مجلة حكمة
صواب سبينوزا الشهوات و العواطف

صواب سبينوزا: عن الشهوات و العواطف – أنتونيو داماسيو / ترجمة: إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان

Lookinf f spinoza
غلاف الكتاب

الفصل الثاني:  عن الشهوات والعواطف – رابط الفصل الأول


 

ثِــق بـِشكسبير

ثِـق بِشكسبير؛ فــلقد طرق هذه الدرب حتى خَبرها. قبيل نهاية مسرحيته الملك ريتشارد الثاني، و بعد خسارة المُلْـك و مصير بالسجن يتهدده بالأفق، يخبر ريتشارد بولينغبروك عفويا عن تمييزٍ محتملٍ بين تصوره عن العاطفة و تصوره عن المشاعر. يطلب ريتشارد مرآةً، يقابلُ فيها وجهه، و يدرس مشهد الانكسار على قسماته. ثم يلاحظ أن ” نسق العويل الخارجي” المتجلِّ على وجهه ما هو إلا ” ظل الفجيعة المستترة”، فجيعةٍ تتورّم بصمتٍ في روحه المعذّبة. فجيعته ” تكمنُ داخلا ” ؛ كما يقرر. يعلن شكسبير، و في أربعة أبياتٍ فقط، بأن العملية الوجدانية الموحدة و المنفردة ظاهريا، و التي كثيرا ما نشير إليها عرضيا بالعاطفة أو المشاعر بلا اكثراث، يمكن تحليلها إلى أجزاء.

      إن استراتيجيتي في شرح المشاعر تنتفع من هذا التمييز. يميل الاستخدام الدارج لكلمة العواطف لأن يشمل تصور المشاعر، لكننا سنتلقى العون في محاولتنا هذه لفهم سلسلة الأحداث المعقدة التي تبدأ بالعواطف و تنتهي بالمشاعر من الفصل ذي المبدأ بين الجزء المشاع علنا من هذه العملية و الجزء المحتفظ به سرّا. و لأغراض عملية؛ أدعو الجزء الأول بالعاطفة و الآخر بالمشاعر، تماشياً مع معنى مصطلح العاطفة الذي أوجزته سابقا. أسأل القارئ أن يرافقني في اختيار الكلمات و المفاهيم هذا لسبب وجيه، فـلعلّه يسمح لنا بسبر أغوار البيولوجيا الكامنة تحته. أعد بأن أجمع شمل العاطفة و الشعور معا مجددا بنهاية الفصل الثالث.

      إذن؛ فالعواطف، في سياق هذا الكتاب، أفعالّ أو حركات، العديد منها علني و ظاهرٌ للعيان، إذ تتجلى في الوجه، أو الصوت، أو سلوكياتٍ محددة. من المؤكد بأن بعض مكونات العملية العاطفية غير مرئي بالعين المجردة، لكنها “تصبح مرئية” بالمسابر العلمية الحديثة كالمقايسة الهرمونية و أنماط موجات الفيسيولوجيا الكهربية. أما المشاعر، فــمحتجبةٌ دوما، شأنها شأن كل الصور العقلية؛ مستترة عن الكل سوى مالكها الحقيق، الممتلكات الأكثر خصوصية للكائن ذي الدماغ الحَوِيّ.

      تتخذ العواطف من الجسد مسرحا لها، أما المشاعر، فمسرحها العقل.  و كما سنرى، فالعواطف و طيف الانفعالات الكامنة تحتها جزء من الآليات الأولية لتنظيم الحياة. life regulation  تساهم المشاعر أيضا في تنظيم الحياة و لكن على مستويات أعلى. يبدو بأن العواطف و الانفعالات المرتبطة بها سبقت المشاعر في تاريخ الحياة كذلك. إذن، تشكل العواطف و الظواهر اللصيقة أساسا للمشاعر، و هذه بدورها حجر الزاوية لعقولنا و هي ما ننوي توضيح طبيعته.

     تتصل العواطف و المشاعر مع بعضهما بحميمية عبر عملية مستمرة مما يجعلنا – و بشكل مفهوم- نميل للتفكير بهما ككيان واحد. و مع ذلك، يمكننا في الأحوال العادية التقاط أجزاء متفرقة من هذه العملية المتصلة، كما يحق لنا فصل جزء عن الآخر تحت مجهر العلوم العصبية الإدراكية. بالعين المجردة و بعدد من المسابر العلمية، يمكن لمراقب ما أن يفحص السلوكيات التي تصنع العاطفة موضوعيا. و بالفعل؛ يمكن أن يُدرَس استهلال عملية الشعور. يساعدنا تحويل العواطف و المشاعر إلى موضوعات بحثٍ منفصلة على أن نكتشف كيف يتأتّى لنا أن نشعر.

