مجلة حكمة
التنوير العربي المعاصر مصباح

التنوير العربي المعاصر: ملاحظات أولية من منظور ما بعد/لا كولونيالي – صالح مصباح

التنوير العربي المعاصر

       تتعالى مجددا- منذ  حوالي ثلاثة عقود من الزمان-  الدعوات لـ التنوير العربي المعاصر (أو إسلامي) ، وهي  قد احتدت في السنوات الأخيرة لأسباب تاريخية وسياسية محددة –هي سيطرة الخطاب الليبرالي الجديد تحديدا- مما ليس هذا  مقام التوقف عنده. وقد يذهب البعض –وهو محق في ذلك-إلى أن هذه الدعوات إنما تصدر إما عن إنكار، واع أو غير واع ،لوجود تجربة تنويرية عربية أو إسلامية ، وإما عن وعي  “بأزمتها”[1]، إن لم يكن عن  تشخيص كوارثي لحالها الراهنة  بالفشل الذريع [2]؛ و يعتقد هؤلاء أن ذلك الرأي يجانب الحقيقة التاريخية  لأنه يشطب كل ما تحقق منذ منتصف القرن الثامن عشر ملغيا مساهمات قطاعات هامة من التيارات الفكرية والسياسية غير الليبرالية في الجهد التنويري العربي المعاصر ، بل هو يجافي كذلك الواقع الفكري والسياسي معيدا الأمور إلى نقطة البداية .

التجربة التنويرية العربية

وليست خطورة ذلك منحصرة في نمط تقويم التجربة التنويرية العربية بل هي تتعدى إلى المفاعيل العملية لذلك التقدير إذ هو يبلبل الأمر على من يريد النظر إلى المستقبل من جهة الفكر أو من جهة القرار العملي فيدفعه إلى القبول بتصورات غالبة اليوم دونما تدبر نظري أو تدبير عملي أو روية سياسية و قيمية ، حسب العبارات القديمة. وهناك من يذهب خلافا لذلك إلى أن حركة التنوير العربية إنما قد بلغت من العمر قرنين ، وأنها اليوم تعاني أزمة نمو هي جزء من مخاض التنوير العالمي ، الذي تفطنا بفعل وتائر العولمة المتسارعة انه “مشروع غير ناجز” كما قال الفيلسوف الألماني هابرماس عن الحداثة منذ 1981، وهو ما ينطبق –في دعوى تابعي الدعوة الهابرماسية- على الفكر العربي ذاته.

     أما الدعوى الأساسية للفكر ما بعد الكولونيالي عن الحداثة والتنوير فهي أن مقومات الحداثة كما التنوير( نعني القيم التي حددها ماكس فيبر كما هو معلوم) ليست البتة  معايير كونية بل هي قيم محلية ناتجة عن تجارب تاريخية مخصوصة، نعرف تاريخ ولادتها وتفاصيل حياتها لم تصبح عالمية إلا بفعل التوسع الاستعماري  ، الذي قسم العالم تراتبيا  مبتكرا فضاء جغرافيا  مستحدثا من منظور مركزي أوربي ، و بفعل “العنف الابستمي” -حسب عبارة المفكرة الهندية غياتري سبيفاك الشهيرة- الذي أعاد تصنيف المعارف رافعا شأن النظر الأوربي (المستعيد إغريقا استعاريين لاتاريخيين) على حساب المعارف  الخبرية والمهارات التي أنتجتها الثقافات  غير الأوربية؛ وأخيرا بتقسيم الزمان التاريخي إلى تقليد (ما قبل حديث) وحداثة ووسم غيره بالأول واحتفظ لنفسه بالثانية.

ويكون الأمر تحقيب الفكر العربي(الذي يعنينا  رأسا ههنا[3]) كما يلي :  أولا التاريخ القديم ( من العصور الى تاريخ سقوط الامبراطورية الرومانية) يتضمن كل ما أنتج العرب قبل الإسلام من شعر وتجارب “بدائية” ، وهو ما لا يطرح مشكلة- وان كانت هناك عملية ربط مركزي أوربي للتاريخ العربي باليونان الهوميرية  . ثانيا التاريخ الوسيط ( مابين سقوط الإمبراطورية الرومانية وسقوط الإمبراطورية البيزنطية ) وهو تاريخ انحطاط تام ، ولذلك فهو مجرد حقبة وسيطة(ينبغي مجرد التذكير الوعظي بها) بين ازدهار (إغريقي روماني) سابق وازدهار (أوربي حديث ) حالي ؛ هذا في حين لا تمثل الحقبة العربية المزدهرة إلا استثناء يؤكد القاعدة (التاريخ الأوربي).

التاريخ الحديث لـ التنوير

أما التاريخ الحديث (الذي ينتهي بالثورة الفرنسية) فيسم بالانحطاط(ورديفه الاستبداد الشرقي)  كل التاريخ العربي المرتبط بالدولة العثمانية – ولا حاجة للتذكير بكون بعض السبب في ذلك صد الأسبان عن احتلال  الجزء الأكبر من المغرب العربي بعد سقوط غرناطة  ، واحتلال جزء هام  من أوربا الشرقية إلى حد محاصرة فيينا سنة 1688- والذي لن يبدأ الفكر العربي في الخروج منه إلا بعد حملة نابليون على مصر ، مما ينفي كل المجهودات الثقافية والاقتصادية  التي بدأت في مصر [4] ،وفي تونس [5] وفي الشام [6] قبل وصول “الفرنسيس” إلى المنطقة بأكثر من نصف قرن ، هذا دون الكلام على المجودات العثمانية ذاتها[7]. أما التاريخ العربي  المعاصر فسيعتبر تاريخ تحديث المنطقة وفق الخطاطة الكولونيالية (ومن حذا حذوها)  أو تاريخ تغريبها وفق ممانعي ذلك على ذات الأرضية.

وليس من الغريب أن تكتب تواريخ المنطقة من منظور مركزي أوربي  من قبل أبنائها أتباع المدرسة الكولونيالية –لا من قبل المستعمر  فحسب –  وفق استراتيجيات ثلاثة : أولا الرفع من شأن مصر الفرعونية ، أو بابل ، أو فينقيا ، أو قرطاج ، أو الدور الاغريقى الروماني في المنطقة ؛ ثانيا الحط من الحقبة العثمانية باعتبارها عصر ظلمات ؛ ثالثا كتابة تاريخ القرون الستة  الأولى العربية وفق المنظور الاستشراق كما بين ذلك ادوارد سعيد في كتابه الشهير، أو وفق الانثروبولوجيا التاريخية وريثة الاستشراق زمن الفكر ما بعد الكولونيالي .

  ونحن نقول -قبل تفصيل القول في ذلك-  و اعتمادا على أعمال مؤرخين مراجعين لتاريخ المنطقة العربية والإسلامية الحديث من منظور ما بعد كولونيالي تحديدا  أن التنوير العربي الإسلامي الحديث  قد نشأ  وعلى نحو مكثف ومتضافر العوامل عن حاجيات داخلية متعلقة بما اعتمل في المجتمعات العربية والإسلامية ذاتها من سعي إلى كسر رتابة الزمن الدائري الوسيط، وكذلك عن أخرى خارجية ممثلة فيما اسماه مثلا هشام شرابي اعتمادا على توينبي ” التحدي الحضاري الغربي”[8]، والتي يرمز لها عادة بحملة نابليون على مصر ، وان كانت مفاعيل ذلك قد بدأت قبل ذلك بكثير في محاولات العثمانيين منذ القرن السابع عشر تحديث عديد المسائل، وفي الهند والجزيرة العربية ، بل وفي مصر ذاتها قبيل مجيء نابليون.

و لكننا وفق ذات المقاربة ما بعد الكولونيالية أميل إلى اعتبار العامل الخارجي أكثر حسما من الداخلي في تفكيك تلك البنية الدائرية للزمن العربي الإسلامي الوسيط ، وإدراجه ضمن تاريخ “التمدن الأوربي” الخطي التقدمي ، وما ينتج عنه من قبول بذلك الزمن الجديد ، كما عند من سنسميهم التنويريين المعتدلين و التنويريين الراديكاليين ، أو ممانعته عند  التنويريين المضادين له[9] .

وهو ما يجعلنا نعتبر منذ البداية أنه لا مفهوم “النهضة” المعتدل  ولا مفهوم الصحوة  المضاد ينطبقان على ما شهدته مجتمعاتنا منذ الثلث الأخير من القرن الثامن عشر ، بل هي حركة النزاع بين السعي إلى مواصلة الاندراج الموجب، أو بالأحرى التابع، في حركة الحداثة العالمية ، ومواصلة تقبل مفاعيلها النظرية والعملية ، والسعي إلى تبيئتها ،وبين العمل على ممانعة ذلك الاندراج بدعوى ابتكار تنوير إسلامي معاصر يستعيد النور الإسلامي الأصلي . وهو ما يعني في حقيقة الأمر الالتباس الكولونيالي ذاته : فمن جهة قبول بالحداثة الغربية فكرة ، ومن جهة ثانية رفضها بما هي تتقوم أولا بالوعي الحاد بالجدة وبضرورة الانقطاع عن كل قديم والانفصال الجذري عنه.

