحدث، ألا وهو معنى أن نقول: إنّنا نعيش في عصر علماني، وبالتخصيص من حيث “شروط الإيمان”(5)(ص 3) الجديدة التي فرضتها نماذج العيش الحديثة. “
ويتكوّن التحوّل إلى العلمانية بهذا المعنى- من بين أشياء أخرى- من حركة تقودنا من مجتمع يكون فيه الإيمان بالله أمرا من دون منازع وفي الواقع غير مشكل في شيء إلى مجتمع يتمّ فهمه فيه على نحو بحيث يكون اختيارا من بين اختيارات أخرى”(نفسه) (6).
كل هذه المعاني الثلاثة للعلمانية تبني علاقة ما مع مسألة “الدين”؛ فتارة هو ذاك الشيء الذي “انسحب من الفضاء العمومي”، وطورا هو يشار إليه باعتباره “نمطا من الإيمان والممارسة هو في تراجع أو في عدم تراجع”، وتارة أخرى يؤخذ بوصفه “نوعا معيّنا من الإيمان أو الالتزام يتمّ الفحص عن شروطه في هذا العصر”(ص15).
لكنّ كلّ غرض الكتاب يعود إلى الفحص عن المجتمعات الغربية باعتبارها علمانية في هذا المعنى الثالث؛ هي الوحيدة (حسب رأي تايلور) التي صار فيها الإيمان “اختيارا”(7) خاصا، وبالتالي فإنّ من حق أيّ مؤمن “آخر” أو من حق أيّ شخص “غير مؤمن” أن يشاركنا المواطنة في كنف فضاء عمومي واحد، دون أن يؤدّي ذلك إلى أيّ نوع من النزاع اللاهوتي حول خلاصنا الأخروي أو طريقته أو عدم ضرورته.
ما معنى “الدين” في الزمن العلماني؟
ليس قصد تايلور الفلسفي أن يدافع عن هذا النوع من العلمنة أو ذاك ضدّ نوع أو أنواع أخرى؛ بل فقط أن يرسم الطريقة التي تمّ بها الانزياح الحديث “من مجتمع حيث كان من المستحيل فيه عمليّاً ألاّ يؤمن أحدٌ بالله إلى مجتمع حيث يكون الإيمان إمكانية إنسانية من بين إمكانيات أخرى”. وبالتالي لا تعدو العلمانية أن تكون هنا سوى “سياق للفهم”(8) داخله وبفضله تصبح كل مظاهر الحداثة ذات معنى بالنسبة إلينا؛ أي تدخل في صلب هويتنا.
بهذا المعنى الثالث يمكن أن نقول: إنّنا نعيش في عصر علماني (ص 4). ورأس الأمر في ذلك هو التأكيد على هذا المعنى العالي: “أنّ الإيمان بالله لم يعد معطى أكسيوميّا؛ بل هناك بدائل أخرى”(ص3)؛ أي طرق روحية أخرى وتجارب أخرى لما هو إيماني في أفق البشر.
وتكمن الطرافة الفلسفية لطريقة تفكير تايلور هنا في كونه لا يقدّم الإيمان بوصفه موضوعا تتصارع عليه “نظريات متنافسة”(9) (ص4)؛ بل باعتباره يثير “أنماطا مختلفة من التجارب المعيشة متشابكة مع فهمنا لحياتنا بطريقة أو بأخرى”(ص 5). فليس الإيمان أو الدين غير نوع من البحث عن “مكان ممتلئ نحوه نحن نوجّه أنفسنا أخلاقيا أو روحيا”(ص6). الدين مكان آخر لأنفسنا، وليس تهمة لأحد. وأقصى ما نحتاجه هو رسم “معنى لاختلاف التجربة المعيشة”(ص8) التي تخصنا.
إنّ كلّ ما من شأنه أن يساعدنا على “تحديد وجهة لحياتنا” هو دين أو بمثابة دين؛ لأنّه يشير إلى نوع من “الحضور” الاستثنائي لنمط معيّن من “الامتلاء”(ص6). إنّ الدين هو مكان ممتلئ بنمط فريد من الحضور يتميّز بأنّه يعلّق حياتنا اليومية باتجاه هدف أخلاقي أو روحي ما. وليس الإيمان غير الرغبة في أن نبقى “في اتصال مستمر مع مكان الامتلاء”(ص7) بما هو كذلك. وهكذا فالمعنى الجديد للدين معنى “معيش” وليس نظرية أو عقيدة كلامية ضدّ أحد.
على هذا المستوى تكمن طرافة أطروحة تايلور: إنّه يبشّر بكوننا دخلنا عصرا علمانيا في كنفه لن يكون الدين غير تجربة معيشة لنوع معيّن من الامتلاء أو من الدخول في علاقة مع مكان امتلاء مخصوص، تعده جماعة بشرية دون أخرى عنصرا مكوّنا لهويتها.