       هدف هذا الفصل هو شرح آليات الجسد و الدماغ المسؤولة عن إثارة triggering  و تفعيل execution  عاطفة ما. “ماكينة العاطفة” الداخلية هي محط الاهتمام هنا و ليس الظروف المنتهية بالعاطفة. أتوقع أن توضيح العواطف سيخبرنا كيف تنشأ المشاعر.

 

العواطفُ سوابقُ المشاعر 

في معرض نقاشنا عن أسبقية العواطف على المشاعر، دعوني أبدأ بلفت انتباهكم لما تركه شكسبير مبهما في السطور التي كتبها على لسان ريتشارد. إنه يتعلق باستخدام كلمة ظل و بالاحتمالية التي تثبت للعواطف و المشاعر تمايزهما بالوقت الذي ترى فيه أسبقية الأخرى للأولى. يقول ريتشارد: العويل الخارجي ظل فجيعة مستترة، هذا أشبه ما يكون بانعكاس مرآة للغرض الرئيس – شعور الفجيعة- تماما كما كان وجه ريتشارد في المرآة انعكاسا لبطل المسرحية الرئيس؛ ريتشارد. هذا الالتباس رجعُ صدى لبديهتنا الغرّة، إذ نميل إلى الاعتقاد بأن الخفيّ منبعُ الجليّ. بالإضافة إلى ذلك، نحن نعرف أن المشاعر هي ما يهم حقا. يقول ريتشارد متحدثا عن فاجعته المستترة: ” هناك يكمن الجوهر”، و نحن نوافقه في ذلك. إننا نعاني أو نبتهج من مشاعر حقيقية. العواطف، بمعناها الضيق، آثارٌ خارجية. لكن “الرئيس” لا تعني “الأول” و لا “المُسبِّب”. تعُـتّـم مركزية الشعور على كيفية نشوء الشعور و تفضل الرأي القائل بأن المشاعر تحصل أولا، بشكل ما، ثم يعبر عنها تاليا بالعاطفة. هذا الرأي غير صحيح، و هو الملام، و لو جزئيا، في تأخر إيجاد تفسير نيوروبيولوجي مقبول للمشاعر.

       يبدو بأن المشاعر بمجملها هي ظلال النسق العاطفي الخارجي؛ لا العكس. هاكم ما كان ينبغي لـريتشارد قوله، مع بالغ الاعتذار لشكسبير: ” آهٍ .. كم يلقي نسقٌ العويل الخارجي هذا من ظلالِ فجيعةٍ  مستترة و لا محتملةٍ في سكون روحي المعذبة”. ( و هذا بدوره يذكرني بـ جيمس جويس James Joyce حين قال في اوديسوس؛ ” شكسبير مربع قنصٍ زاخر بكل العقول التي فقدت توازنها” ).

      هنا، يحق لنا أن نسأل لماذا تسبق العواطف المشاعر. إجابتي بسيطة: نملك عواطفا أولا و تتلوها المشاعر لأن التطور  evolution أتى بالعواطف أولا و المشاعر لاحقا. تبنى العواطف من انفعالات reactions  بسيطة ترعى نجاة الكائن الحيّ بسهولة، و لذا من السهل لها أن تسود في التطور.

       بإيجاز، هؤلاء الذين أرادت الآلهة لهم النجاة؛ جعلتهم أذكياء في البدء، أو هكذا يبدو. كأنما قررت الطبيعة بأن الحياة غالية للغاية و متداعية للغاية بنفس الوقت، و هذا قبل أن تمتلك الكائنات الحية شيئا كالذكاء الخلاق بوقت طويل، و قبل أن تمتلك أدمغة. الطبيعة لا تعمل بالتصميم و لا تقرر بالطريقة ذاتها التي يقرر بها الفنانون و المهندسون، لكن التشبيه يوصل الفكرة المرادة. تولد كل الكائنات الحية، من أكثرها تواضعا كالأميبا إلى الإنسان، بأجهزة مصممة لتحلّ المشاكل الأولية للحياة اوتوماتيكيا و بلا تفكير فعليّ. هذه المشاكل هي: إيجاد مصادر للطاقة، دمجها و تحويلها، الحفاظ على اتزان كيميائي داخلي مؤاتٍ لإتمام العمليات الحيوية، الحفاظ على بنية الكائن بترميمها حل البلى و التمزّق؛ و تلافي عوامل المرض أو الأذى البدني الخارجية. الاستتباب[1]  homeostasis   كلمةٌ واحدة تشكل اختصارا ملائما لمجموعة التنظيمات هذه و حالة الحياة المنظمة الناتجة عنها.