وتستند ثانيا إلى الإيمان بأولوية المستقبل على الماضي بل والحاضر كذلك وهو ما يعطي معنى لعقيدة التنوير الأساسية نعني “التقدم”ويحدد بالتالي وجهة الزمان و معنى التاريخ. وعمادها ثالثا التركيز على الدنيا أو ما يسمى عادة النزعة العلمانية التي انطلقت منذ بدايات “العصور الحديثة”بنقد الرؤية اللاهوتية للكون وللعالم وللإنسان وكل الفلسفات والمؤسسات التي تعاضدها ، كما رأى هابرماس في نصه الشهير كما ذكرنا سابقا.

   وإن ما  نريد الإشارة إليه هنا يختلف عن المقامين السابقين ، فلا نحن نريد النظر تبجيليا إلى التنوير ونتحسر على غيابه عندنا ، ولا نحن نتباكى على فشله ، كما أننا لا نشاطر الدعوى الهابرماسية – بما فيها من زعم موضوعية وكلية- عن عدم اكتمال الحداثة. إنما مقام النظر هنا  مقام ما بعد/لا كولونيالي ، يراجع على نحو جذري التاريخ العالمي ، بما فيه التنوير، ونعني ب“ما بعد” في كلمة “ما بعد كولونيالي”المعنى الزمني (ما بعد الاستعمار) والمعنى التقويمي (التقدير وفق معايير الاستعمار) ومعنى الوضع المعيش والسياسي (اشتراك المستعمِر السابق والمستعمَر السابق في ذات الوضعية اللاحقة للانشطار المذكور) .

ولذلك فقد أضفنا إلى السابق/الظرف “ما بعد” سابقا آخر “لا” لنشير إلى تعقيد علاقة التنوير العربي بالتنوير الغربي الذي يقترب في هذه الحال –على نحو ما- من صلة الفكر الحديث في أمريكا الجنوبية بالفكر الأوربي (مرجعه وأصله) [10]، في حين كانت أوربا الحديثة بالنسبة إلى العرب المعاصرين في ذات الوقت الجار الجغرافي الذي كان تابعا قبل 1492 ، تملك أثناء فترة “الاستتباع” -وبفعل علاقة الجوار- ميراثا قديما، وهو من يعتبر اليوم قبلة/سلطة تقتدى وتمانع في ذات الوقت.

    رب مقام أصبح  منذ أكثر من عقدين يعتمد على نحو متزايد[11] في الدراسات التاريخية والانتروبولوجبة والفلسفية(تعاضدها الدراسات الثقافية والدراسات الجندرية) ، بعد أن كان مقتصرا على الدراسات الأدبية في العالم الانقلوسكسوني ، بل أنه ليشهد اليوم نوعا من الانفجار المعرفي الذي يرتبط على نحو وثيق بمدارات عملية سياسية وتاريخية مهمة جدا تتعلق بأسئلة محرقة هي أسئلة الذاكرة التاريخية  المشتركة للمستعمرات السابقة  ولمستعمريها ، وتحديد نوعية المعرفة الكونية على نحو نقدي ، وطبيعة السلطة ما بعد الكولونيالية في بلدان المركز السابق كما في بلدان المحيط السابق تباعا ، ونوع العلاقة الراهنة  بين الجنوب والشمال.

    فكيف يمكن –من هكذا مقام – طرح سؤال وضع الفكر العربي المعاصر المخصوص بالإضافة إلى التنوير عموما، نعني تحديد هويته التاريخية، ومسائله العامة، وحصاده، و أسئلته العالقة ومهامه المطروحة زمن استئناف التنوير عالميا؟ وهو ما لا يمكن التحقق منه في مثل هذه العجالة ولذلك نحونا هنا منحى طرح المقالات التأليفية أكثر من منحى الحجاج التفصيلي.

التيارات الكبر للتنوير

  1-يمكن أن نعرض حركة التنوير على جهة ذات طوبولوجيا التنوير الأوربي من جهة المسائل كما من جهة التيارات الكبرى[12] ، ليس لان تلقي التنوير الأوربي عندنا قد أنتج مجرد رجع صدى الصوت الآتي من هناك، بل لاعتبارات أكثر تعقيدا : أولها  القرب الجغرافي من أوربا  وبالتالي الانتماء إلى ذات المنظومة الجيوسياسية والتاريخية التي كانت تسمى العالم القديم نعني الرقعة التي كونت إمبراطورية الاسكندر وما جاورها مثل روسيا الحالية وأوربا الغربية والمغرب العربي الحالي[13] .أما ثاني الاعتبارات فهو الاشتراك في ذات الموروث الروحاني الذي كان في أصل حضارات هذه المنطقة نعني الأساطير المصرية والبابلية والفينيقية-القرطاجنية  واليونانية والبربرية-الأمازيغية ، والدعوى الدينية التوحيدية المصرية والإبراهيمية(وورثتها اليهودية والمسيحية والإسلام) ،والعلوم البابلية والمصرية واليونانية ، والفلسفة  اليونانية ، والتشريعات المصرية والبابلية والتوراتية واليونانية.

أما آخر تلك الاعتبارات فكون الفكر والمجتمع والثقافة الغربية إنما قد أصبحت منذ منتصف القرن الثامن عشر، أي بعد أن انتصرت قيم التنوير في اغلب أوربا، جزء من حركة  عالمية هي الحداثة والتحديث التي استتبعت أغلب القارات بدء بأمريكا منذ 1492 التي كانت في ذات الوقت استكمال طرد الآخر/الشبيه العربي الإسلامي وكذلك اليهودي من اسبانيا ، وبداية كارثة “إخفاء الآخر” السابق على وصول كولمبوس إلى أمريكا[14] ، وبداية الاستنزاف الديموغرافي لأفريقيا ، واستتباع آسيا، كما إبادة السكان الأصليين لأستراليا[15] .

 وإذا كان قد أمكن للمراجعة التاريخية  لمسارات التنوير الغربي الحديث ،أن تميز بين ثلاثة برامج أولها التنوير المعتدل العقلاني والخبري الذي ابتدأ منذ لوثر إلى كانط ،إذا توقفنا عند عتبة القرن 19 المعاصرة لولادة التنوير العربي ذاته، وثانيها التنوير الراديكالي الذي دشنه كل من الطوباوي طوماس موريس والمفكر السياسي الايطالي نيقولا ميكيافلي وصولا إلى الثورة الفرنسية في لحظة راديكاليتها (1793) والتي سيتلقاها الفكر العربي على نحو عميق، وثالثها التنوير المضاد التنوير المضاد الذي بدأ بالإصلاح المضاد –ردا على الإصلاح الجذري- الذي سيساهم رغما عن إرادته في نشر قيم التنوير في المشرق العربي  انتهاء بالرومانسية التي سيكون لها أتباع في الفكر العربي؛  فإننا نجد أن الاستشكالين العربيين المذكورين إنما قد حملا ذات البرامج على نحو مخصوص ، هو نحو الاستتباع والممانعة : فاستنبت الاستشكال الأول والاستشكال الثاني في صيغته الموجبة  التنوير العربي المعتدل كما التنوير العربي الراديكالي ،على ما بينهما من فروق؛في حين ولد استشكال الهوية تنويرا عربيا مضادا ، كما سيتجلى لاحقا.

    ولذلك يمكن البدء بأن نقول باختصار عن حركة التنوير العربية  إنها سعي الدول والأحزاب والإفراد بواسطة الإنتاج المادي والرمزي والتنظيم السياسي إلى إرساء مشروعية نظرية وعملية مستحدثة،  وذلك بتحقيق قيم التنوير في المنطقة العربية أي دعم العقلانية ،وتطوير التقدم والتسامح ونمو الحرية وتحقيق السعادة وتجسيم الإنسانية والاقتراب من الكمال الإنساني ،بفضل العلم والتقنية والديمقراطية وحقوق الإنسان، اقتداء بالأوربي أو ممانعة له.

وليست عبارات “اقتداء” “ومحاكاة” و”ممانعة” مرسلة بل هي تلخص النحو المخصوص لنوع التعاطي ما بعد الكولونيالي  مع صلة أوربا بخارج أوربا ، “فالاقتداء” نعني به ما يجمع ” صلة التابع” (Subalternity) بالغالب ،وهي  تعود –كما هو معلوم- إلى المفكر الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي منذ 1934- 1935 [16]لتوصيف وضع الفلاحين والعمال  وغيرهم الذين لا يمكنهم بلوغ منزلة الهيمنة ، وقد استعملته مدرسة دراسات التابع الهندية لفهم الطبقات والفئات المغلقة والأصناف العمرية والأنواع الاجتماعية  وغيرها من الوضعيات التابعة أو الخاضعة التي تنفصل عنها النخب  الاستعمارية كما المحلية التي كونها الاستعمار. وقد أعطت غياتري سبيفاك معنى شهيرا للتابع يتراوح بين من “لا يتكلم بذاته” وبين “من يوجد له مكان –حتى ممانعا- إلا بعد اعتراف المهيمن به[17].