والحركة العامة لما يسميه تايلور “مجيء عصر علماني”(10) (ص 14) هي حركة انتقال الإنسانية الأوروبية من عصر ديني (العصر قبل الحديث)- حيث كان الناس يعيشون في إطار عقدي ولاهوتي مغلق، وحيث كان الإيمان معطى بدهيا لا يملك أيّ طرف حق مراجعته أو بنائه على نحو خاص أو شخصي، وحيث كان الإلحاد خطّا أحمر للجميع – إلى عصر علماني، (العصر الحديث)، حيث صار هناك تجارب متعددة ومختلفة للعلاقة مع المقدّس، ليس لأيّ واحدة منها حق التفوق أو الوصاية على أخرى، بل أكثر من ذلك: حيث صار “عدم الإيمان(11) بالنسبة إلى كثير من الناس ضربا من الاختيار الرئيس”. وهو ما سيفرض مسؤولية أخلاقية كبرى للقبول بآخرية الآخر إلى حدّ القبول بعدم إيمانه بما نؤمن به، دون أن يؤثّر ذلك على وضعية المواطنة معه.
ولذلك لم يعد السؤال: ما هو “الدين” بعامة؟ بل: ماذا يعني أو ماذا صار يعني الدين بالنسبة إلينا “نحن” الذين نعيش في عصر علماني؟ وحسب تايلور هناك شيء من التحدّي في هذا السؤال. كانت الإنسانية تعيش في عصر حيث كان “الدين في كل مكان”، وفي عالم “حيث كان مكان الامتلاء مفهوما على نحو لا إشكال فيه بوصفه خارج أو ‘ما وراء'(12) الحياة البشرية”، ثمّ مع الأزمنة الحديثة، وقع انتقال غير مسبوق، “إلى عصر متنازع عليه تعرّض فيه هذا التأويل إلى التحدّي من قبل تأويلات أخرى صار مكانها ‘في صلب”(13) الحياة الإنسانية”(ص15).
إنّ النمط الجديد من الإيمان قد صار “محايثا”(14) على نحو غير مسبوق. ولذلك فالسؤال الذي سيلازم التفكير في الدين راهنا هو: هل يمكن للبشر اليوم أن يعترفوا بشيء يكون “ما وراء أو يتعالى على حياتهم؟” (ص 16). ذلك أنّ المعنى التقليدي قبل الحديث للدين- أي الإيمان بنحو من التعالي العمودي- لم يعد بالمعنى الوحيد المطروح على الإنسانية. ثمّة تغيّر في هوية الدين نفسه علينا البحث عنه.
لقد بات الدين هو نفسه يُقال على معان عدّة، وعلى الأرجح هي عينها المعاني الثلاثة للعلمانية: صحيح أنّ الدين يفترض دوما علاقة ما مع إله متعالٍ؛ لكنّ التعالي هو بدوره قد غيّر من دلالته، بمعنى أنّه لم يعد يسير في بُعد واحد. فالدين في أفق الحداثة هو أوّلا علاقة مع إله متعال فقد مكانه من مركز الفضاء العمومي؛ حيث أخذ الإنسان يعتقد أنّه يعيش في ساحات عمومية معلمنة تماما (المعنى الأول للعلمانية).
وثانيا هو إيمان بإله انبرت النظريات الحديثة تؤكد على تراجع مكانته لدى المحدثين، سواء أكان ذلك على مستوى الشعور أو على مستوى الممارسة (وهو المعنى الثاني للعلمانية)
وأخيرا، هو تجربة معيشة، هي مثال ساطع على ظهور “شروط جديدة للإيمان” في سياق فهم جديد لأنفسنا نجم عن مجيء العصر العلماني، وحيث صار الدين إمكانية روحية من بين إمكانيات أخرى (وهو المعنى الثالث للعلمانية).
اختراع ذات جديدة: أنا عازلة لنزع السحر عن العالم
تساءل تايلور قائلا: “لماذا كان من المستحيل عمليا ألاّ نؤمن بالله في سنة 1500 في المجتمع الغربي، في حين أنّه في سنة 2000 قد صار العديد منّا يجد ذلك ليس فقط يسيرا بل حتى لا مندوحة منه؟”(ص25). إنّ المطلوب هو فهم هذا التغيّر الذي زحزح قبلة الإنسانية.
كان الدين إلى حدّ 1500 م حاضرا في كل مكان؛ كان العالم آيةً على حكمة الخالق، وكان وجود المجتمع مؤسّسا على زمن آخر غير “الزمن العلماني”(15)، على زمن “أعلى” من الزمن الدنيوي، وكان العالم “مسحورا”(16)، وتايلور يستعمل العبارة في نحو من التلميح المعكوس لمصطلح فيبر عن “نزع السحر”(17) عن العالم على الرغم من أنّه ينبّه إلى أنّها ليست بالعبارة الفضلى، إلاّ أنّه يستعملها لوصف العالم “قبل الحديث”.
ما وقع مع مجيء الحداثة ليس مجرد نزع للطابع السحري عن العالم (ص26) بل شيء موجب تماما: إنّه اختراع “معنى جديد للذات ” وإعادة تحديد “مكانها في الكون”(ص27). لم يكن يكفي أن يتم نزع الطابع السحري عن العالم قبل الحديث لإنتاج الحداثة. “كان من الضروري أن يتم التوفّر على الثقة في قدراتنا الخاصة على التنظيم الأخلاقي” لأنفسنا. قبل العصر الحديث كانت المعاني موجودة خارجنا (ص34)، وفي العصر الحديث، صارت “داخلنا”(ص30، 31).
