مجلة حكمة
فعالية الرياضيات

سر فعالية الرياضيات – بقلم : دومينيك لامبير / ترجمة: الحسين بوتبغة

فعالية الرياضيات


       أكدت النجاحات التي حققتها الفيزياء الكلاسيكية، ثم نظرية النسبية و الميكانيكا الكوانطية بعد ذلك ، خصوبة الرياضيات وفعاليتها. وهذه الفعالية تمتد إلى عدد من التخصصات المنتمية إلى علوم طبيعية أخرى  و تشمل العلوم الإنسانية كذلك . ففي مجال علوم الأحياء على سبيل المثال، أصبح بالإمكان تصنيف وتفسير الأشكال المختلفة التي تزين أجنحة الفراشات وفراء عدد من الثدييات، وذلك بتوظيف المعادلات الرياضية . وفي مجال الاقتصاد، يتم تمييز وتصنيف مختـلف أصناف توازن الاسواق بطرق متطورة جدا مصدرها نظرية الأنظمة الدينامية، ونظرية الألعاب، والطوبولوجيا. فكيف يمكن تفسير هذه النجاحات الجديدة؟

     نشر عالم الفيزياء الشهير أوجين فيجنر خلال سنة 1960 مقالا مثيرا تحت عنوان مستفز هو:” الفعالية اللامعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية “. إذا كانت فعالية الرياضيات تطرح على العلماء وعلى فلاسفة العلم مشكلا عميقا ، فهل من الصائب كما يشير إلى ذلك نعث “اللامعقولة” الذي اختاره أ. فيجنر، تحويل هذا المشكل إلى لغز غامض، بل وحله عن طريق تبني موقف فلسفي مسبق، دون سبر جميع السبل و الامكانات التي يقترحها علينا العقل؟

  قبل الخوض في إحدى هذه الامكانات أو تبني أحد هذه السبل، دعونا نتوقف قليلا عند مفهوم الفعالية هذا. كيف يمكن تطبيقه على الرياضيات؟ إنه يعني أولا و قبل كل شيء ” القدرة على التنبؤ”. و بهذا المعنى، فإن الرياضيات تكون فعالة بالقدر الذي تستطيع فيه اقتراح إنجاز تجارب أو ملاحظات، وتقديم نتائج رقمية تتطابق بقدر كبير مع النتائج التجريبية الناجمة عن هذه التجارب و الملاحظات . ومن هذا المنظور، فإن تنبؤ نظرية النسبية المعممة بانحراف الأشعة الضوئية على مقربة من نجم ما، هو مثال حي لهذا الصنف من الفعالية .

         غير أن الفعالية يمكن أن تكون مرتبطة فقط ” بالقدرة البعدية على الصياغة “. وبهذا المعنى تكون الرياضيات فعالة لأنها في هذا المجال تقدم الأدوات الصالحة فقط “لانقاد الظواهر”[1]… غير أنه لابد من التأكيد على أن لا القدرة على التنبؤ ولا الصياغة البعدية تكفيان للتعبير بشكل دقيق على الصياغات الصورية الرياضية التي يمكن وصفها بأنها فعالة . فالفعالية تعني كذلك ” القدرة التفسيرية “. وحسب تعبير الرياضي الفرنسي المعاصر روني توم R.THOM ، أن نتنبأ ليس هو أن نفسر . فلكي تكون نظرية رياضية ما فعالة بالفعل في مجال العلوم, لا بد لها أن تقدم تفسيرا للظواهر، يعني  سلسلة من الاستدلالات تربط الظواهر الموصوفة بعدد من المبادئ المعترف بها كأوليات . وهنا لابد أن نسجل أن هذه القدرة التفسيرية لا تنفصل عن القدرة على التوحيد: فالتفسير هو كذلك إرجاع التنوع في الظواهر إلى عدد قليل من المبادئ .