      خلال العملية التطوّرية، أصبحت آلة إدارة الحياة التلقائية و الجِـبْـلِــيّة – آلة الاستتباب-  دقيقة للغاية. إذ نجد في قاع منظومة  الاستتباب استجاباتٍ بسيطة كإقبال الكائن الحي ككل نحو شيء ما أو انسحابه عنه، أو زيادات في النشاط (تيقـّظا arousal ) أو انخفاضات (همودًا quiescence). و صعودا في هذه المنظومة، نجد استجابات تنافسية أو تعاونية. يمكننا تخيل آلةِ الاستتباب كشجرة كبيرةٍ عديدة الأفرع من الظواهر المسؤولة عن تنظيم الحياة التلقائي. حين نرقى من القاع لأعلى في الكائنات عديدة الخلايا، إليكم ما سنجد في الشجرة.

 

الفروع الدنيا 

عملية الأيض metabolism: و هذه تشمل مكونات كيميائية و ميكانيكية ( الإفرازات الهرمونية، التقلصات العضلية بالهضم و ما إلى ذلك ) تهدف للحفاظ على الكيمياء الداخلية. تحكم هذه الانفعالات reactions، على سبيل المثال، نبض القلب و ضغط الدم (و اللذين يتحكمان بدورهما بالتوزيع الملائم لجريان الدم في الجسد)، تعديل حموضة و قلويّة الوسط الداخلي (نعني بالوسط الداخلي سوائل الدم و الأحياز ما بين الخلايا)، و تخزين و نقل البروتينات و الدهون و الكربوهيدرات المطلوبة لتزويد الكائن بالطاقة (و هي ضرورية للحركة، تصنيع الإنزيمات الكيميائية و الحفاظ على البنية و تجديدها).

      منعكسات[2] أولية: و تشمل هذه منعكَس الإجفال، و الذي يستغله الكائن في انفعاله للمس أو الضجيج، أو الانتحاءات التي تقود الكائنات نحو الضوء، بعيدا عن العتمة، أو بعيدا عن البرد والحر الشديدين.

     الجهاز المناعي: و هو معدٌّ لصدّ الفيروسات الغازية و الباكتيريا و الطفيليات و الجزيئات الكيميائية السامة. من المثير للاهتمام ملاحظة أنه قادر أيضا على التعامل مع الجزيئات الكيميائية المحبوسة داخل جدران الخلايا الطبيعية بالعادة و التي يمكن أن تضر الكائن ما إن سُرِّحت من الخلايا المحتضرة إلى الوسط الداخلي ( مثلا الهيالورونات و الغلوتاميت). بإيجاز، الجهاز المناعيُّ خطُّ الدفاع الأول للكائن الحي إن هُدِّدت سلامته من الداخل والخارج.

1

 