لقد تكوّنت “ذات” جديدة، وتمّ الانتقال مع الحداثة من الأنا قبل الحديثة، التي يسمّيها تايلور “أنا مساميّة”(18)، كلّ ما فيها تستمدّه من شيء خارج عنها، إلى نوع غير مسبوق من الأنا، يطلق عليها اسم “الأنا العازلة”(19)، التي هي عبارة عن “نقطة” ذهنية حدودية، قادرة على اتخاذ مسافة من أيّ شيء يوجد خارج الذهن (ص37-38).
وبالتالي ذات قادرة على أن تكون “سيدة” على الطبيعة ومن ثمّ قادرة على “نزع الطابع السحري” عن العالم. وحين نعيش في عالم منزوع السحر “يكفّ الأنا العازل عن أن يكون مفتوحا، قابلا للاختراق من قبل عالم من الأرواح والقوى التي تعبر حدود الذهن”(ص300). إنّ الذات الحديثة هي أنا صارت تستمدّ أصالتها من نفسها.
وفي هذا السياق يأتي وعيها الحاد بفرديتها (ص 41)؛نعني بقدرتها الخاصة على ترصّد اللحظة المناسبة للفعل في كل ما يحيط بها بوصفه مجرد “موضوع” لإرادتها. والثورات الحديثة قد فُهمت من قبل أبطالها بوصفها “لحظات كيروطيقية”(20) لم تعد تأخذ مشروعيتها من “زمن مقدس” متعال عليها، بل هي تحدث فقط داخل زمن عادي لا نتوءات فيه سوى حضور البشر. إنّه الزمن العلماني.
قال: “أنْ تكون ذاتا عازلة، أن تكون قد أغلقت الحدود المساميّة بين الداخل (الفكر) والخارج (الطبيعة، ما هو فيزيائي) هو في جزء منه مادة للعيش في عالم نُزع عنه السحر”(ص300). ليس نزع السحر عن العالم الذي أقام عليه فيبر تأويله للحداثة سوى التعبير السالب عن ولادة ذات جديدة لإنسانية. ذات قادرة على العيش بوعي آخر وجديد للزمن هو الوعي العلماني. وعلينا أن نفهم ذلك بشكل موجب هذه المرة.
ما معنى “علماني”؟
تقابل كلمة “علماني” هنا لفظة من أصل لاتيني هي ” seaculum “، وهي لا تعني شيئا خطيرا؛ بل فقط “القرن” أو “العصر”(21). والطريف هو أنّ هذا المعنى هو أبعد ما يكون عن الدلالة الرائجة عن لفظتنا العربية اليوم، حيث يتمّ إلصاق كل معاني الهرطقة والإلحاد بمصطلح “العلمانية” وهو منها براء. والأغلب أنّ العلمانين هم الذين “يحبّون العالم”، على ما جاء في رسالة يوحنا الأولى: “لا تحبّوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم. فالذي يحب العالم لا تكون محبة الأب في قلبه….اعلموا أنّنا نعيش في الزمن الأخير”(22).
ومع أنّ القرآن لا يخلو من استعمال للفظة “القرن”(23)، حيث تعني مثلا “الجيل” من الناس، فهو لا يستعمل عبارة “العالم” ومن ثمّ لا إمكانية للحديث عن “العلمانيين”. أمّا الألفاظ التي يمكن أن تؤدي هذا المصطلح فهي كثيرة، من قبيل “الدنيا” و”الدهر” و”القرن” و”المدة” و”الزمن”…الخ. فإن التقابل الذي ضبطه تايلور بين “أزمنة عليا”(ما يقابل “أزمنة الأصول” عند ميد) وبين “زمن علماني” هو نفسه التقابل القرآني بين “الحياة الدنيا”(الزمن العلماني) و”الحياة الآخرة”(الزمن الأعلى أو المقدس).
وكل المعاني الأخرى تدور في مواضع هذا التقابل الذي اخترعه الإبراهيميون بين “الدنيا” و”الآخرة”، وليس التقابل المسيحي بين “الزمني” و”الروحي” غير تنويع من التنويعات الكثيرة حوله. ولذلك فإنّه من الممكن جدّا أن نضع لفظ “علماني” في معنى “دهري”، ولكن مع حذر شديد في دلالة “الدهري”؛ إنّ القصد هو المعنى القرآني وليس فرقة “الدهريين”، المأخوذة في معنى “الهراطقة” أو “الملاحدة”؛ فذلك يسيء إلى المصطلح ولا يفيد في ترجمته بشكل يليق بأهل العربية ولا بمصائرهم الراهنة.
إنّ القرآن (الجاثية، 24؛ الإنسان، 1) يستعمل لفظة الدهر في معنى يقارب “الزمن الدنيوي”، وإن كان معنى الدهر لا يمكن أن ينافس معنى “الدنيا” في رسم طريقة السكن في “العالم”؛ ذلك أنّ “الحياة الدنيا” هي مجال الإنسان الموجب نحو نفسه وأعماله ووجوده قبل الموت. وبالتالي فالمرادف الإسلامي المناسب لمصطلح “العلمنة” المسيحي هو “الدنيوة”؛ أي الانخراط في زمن دنيوي؛ أي متعلق بحياتنا الأرضية كما هي، دون أيّ حكم مسبق عليها، ومن ثمّ فإنّ المرادفة أيضا بين “دنيوي” و”مدنّس” غير صائبة إطلاقا؛ بل هي مجرد نقل سيّئ لأحد معاني المصطلح المسيحي “profanus”.
