التحرر والفن
أن نكون وجها لوجه مع الواقع، وأن نتساءل عما هو خارج النظام، ذاك هو المطلوب من منطوق فلسفي يقاوم أثر الحقيقة المميتة بلغة (نيتشة). ولأن السؤال هو الشرط الأول في نحت مسار يكسر إيقاع النسق المهيمن، فان الإجابة عن الكيفيات تقترن منهجيا بالشرط الأنطولوجي للتفكير في إمكان تأسيس “لغة تخاطب الروح”
بهذا التعريف تحدث (هيغل) عن الفن و التحرر أنه “لغة تخاطب الروح”، هذا التأصيل الفلسفي يضعنا أمام ديالكتيكية الصراع من أجل نفى ما هو واقعي مهيمن، لغاية التأسيس لما هو ممكن بشروط العقل التأملي التحرري. هاتان المقاربتان تجعلانا نفكر في التحرر بوصفه تأصيلا للموقف الثوري في الفلسفة، لذلك نلاحظ على امتداد المسار التاريخي للفن بصفته موضوعا، أنه اختار لنفسه إيقاعا فلسفيا فرض من خلاله إعادة إنتاج الحياة في أشكال فنية جوهرها الحرية والانفلات من السيطرة بمختلف أشكالها، ولعل تحول المقاربات من قبل الفن للفن عند الرومنطيقيين إلى الفن و التحرر بصفته تصورا للعالم بمفاهيم الحداثة، دليل على ذلك.
عن هذا العالم البديل حاول الكثيرون تمثل حاجة الإنسان للتحرر من خلال إعادة اكتشاف المستتر في معنى الأثر الفني ذاته مثلما فعل جون (فرانسوا ليوتار) لحظة إعادة قراءته (كانط) معلنا أفول “الجميل” لصالح “الرائع” الذي يختزل التجربة الخاصة التي لا ترتبط فقط بذاتية الفنان بل بواقعه.
وعن هذا الواقع كتب (جورج لوكا تش) من داخل النظرية النقدية معولا على الفن أملًا للتحرر، ومن خارج ثنائية الحداثة و ما بعدها، يحيلنا (جاك رونسيير) إلى لغة جماعية تكسر الهيمنة وتؤسس ما يمكن اعتباره تحررا ممكنا للإنسان.
بحثا عن التحرر ، نعيد قراءة ما صاغه هذان المفكران:
أولا: جورج لوكا تش
ارتبط اسم (لوكا تش) بمفهوم “التشيئ”، هذا الذي عبر من خلاله عن واقع إنسان الحداثة الذي فقد ماهية وجوده عقلا مبدعا لصالح سيطرة عقل أداتي خالص. المفهوم الآخر الذي صاغه هو مفهوم “التمزق” هذا الذي يتمثل في الانسلاخ بين الدوائر الاجتماعية والثقافية فانفصل الاقتصاد والدولة والعائلة عن الفن والعلم والقانون. بهذا التصور، يَظْهَرُ الفن دائرةً ثقافية ويحيل هذا الطرح في جانب أصيل منه إلى التصور القرامشي للفن الذي يعتبره منتميا إلى المجتمع المدني، الضلع الثاني للبنى الفوقية بحيث يتمظهر هذا المجتمع معبرا عنه بمؤسسات خاصة إلى جانب أنه قطاع تعمل فيه الأيدولوجيا بصفتها تصورا للعالم وبهذا يتمظهر الفن بحد ذاته تصورا للعالم.
بالعودة إلى (لوكا تش)، فإنه يتساءل عن الشروط الثقافية للتنشئة الاجتماعية الناجحة وغير المشوهة بحيث يجدها مرتبطة بمقتضيات الإنتاج الجمالي التي توجه السلوك مسنودة بقيم متبادلة عاطفيا ومعاد إنتاجها اجتماعيا .هذا التبادل والإنتاج الجماعي بربطه بـ الفن ، يجعل من مسائل علم الجمال غير مقتصرة على الاختصاصيين في هذا العلم بل غير مقتصرة على من يمارسون الإبداع الفني، إذ أن كل فرد من أفراد المجتمع يستطيع أن يدلي برأيه في مسائل الفن والذوق بمعنى يوافق جانبٌ من هذا المعنى الطرحَ الماركسيَّ بحيث يمكننا الاطمئنان على ما يسمى “مشركة الجمال”.
بصورة أكثر وضوحا، يطرح (جورج لوكا تش) فنا متحررا من القيود الاجتماعية وسيلةً لإعادة إنتاج قيم مشتركة جماعية تحطمت بمعول التمزق المتمثل في الترشيد الرأسمالي لنشاط العمل الذي قادنا نحو تدمير تام لامكانيات التعبير الذاتي مما خلق انشقاقا داخليا طمس كل فرص التعبير الجمالي، مضافا إلى ذلك التزايد الواضح في تقسيم العمل والمتزامن مع الترشيد مما مكن من التآكل الواضح للقناعات الجماعية المشتركة بمعنى خسارة تلك المشتركات الثقافية التي كانت تمكن من التبادل التواصلي للخبرات المجتمعية من دون صعوبات.
يصرح (لوكا تش) بأهمية الثقافة الجمالية التي يتداخل فيها تحقيق الذات على المستوى الفردي مع بناء الهوية الجماعية. مقاربة الذات–الجماعة هي جوهر العملية الجمالية التي تنطلق من ذات مشبعة بـ الفن كحرية شرط تحقيقها جماعيا مطلبا حتميا بالمعنى السوسيولوجي، في هذا المستوى نجد أن (بليخانوف) يصر على ضرورة ترجمة نتاج الفن من لغة الفن الى لغة علم الاجتماع أو ما نسميه بالمعادل السوسيولوجيؤكدي للظاهرة الفنية المعطلة.
بهذه المقاربة يعلن (لوكا تش) على ضرورة التأصيل للفن كآلية محفزة للفعل التحرري تنظيرا على مستوى المعنى وتطبيقا على مستوى الغاية.
ثانيا: جاك رونسيير
من خارج براديغم الحداثة وما بعدها، يفكر (رونسيير) في أطروحة أساسية في الفكر السياسي والجمالي المعاصر هي فكرة الاشتراك في المحسوس، إلا أن هذه الأطروحة تقوم على ثلاث وجهات نظر كبرى يهمنا منها أطروحة الدفاع عن الفن بوصفه خرقا للإجماع في اتجاه التخلص من المحسوس القائم على الهيمنة من أجل اختراع أشكال أخرى من العيش المشترك. مع (رونسيير) يصير الفن حافزا ودافعا من أجل الاشتراك في المحسوس وخرقا للاجماع ونقطة الانطلاق نحو تأسيس المشترك الممكن على أنقاض المشترك الكائن. بتعبير (فيرا موخينا):
“الفن كمحيط بالشعب” ليلعب دور الحامي من نسق مهيمن وقادح لهيمنة نسق جديد يؤسس على قاعدة المشترك في المحسوس.”