وتلحق بوضع التبعية  صلة “التقليد/المحاكاة/التنكر”Mimicry) ( التي تعني ما ركز عليه هومي بابا من التباس(أوالتناقض الوجداني رغبة في الغالب  ونفور منه في ذات الوقت ) صلة التابع بالغالب  فهو من ناحية يقلد ثقافته وسلوكه وعاداته ولكنه ولا يقلدها دون تحوير وتعديل بل وفي بعض الأحيان بسخرية مما يهدد علاقة الغلبة ذاتها إلى حد يعتبره الغالب تهديدا[18] : وهو ما يعني أن المحاكاة تحمل معها “الممانعة” (Resistence)التي تعني الانفصال عن تمثلات المسعتمر أو قلبها – إلى جانب احتفاظ البعض بما يعنيه  اللفظ الشائع “المقاومة” الذي ارتبط بمرحلة مناهضة الاستعمار سياسيا وعسكريا- [19] .

    ونحن نذهب إلى أن التنوير العربي  قد صاغ كل القيم  التنوير( نعني الإنسية الفلسفية ،والعقلانية الدنيوية ،والتسامح الديني والمدني والسياسي وحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية) في استشكالين كبيرين هما على نحو المحاكاة والتبعية –  أو بعبارة خلدونية اقتداء المغلوب بالغالب- سؤال التقدم ، من جهة ، بالنسبة إلى ما سنعتبره تنويرا معتدلا تنويرا راديكاليا؛  ومن جهة ثانية بالتفكير مبكرا على نحو الممانعة في “قضية الهوية” بالنسبة إلى ما سنسميه تنويرا مضادا.  ومن البين أننا سنستعمل هنا- لما سبق من اعتبارات- هذه المعاني على  نحو أوسع مما وردت عليه في الكتابات ما بعد الكولونيالية لتدبر وضع التنوير العربي المعاصر.

      ورغم أنه ليس ثمة إجماع حول تحقيب واحد لمراحل التنوير العربي  فإننا نعتقد  أن بدايات التنوير العربي ،قد تمثلت في ما نقترح تسميته  “تنويرا عربيا وإسلاميا  مضادا” ،وقد ظهر جليا  في كتابات جمال الدين الأفغاني- الذي احتك بالتنوير الفرنسي ممثلا في رينان وغيره –  وعند رشيد رضا  ، قبل أن يظهر في كتابات إسلامية راديكالية تعيد إلى الذاكرة عديدة عناصر ما يمكن أن يسمى الثورات المحافظة التي نودي بها في أوربا القرن الثامن عشر على خلفية الرومانسية-وهي في معنى ما تنوير مضاد رافض لمفاعيل الثورة الفرنسية ، وفي القرن العشرين على خلفية “الانحطاط الحضاري للحداثة” ،رفضا لمفاعيل الليبرالية الكلاسيكية والشيوعية في ذات الوقت.

بيد أننا نحن نجد بداياته في الحركات الإصلاحية التي لم تنتج عن الصلة بالغرب ، مثل الوهابية منذ القرن الثامن عشر ،والسنوسية والمهدوية في القرن التاسع عشر ، التي نتجت عن حاجات داخلية للمجتمعات الإسلامية أكثر منها عن التحدي الخارجي  وكانت بمثابة موجة مبشرة ومنذرة في ذات الوقت ، ولذلك  ليست – كما قد يبدو لأول وهلة –  شبيهة بالحركات الإحيائية الوسيطة ، بل كانت  بدايات حركات تنوير مضاد ، يسعى إلى تحديث السياق المحلي انطلاقا من عناصره الداخلية أساسا . وهو ما لن يمنع مواصليها في القرن التاسع عشر من الاستصلاح  الواعي لبعض العناصر الوافدة ، للرفع من شأن المحلي ؛  كل ذلك بفعل اندراجها السالب ضمن سياق عالمي حديث ، كانت تسعى إلى ممانعته ،  لكنها لم تفلت من إحاطته :  ولذلك ستكون  سبيلها منذ رشيد رضا “التأصيل” الذي كان قد عبر عنه من قبل بمعاني “الإحياء” أو “الإصلاح” ، أو “العودة إلى السلف الصالح” ..

  أما التحقيب السائد  التابع للرؤية الكولونيالية (على أرضية ليبرالية مثل ألبرت حوراني[20] ،أو على أرضية ماركسية تقليدية مثل رئيف خوري [21]) فيعتبر ولادة التنوير العربي ممثلة في الإصلاحية الليبرالية العربية والإسلامية الأولى  التي نتجت عن وعي بالتباعد التاريخي بين المسلمين وأوربا ،عبرت عنه  كتابات رفاعة رافع الطهطاوي، وعلي مبارك  ، وخير الدين التونسي ، ومحمد عبده ، ورشيد رضا في مرحلته الأولى قبل 1922 .

رب وعي أنتج –في هكذا منظور- “تنويرا معتدلا” مداره تحصيل “التمدن” -حسب العبارة العربية الكلاسيكية التي هي ترجمة عربية معاصرة في لفظ كلاسيكي لمعنيي الحضارة والتقدم في ذات الوقت  كما يتجلى ذلك عند جرجي زيدان مثلا[22] -بمعنى البحث في التقليد الإسلامي الوسيط عما يوافق قيم التنوير الأوربي ، أو العمل على التوفيق بينهما ، فان امتنع ذلك توسل ما يمكن أن يسمح بالاقتداء بقيم التنوير الأوربي دون مخالفة التقليد الإسلامي ، وهو الاجتهاد كما هو معلوم .

    ثم ظهر بعد ذلك التنوير المعتدل ما يمكن تسميته “التنوير الراديكالي العربي” ،  والذي كان مداره ذات  “التقدم” حسب العبارة المستحدثة ، أي تحديث الفكر والمجتمع العربي على نحو جذري سواء بالقيام بثورة ليبرالية أو اشتراكية دولانية  ، أو بالقيام بثورة اشتراكية . و قد كان هذا التنوير الأكثر تعقيدا : إذ هو قد ضم اشتراكيين رواد مثل شبلي شميل وفرح انطون ونقولا الحداد في مصر ومحمد علي الحامي في تونس، وأغلب الأحزاب الشيوعية العربية التي تكونت بعد الحرب الأوربية الأولى من جهة. كما ضم من جهة ثانية ليبراليين مثل قاسم أمين  ومنصور فهمي وسلامة موسى ولطفي السيد ، وطه حسين،ونظيرة زين الدين ؛ وعروبيين جمهوريين مثل الكواكبي وساطع الحصري، و أنطون سعادة لاحقا. بل وكذلك إسلاميين لبراليين مثل   التونسي عبد العزيز الثعالبي  و المصري علي عبد الرازق والتونسي الطاهر الحداد وخالد محمد خالد،و المصري علال الفاسي لاحقا.

   وقد انتهت الموجة الأولى من دعوى التقدم التي بدأت في مصر وتونس وتركيا ،باحتلال فرنسا لتونس 1881 و بتحول تركيا قيصريا إلى مواقع تنويرية أوربيا غربية يحميها الجيش منذ 1924 ،وبفشل كل المشروع الليبرالي المصري الجذري منه والمعتدل ، منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي وابتداء الحرب العالمية الثانية.

بيد أن هذه الأخيرة أنتجت تحويلا لذات المسالة بان ألبستها لبوسا جديدا هو فكرة الثورة الوافدة من التجربة الأمريكية والفرنسية وخاصة الروسية (والتي لم يكن تنشيط فكرة ” الفتنة ” الوسيطة- سيئة الصيت – للتعبير عنها من أجل استهجان الثورة ،  قد حدث بعد مع معاصرينا في الثلث الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين  ، وذلك إلى حد استعادة معنى “الفتنة” الوسيط  بالدعوة إلى حرب أهلية داخلية ، والاقتراب من معنى ” الحرب المقدسة” الصليبي في مواجهة الاغيار من العالمين) التي سبق أن هيا لها ” الجيل الأول ” من التنويريين الراديكاليين ، كما تجلت في مراس الأحزاب الشيوعية العربية وكذلك الأحزاب القومية ، الذي عوضت في قاموسها السياسي الجديد عبارات ” الثورة السياسية “  و” التنمية الاقتصادية ” و” الوحدة القومية” ، عبارات “التمدن” التليد و”التقدم” الطارف في ذات الوقت كما اقترحته التجربة الأولى .