وربما كان أحد رهانات تحليلات تايلور عن المعنى الثالث للعلمانية هو توفير سياق جديد وموجب لفهم profanus اللاتيني في معناه الأصلي: أي ما يوجد أمام أو خارج المعبد، وبالتالي هو غير مقدّس أو عاديّ أو تطؤه العامة؛ أي متاح لأيّ كان؛ ليست الحداثة غير نمط من الوقوف “البريء” خارج المعبد، وليس هدما أو تدنيسا له.
ما هو “الزمن العلماني”؟
لا يعني تايلور بالزمن العلماني زمن الإلحاد الذي ظهر في القرن التاسع عشر، ولا زمن الفصل بين الدين والدولة الذي صار جزءا من العقلية القانونية للغرب في القرن العشرين. إنّه يعني فقط الزمن العادي، كما يحدث لنا، وكما نعيشه دون أحكام لاهوتية أو ميتافيزيقية مسبقة حول دلالته. الزمن العلماني هو إذن الزمن الدنيوي (ص 54). وكلّ من يوجد في “الدنيا”- أي في الزمن العادي للقرن الذي هو قرننا، أو للزمان الذي هو زماننا- هو “علماني”؛ أي من هذا “العالم” وهو “منصهر” أو “جزء لا يتجزأ”(24) من الزمن العادي الذي يعيش فيه.
فـ الزمن العلماني هو زمن معيش، وليس موقفا عقدّيا أو نظريا من أيّ شيء. الزمن العلماني هو ما نعده زمنا عاديا، وهو بالنسبة إلينا نحن مجرد زمن، مجرد فترة نعيشها وتمرّ. “وحين يمضي شيء ما فهو يمضي ليس أكثر”(ص55). وهو يشبه في شطر منه معنى “الدهر” القرآني. ومع ذلك ثمة شيء جديد في المصطلح الحديث للعلمنة؛ نحن ننتقل من “مكان” القرون الوسطي إلى “الفضاء” الحديث (ص58). إنّ الدهر القرآني هو زمن العالم؛ أي زمن المكان الذي لا يمكننا أن نخرج منه إلاّ موتا نحو آخرة معيّنة. أمّا الزمن العلماني فهو زمن الكون الذي يترامى نحو اللانهاية المظلمة، دون أن نتمكّن من ضبط نظام أخلاقي للإقامة فيه إلاّ باختراع أنا عازلة عنه. ليس الدهر غير إمكانية الزمن التي تتركها الأبدية لنا.
هو ما يتبقى من الآخرة في كل مرة، ولذلك فإنّ وعي المؤمن قبل الحديث بالزمان هو وعي بثقل زمن “آخر”، “متعال”، “عمودي”، على زمنيته الدنيوية. إنّه يعيش زمنا ثانويا، مخترقا من طرف زمن آخر، أعلى منه سابقا ولاحقا. أمّا الإنسان الحديث فهو يعيش في زمن دنيوي بلا آخرة، متجانس ولامتناه، ولا يحتوي على أيّ مكان متميّز أو استثنائي.
هو نقاط متكاثفة بلا نهاية، ولا ترسل إلينا بأيّ رسالة أو علامة أو آية خاصة. مع الحداثة مرّت الإنسانية من موقع العالم/العلامة أو العالم/الآية إلى مجال الكون الخالي من المعنى (ص59)؛ وبالتالي الانتقال من الزمن الدنيوي الذي لا يزال يرزح تحت زمن أخروي أعلى منه ومتعال عليه، إلى زمن دنيوي من نوع جديد، هو زمن الحياة العادية الحديثة؛ لأنّه دهريّ؛ أي زمني صرف، ومفتوح على حدثيّته دون أيّة ضمانات لاهوتية أو ميتافيزيقية. كان العالم يحتاج إلى أبدية حتى يكون له زمن دنيوي، أمّا الكون فينبسط في زمن علماني بلا هوية مسبقة (ص 60).
دور الإصلاح الديني في العلمنة: طريق آخر لـ فهم الحداثة
يقبل تايلور قبولا حذرا بالتوصيف الذي عيّنه فيبر عن معنى الأزمنة الحديثة بكونها قامت على خطة “نزع الطابع السحري”(25) عن العالم (ص 61). والقصد هو أنّ الطبيعة الحديثة هي محض امتداد تمّ تفريغه من أيّ حضور لأرواح أو آلهة أو أيّة قوى غائية أخرى. هي آلة تعمل وفقا لقوانينها الخاصة، ولا تعبأ بنا؛ لكنّ تايلور لا يستعمل مصطلح فيبر هذا إلاّ للاستفادة منه في استكشاف دلالة العالم قبل الحديث باعتباره كان عالما “مسحورا”(26)؛ أي آهلا بالأرواح والقوى الخفية، مسكونا بعمل المقدس. والسؤال الذي يهمّه عندئذ هو: كيف تمّ الانتقال من العالم المسحور إلى العالم الذي نُزع عنه سحره وتحوّل إلى كون بلا ملامح روحية ثابتة؟
يفترض تايلور- وهذا افتراضه الطريف- أنّ نزع الطابع السحري عن العالم ليس سوى توصيف سالب أو سلبي لدلالة الحداثة. وإنّه يجدر بنا أن نبحث عن توصيف موجب وإيجابي لتلك الدلالة، وهذا هو معنى الحديث عن “عصر علماني”.