الفروع الوسطى

هذه السلوكيات المرتبطة عادة بتصور المتعة (pleasure والثواب) أو الألم (و العقاب). إنها تشمل انفعالات إقبال أو انسحاب الكائن ككل من شيءٍ أو حدث. بالنسبة البشر الذين يشعرون و يبلّغون بما يشعرون به؛ فيمكن وصف الانفعالات المثيلة بكونها ممتعة أو مؤلمة، مجزيةً أو مُقتَــصَّة. على سبيل المثال، عندما يتهدد الجسد و أنسجته خلل أو خطر وشيك – كما هو الحال مع الحروق أو العدوى- ، ترسل خلايا المنطقة المتضررة إشارات كيميائية تسمى دلالات الأذيّة. nociceptive   يرد الكائن تلقائيا بسلوكيات الألم أو سلوكيات المرض كاستجابةٍ لذلك. هذه حزمة من الأفعال التي تجابه بها الطبيعة الضرر تلقائيا، منها الجليُّ و منها الخفيّ. تتضمن هذه الأفعال أيضا سحب الجسد بأكمله أو جزء منه بعيدا عن مصدر الأذى إن كان خارجيا و يمكن تعيينه ، أو حماية الجزء المصاب من الجسد (كحمل اليد الجريحة أو الانكفاء على الجذع) و تعابير الوجه الموشية بالرّوع أو المعاناة. و هناك أيضا عدد من الاستجابات الغير مرئية بالعين المجردة و التي ينظمها الجهاز المناعي. إنها تشمل زيادة فئات معينة من خلايا الدم البيضاء، و إرسالها على عجل إلى المناطق المهدَّدة، و إنتاج مواد كيميائية كالسيتوكينات[3] cytokines و التي تساعد الجسم على حل المشكلة التي تواجهه (محاربة ميكروب معتد أو إصلاح نسيج متضرر). يشكل مجموع هذه الأفعال و الإشارات الكيميائية المؤدية إليها أساس ما نحسّه كألم.

     يستجيب الدماغ للأداء الوظيفي الجيد للجسد بالطريقة نفسها التي يستجيب بها لمشكلة واجهت هذا الجسد. فعندما يعمل الجسم بسلاسة، بلا عقبات و بسهولة في تحويل الطاقة و استغلالها، فإنه يتصرف وفق نمطٍ محدد. إقباله على الآخرين ميسّرٌ، قـدّه منبسطٌ و مسترخٍ، تعابير وجهه تفيض ثقة ًو عافية؛ منتجا فئات محددة من المواد الكيميائية كالإندورفينات endorphins، و هي غير مرئية بالعين المجردة تماما كبعض الانفعالات المميزة لسلوكيات الألم و المرض. يشكل مجموع هذه الأفعال و الإشارات الكيميائية المرتبطة بها أساس ما نحسّه كـمتعة.

     للألم و المتعة دوافع عدة — عللٌ تعتري بعض وظائف الجسد، تنظيمُ أيضٍ مثاليّ الآداء، أو أحداث خارجية تضر بالكائن أو تحميه. لكن تجربة الألم أو المتعة ليست سببا لسلوك الألم أو المتعة و ليست ضرورية بأي حال من الأحوال لحصول هذا السلوك. و كما سنرى في المقطع التالي، يمكن لبعض المخلوقات البسيطة جدا أن تقوم ببعض هذه السلوكيات العاطفية أو الانفعالية حتى و إن كان احتمال شعورها بهذه السلوكيات منخفضا أو منعدما.

 

في المستوى العلوي التالي

يكمن هنا عدد من البواعثِ  drives و الدوافع motivations . من الأمثلة الكبرى: الجوع، العطش، الفضول و الاستكشاف، اللعب و الجنس. جمعهم سبينوزا سويّـا تحت مظلة كلمة سديدة؛ الشهوات appetites، و بإجادةٍ مبهرةٍ؛ استخدم كلمة أخرى لوصف الحالة التي يعي فيها الفرد شهواته و يحيط بها: الرغباتdesire .  تشير كلمة الشهوات إلى الحالة السلوكية للفرد المنشغل بباعثٍ محدد بينما تدل كلمة الرغبة على شعورنا المُـوعِي conscious  بامتلاكنا لشهوةٍ وإتمامنا لها أو فشلنا في ذلك نهاية الأمر. إن هذا التمييز السبينوزي نظيرٌ لطيفٌ للتمييز بين العاطفة و الشعور و الذي افتتحنا به هذا الفصل. يظهر أن للبشر شهواتٍ و رغبات متصلةً بسلاسة، كحال العواطف و المشاعر.

 

قُـرب القمة

العواطف المخصوصة emotions- proper .

هنا واسطة عقدِ تنظيم الحياة التلقائي: العواطف بمعناها الضيق— ابتداءا من الفرح و الأسى و الخوف و مرورا بالزهو و الخزي و التعاطف sympathy . و في حال كنت تتساءل عمّـا يوجد في القمة تماما، فالإجابة بسيطة؛ المشاعر، و التي سنناقشها الفصل القادم. يحرص الجينوم على أن تكون هذه الأدوات نشطة و فعالة منذ الولادة أو بعدها بقليل، بلا اعتمادٍ أو بقليل اعتماد على التعلّم، إلا أنّ التعلم سيلعب دورا مهما لاحقا في تحديد آنِ تفعيل هذه الأدوات. و بقدر ما يزيد تعقيد الانفعال، بقدر ما تكون هذه العلاقة أكثر صوابا.