فكانت الموجة التنويرية الثانية مضادة للكولونيالية جذريا ؛  وذلك قبل أن تنطلق الموجة التنويرية العربية الثالثة ما بعد الكولونيالية زمنيا ووريثة الحقبة الكولونيالية واقعا ، وهي ذات مسحة  خلاسية  بينة  بعضها ليبرالي جديد ، تخلى عن كل ما سبق من شعارات ورفع راية الديمقراطية وبلغة الراهن ” الإصلاح السياسي”، مستعيد عناصر عديدة من كتابات الليبراليين الكلاسيكيين أمثال الطهطاوي وخير الدين والكواكبي وسلامة موسى واحمد لطفي السيد ، واصلة بذلك العقد مع التنوير المعتدل الليبرالي الأوربي ، نعني تنوير هوبز ولوك ومنتسكيو وكانط وتوكفيل وميل  من الكلاسيكيين ، و تنوير ريمون ارون وجون راولز ورونالد دواركين ، ويورغن هابرماس وفيل كيمليشكا من المعاصرين؛ أما بعضها الآخر-وهو أقل قيمة عدديا- فقد واصل تبني ذات شعارات التنوير الراديكالي في أطيافه الماركسية والاشتراكية المتنوعة ،” الثورة السياسية “  و” التنمية الاقتصادية ” و” الوحدة القومية” وان أضافت لها  -نتاج تجربة الاستبداد الدولاني الجمهوري والليبرالي ، والاستبداد الملكي والأميري- مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان،  و-وفي مواجهة  ضغط التنوير الإسلامي المضاد  المكون الثالث للموجة التنويرية الثالثة – قضايا العلمانية[23] وحرية المرأة .

 2- أما عن الاستشكالين المذكورين ،فيمكن القول  فيهما باختزال  شديد  ما يلي:لقد أصل التنوير المعتدل  – على جهة الاستتباع/التقليد  – التجربة التاريخية التنويرية الأوربية الكلاسيكية التي أنتجها القرن الثامن عشر الأوربي ،محليا على ضربين ، الأول بان نشط لتسميتها معنى عربي كلاسيكي هو “التمدن”وذلك منذ الطهطاوي وخير الدين في القرن التاسع عشر انتهاء بكتاب شكيب ارسلان الشهير “لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم؟” (1936)،  الذي بين بوضوح وضع “التابع” الذي كان عليه استشكال التقدم/التمدن/الترقي.

أما الضرب الثاني فهو إدراك التجربة التنويرية العربية المعاصرة على أنها تتعلق بنهوض جديد لا بتنوير، باعتبار أن” التنوير الوسيط” تنوير بغداد وقرطبة” بعبارة الفيلسوف المعروف ليو شتراوس منذ ثلاثينيات القرن الماضي -بل وفي ذات سنة كتابة نص شكيب أرسلان- ، إنما شهد انتكاسا يمكن الخلاص منه باستنارة متجددة لا بتنوير مستحدث. أما التنوير الراديكالي فقد عمل على “استجلاب” كل أمارات التقدم الأوربي -من مشروعية سياسية هي الديمقراطية أو الاشتراكية  وحرية المرأة ، ومشروعية معرفية هي الوضعية والعلم والسعادة ،الخ –  بالثورة السياسية أو بالإصلاح التربوي،  لاجتثاث “التخلف التاريخي” –حسب العبارة الشهيرة – عن العصر.

    أما التنوير المضاد فلم يلغ مطلب طوال الموجة الأولى والثانية، “التمدن /التقدم” مدار التنوير المعتدل والراديكالي، ولكنه نافسه بمطلب الممانعة مطلبا مركزيا. بل لعله مما لا يجانب الصواب ما قلنا من إن مطلب الهوية المذكور إنما ولد مبكرا ردا على الموجة الأولى من موجات التنويرين المعتدل والراديكالي ، وعلى التحدي الكولونيالي الخارجي الذي استجاب له إيجابا التنويران المذكوران ، في ذات الوقت. لقد أدرك دعاة هذا التنوير أن نجاح الإشكالية الأولى في صيغة “التمدن” أولا و” الثورة ” أو” التنمية” لاحقا  أو “الديمقراطية ” أخيرا ، إنما كان يعني نهاية ما يمكن أن يعتبر ما يفرق “الجماعة الإسلامية ” عن غيرها ، وما يمكنها من إدراك “ماهيتها” واصلها، نعني الهوية تحديدا .

وليس من الصدف أن يكون أول مفكر هووي إسلامي واع بذاته  رشيد رضا الثاني بعد 1922 ،  ولا من الخلف أن يكون مناصرا للدعوة الوهابية ، وان يؤول إنتاج الأفغاني وعبده تأويلا معاديا للتنوير المعتدل من مقام الهوية بالذات.

كما لا داعي للتذكير بصلات الحركات الإسلامية اللاحقة غربا وشرقا بأفكاره،  فهي أشهر من أن  تحتاج إلى إبراز ، ويكفي أن نقول إن أغلب  تلك الحركات إنما سعت إلى استبدال هرمونيتيقا ” الاجتهاد” التي استعملتها الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية ممثلة في محمد عبده ورشيد رضا الأول لملائمة الإسلام بالعصر عندما عادت إلى التاريخ العربي الكلاسيكي فنشطت كل التيار التوفيقي الكلامي منه (المعتزلة والأشعرية ،والماتريدية، والشيعة الزبدية) والفلسفي المشائي-ومن ضمنه الغزالي-  ، والتصوف الفلسفي العقلاني ، إلى جانب فقه المقاصد لتسويغ الدعاوى المعاصرة إلى التنوير المعتدل؛فعوضتها الحركات الأولى بهرمونطيقا ” الجهاد” كما عند سيد قطب وتلامذته  لاحقا ،  عائدة إلى صفاء الإسلام الأول والى أحمد بن حنبل وابن قيم الجوزية ، وابن تيمية ، ناحية منحى فقه الأصول على حساب فقه المقاصد ، ومحبذة التصوف الطرقي على التصوف الفلسفي .

ومن نافلة القول  أنها قد عارضت في ذات  الوقت هرمونيطيقا الحرية العلمانية التي استعادت عقلانية الكلام والفلسفة في العصر الكلاسيكي ، والتصوف الحلولي ، بل و”الإلحاد في الإسلام”   زيادة على “النزعات المادية ” في ذلك الفكر[24]. ولعل الأمارة الدالة على كل ذلك أنها قد استبدلت لكل ذلك ، وفي باب الممانعة ، سؤال شكيب ارسلان التابع ، بسؤال آخر صاغه محمد البهي في منتصف خمسينيات القرن العشرين على النحو التالي :” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”[25] .

3- وقد كان دور الدولة مركزيا في التنوير العربي الإسلامي الحديث عموما، فقد كانت في اصل اغلب عمليات التنوير وكانت حاميتها:  يكفي أن نشير إلى دور محمد على في مصر وحمودة باشا واحمد باي والصادق باي  و خير الدين في تونس والتنظيمات في الدولة العثمانية . وقد ارتبط “التنوير المعتدل” أساسا بتلك الدولة ، إذ قد سعت إلى تحويل “الاستبداد المستنير” الأوربي إلى “مستبد عادل” عربي إسلامي ينور المجتمع عموديا ويستتبع كل المقدرات المادية والبشرية لانجاز ذلك. وهو ما يستمر في بعض أنحاء المنطقة العربية إلى يومنا هذا .

في حين مالت بعض دول زمننا ما بعد الكولونيالية (تسمى دول الاستقلال أو الدول الناتجة عن ثورات/انقلابات) إلى القبول ببعض عناصر التنوير الراديكالي في نسختيه الليبرالية والاشتراكية للتصدي الأداتي للتنوير المضاد وللدفاع عن مشروعيتها التاريخية أو “الثورية” ، و تواصل دول أخرى (هي دول جديدة ظهرت منذ القرن التاسع عشر أو خلال القرن العشرين ) رعاية التنوير المضاد ذاته ، حفاظا على مشروعيتها الدينية أو التقليدية – حسب تصنيف ماكس فيبر الشهير .

ولذلك فقد لون “تملك” الدولة العربية التنوير في كل أطيافه ، بما في ذلك التنوير المضاد ، تلوينا محليا يصل إلى حد التهجين والخلاسية السالبين ، و في الواقع هي سمات أساسية “للوضع ما بعد الكولونيالي” المحلي  كما العالمي. وهذا لا ينفي أن المجتمع أيضا قد أسهم على طريقته في ذلك ، إذ أنتج مثقفوه –وقد ذكرنا بعضهم- إما تنويرا راديكاليا منفصلا عن الدولة بل ومعارضا لها في بعض الأحيان ،وإما تنويرا مضادا لتنوير الدولة ولتنويرالافراد المعتدل أو الراديكالي ،  ممارسا بذلك ما ذكرنا من ممانعة على أرضية التقدم كما على أرضية الهوية .

  4-  ولقد حاول التنوير العربي المعاصر ضمن ما ذكرنا من استشكالين كبيرين ، ومن خلال ذات آليتي التبعية والممانعة، استحداث تصورات خاص لمنزلة الإنسان وللعقلانية وللتقدم وللتسامح والديموقراطية وحقوق الإنسان قصد تجديد المشروعية التقليدية بالنسبة إلى التنوير المضاد والتنوير المعتدل أو لابتكار مشروعية جديدة بالنسبة إلى التنوير الراديكالي.