هنا يأتي تقديره الخطير لدور ” الإصلاح” في ضمير أوروبا الحديثة، فما وقع من تحوّل نحو الزمن العلماني لا ندين به- حسب تايلور- إلى “الثورات” السياسية ولا العلمية؛ بل إلى نمط مخصوص من الإصلاح الكبير أو العميق، لم تكن حركات الإصلاح التاريخية إلاّ سطحه فقط. وفي عبارة يستلفها من صدّام حسين ويحوّرها يقول تايلور: الإصلاح هو “أمّ الثورات”(ص61).
للإصلاح عنده معان ثلاثة
- أ-الانعطاف نحو تقوى باطنية أكثر وشخصية بشكل حاد (ص 75).
- ب-الانزعاج من الطقوس والأعمال الكنسية القريبة من السحر.
- ج- الفكرة الجديدة عن الخلاص بواسطة الإيمان (ص 76).
إلاّ أنّ وجه الطرافة في هذه المعاني الحديثة للإصلاح هو كونها تؤدي إلى تدمير “العالم المسحور”؛ أي العالم الديني قبل الحديث، العالم / الآية، وتسهم بشكل فعال في خلق سبيل إنسانوية بديلة نحو الإيمان (ص77). لقد أسهم الإصلاح إذن على طريقته في نزع الطابع السحري عن العالم قبل الحديث، وأسهم في خلق “نزعة إنسانية حصرية”(27) هي الإطار الجديد لأيّ إيمان (ص 85).
يظن المحدثون أنّهم باهتمامهم الحاد بالطبيعة كمجرد آلة مادية يلتفتون عن الله؛ والحال أنّ الأمرين يسيران معاً: الطبيعة تعيدنا إلى الله بطريقة أخرى (ص 91). وما يسمّى استقلالية الطبيعة هو في الحقيقة مستقى من مصادر روحية (ص93). ولم يكن الهوس بمعرفة الطبيعة خطوة خارج الرؤية الدينية للعالم؛ بل كان فقط تحوّلا داخل هذه الرؤية (ص 95). ويتجرّأ تايلور على القول بأنّ الأساس في التغيّر الحديث كان لاهوتيا (ص 97).
“إنّ نزع السحر والإصلاح والدين الشخصي هي أشياء تسير معاً”(ص 146). لقد كان الإصلاح سياسة جديدة للضمير، وليس ارتدادا إلى دين محاكم التفتيش.
الزمن العمومي للمجتمع الحديث هو الزمن العلماني
لقد أمكن دوما النظر إلى العلمنة الحديثة على أنّها عمل سلبي، ينفي ويرفض الأزمنة الأخروية، المقدسة، المتعالية،…من أجل إرساء زمن وضعي، أرضي، مادي، دنيوي محض، مدنس، إلخ…لكنّ هذا التوصيف السالب لا يفيد شيئا في فهم معنى ما وقع فعلا في أفق الإنسانية الحديثة منذ خمسة قرون. ولا يساعدها على أن تقصّ علينا قصّتها بشكل مناسب؛ أي بشكل يساعدها على إيجاد حلول مدنية للصراع الدائر بين المؤمنين وغير المؤمنين في المجتمع المدني العالمي الراهن حول مصادر الذات ودورها في بلورة نمط العيش المشترك المأمول.
في واقع الأمر لا تعدو العلمانية أن تكون طريقة في العيش، ضمن زمن دنيوي متجانس بشكل كامل، زمن لا آخرة له، ولا يخضع لأيّ سلطة عمودية؛ بل هو زمن أفقي حرّ لا يعدنا بأيّ شيء خارج أفق الإنسان؛ لكنّ ذلك يعني خاصة أنّ الزمن العلماني هو زمن لكل الناس، وبالتالي هو لا يقصي أحدا، في معنى أنّه لا يشترط أبدا نفي الزمان الأخروي أو طرد الزمان المتعالي للإيمان قبل الحديث. إنّه زمن عمومي حيث يمكن لأيّ مشارك في الوطن أن يحتمي به وأن يسكنه وأن يتمثل نفسه من خلاله. إنّ الزمن العمومي الحديث هو زمن علماني (ص196). فما معنى ذلك؟
لقد خيّرت الشعوب الحديثة أن تتدخّل في تاريخها وأن تثور مطالبة بدساتير تعبّر عن إرادة الحرية التي تناسبها. نعني دساتير تحقّق أو تعد بتحقيق الوفاق المناسب بين تصوّرات الخير (حيث تتنزل تجارب الإيمان وتجارب المعنى الخاص بنموذج العيش وشكل الهوية والمعتقد واللون والضمير…) ومعايير العدالة (حيث تُطرح قضايا القانون والحقوق والدستور وطبيعة السلطة وشكل الحكم وشروط المواطنة وكونية القيم…) في المجتمع الحديث.