     حزمة الانفعالات المكونة للبكاء و النشيج معدَّةٌ و نشطٌ وقت الولادة، أمّا ما نبكي من أجله خلال حياتنا؛ فيتغيّر بتغيُّر خبراتنا. كل هذه الانفعالات تلقائية و مُقولَبة stereotyped  إلى حد كبير كما أنها تُفعّل تحت ظروف معيّنة. (لكن للتعلّم القدرة على تعديل تفعيل execution  هذه الأنماط المقولبة. يلعب ضحكنا و بكاؤنا أدوارا تتفاوت بتفاوت الظروف مثلما يمكن عزف النوطات المؤلفة للحن واحد في حركة موسيقية ما بطرقٍ شتى.) تهدف كل هذه الانفعالات لتنظيم عمليات الحياة و تغليب البقاء؛ بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو غير مباشرة. يُشار أحيانا إلى مجموع سلوكيات الألم و المتعة و البواعث و الدوافع و العواطف المخصوصة بالعواطف ؛ في معنها الأعم و الأوسع، و هذا مفهوم و معقول إن أخذنا بعين الاعتبار هيئتها المشتركة و دورها التنظيمي.

     عنَّ للطبيعة الغير قانعة بهبة البقاء المجرد خاطرةٌ لاحقةٌ لطيفة: لا تصبو تجهيزات تنظيم الحياة الجِبلِّية لحالة محايدةٍ وسطٍ ما بين الحياة و الموت، لا إلى هذه و لا إلى تلك. بالواقع، تهدف مساعي الاستتباب إلى توفير ما هو أفضل من حالة الحياة على الحياد، أي توفير ما نسميه – ككائنات مفكرة و مترفة- بالعافية well-being  و الصحة.

     تحكم مجموعة العمليات الاستتبابية هذه حياتنا لحظة بلحظة ، داخل كل خلية بأجسادنا. تنفَّـذُ هذه الحوكمة بواسطة تسوية بسيطة: أولا، يتغير شيء ما في بيئة الكائن الحي داخليا أو خارجيا. ثانيا، لهذه التغيرات القدرة على تحويل مجريات حياة الكائن ( تمثل تهديدا لسلامته أو فرصة للتحسّن). ثالثا، يرصد الكائن هذا التغير و يتعامل مع الأمر بما يقتضيه، و ذلك بنحو يخلقُ الحال الأكثر نفعا لـصون ذاته و فعالية آدائه. تعمل كل الانفعالات وفق هذه التسوية و لذا فهي وسائل الكائن ليقدّر الظروف الداخلية و الخارجية و يتصرف وفقا لها. ما إن يرصد شائبةً أو يرصد فرصةً، يحلها – بفعله – بالتخلص من الشائبة أو السعي لإدراك الفرصة. و سنرى لاحقا بأن هذه التسوية صحيحة حتى عند الحديث عن العواطف المخصوصة – عواطف كالحزن أو الحب أو الإحساس بالذنب- لكن تشابك التقدير و الاستجابة في حال العواطف المخصوصة أبلغ بكثير من تقدير و استجابة الانفعالات البسيطة المؤلفة لها تطوريا.

     الكفاح أو الكبَد و السعي هنّ أقرب الكلمات لما يحيل إليه المصطلح اللاتيني كوناتوس كما استخدمه سبينوزا في المسائل ٦، ٧، و ٨ من الفصل الثالث بكتاب الأخلاق. بتعبير سبينوزا نفسه: ” يكابد كل شيء ليصون كينونته باذلا كل ما بوسعه و كل ما يطيق” و ” ما كَبـَدُ الشيء لصون كينونته إلا جوهرُه”. بفضل مزية الاستبصار الرجعي الحالية، يمكننا تأويل تصور سبينوزا باعتباره ملمحا لأن الكائن الحي مُركَّب على نحوٍ يحافظ به على تماسك تركيبه و وظائفه أمام الاحتمالات المتعددة المهددة لحياته.