     وقد كان ذلك فيما يتعلق بالمشروعية العملية  بالبحث عن تصور جديد للإنسان:

 إما 1) بالتأكيد على أن الصورة الجديدة للإنسان باعتباره ذاتا تأسيسية ، إنما هو من باب الكبرياء و”الظلم” بالمعنى القرآني المعروف، ولذلك لابد من مقاومة هذا التجبر الإنساني ، والوعي بمنزلة الإنسان باعتباره”صورة الرب” كما في التقليد المسيحي ،أو “خليفة الله في الأرض” الذي عليه إدراك “التكريم” الذي حباه الإله به ، “فتشرق” عليه الأنوار، وهذه دعوى  ما يمكن تسميته التنوير العربي المضاد الذي يريد نحت تنوير إسلامي معاصر يضاد التنوير الغربي.

وبين أن هذا التنوير المضاد إنما يستعيد على نحو تبعي النقد التقليدي و اللاهوتي المعاصر لكل تاريخ التنوير، والذي كان قد ابتدأ مسيحيا، تجلى في معارضة الكنيسة لكل الجهد العلمي والعلماني الذي لبس الحداثة والتنوير، قبل أن يكرره بعض المسحيين العرب في القرن التاسع عشر. كما كان يهوديا كما يتبين ذلك الناظر في تاريخ اليهود الغربيين الذين واجهوا بعنف طوال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، تلك القيم ، قبل انطلاق حركة التنوير اليهودي (الحسكالا) ذاتها  في ثمانينيات القرن الثامن عشر ، والتي عملت على إخراج اليهود من القيتو الحضاري وأدراجهم ضمن التاريخ الغربي الحديث .

وهو ما يعني أن النقد الإسلامي الذي تجلى في المواجهة التي تدور منذ القرن التاسع عشر بين جزء من المسلمين وبين اغلب قيم التنوير إنما قد عاود تبعيا ذات التنوير المضاد المسيحي واليهودي الذي اعتبر التنوير المعتدل والراديكالي نهاية لكل القيم الأصيلة المرتبطة بالتصورات التقليدية للكون والإنسان والمجتمع. بل إن هذا العداء للتنوير، هو ذاته بعض ما ورثه بعض طالبي التاريخ الفرعوني من المصريين  أو طالبي الأساطير السورية والفينيقية من الشوام وخاصة مفكري الحزب القومي السوري ، العائدين جميعا  إلى ما أبعد من عدو التنوير – العصر الوسيط الأوربي- خلاصا من التنوير الغربي الغازي  و الكنيسة الشرقية  معا، وخاصة طالب تجارب “الشرق الأقصى” الروحية والمعيشة هروبا من التنوير، وأهمهم ميخائيل نعيمة في كتابات مثل كتاب المراحل وكتاب مرداد وأبعد من موسكو ومن واشنطن .

واما2)باستعارة الإنسية الغربية الحديثة ، وذلك بالانخراط التبعي في الحداثة الفلسفية بكل أنواعها الديكارتية والكانطية والماركسية وحتى الوجودية، وهذا مسعى التنوير الراديكالي بكل أطيافه- حتى التي تظن أنها نقد للتنوير مثل البنيوية والهيدغيرية –  والتي تصبح في سياق الفكر العربي المعاصر جهدا تنويريا صميما ، بل وراديكاليا أيضا ،  مما هو معلوم ولا داعي للتوقف عنده.

وإما 3) بالبحث عن إنسية عربية إسلامية وسيطة ( نشير هنا أساسا إلى كتابات محمد أركون منذ ستينيات القرن الماضي) وهو ما يمكن اعتباره من باب التنوير المعتدل، ولكن الذي يهدف إلى الدفاع عن الجديد، لا عن القديم كما التنوير المضاد. وهو يصدر عن تصور ما بعد كولونيالي للتنوير يجعله مجموع قيم  روحية تشق كل العصور ،لا مجرد واقعة تاريخية خاصة : يستوي في ذلك إغريق العصر البريكلاسي ،وصينيو الحقبة الذهبية ،وملل بغداد الزاهرة ونحلها بكل ألوانها ،والأمشاج العرقية العالمة التي أنتجتها قرطبة ، وجميع  دلك  قبل التنوير الغربي الحديث ، رب تنوير في هكذا منظور تبعيا رغم نقديته  الظاهرة ، إذ لا يميز بين إنسية مرتبطة ببراديغم الوجود –هي الإنسية العربية الكلاسيكية- وإنسية الذاتية الحديثة.

   ولذلك فان أول التباس ما بعد الكولونيالي عربي جذري  إنما يتعلق بالإنسان ، نعني ازدواج تواصل التفكير في الإنسان على أرضية التصور الوسيط الذي تعرض لنقد جذري منذ الحداثة ، وتبعا لذلك تواصل الخروج من التاريخ (عبارة فوزي منصور) الكولونيالي ، حفاظا على هويتنا المفترضة ؛ رب ازدواج سببه الخوف من إلغاء ما يعتقد انه تصورنا الديني للإنسان ، الذي يتضمنه كل قول بتاريخية مفادها ذلك التصور الوسيط ليس مقدسا بل هو بشري وانه يتعين قبول التصور المعاصر،بل وإعادة تأويل نصوصنا المقدسة ذاتها  وفق التصور الكوني الجديد.

   أما عن الديموقراطية وحقوق الإنسان و التسامح  فهشة الوضع  أكثر ، فلقد اعتقد الناس في عصرنا أن  قيمة التسامح أصبحت نافلة بعد كل إعلانات حقوق الإنسان ، فإذا بنا نشهد انبعاث أكثر النزعات القومية والحضارية والدينية والطائفية والقبلية ،والجهوية، تعصبا وعلى نحو غير مسبوق ، – بما في ذلك الغرب الأوربي والأمريكي الذي اعتقد انه قد حل نهائيا هذه المعضلات فإذا به يواجه عصر خصومات دينية جديد وإرادة تنظيم ثيوقراطي لكل الشأن الإنساني. وهو ما يعيد إلى برنامج البشرية قاطبة كل قضايا حرية التفكير والتعبير والضمير، وما يجعل  -قيم الحرية المدنية و السياسية وحقوق الإنسان ، التي نعاود النظر فيها بعد انتهاء التجارب الكليانية الفاشية والنازية و الاشتراكية والعنصرية ،مع دوام معضلات التصورات الليبرالية واللاهوتية المصاحبة لها، زيادة على دوام “الاستبداد الشرقي” السيئ الصيت ، في شكل “الدول الثقوب السود” ، ذات راهنية شديدة .

    ومن البين عربيا  أن استشكال التقدم  قد احتضن مثلا  طرحا لقضية التسامح في موجة التنوير العربية  الأولى وخاصة من قبل المسيحيين العرب كما هو معلوم  من معتدلين كما من راديكاليين ، وفي موجتها الثالثة تحت ضغط إيديولوجيا العولمة الليبرالية الجديدة – وعمادها ديمقراطية وحقوق إنسانية أداتيه (إجرائية ونفعية) ،- ولكنها لم تقبل به في موجتها الثانية بيسر، لأنه لا الفكر الشيوعي الستاليني الذي ساد الأحزاب الشيوعية كان يقبل ذلك بدعوى المركزية الديمقراطية أولا ، لان التسامح لا يمكن إلا أن يكون قيمة برجوازية ، لأنها تقوم على القبول بالأفكار الدينية والسياسية المغايرة للإيديولوجية العلمانية الوضعانية الستالينية  ؛  ولا الإيديولوجيات القومية  التي أصبحت أيديولوجيات كليانية حاكمة ، تقبل بها .بل أن الدول ما بعد الكولونيالية العربية  ذاتها صادرت إمكانية التسامح الديني والسياسي، باسم الوحدة الوطنية والجهد التنموي ؛ هذا دون الكلام عن دول الاستبداد الدائم.

   أما من مقام استشكال الهوية فلا وجود أي مجال للتسامح بل هو قد تنكر حتى لعناصر التجربة التاريخية الوسيطة التي تستصلح عادة من قبل التنوير المعتدل لبناء مفهوم عربي إسلامي للتسامح.بيد أنه ينبغي التفطن هنا إلى التباس المسألة ،و لابد من التشديد على أن ذلك ليس على أرضية عقدية متشددة مفادها أن الإسلام خاتم الديانات قد جب ما قبلها وبالتالي وجب عدم التسامح مع الضالين ، بل وجهادهم ، بل كذلك من مقام الممانعة ، إذ لا ينكر إلا مكابر أن دعوى التسامح  كانت في  بعض الفترات تستهدف ” وحدة الأمة” ، وهو ما فهمه جمال الدين الأفغاني الذي رفع شعار” التعصب” في مواجهة دعوى التسامح ، وتبعه في ذلك محمد عبده على نحو معتدل ، في حين كان رشيد رضا مغاليا في رفع شعار “التعصب” دفاعا عن الدين الإسلامي ، وسيكون تلاميذه من العرب (نعني كل حركات الإسلام السياسي منذ ولادة الإخوان المسلمين في مصر إلى تنظيمات القاعدة زمننا هذا) ومن غيرهم (وخاصة الباكستانيين مثل المودودي والهنود مثل البهي ) أكثر تشددا منه  كما هو معلوم  . 