هنا تغيّر معنى “التأسيس” لوجود شعب من الشعوب، لقد تمّ نقل فكرة التأسيس من الزمن الروحي قبل الحديث (فكرة القضاء والقدر والأمانة والاستخلاف وحكمة الخلق ومنزلة العبد،…) إلى زمن علماني (حيث يمكن للشعب أن يقرر مصيره بنفسه) (ص 197). وذلك يعني غياب أي تأسيس قائم على معنى “التعالي” أو الزمن العمودي أو الرسم الأخروي أو الفعل المقدّس أو الوصايا المعصومة. إنّ الذي يحكم الشعوب الحديثة هو “مخيال اجتماعي” يعمل داخل زمن علماني صرف (ص 207).
ولأوّل مرة صار الشعب يوجد بشكل مستقل عن “قدره” السياسي، بحيث إنّه صار قادرا على أن يمنح نفسه دستوره الخاص بفضل فعل حر خاص في زمن علماني لا أقدار فيه ولا رسالات مسبقة، فإنّ ظهور فكرة الشعب الحديثة قد ارتبطت بفهم جديد تماما للزمان (ص 208). وذاك هو الزمن العلماني؛ إذ وحده الزمن العلماني بإمكانه أن يسمح لنا بتخيل مجتمع يوجد بشكل “أفقي”(ص 209)، في معنى أنّه يشرّع لنفسه شكل الخلاص الذي يناسبه في زمن لا يرزح تحت أيّ أزمنة أصلية أو أخروية.
بهذا المعنى يمكن أن يُقال عن “الحداثة: إنّها عصر لا سابق له”(ص218). لكنّ جدّة الحداثة ليس في إلحادها بآلهة العصور السابقة؛ بل في كونها قد اخترعت شروطا جديدة لتجارب الإيمان؛ إنّها شروط “ثقافة الأصالة”.
الدين و”ثقافة الأصالة”: نمط جديد من الإيمان
ما فتئ تايلور يؤكّد طيلة الكتاب على أنّ العلمنة لا تتعلق بأيّ انهيار تاريخي للدين؛ بل فقط بظهور “شروط جديدة ضمنها يمكن للإيمان وعدم الإيمان أن يتعايشا”(ص 295) على حدّ كلمة سواء. فعلى مدى القرن العشرين تمّ انتشار نوع مخصوص من “ثقافة الأصالة” أو “الفردانية التعبيرية”، ضمنها تمّ تشجيع الناس على اكتشاف “طريقتهم الخاصة في تحقيق أنفسهم”(ص 299). وحسب تايلور نحن نعيش اليوم في “سوبرنوفا(28) روحية نمطا من التعددية المتزايدة على الصعيد الروحي”(ص300).
وإنّ أخصّ ما يميّز الأساليب الجديدة لاكتشاف المعاصرين لطرقهم نحو خلاصهم الشخصي هو أنّ الدين الحديث لا يحتاج إلى وحي هذه المرة (ص292)، فهو وضعية إنسانية جذرية، وليس موقفا لاهوتيا تقليديا؛ وذلك أنّه نتاج مباشر لنوع من “المنعرج الأنثروبومركزي”(ص301): منعرج نحو ثقافة أصبح فيها الإنسان- وليس فكرة الله- هو المركز الروحي، وهذا هو معنى الزمن العلماني (ص302). إنّ نمطا جديدا من الإنسانوية هو الذي خلق شروطا جديدة للإيمان. إنّه الإيمان الذي صار يحمل نحوا من “قلق المحايثة” داخله؛ إنّها “القدرة الإنسانية على التعالي الذاتي”(ص311).
في الظاهر، ظنّ المحدثون أنّهم خلقوا بديلا إنسانويّا عن الإيمان المسيحي (معنى العلمانية 1)، وفي الباطن، لم تكن هذه النزعة الإنسانوية غير وضعية جديدة لتطوير شروط ذلك الإيمان (معنى العلمانية 2). لذلك فإنّ علينا أن ننظر نظرة أخرى إلى المنعرج نحو الإلحاد الذي وقع في القرن التاسع عشر؛ لقد كان فقط تحويرا للموقف الروحي للإيمان المسيحي: تحوّله إلى إيمان وفقا لشروط جديدة، هي شروط الزمن العلماني. إنّه تدرّج الشعور الديني من التعالي “العمودي” إلى التعالي “الأفقي”(ص392)، من إيمان الوحي إلى إيمان الأصالة.
لكنّ أفضل ما في هذا التحوّل ليس ظاهرة خوصصة الإيمان أو فردنته؛ بل تحديدا أنّ الإنسانية قد صارت مجالا لتعايش أنماط متعددة من الإيمان؛ بل مجالا يمكن فيه لعدم الإيمان أن يكون جارا روحيّا للإيمان، من دون أيّ ادّعاء لدينٍ حصري. لقد تعدّدت “البدائل” الروحية للإنسانية (ص423). وما كان أمرا حكرا على النخبة العالمة، صار اليوم هو الوضعية الروحية للجماهير (ص 424). لم يعد أيّ إيمان سوى إمكانية روحية من بين إمكانيات أخرى. ثمّة حقّ إنساني جذري في خوض أيّ تجربة إيمانية، بما في ذلك عدم الإيمان بالدين التقليدي.