     يتضمن الكوناتوس كلا من باعثِ صون النفس حين تواجه الأخطار و الفرص و أفعال صون النفس اللامحصورة و التي تضم أجزاء الجسد بعضها على بعض. و بالرغم من التحولات التي يمر بها الجسد إبّان نشأته و تجديده ما يؤلّفه من أجزاء و هرمه، تبقى الكوناتوس مشكلةً نفس الفرد و متبعةً نفس التصميم الهيكلي.

     ما مرادف كوناتوس سبينوزا بالمصطلحات البيولوجية الحالية؟ إنها مجموع النزعات المستقرة في الدارات العصبية brain circuitry  و التي تسعى لكل من النجاة و العافية ما إن تتعهدها الظروف الداخلية أو البيئية. و سنرى في الفصل القادم كيف يُـنبَّـأ الدماغ بهذا الطيف الواسع من نشاطات الكوناتوس؛ كيميائيا و عصبيا. يتم ذلك بواسطة جزيئات كيميائية منقولة في مجرى الدم و إشارات كهربائية كيميائية تجري عبر السبل العصبية nerve pathways . يرسل إلى الدماغ إشارات لجوانب متعددة من العملية الحيوية ثم تُـمَثَّل هنالك في عدة خرائط؛ مادتُّها دارات من الخلايا العصبية في مواضع دماغية محددة. و بذلك نكون قد بلغنا رؤوس شجرة تنظيم الحياة و هو المستوى الذي تتآلف عنده المشاعر.

2

 

مبدأ تداخلي 

حين نقف على قائمة الانفعالات التنظيمية المنوطة بالاستتباب، نلمح خطة بناء مثيرة. إذ تُحتوى أجزاء الانفعالات الأبسط متراكبةً لتكون أجزاءا من الانفعالات الأكثر استفاضة، أي يتداخل البسيط  في حشا المُـركَّب. فـبعض آليات الجهاز المناعي و تنظيم الأيض مُدغمةٌ في آليات سلوكيات الألم و المتعة. هذه الأخيرة مُضمَّنةٌ بدورها في آليات البواعث و الدوافع ( و أغلب البواعث و الدوافع تدور حول تصحيح حال الأيض و كلها تتضمَّن ألما أو متعةً). تدمج بعض الآليات من كل المستويات السابقة – المنعكسات، الاستجابات المناعية، الاتزان الأيضي، سلوك الألم أو المتعة و البواعث – في آليات العواطف المخصوصة. و كما سنرى، فإن أدوار العواطف المخصوصة مركبة وفق المبدأ ذاته. لا يطابق منظر هذه المجموعة منظر الدمية الروسية – دمية ماتريوشكا- المصفوفة بالضبط, لأن الجزء الأكبر ليس مجرد تضخّمٍ للجزء الأصغر المعشِّش فيه. ليست الطبيعة مرتبة إلى هذا الحد، لكن يظل مبدأ التداخل صحيحا. لا تشكل أي واحدة من الانفعالات التنظيمية التي استعرضناها هنا عملية مختلفة جذريا؛ بُنيت من الصفر لتخدم هدفا معينا. بل على العكس، يتكون كل انفعال من إعادة تنظيم rearrangement مسكوكٍ من أجزاء العمليات الأبسط أدناه. لها كلها الغاية العامة نفسها – النجاة مع العافية- و لكنّ يخدم كل تنظيم معاد هدفا ثانويا متعلقا بمشكلة جديدةٍ؛ حلُّها ضروري أيضا للنجاة بعافية. حل كل مشكلة جديدة متطلب مهم لتحقيق الغاية العامة.

      لا يمكن تشبيه مجموعة الانفعالات بهيكل هرمي خطي. و لذا نجد أن استعارة المبنى متعدد الطوابق لا تصوّر إلا شيئا يسيرا من الواقع البيولوجي. و بالمثل، تشبيه السلسلة الضخمة ليس ملائما. إن التشبيه الأفضل لهو صورة الشجرة العظيمة الفوضوية و التي ينشق جذعها عن أفرع تعلو و تستفيض بإطراد و تحافظ على اتصال ثنائي الاتجاه مع جذورها. تاريخ التطور مدوّنٌ بكل بقعة من تلك الشجرة.