ومن هنا رفض التنوير المضاد التسامح الديني، كما التسامح الأخلاقي وهو يعارض الآن –في أعلبه –دعوى التعدد الثقافي التي يرفعها الليبراليون الجدد في مصر والسودان والمغرب والجزائر والعراق لبنان وسوريا[26].

 ولذلك فلابد من استئناف ما بعد كولونيالي  عربي لسؤال  التسامح بقبول بالتسامح الديني والعرقي والأخلاقي وحقوق الإنسان والمساواة بين المرأة والرجل كما ترد عالميا وبالتالي أن نشارك الآخرين ذات الهم ، أم لابد من تبيئة كل تلك القيم ؟ ورغم أنه قد  يبدو أن الجواب الأول اسلم عربيا اليوم- وهو ما تبناه اغلب دعاة التنوير المعتدل والراديكالي- ، فان الجواب الثاني – الذي يرفعه معاصرونا من دعاة التنوير(الإسلامي وغيره) المضاد-  لا ينبغي أن يدمغ  يتسرع وتشنج  بسوء النية ، أي بالعمل على الالتفاف على مجموع تلك القيم باسم الهوية المطلقة ، بل لابد من تدبر أسباب ذلك  في سياق يتجه في العالم إلى هويات مفتوحة وطوعية وبل إجرائية أحيانا هي هويات ما بعد كولونيالية ، مما يعني القبول بالآخر في اختلافه عنا وذلك لتمكين “العيش المشترك من التحقق.

ومما لاشك فيه أن الإنسان الجديد العولمي قد أصبح لا يريد “مواطنة عالمية” حقوقية فحسب بل يطلب “عيشا مشتركا فعليا” يرسم على نحو ما  المحتوى المنشود لبعض ما قد يمثل مستقبل البشرية الذي ينبغي أن يعبر عنه ، ومن هنا الحاجة إلى “إعلان مستحدث لحقوق الإنسان” يعوض النصوص الحالية التي تدعي الكونية منها كما التي ترفع يافطة المحلية مثل الاتفاقية الأوربية ، أو الإعلان الإفريقي، أو الإعلان الإسلامي  أو الإعلان العربي ..الخ، وهي جميعها تحمل آثار الحقبة الكولونيالية ، ولم تتخلص بعد من الآثار السالبة لما بعد الكولونيالية- التبعية والممانعة ، عوض القبول بالتنوع الموجب والتضامن الحقيقي-لا مجرد التعدد الليبرالي كما يقترحه أتباع المفكر الكندي فيل كيمليشكا – ضمن الإنسانية الحالية.

   أما عن العقلانية العربية الإسلامية المستحدثة فقد كانت بدورها تابعة ، وهي في الأغلب  مجموعة دعوات بيداغوجية  تبشر بقيم العلم أكثر من إنتاجها له وذلك منذ ما أنجز في دولة محمد علي إلى يومنا هذا . وقد كانت أولا عقلانية وضعية ظهرت منذ القرن 19 في مصر وتونس ولبنان ، تجلى الفرق بينها وبين العقلانية العربية الوسيطة  في خصومة التطور– المسوغ الابستمولوجي للتقدم ، والمبرر الايديولوجي للثورة السياسية- : بدء من رد الأفغاني على الدهريين ثم على رينان ، وبعد ذلك في ما كان من هجوم على شبلي شميل.

هذا وقد تواصلت ذات هذه العقلانية التابعة مع الابستمولوجية الوضعية  التي طغت على جامعات مصر وسوريا والعراق أساسا ، و المغرب وتونس وان على نحو اقل . وقد عاصرتها عقلانية تحليلية ديكارتية ، تجلت في تلق مكثف للديكارتية في مصر أساسا ، كان أوجه كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين . وقد أصبحت بعد ذلك عقلانية نقدية ابستمولوجية تتعلق أساسا بفحص آليات العقل العربي الإسلامي كما ظهرت في كتابات محمد أركون وعابد الجابري ، ونصر حامد أبوزيد ، وكذلك العمل التأريخي الذي أشرف عليه رشدي راشد حول تاريخ العلوم العربية والمكتوب من منظور ما بعد كولونيالي هو منظور مواجهة التاريخ المركزي الأوربي للعلوم[27] .  

ويمكن إضافة كل الذين نحوا منحى ابستومولوجيا نقديا بل وبيداغوجيا- في سبيل نشر قيم التنوير الايبستمولوجية ، وبالتالي المساهمة في تحديث المشروعية النظرية  في المغرب ولبنان وتونس والجزائر. وهي كذلك  عقلانية تاريخية ماركسية ابرز كتابها ، أنور عبد الملك و محمود أمين العالم ، وسمير أمين، ومهدي عامل وحسين مروة والطيب تيزيني ،  التي سعى بعض ممارسيها إلى التناول العلمي للراهن السياسي العربي ، أوالى الدراسة التاريخية  للذاكرة العربية (= التراث) .وأخيرا فقد واجه البعض الآخر رأسا  النصوص التأسيسية الدينية الإسلامية من قرآن وسنة  بتوسل هرمونطيقا تاريخية من منظور عقلاني ديني إسلامي  ، ونذكر منهم  السوداني محمد محمود طه ، والمغربي محمد عابد الجابري وآخرهم التونسي أبو يعرب المرزوقي ، أومن منظور علماني نقدي يتمثل في كتابات السوري محمد شحرور، والمصري سيد القمني ، والتونسي يوسف الصديق.

هذا بعد أن كان التنوير الأوربي في نسخته البروتستانتية، قد تناول النصوص العقدية التي تهم العرب المسيحيين منذ القرنيين 16 و17 في أوربا، واستجلب على نحو محتشم منذ القرن التاسع عشر من قبل بعض العرب المسيحيين ذاتهم وأهمهم  ميخائيل مشاقة وفرانسيس مراش الحلبي وغيرهم [28]  .

  و تثير النقطة الأخيرة  سؤال وجاهة تطبيق (محاكاة) العقلانية النقدية التاريخية الأوربية عند التناول العلمي للنصوص التأسيسية الدينية  الإسلامية ،مما قد يمثل خطرا على الهوية المفترضة للمسلمين-رد فعل ممانع بدائي ؛ أم  الاستعاضة عن ذلك باستحداث عقلانية هرمونطيقية ، تعاضد العقلانيات النقدية والتاريخية والتواصلية ، وتمكن من إدراك النص الديني والتجربة الدينية الإسلامية (كما المسيحية أيضا) إدراكا يمكن من فسح المجال للمعرفة الإنسانية بكل مكونات الدين؛ هذا  دون أن يعني ذلك الربط الوضعاني الساذج  بين العلم وعدم التدين ، كما ظن دعاة التنوير الراديكالي وخصومهم دعاة التنوير المضاد  العرب  المقتدون بأشباههم أوربا – وهي لعمري ممانعة راديكالية .

وسبيل ذلك إنتاج هرمونطيقا عربية مستحدثة تعوض نظريات التأويل الوسيطة ، وان كان ثمن ذلك القبول السلبي –كما يحدث الآن تطبيقا وترجمة – لهرمونطيقيات خاصة حقيقة ، يهودية (ليفيناس) أو كاثوليكية (ليباك) أو بروتستانتية (شلايرماخر،بولتمان،هيدغر،غادامير، ريكور) ، تزعم جميعها أنها كلية.

  وهو ما لا تمكن منه  غير عقلانية  جديدة ما بعد كولونيالية حكما  ، نموذجها  علاوة على ما استجد في مجال العلوم والتقنيات ،وخاصة ما أرسته ثورات الفيزياء والرياضيات  والعلوم الإنسانية من قيم جديدة تجعل مواصلة التفكير على النحو الكلاسيكي قاصرا عن الاضطلاع نظرا بالعالم الجديد، “عالم اينشتاين وصحبه” ،الذي يستلزم عقلانية لا ترهب اللاعقلاني  ذاته ، بل تدمجه ضمنها باعتباره قابلا للمعرفة وباعتبار الظل الذي لا يمكن أن يمحوه النور محوا نهائيا ،بل لابد من إنارته للخلاص من مفاعيله التدميرية(ومن ضمنها التعصب بكل أنواعه والعنف والإرهاب).  

وهي كذلك عقلانية مشتركة بين جميع الناس نعتقد أنها كأنما  تستعيد على نحو من الأنحاء المفهوم الرشدي للعقل الكلي الذي يهم الإنسانية جمعا ولا يخرج من دائرتها الأمن لا تتوفر لديه الحدود الدنيا الإنسانية لذلك فهي تسعى لان تحيط بكل التجارب التاريخية والاتنية دون تعال على ما كان يسمى في عصر التنوير الكلاسيكي العقلية البدائية أو التقليدية أو المتخلفة ، وهو ما يجعلها حكما وفي ذات الوقت تاريخية ومتعددة ومتنوعة داخل كليتها ويلحق بذلك كونها تواصلية على أرضية الاختلاف بل والخلاف الموجب أيضا.