 هل تتوقف فعالية الرياضيات على هذه الخصائص الثلاث التي اختصرنا الحديث عنها آنفا؟ لا. ليس بالضرورة، إذ كيف نفسر أن عددا من الصياغات الصورية يعترف بفعاليتها في لحظة ما دون أن تكون تنبؤية في الحين؟ إنها فعالة لأنها تقترح مفاهيم جديدة أو استراتيجيات غير مسبوقة لإيجاد الحلول لمشاكل عويصة . ففي سنة 1918 حاولت النظرية التي صاغها هيرمان فيل H.Weyl ،على سبيل المثال، توحيد الجاذبية والكهرطيسية عبر توسيع مجال النظرية النسبية المعممة .لم تكن تلك النظرية فعالة بشكل مباشر على مستوى التوقعات التجريبية ، ولكنها فتحت المجال أمام نظرية أخرى ستصبح حجر الزاوية في فيزياء الجزئيات الحالية. واليوم، فالتنبؤات الصادرة عن الصياغات الصورية لنظرية الأوتار ( théorie des cordes ) أو للهندسة غير التحويلية، لم يتم تأكيدها بعد بصفة تجريبية .لكن ذلك لا ينفي أن الأمر يتعلق هنا بميادين تتولد فيها أفكار ومفاهيم غنية جدا. ويترتب على ما سبق أن النظرية الرياضية الفعالة في العلوم هي كذلك، بهذه الدرجة أو تلك ، صياغة صورية تملك نوعا من “القدرة على توليد المفاهيم ” (générativité conceptuelle ).

و يمكن القول باختصار إن نظرية رياضية فعالة هي صياغة صورية تتمتع بقدرات تنبؤية، تفسيرية, وتوليدية . أي بتعبير أخر، هي لغة تسمح بوصف وتفسير الظواهر والتحكم فيها . أما الآن، وبعد أن عرجنا على التعريفات، فنعود لسؤالنا الأساسي : كيف يتاح لمجموعة من العلامات المجردة ، المبنينة بفضل عدد قليل من القواعد الدقيقة ، ناجمة في الغالب عن نشاط عقلي خالص، أن تمتلك مثل هذه الإمكانات الكبيرة للتلاؤم مع العالم التجريبي ؟ هذا السؤال ليس بطبيعة الحال وليد اليوم. فمنذ البدايات الأولى لتاريخ الرياضيات و جميع الأنساق الفلسفية تحاول الإجابة عليه انطلاقا من تصورات مغايرة لطبيعة العلم الرياضي . ومن هذه الأنساق يمكن أن نشير إلى الفيتاغورية والتجريبية والأفلاطونية والمثالية المتعالية الحديثة والصورية المنطقية إلخ…

ما الذي تمثله الرياضيات بالنسبة إلينا اليوم ؟ بأي شكل نحددها؟ تبدو الرياضيات للوهلة الأولى كأنساق من الرموز تخضع لقواعد، وهي ما يسميه علماء المنطق لغات صورية. ونجد أن البرمجة المعلوماتية و” ألعاب المجتمع” les jeux de société) ) توظف هي كذلك هذا الصنف من اللغات . غير أن وصفا من هذا القبيل غير مرض, ويبدو من المتعذر فهم حقيقة ما يفعله الرياضيون بالاكتفاء باعتبار الصيغ والتعبيرات الصورية التي ينتجونها . فهذه الأخيرة ليست في الغالب سوى ترجمات لحدوس ولأفكار توجه تأملاتهم. والواقع أن الرياضيين يوظفون في الغالب أصنافا مختلفة من الأنساق الأكسيومية للتعبير عما يبدو لهم نفس “الحقيقة” الرياضية : مجموعة, عدد، مكان ،إلخ…