لذلك ينبغي الاحتراس من الخلط بين العلمانية والإلحاد، كما بين العلمنة ونزع السحر عن العالم. فإنّ الأديان التقليدية نفسها لم تخل من عمليات نزع السحر عن العالم (ص 426). ولذلك فنزع السحر عن العالم ليس فقط غير موجّه ضد الدين؛ بل له جذور دينية صامتة يتمّ التغاضي عنها غالبا. وبالتالي ليس هناك “تهميش” للدين في العالم المعاصر؛ بل ما نشهده هو سعي إلى “نزع للطابع الخصوصي للدين”، فالتقاليد الدينية ترفض خوصصة الدين، نعني ترفض ثقافة الأصالة التي تجعل الفرد يستغني عن المؤسسة الدينية.
“عودة الدين” موقف إنسانوي!
ما يميّز الثقافة الغربية (اليهودية/المسيحية) (29)- حسب تايلور – هو تعريف معنى الدين في ضوء التمييز بين العالم الطبيعي و”العالم الآخر”؛ أي التمييز بين المحايث (الطبيعة) والمفارق أو المتعالي (العالم الآخر). هذا التمييز هو “اختراع”(ص15) ثقافي وليس معطى في الطبيعة البشرية. وبالتالي هو من جهد البشر وكسبهم المنحوت. ولذلك فإنّ السؤال لا يتعلق بطبيعة الله أو بماهية الإيمان بحدّ ذاته؛ بل بحاجة البشر إلى تطوير أسئلة تخصهم حول معنى وجودهم في العالم والإجابة عليها على نحو يرضي غرورهم الوجودي؛ أي على نحو يساعدهم على بلورة هوية خاصة وبناء فهم خاص لأنفسهم.
ومن ثمّ فكل شخص وكل مجتمع سوف يكون- حسب تايلور- قد طوّر لنفسه وعن نفسه بالضرورة هذا النوع من الأسئلة: “بأيّ شيء تتحقّق الحياة؟”، “فيم تتمثّل الحياة التي حقّقت أهدافها؟”، ” ما الذي يجعل الحياة تستحق الحياة فعلاً؟”، ” هل الحياة العليا- الحياة الفضلى- تتضمّن بحثنا، أو اعترافنا، أو خدمتنا لخير يقع ما وراءنا، في معنى أنّه مستقل عن الازدهار الإنساني؟”، “أين تقع الأهداف العليا لأنفسنا؟”، الخ… (ص16). وبكلمة واحدة: هل يحتاج الدين إلى أشخاصنا البشرية أم أنّه يتعلق بشيء يقع خارج أفق حياتنا؟
إنّ رأي تايلور هو أنّ الدين لم يعد ممكنا من دون موافقتنا؛ أي من دون تربية معيّنة لبشريتنا حتى تدخل في الأفق الروحي الذي يجعل الإيمان ممكنا، وهذا يعني أنّ “الأهداف العليا” أو “الغايات الأخيرة” التي يصبو إليها البشر ويعدونها عنوانا على تجربة الامتلاء الخاصة بهم هي شيء لا يمكن أن يدخل في أفق البشر إلاّ إذا غيّر هؤلاء البشر من موقفهم داخل العالم، وهو ما حدث مع العصر العلماني: إنّه عصر يبيّن للإنسان أنّ إيمانه هو ملكٌ له، وليس منحة من أحد. وبقدر ما يتمسك الإنسان بإنسانيته يتمسك بتجربة ما عن الامتلاء الذي يجعل الأديان ممكنة في قلبه.
كان الدين التقليدي (المسيحي خاصة) يدعو الشخص إلى “التخلي عن حياته الإنسانية”، و”اقتلاع نفسه”، كشرط للدخول في ملكوت الله (ص17). ولذلك يفترض تايلور أنّ مجيء العصر العلماني قد غيّر من شروط الإيمان. بل أكثر من ذلك: “إنّ مجيء العلمانية الحديثة قد تزامن مع انبثاق مجتمع ظهرت فيه لأول مرة في التاريخ نزعةٌ إنسانوية مكتفية بذاتها اكتفاء بحتاً، وصارت خيارًا متاحاً على نطاق واسع”(ص18).
أن تتديّن في عصر علماني يعني أنّك تؤمن إيمانا لم يعد يملك أيّ تبرير آخر غير نفسه، وهذا يعني أنّه موقف بشري محض؛ لكنّ ذلك لا يقلّل في شيء من أصالته. وبالرغم من أنّ النزعة الإنسانوية هي نفسها قد انبثقت عن تجارب روحية دينية؛ فإنّ الحداثة قد حوّلت الإنسانوية إلى سياق فهم لأنفسنا يسمح لكل تجارب الإيمان بأن تصبح ممكنة ومتاحة على نطاق واسع.
كان الفهم قبل الحديث لأنفسنا يضع نفوسنا داخل نظام لا نشكّل فيه أعلى الهرم؛ بل منزلة تظل مطالبة بالاعتراف بوجود أبدية عليا فوق رؤوسنا وما وراء عالمنا الدنيوي. كان ثمة اهتمام كبير بالإنسان، ولكن لم تكن ثمة إنسانوية مكتفية بذاتها.
أمّا مع العصر العلماني فإنّ موقفا جديدا في هوية الإنسان قد صار يشكّل السياق الأعلى لفهمنا لأنفسنا. وأطروحة تايلور هنا هي التالية: “إنّ العلمانية هي وضع(30)، في إطاره تتمّ تجربتنا عن الامتلاء وبحثنا عن الامتلاء؛ وإنّ هذا هو شيء نتقاسمه، نحن المؤمنين وغير المؤمنين على حدّ سواء”(ص19).