 

المزيد عن الانفعالات المتعلقة بالعواطف: من التنظيم الاستتبابي البسيط إلى العواطف المخصوصة

يشكل بعض ما أوردناه من انفعالات تنظيمية استجابةً لشيء ما أو حالة ما في البيئة المحيطة — حالة تحتمل الخطر أو فرصة للتغذية أو التزاوج. لكن يستجيب البعض الأخر منها لشيء أو حالة داخل الكائن. قد يكون انخفاضا في مخزون المواد الغذائية اللازمة لإنتاج الطاقة؛ مسببة سلوكيات مُـشهـِّية appetitive  تعرف بالجوع و تشمل أيضا البحث عن غذاء. أو قد يكون تغيرا هرمونيا يحفز البحث عن قرين أو يكون جرحا مسببا للانفعال الذي نسميه ألما. لا يتضمن هذا المدى عواطف ظاهرة للغاية كالخوف أو الغضب فحسب، بل يشمل أيضا البواعث، الدوافع و السلوكيات مرتبطة بالألم أو المتعة. يحصل هذا كله ضمن كائن، جسدٍ محدود بِحد، جسد لا تتوقف عقارب ساعته عن الدوران. تعرض كل هذه الانفعالات هدفا واضحا، بشكل مباشر أو غير مباشر، و هو تسيير اقتصاد الحياة الداخلي بسلاسة. يجب المحافظة على كمية جزيئيات كيميائية محددة ضمن مدى محدد، لا تفوقه و لا تدنو عنه، لأن الحياة مهددة ما إن نغادر هذا المدى. يجب كذلك المحافظة على درجة الحرارة ضمن معايير ضيقة. لا بد من توفير مصادر للطاقة — و الفضول و الاستكشاف استراتيجيات مساعدة في تحديد هذه المصادر. ما إن وجدت، فلا بد من إدراجها ضمن دواخلنا حرفيا، و تعديلها لتناسب الاستهلاك الفوري أو التخزين و يجب التخلص من كل الفضلات الناتجة عن التعديلات و يتعين أيضا إصلاح الأنسجة من البلى و التمزق ليبقى الكائن سليما.

     و كذلك تهدف العواطف المخصوصة – الاشمئزاز، الخوف، السعادة، الحزن، التعاطف  sympathy و الخزي- لتنظيم الحياة مباشرة بدرء الأخطار أو دفع الكائن لقنص فرصة نافعة، أو تعمل بشكل غير مباشر بتسهيل العلاقات الاجتماعية. أنا لا أقترح أننا نعزز النجاة و العافية في كل مرة تخالجنا فيها عاطفة. فليست كل العواطف سواءٌ في قدرتها على تعزيز النجاة و العافية، كما أن كلا من حدة العاطفة و سياق تفعيلها عامل مهم لتحديد القيمة المحتملة  للعاطفة في حادثة معينة. لكن حقيقة استغلالنا لبعض العواطف في ظروفنا البشرية الحالية بشكل غير مهايىء للتكيف maladaptive لا تنفي دورها التطوري في تنظيم الحياة النافع.

      غالبا ما يأتي الغضب بنتائج عكسية في مجتمعاتنا الحديثة، و ينطبق الشيء نفسه على الحزن. الرهاب phobia عقبة كبيرة أيضا. و بالرغم من ذلك، فكر بـعدد الأرواح التي أنقذها الخوف أو الغضب في الموقف المناسب. من المحتمل أنها سادت في التطور لدعمها النجاة تلقائيا. إنها ما تزال تدعمه، و لعل ذلك ما يجعلها جزءا لا يتجزأ من الوجود اليومي للإنسان و الفصائل الأخرى.

      كملاحظة عملية، يوفر فهمنا لبيولوجيا العواطف و لحقيقة أن قيمة كل عاطفة تختلف كثيرا في بيئة الإنسان الحالية فرصا هامة لفهم سلوك الإنسان. نتعلم مثلا أن بعض العواطف مستشارون مريعون, فنضع في حسباننا كتمها أو تقليل تبعات نصائحهم. أتأمل مثلا بعض الانفعالات المؤدية إلى التعصب العرقي و الثقافية و أجدها تستوطن ، جزئيا، الاستغلال التلقائي لعواطف اجتماعية معنيّة تطوريا برصد تباين الآخرين, لأن التباين و التفاوت قد يشير إلى الخطر و المخاطرة و يحفز الانسحاب أو العدوان. من المرجح أن هذا النوع من الانفعالات حقق أهدافا مفيدة في المجتمع القبلي لكنه لم يعد مفيدا و لا ملائما لنا. بإمكاننا أن نعي حقيقة إبقاء أدمغتنا على الآلية التي تنفعل بنحو مشابه لانفعالها في سياق مختلف منذ آجال بعيدة. نستطيع أن نتعلم نبذ هكذا انفعالات و نقنع الآخرين حولنا ليفعلوا المثل.