هكذا ، سنميز بين الرياضيات المكتوبة التي يمكن النظر إليها كلغات مصورنة إلى هذا الحد أو ذاك، وبين الفكر الرياضي الذي يعتبر مصدرها. بديهي أن العلاقة بين الفكر واللغة علاقة وثيقة. وهنا يمكن القول إن  بإمكان الرياضي من جهة ( بالانطلاق من الفكر إلى اللغة ) أن يعبر عن حدس ما بواسطة أنساق أكسومية، أو من جهة أخرى ( بالانطلاق من اللغة إلى الفكر ) أن يلتقط فكرة ما انطلاقا مما يلاحظه أو يختبره وهو يتعامل مع أنظمة من الصيغ الرياضية . غير أن التمييز بين الرياضيات – اللغة والرياضيات – الفكر ليس كافيا. لذا، لابد من إدخال تمييز آخر برز من خلال تحليل ممارسة علماء الرياضيات ، بين رياضيات ” دالة” « significatives » ورياضيات فارغة « vides » حسب تعبير الرياضي الفرنسي ج.ديودوني « Dieudonné ». الأولى تتيح إيجاد الحلول للمشاكل العويصة أو تقدم مناهجا أو أفكارا منتجة  (مثلا: نظرية الزمر أو نظرية الدوال ذات المتغيرات المركبة)، بينما الثانية ليست إلا توسيعا أو تعميما شكليا لنظريات رياضية معروفة من قبل، لكنها لا تعود تقدم أية فكرة جديدة، ولا تعمل على إيجاد الحلول لأي مشكل أو فرضية مهمين .

     يمكن النظر إلى الرياضيات إذن باعتبارها فكرا حقيقيا يعبر عن نفسه بشكل ملائم بهذا القدر أو ذاك في لغة صورية، وينتظم حول ما نسميه – أسوة  بالعالم الرياضي ديودوني- الرياضيات الدالة . لكن كيف نفسر أن بعض النظريات تكون دالة وخصبة وموحدة على المستوى الرياضي الصرف، بينما أخرى تقل أو تنعدم فيها هذه الخصائص؟ إن هذا السؤال لم يعد سؤالنا نحن: إنه يتعلق بالفعالية ” الرياضية” للرياضيات. ومواجهته لا تخلو من مخاطر، لأن فعالية نظرية ما لا تظهر إلا بعد فوات الأوان.

ولتقدير الخصوبة الرياضية المحتملة لنظرية ما بشكل مسبق، يمكن أن نجازف بتصنيف النظريات الدالة المعروفة لدينا حتى الآن . فأغلب هذه النظريات، وضمنها تلك المعترف لها بدرجة عالية من الخصوبة في معالجة المشاكل العويصة، توظف أصنافا غنية من الثوابت3بالنسبة لعمليات أو تحويلات أو علاقات . و في هذا الصدد يمكن الاستشهاد ببعض الأمثلة، منها بشكل خاص نظرية العقد théorie des nœuds)) أو نظرية الدوال ذات المتغير المركب و هما معا مثالان لنظريات رياضية خصبة و فعالة . كما يمكن كذلك الاستشهاد بالبرهنة الرائعة على نظرية فيرما FERMA التي أنجزها أ. وايلز A.Wiles والتي تتميز بكونها تتضمن عددا مهما من المناهج الرياضية الفعالة (…)[2].

                  لقد أصبح بوسعنا الآن أن نصنف الرياضيات بشكل جيد: فهناك من جهة الرياضيات “الفارغة” المحددة انطلاقا من لعبة من العلاقات بين رموز تفتقر إلى القدرة على إنتاج ثوابت محددة أو ذات قيمة، وهناك من جهة أخرى الرياضيات “الدالة” أو  “العميقة” التي تنجح – على عكس الأولى – في الكشف عن أصناف من العلاقات أو التحويلات غنية بالثوابت. هذا التصنيف يمكننا من تجنب الخلط بين الفعالية المميزة للرياضيين وبين التلاعب الشكلي، التافه، بمجموعة من الرموز مما تم النزوع إليه في إطار بعض المقاربات المغرقة في الصورية . فلنر الآن كيف يمكن لهذا التحليل للرياضيات أن يمكننا في الأخير من مقاربة مشكل فعالية الرياضيات في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية.

         إن فعالية الرياضيات – بالمعاني التي استعملناها فيما سبق – تعني في العمق قدرتها على أن تمثل بشكل ملائم جزءا من واقع عن طريق التنبؤ بسلوكه . لكن كيف نعرف بأن شيئا ما واقعي؟ ما الذي يمنح حمولة واقعية لما ندركه؟.