وإننا لنعتقد أن شبكة المعلومات العالمية( الواب) إنما هي أداة تنوير مستحدثة وفعالة نظرا وعملا ، تحصيلا للعرفان وتبادلا له وتضامنا ونضالا ضد قيم الإظلام القديمة أو المستحدثة ، ومنازلة  للدكتاتورية والاستبداد[29] ؛ ولذلك فهي جزء من العقلانية المنشودة للتنوير المستقبلي ما بعد الكولونيالي ضرورة  . ومن الجلي  أنه على الدول  العربية ما بعد الكولونيالية – إلى جانب  مواصلة القيام بدورها التنويري الكلاسيكي عن طريق التعليم – القبول بالقيام بذات الدور عن طريق هذه الشبكة ، عوض أن تكون “دولة الثقب الأسود” كما سبق أن وصفها تقرير التنمية العربية لسنة(2004) مثلا .

5-  وبالتالي فإذا نظرنا إلى حصاد التنوير الكلاسيكي عربيا، فإننا نرصد عديد الأسئلة العالقة التي لا يمكن حلها إلا الاضطلاع بما سمي “الوضع ما بعد الكولونيالي” العالمي و بالانخراط في عالمية نقدية تمكن من مراجعة داخلية حقيقية مكافئة للمراجعة العالمية الراهنة للتنوير تاريخا ومستقبلا ،مفادها  أننا ،وان كنا لم نخرج من الدائرة التي جعلت الإنسان مدار كل نظر وبحث ،قد أصبحنا ندرك حاليا أننا إنما نحتاج اليوم على نحو ملح إلى تحديد ما”يجمع بين الناس جميعا” و يمكن بالتالي تعايش “سكان القرية الكونية” المختلفين الذي يعرفون أنهم جميعا من “العالمين” وان عليهم أن يقبلوا كونهم كذلك . ولابد بالتالي من مفهوم جديد للإنسانية يكافئ التصور المنشود للتنوير الكوكبي :هو الإنسان العولمي ، بل قل ما بعد الكولونيالي تحديدا ، يكون الإنسان العربي جزء منه[30] .

  ونحن نعتقد أن التنوير العربي المنشود لابد أن يستكمل تحقيق برنامج التنوير الكلاسيكي ، على نحو متسارع في نطاق الدول ما بعد الكولونيالية الراهنة : وذلك بالاستفادة من جهد التنوير الذي ينجزه العرب المقيمين خارج المنطقة العربية[31] ، بالاستفادة من جهد التنوير الإسلامي العالمي[32] ، و من مواصلة الاستفادة من التنوير العالمي على نحو واع وموجب .

وأن يكون ذلك في ذات الوقت  بالاضطلاع بواقع كوننا جزءا من البرنامج العالمي لاستئناف التنوير، وذلك بالاندراج النقدي ضمنه وذلك بالمشاركة في الجهد العالمي المذكور، وتخصيص قيم التنوير العالمية المشتركة على الفكر والتاريخ العربيين للخروج من الوضع المزري الذي  ما انفكت تقوم بتوصيفه تقارير التنمية البشرية العربية المتعاقبة منذ 2003 إلى اليوم (2010)، طلبا للمشاركة في الخروج المنظور من “الوضع ما بعد الكولونيالي” المشترك ، وضع التباس/تعارض/ازدواجية الصلة بين المستعمر السابق والمستعمر السابق.

ولا يكون ذلك إلا بالانتقال من التناقض الوجداني ما بعد الكولونيالي الذي يحكم ردود أفعال المستعمر (بالفتح)السابق ومن وضع  الاستعلاء المعياري الذي يحكم سلوك المستعمر(بالكسر) السابق ، إلى “فضاء ثالث” –حسب عبارة هومي بابا ،  مشترك منشود – هو عالم التنوع الثقافي المعياري ، لا مجرد التعدد الثقافي التوصيفي الليبرالي – إنما قد ينتج عن تحول المغلوب السابق ولغالب السابق ، إلى متساوين في المنزلة(=الكرامة)  والحرية.

    رب تخريج للمسألة قد يرفع  إحراج التباين في التنوير العربي  بين التقدم والهوية كله  : هل نواصل التقدم فنفقد الهوية ، أم نتشبث بالهوية فلا نتراجع فحسب بل نعود إلى القيتو التاريخي والسياسي والتكنولوجي الثقافي والعقدي والحقوقي والسياسي الخ …، إذ  يمكن الجمع بينهما بالانخراط في عالمية ما بعد كولونيالية  موجبة ،  وذلك بتدبر حدود قيمة التقدم ذاتها التي كانت مركزية في كل مشروع التنوير الكلاسيكي ولم نعد نستطيع بيسر اليوم القبول بها على علاتها ،نظرا لتفاؤلها المفرط فيما يخص مستقبل الناس  تفاؤلا لا يمكننا مواصلة الإيمان به بعد تجارب الاستعمار والحروب وفشل نماذج التنمية الاقتصادية في بلدان الجنوب والكوارث الاقتصادية والبيئية في كل العالم .

رب تجارب تجلي لنا ظلمة لم تستطع الأنوار دفعها ، وتسوغ  تعويض فكرة التنمية الكلاسيكية بفكرة “التنمية المستديمة” التي تأخذ بعين الاعتبار العنصر البشري و التجارب المحلية والمعطيات البيئية ، رغم استعمالاتها الملتوية على نحو كولونيالي جديد . وهو لعمري ما يهم “العالمين” جميعا بمن فيهم العرب والمسلمين. أما عن الهوية (فردية أو جماعية مثل الأمة) فهي تاريخية ومخيالية في جزءها غير الواعي ، وهي طوعية في جزءها السياسي الواعي ، ولذلك فهي دينامية وحرة ، لا ثابتة ومستبدة وبالتالي “قاتلة” –حسب عبارة أمين معلوف-.

***

ونحن نقول في الآخر أنه  في شهر جوان 1960 أملى فرانتز فانون في تونس، على صديقه آنذاك ورفيق سلاحه  ، رئيس الجزائر الحالي عبد العزيز بوتفليقة خاتمة مخطوط معذبو الأرض، وهو يسابق سرطان الدم ،  مشيرا إلى السبيل القويم للخروج من المأزق ما بعد الكولونيالي  قائلا :

     “…لا، نحن لا نريد اللحاق بأحد، ولكننا نريد أن نمشي طوال الوقت، ليلا ونهارا، في صحبة الإنسان، في صحبة جميع البشر.وعلينا أن نجعل القافلة متراصة غير متباعدة ، وإلا لم يستطع كل صف من الصفوف أن يرى الصف الذي تقدمهن ولم يستطع البشر أن يعرف بعضهم بعضا، وأصبحوا لا يلتفتون إلا لماما ولا يتحدث بعضهم إلى بعض كثيرا.
(…) إذا أردنا أن نستجيب لآمال شعوبنا علينا أن نبحث في غير أوربا.
(…) فمن أجل أوربا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلدا جديدا،أن ننشئ فكرا جديدا ، أن نحاول خلق إنسان جديد.[33]  .

***

  ضميمة بعد ثورة تونس وثورة مصر[34]

  ونحن نعتقد أن من أنجز الثورة في تونس ،ومن أنجزها في مصر من الشبان المستتبعين (نعني النساء أولا وكل المحتقرين والمقصيين والمعطلين والمهمشين والهامشيين  والمستغلين من الجنسين ومن الطبقات ومن الأحياء المدقعة ومن الجهات المنسية ثانيا) ، قد استمعوا إلى كلام فرانتز فانون، ونفذوا بعض وصيته . ولعلهم قد نجحوا في انجاز ثورتين ما بعد كولونياليتين(= دون برنامج دون قيادة  وضدا عن النخب الدينية كما العلمانية الحزبي منها وغير الحزبي)  لأنهم  إنما قد جمعوا على نحو  ما بادر إليه  سابقوهم من أمريكا اللاتينية – في انتفاضاتهم  مابعد /غير كولونيالية تحديدا-  بين كل تلك الأطياف من التنوير.


 

*صالح مصباح: أستاذ الفلسفة السياسية وتاريخ الفلسفة الحديثة، رئيس قسم الفلسفة بجامعة تونس .

أنظر مثلا عبد الرزاق عيد، أزمة التنوير، بيروت، 1998 [1]

 أنظر مثلا  حوارية أحميدة النيفر ومحمد وقيدي ، لماذا أخفقت النهضة  العربية ؟ دمشق ، 2002[2]

 أنظر التحقيب المغاير لسمير أمين في كتابه  نحو نظرية للثقافة، بيروت ،1989 ص15-88.  [3]

 وخاصة كتابي الأمريكي بيتر غران،الجذور الإسلامية للرأسمالية : مصر 1760-1840 ،الترجمة العربية ،القاهرة ،1993 ؛ وما بعد المركزية الأوربية ،الترجمة العربية ،القاهرة ،1998.[4]

 نشير إلى انجازات باي تونس  حمودة باشا المعاصر لنابليون والذي أقام علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة الناشئة أنظر مثلا  رشاد الإمام ، سياسة حمودة باشا (1782-1814) ،تونس 1980.[5]

 [6] P .Raphael, Le rôle du Collège Maronite Romain dans l’Orientalisme aux XVIIe et  XVIIIe Siècles, Bierut, 1950.