هذا يعني أنّ الإنسانوية الحديثة- الإنسانوية المكتفية بذاتها، التي صارت لا تعترف بما هو روحي إلاّ بقدر ما ينبع من هويتها الخاصة، ومن شخصها الإنساني؛ أي من تجربة ما “محايثة” لعالمنا- ليست موقفا ضدّ الدين، وليست بديلا عن الدين. وما وقع منذ نيتشه إلى دريدا، من نزعة مضادة للإنسانوية على أساس لا-ديني، ليس حجة ضدّ الأصل الروحي للإنسانوية الحديثة.
فلو قرأنا الحداثة في المعنى الثالث للعلمانية لتبيّن لنا يسيراً أنّ ما وقع هو انبثاق نزعة إنسانوية حصرية بفضلها تمّ للمرة الأولى تحقّق أمرين: توسيع الخيارات الممكنة أمام الضمير الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى رسم نهاية عهد الإيمان الديني “الساذج”؛ أي القائم على إيمان التعالي أو الآخرة المغلقة التي لا يكون فيه الإنسان هو السقف الرمزي لما يؤمن به.
خاتمة
على الرغم من تأكيد تايلور الصريح على الطابع المسيحي لمشكل العلمانية فهو ما فتئ يؤكّد بنفس القدر على أنّ العلمنة هي وجه من وجوه الحداثة إلى جانب الدولة القانونية والديمقراطية والإعلام الجماهيري،..الخ. لكنّ طرحه للحداثة هو الأكثر طرافة هنا. إذ يقول: “نحن نعيش أكثر فأكثر في عالم من ‘الحداثات المتعددة'(31)”(ص21). وهذا القبول بالطابع المتعدد للحداثة هو الذي قاده إلى نقد كلّ الصيغ السالبة لمنتجات الحداثة: كونها قائمة على سلسلة من السوالب أو النهايات وهو ما يطلق عليه اسم “قصص الحذف”(32) أو الطرح، في معنى أنّ الحداثة أو العلمانية قد قامت على أنّ الإنسان الحديث قد فقد أو تنصّل من أوهام العصر قبل الحديث أو تحرر منها.
وعلى العكس من ذلك يدعونا تايلور إلى النظر إلى الحداثة أو العلمانية بنظرة موجبة وإيجابية، باعتبارها “ثمرة اختراعات جديدة وأشكال جديدة من الفهم لأنفسنا وما يرتبط بها من ممارسات”(ص22). ليست الحداثة مجرد مجموعة من السوالب أو عمليات الطرح لأشياء سابقة؛ أي “قصة ضياع، أو حذف”، ويبدو أنّ كلّ من يواصل فهم الحداثة على أساس فرضية فيبر على “نزع الطابع السحري” عن العالم يفهم الحداثة فهماً سالبا (ص26).
فما تحتاجه الإنسانية هو سياسات اعتراف راسخة وصحّية من شأنها أن توفّر سياقا ملائما لفهم أنفسنا على قاعدة تعدّد إمكانيات الإيمان،وليس على طابعها الحصري. إنّ آدابا جديدة من الحرية يمكنها أن تساعدنا على تحقيق تعايش واسع النطاق بين أنماط الإيمان، وليس فقط داخل الدين الواحد أو التقليد الروحي الواحد؛ بل أيضا تحت لواء الإنسانية جمعاء، حيث يمكن لأيّ جوار روحي مع أديان الشرق الأقصى- مثل البوذية- أن يكون مفيدا لنا في تعميق علاقتنا بمصادر أنفسنا، فما بالك بالحوار الداخلي مع “الذين يقومون منّا مقام أنفسنا”، كما قال ابن سينا ذات مرة، في “منطق المشرقيين”.
الهوامش (الزمن العلماني):
- 1) Charles Taylor, A Secular Age (Cambridge, Massachusetts, and London, England: The Belknap Press of Harvard University Press, 2007).
- 2) “emptied of God”.
- 3) “a community of prayer”.
- 4) “the public secularity”.
- 5) “the conditions of belief”.
- 6) حسب تايلور هذا المعنى الثالث للعلمنة لم يحدث بعد في المجتمعات المسلمة، والحال أنّه وقع في المجتمعات “المسيحية (أو ‘ما بعد المسيحية’)” (ص 3).
- 7) “option”.
- 8) “context of understanding”.
- 9) “rival theories”.
- 10) ” the coming of a secular age”.
- 11) unbelief.
- 12) “beyond”.
- 13) “within”.
- 14) “immanent”.
- 15) “secular time “.
- 16) “enchanted”.
- 17) “disenchantment “.
- 18) “porous self “.
- 19) “buffered self “.
- 20) “kairotic “.
- 21) “century or age”.
- 22) رسالة يوحنا الأولى، (2: 16-17).
- 23) القرآن، الأنعام، 6؛ المؤمنون، 31؛ يونس، 13.
- 24) “embedded “.
- 25) “disenchantment “.
- 26) “enchanted”.
- 27) “an exclusive humanism”.
- 28) super-nova.
- 29) من الإجحاف استبعاد الإسلام من هذا المشهد.
- 30) “condition”.
- 31) “multiple modernities”.
- 32) “subtraction stories”.
المصدر: مجلة التسامح