    إن عناصر الإجابة على هذين السؤالين يمكن أن نعثر عليها، فيما يبدو لنا، في التجربة المألوفة، لكن المعقدة ، للإدراك البصري . فهذه التجربة تعلمنا أننا نتعرف على شيء ما باعتباره واقعيا، لا مجرد وهم، في اللحظة التي نتعرف فيها عليه كثابت في إطار سلسلة من العمليات الفيزيائية أو العقلية. فإذا أردنا مثلا أن نعرف ما إذا كان هذا الشيء الماثل أمام إدراكنا مكعبا أم شيئا آخر، يكفينا تحريك الرأس و الجسد، ثم تقدير مدى ثبات إحساساتنا البصرية طيلة قيامنا بتلك الحركات .

    إن ثبات سلسة من المعلومات خلال التغيرات المتولدة بفعل الحركة يعتبر معيارا للتعرف على الواقع،

و تقنيات التصوير الافتراضي (imagerie virtuelle) توظف هذه العلاقة بين التحولات الفضائية و بين الثبات لتوحي بوجود أشياء واقعية . و في الواقع، فان الإدراك ليس بأية حال من الأحوال مجرد استقبال مباشر و سلبي للمعلومات. إنه يتأسس على نشاط دماغي مكثف للذات المدركة (…) و هذا ينسحب على العلوم بصفة عامة . فتكرار و ثبات إشارة مثلا هما اللذان يوحيان لنا بوجود واقع ما. و على المستوى النظري، يتم الحديث بتعابير تقنية عن ثبات صورة أو شكل القوانين العلمية في إطار تغير منظوماتها المرجعية: هكذا تحولت قوانين غاليلي إلى ميكانيكا نيوتن، و استوعبت نظرية النسبية المقصورة نظريات ه .بوانكاري. و هذه الميزة أي ثبات الشكل هي التي تجعل مجموعة من القوانين قادرة على و صف واقع فيزيائي معين

        إن التعرف على جزء من واقع محدد ووصفه يتطلبان إذن توظيف مجموعة من الثوابت قابلة لعدد من التحولات . وقد سبق أن رأينا أن الرياضيان الدالة تتميز بالضبط بوجود فئات غنية من الثوابت . في هذا الصنف من الرياضيات ، نجد إلى حد ما امتدادا للعملية الأساسية التي يتشكل منها الإدراك العادي و هي التعرف على عناصر الواقع. و هي(أي هذا الصنف من الريضيات)  بذلك، تقدم الوسيلة التي تتيح الوصول إلى حدس أو إدراك واقع لم يعد مرئيا أو متصفا بصفة الواقعية المباشرة . و حين يتوارى الواقع عن أبصارنا، فان الرياضيات الدالة تستمر في تقديمه على شكل حدوس، و ذلك بفضل قوة لغة غنية بالثوابت .

   إذا فهمنا الآن السبب العميق الذي يجعل الرياضيات الدالة متمتعة من حيث المبدأ بالفعالية، فهل يعتبر تحليلنا مقنعا ؟ لا، ليس تماما. ذلك لأن كل النظريات الرياضية الدالة ليست لها بالضرورة تطبيقات في الميدان التجريبي. و يكفي التذكير في هذا الصدد بالمحاولات العديدة غير الناجحة لتوسيع نظرية النسبية المعممة عن طريق الاستعانة بنظريات هندسية عميقة ،لم تقد إلى تأكيدات تجريبية ذات بال    و هنا يمكن للمنظور التاريخي أن يساعدنا. فالرياضيات في الحقيقة ليست كما يعتقد “فارغة” من الناحية التجريبية . و هي قد تمكنت خلال تاريخها الطويل من التلاؤم تدريجيا مع وصف أجزاء كاملة من عالم الظواهر. إن نظرية رياضية ما لا تكون أبدا فعالة بشكل مستقل و للوهلة الأولى . فهي ليست فعالة للوهلة الأولى ، إذ لابد في الغالب من مجهود للترجمة أو الملاءمة حتى يمكن لصياغة صورية “دالة” وصف مجال من مجالات الظواهر. و هي ليست فعالة بشكل مستقل لأن فعاليتها تأتي في الغالب من الرابطة  التي تقيمها مع نظريات رياضية أخرى أثبتت فعاليتها في مجالاتها . و هنا يمكن أخد الصياغة الصورية للميكانيكا الكوانطية كمثال . فهي فعالة لأنها ترتكز على نوع من الرياضيات الدالة (نظرية هلبيرتHILBERT على سبيل المثال )لكن أيضا لأنها تجد جذورها في الأصل في الوصف الفعلي و الناجح لأطياف الذرات كما أنجزه بالمر Balmerورايدبرغ Rydberg. إننا نعرف ، من جهة أخرى ، أن البنية الصورية للميكانيكا الكوانطية يمكن الحصول عليها عن طريق “إعادة صياغة” البنية الصورية للميكانيكا الكلاسيكية . و خلافا للرأي الشائع في هذا المجال، فإن فعالية الميكانيكا الكوانطية ليست معزولة عن فعالية الميكانيكا الكلاسيكية .