 خالد زيادة، اكتشاف التقدم الأوربي: دراسة في المؤثرات الأوربية على العثمانيين في القرن الثامن عشر، بيروت، 1981 [7]

هشام شرابي ، المثقفون العرب والغرب ، الترجمة العربية ، بيروت ،1971 ؛  رب تحد كان خير الدين التونسي قد عبر عنه أفضل تعبير قائلا: “سمعت من بعض أعيان أوربا ما معناه :إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض ،فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع،فيخشى على الممالك المجاورة لأوربا من ذلك التيار،إلا إذا حذو حذوه جروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكنهم النجاة من الغرق.وهذا التمثيل المحزن لمحب الوطن مما يصدقه العيان والتجربة.”أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ، طبعة معن زيادة ، بيروت ،1985 ص 206. [8]

 أنظر بعض الكتب الجيدة التي نعتبرها رائدة عربيا في هذا المجال ، والتي لم تنل حقها من التقدير : خاصة كتب  وضاح شرارة ، المسألة التاريخية في الفكر العربي الحديث( في الأصل رسالة دكتوراه أنجز ت بالفرنسية سنة 1972) الترجمة العربية  ،بيروت 1977؛ و حول بعض مشكلات الدولة والثقافة في الثقافة والمجتمع العربيين ، بيروت ،1980 ؛ استئناف البدء ،بيروت 1981؛و الواحد نفسه ،بيروت 1993؛ و كتاب سهيل القش ، في البدء كانت الممانعة،بيروت 1981.[9]

[10] E.Dussel, « Philosophy of Liberation , The Postmodern Debate , and Latin American Studies » in Coloniality at Large: Latin America and the Postcolonial Debate , edited by M.Morana and alii,Duke UP,1998,p335-350.

 تطغى على المساهمة العربية(رغم أن الأرض العربية كانت في أصل هذا المبحث من خلال أعمال التونسي البار ميمي والجزائري بالتبني فرانتز فانون ، والفلسطيني ادوارد سعيد ) في هذا القطاع إلى حد الآن  الدراسات الخاصة بالاستشراق- على خطى ادوارد سعيد دون إدراك قوته-  لأسباب سياسية عقدية   متعلقة بالمواجهة التاريخية/المخيالية  مع أوربا منذ الحروب الصليبية- وان كان ادوارد سعيد يعيدها على نحو سجالي  إلى هوميروس؛ أما في المجالات الأخرى  فما يزال الأمر في بداياته .  ومع ذلك فهناك  عدد جيد- أنجز بفضل مجهود الدكتورة فريال غزول- من ألف 18/1998  الصادرة عن الجامعة الأمريكية والخاص  بخطاب ما بعد الكولونيالية في جنوب آسيا ، ويتضمن ترجمة لمقال شهير لسبيفاك حول “التاريخ والتفكيكية” يتعلق بدراسات التابع تحديدا.  كما توجد ترجمات منذ الستينيات لأغلب ما كتب فانون ،  ثم لأغلب نصوص ادوارد سعيد وبعض كتابات الباتر ممي ، وكتاب هومي بابا  العمدة  مواقع الثقافة ، و عن المنظمة العربية للترجمة كتاب اريك وولف حول من لا تاريخ لهم ، وكذلك ترجمة شهرة العالم  الكتاب الجماعي الرد بالكتابة. ونشير مقابل ذلك إلى أهمية كتابات الممانعة الإبداعية  اللا كولونيلية وما بعدها من شعر ومسرح و روايات وسيرة ذاتية – خلال القرن العشرين فقط- ممثلة-ودون ادعاء الشمول-  تباعا  في  بعض قصائد إيليا أبو ماضي ،والأيام لطه حسين ، وديوان أحمد شوقي ،وأهل الكهف لتوفيق الحكيم ، إرادة الحياة للشابي  وديوان حافظ إبراهيم،وديوان إبراهيم طوقان ، وكتابات محمود المسعدي ويوميات إسحاق موسى الحسيني، وبعض أشعار بدرشاكرالسياب،وديوان خليل مطران،وديوان معروف الرصافي، وبعض روايات أندري شديد، وبعض ما كتبت سميرة عزام ، وإدريس شرايبي ، وعبد الرحمان الشرقاوي،وسعدي يوسف،ونجيب محفوظ،وأدونيس،ونزار قباني، والطيب صالح ،وفدوى طوقان ،وصلاح عبد الصبور،وجبرا إبراهيم جبرا،وايميل حبيبي،والياس خوري،ونور الدين فرح ، وإبراهيم الكوني،وعبد الرحمان منيف، والطاهر بن جلون  وآسيا جبار، وسحر خليفة ،ووليد خزيندار، وعبد الوهاب البياتي،وخليل حاوي،وأمين معلوف ، ومحمد الماغوط،الخ,[11]

 صالح مصباح ، “التنوير الكلاسيكي في تاريخيته وتعدده :راديكاليا ومعتدلا ومضادا ” في المجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد 38/39 ،2004-2005 ،ص64-95. [12]

سمير أمين، نحو نظرية… مرجع مذكور ص 15-64.[13]

[14]E.Dussel, 1492, L’occultation de l’autre, tr.fr.1992, p5-10

[15] Ibid, p83-104.

[16] A.Gramsci,A Gramsci Reader :Selected Writing 1916-1935,London, 1988.

[17]  G.Spivak A Critique of Postcolonial Reason, Harvard UP, Cambridge Ms, 1999, p246-311.

 هومي  ك. بابا، موقع الثقافة، الترجمة العربية، القاهرة /الدار البيضاء /بيروت 2006، ص 165-177,[18]

[19]  J.Sharpe « Figures of Colonial Resistence » in Modern Fiction Studies, 35 (1), Spring 1989.

  الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939 ، الترجمة العربية، بيروت ،  1977  وننبه هنا إلى أن الترجمة العربية أخفت المرجعية الليبرالية  الصريحة التي يحملها العنوان الانقليزي الأصلي.[20]

  الفكر العربي الحديث:أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي، بيروت، 1943. [21]

[22]

 أنظر  مثلا حوارية عزيز العظمة وعبد الوهاب المسيري ،العلمانية تحت المجهر، دمشق ،2000[23]

 أنظر مثلا كتابا طريفا لهيثم مناع جدل التنوير: نهضة الشرق قبل ألف عام، بيروت، 1990[24]

 قارن مع رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر، بيروت، 1997 ص 157- 225[25]

   لمزيد التفاصيل صالح مصباح “من التساهل إلى الخصوصية الثقافية : تحولات التسامح في حركة التنوير العربية” ضمن الكتاب الجماعي التنوير والتسامح وتجديد الفكر العربي ، أعمال مهداة إلى  ذكرى هشام شرابي ، تونس بيت الحكمة ، 2007 ص 319-390 .[26]

 موسوعة تاريخ العلوم العربية، 3 أجزاء، بيروت، 1997 [27]

  المعلم بطرس البستاني وآخرون ، قصة أسعد الشدياق ، (1860) تحرير يوسف قزما الخوري ، بيروت ، دار الحمراء ، 1992[28]

 صالح مصباح، “مفهوم التنوير في الفكر الفلسفي والنقدي الحديث والمعاصر:من أجل استئناف النظر” ضمن مجلة التسامح (سلطنة عمان) عدد 27/2009 ص 215- 228.[29]

  صالح مصباح ” تدبير العالم: من روما القديمة إلى روما الحديثة” في مجلة الفكر العربي المعاصر (بيروت/باريس عدد 134/135- 2006، ص49-65).[30]

  مثل  الجزائري الأصل والفرنسي الجنسية الراحل محمد أركون و الأمريكية اللبنانية الأصل عزيزة الحبري، والفلسطيني الأمريكي طريف الخالدي والسوداني عبد الله النعيم  وغيرهم.[31]

 و الذي يتجلى في ما أنجزه  الباكستانيان فضل الرحمان ، وأحمد أكبر، والإيراني عبد الكريم سوروش  والإفريقيين الجنوبيين فريد الصق  وإبراهيم موسى والسنغالي سليمان نداي ، والمصري طارق رمضان ،  والأمريكية أمينة ودود محسن ،وغيرهم [32]

“الترجمة العربية دار الفارابي ،بيروت 2004 صص357-358[33]

القي هذا النص –باستثناء الضميمة – على منبر اليونسكو  في اليوم العالمي للفلسفة الخاص بالمنطقة العربية حول الفلسفة والتنوع الثقافي والتقارب بين الثقافات  ، تونس 27-28 نوفمبر  2010 ، ونشر في العدد 19 صيف  2011 مجلة إبداع القاهرية ،عدد خاص بتونس :الثورة والفكرة ص 189-208[34]