    و بصفة عامة، فان فعالية الرياضيات الدالة لا تصبح فعلية إلا بفضل تسرب عناصر من التجربة تعمل على ملاءمة جزء من هذه الرياضيات (و ليس كلها دون شك) مع وصف اطراد الظواهر. لقد أقمنا فيما سبق تقاربا بين الرياضيات الدالة و الإدراك. وما وصفناه للتو يؤكد هذا التقارب. و بالفعل فان فعالية الإدراك العادي هي بدورها ليست مباشرة. و نجاح فعل الإدراك لا يحصل إلا كنتيجة للتعلم عن طريق الاتصال المباشر مع العالم الخارجي . وبنفس الشكل يمكننا القول إن الصياغات الصورية الرياضية “تتعلم” التقاط أجزاء من الواقع التجريبي خلال صيرورة تاريخية(…).

      يبدو إذن انه من الضروري- لفهم فعالية الرياضيات – التحكم في عملية إنتاج التمثلات الذهنية (أفكار، مفاهيم، صور الخ…) القابلة للترجمة إلى صياغات صورية غنية بالثوابت. وقد قدمت أعمال دوهاين DEHAENE و ج.ب شانجوCHANGEUXاسهاما كبيرا في هذا الصنف من المعالجة للمشكل ، وذلك بفتحها المجال أمام فهم جوهر الخلايا العصبية التي هي أساس القدرات الرياضية الأساسية مثل تمثيل الأعداد الطبيعية و العمليات الجبرية الخ… غير انه يتعين كذلك التقاط تعرجات الصيرورة التاريخية التي تنتج تدريجيا علاقات وثيقة بين الرياضيات و بين العلوم الطبيعية أو الإنسانية . إن الإدراك العادي مسألة تتعلق بالفطري و المكتسب. وكذلك الأمر بالنسبة لاكتشاف العالم التجريبي عن طريق الرياضيات الدالة . فهذا الاكتشاف يصدر من جهة عن قدرة ذهنية فطرية و مشروطة بالتطور تتيح للكائن البشري إمكانية التمسك بعناصر من الواقع التجريبي,  و يصدر من جهة ثانية عن قدرة

+مكتسبة من تعلم تاريخي و من سيرورة طويلة تتيح –عن طريق تسرب معلومات تجريبية – ملاءمة الرياضيات مع مجالات الظواهر .

   إن فعالية الرياضيات ( أو لافعاليتها  التي نادرا ما نأخذها بعين الاعتبار ) بحسب المعاني المختلفة التي أعطيناها لها، لا تبدو غير معقولة أو ملغزة .و في كل الأحوال، فهي ليست أكثر غموضا من نجاح (أو فشل) الإدراك اليومي, أو عملية اكتساب المعارف بشكل عام. إن النشاط الرياضي الدال يبدو لنا في العمق امتدادا للقدرة الادراكية يجد تعبيره في لغة صورية أو مصورنة .

                  فكما في مجال الإدراك حيث يظهر لنا أننا نلتقط أجزاء من الواقع بينما الأمر لا يتعلق سوى بأوهام بصرية, فإن هناك مجالات هامة في الرياضيات ليس لها أي أثر أو تحكم في أي عنصر من العناصر المشكلة للواقع التجريبي. فلكي يتم الإدراك، لا بد أولا من توجيه البصر نحو الشيء، أي بمعنى ما لا بد من التهييء لعملية الإدراك . كذلك فإن الرياضيات الدالة لا تصبح فعالة إلا إذا تهيأت لاستقبال المعطيات التجريبية. ولكي تصبح نظرية رياضية مجردة قريبة من أهداف العلوم، يلزم القيام بمجهود هام من أجل المواءمة والترجمة . وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم بسهولة الصعوبات التي تعترض الصياغة الرياضية الفعالة لبعض المجالات دون غيرها. وبالفعل فلكي تكون صياغة رياضية ما فعالة، لا بد للمجال المعني بها أن يكشف عن وجود ثوابت طبيعية مقرونة بمجموعات وعلاقات وتحولات… ومن هنا يمكن أن نفهم القابلية للصياغة الرياضية الفعالة التي تتمتع بها الفيزياء، اعتبارا لكون الملاحظات التي تأخذها بعين الاعتبار تقوم على أساس مجموعة من الثوابت  مثل الطاقة والعزم الزاوي، في حين أنه لا يمكن الجزم بقابلية الاقتصاد أو السوسيولوجيا للصياغة الرياضية، ما عدا في بعض مجالات الظواهر حيث يمكن العثور على ثوابت  متميزة (النقط الثابتة المحددة لتوازن الأسواق على سبيل المثال).

              واليوم، فإن الفهم العميق لأصل الرياضيات وطبيعتها وفعاليتها، لا يمكن أن يتأتى انطلاقا من فلسفة جاهزة، بل لا بد من بناء إطار فلسفي يأخذ أساسه من تحليل دقيق للرياضيات نفسها وللشروط الموضوعية لإنتاجها.

              وباختصار، فإن الشروط المشار إليها تتجلى عن طريق دراسة الصيرورة التاريخية التي ولدت الرياضيات التي نعرفها في الوقت الراهن، وتتجلى كذلك في أخذ بعين الاعتبار أن الرياضيات لا تنشأ كيفما اتفق، بل في أدمغة ذات خصوصيات, وهي خصوصيات أصبحت اليوم في متناول المعالجة العلمية . وهذه المقالة دعوة لإحياء هذا المشكل الكلاسيكي عن طريق تتبع المسار التاريخي وكذا المسار الذي تقترحه البيولوجيا العصبية للمعرفة . فأصل الحقول الأكثر دلالة والأكثر عمقا في الرياضيات ، يمكن أن يكون هو التمديد التدريجي للقدرات العقلية الأولية التي تتيح للكائن البشري التعرف على عناصر من الواقع وتمثلها. وهذا يمكن أن يفسر نوعا من التقارب المدهش بين الفنون التشكيلية والرياضيات .

              ويبدو أن البحث عن أصل الرياضيات لا ينبغي أن يتجه دوما وقبل أي شيء صوب بلاد اليونان، بل يجب أن يتجه صوب جميع الأمكنة التي خط فيها الإنسان في بداياته الأولى على الصخر رموزا تتيح ” رؤية” الواقع الذي وجد نفسه في مواجهته.

            إن المشكل المتعلق بفعالية الرياضيات يرتبط إذن بتخصصات معرفية تتجاوز بكثير حدود الرياضيات والفيزياء النظرية بمعناهما الضيق . و لهذا السبب، ربما، فإن العالم الذي يحصر نفسه في المجال الضيق للصياغات الصورية سيكون على الدوام ميالا إلى أن ينسب لهذا المشكل نفحة من اللغز أو اللاعقل.


  • المقال الأصلي باللغة الفرنسية هو :

– DOMINIQUE LAMBERT : «  L’incroyable efficacité des Mathématiques » in : LA RECHERCHE n° 136 – Janvier 1999 – P.P : 48 – 55

– DOMINIQUE LAMBERT : «  L’incroyable efficacité des Mathématiques » in : LA RECHERCHE n° 136 – Janvier 1999 – P.P : 48 – 55

1 – ” إنقاذ الظواهر” تعبير استعمله علماء الفلك اليونانيون للدلالة على نجاح نماذجهم النظرية المعتمدة  في تفسير الظواهر الفلكية على حركات دائرية  ويترك المجال مفتوحا لتطابق ما تكشف عنه الملاحظات  الجديدة مع النموذج النظري(المترجم) .

3تجنبنا قدر الإمكان التفاصيل التقنية الخاصة بهذه النظرية حتى لا نثقل على القارئ.