 

عواطف المخلوقات البسيطة

تدعم أدلةٌ وافرةٌ امتلاك المخلوقات البسيطة لانفعالات “عاطفية”. خذ وحيد البراميسيوم (أو المتناعلة( paramecium، كائن بسيط أحاديُّ الخلية، كُـلُّه جسدٌ، لا دماغ له و لا عقل، يسبح متسارعا بعيدا عن خطر محتمل في طريقه — قد يكون إبرةً تخِزه، أو اهتزازات كثيرة، أو حرارة مرتفعة أو منخفضة للغاية. و قد يسبح البراميسيوم متسارعا، عبر تدرّج كيميائي من المغذيات، متجها نحو قِطَع من الطريق حيث يمكنه أن يتغدى.

      هذا المخلوق البسيط مصمم ليرصد علامات محددة للخطر— تغيرات الحرارة الحادة، الاهتزازات المفرطة، أو تماسه مع جسم ثاقب قد يمزق غشاءه— و ينفعل بالمضي لمكان آمن، أهدأ و أكثر اعتدالا. و بالمثل، فالبراميسيوم يسبح متقفيا أثر الطحالب الأكثر خضرة بعدما رصد وجود الجزيئات الكيميائية التي يحتاجها لتوفير الطاقة و للتوازن الكيميائي. إن لهذه الأحداث التي أصف و الحاصلة في كائن بلا دماغ نفس جوهر عملية العاطفة لدينا نحن البشر — رصد وجود جسم أو حدث يشي بضرورة التجنب و المرواغة أو الاقتراب و المصادقة. إن الانفعال على هذا النحو قدرة غير مدرَّسة— فمدرسة البراميسيوم لا تهتم كثير بأصول التدريس و التربية. إنها قدرة محتواة في الآلية المعطاة جينيا و البسيطة ظاهريا و المعقدة فعليا داخل البراميسيوم عديم الدماغ. لطالما كانت الطبيعة مهتمّةً بتجهيز الكائنات الحية بالوسائل اللازمة لتنظيم حياتها و الحفاظ عليها أوتوماتيكيا، دون الحاجة لطرح أسئلة أو حتى التفكير.

    و بالطبع فإن امتلاك دماغ، و إن كان متواضعا، مفيد للنجاة و لا يمكن الاستغناء عنه لا سيما إن كان للبيئة تحديات تفوق تحديات بيئة البراميسيوم. فكِّر بذبابة ضئيلة— كائنٌ صغير بجهاز عصبي صغير و بلا حبل شوكي. ستغضب الذبابة إن هششتها مرارا مُخفِقا. ستئز حولك في اندفاعاتٍ متهورةٍ  فوق صوتية و تتجنب ضربتك القاضية. يمكنك أيضا إسعاد الذبابة بإطعامها السكر. سترى حينئذ كيف تهدأ حركاتها و تستدير استجابةً للغذاء المرضي. كما يمكنك جعل الذبابة سعيدةً منتشيةً إن سقيتها الكحول. لم أختلق هذا، فلقد أجريت التجربة على فصيلة ذباب تعرف بالدروسوفيلا (ذبابة الفاكهة( Drosophila Melanogaster  . فبعد التعرض لأبخرة الإيثانول، كان الذباب غير متزن تماما كما كنا سنكون لو تعرضنا لجرعة مقاربة. يمشي الذباب باسترسال انتشاءٍ قنوع ثم ينحدرون أسفل أنبوب الاختبار.

      كما يترنح الثمل عند عمود الإنارة. للذباب عواطفٌ، بيد أني لا أقترح أنه “يشعر” بعواطفه، ناهيك عن التبصّر فيها. و إن اعتراك شكّ في رقي آليات تنظيم الحياة في هكذا كائنات بسيطة، فتأمل آليات نوم الذبابة التي وصفها رالف غرينسبان Ralph Greenspan  و زملاؤه . للدروسوفيلا الضئيلة ما يكافئ دورات النهار-الليل عندنا، فترات من النشاط الكثيف و النوم المجدد و حتى نفس الاستجابة للحرمان من النوم حينما ينتابنا إرهاق السفر، إذ تحتاج نوما أطول، مثلنا.

     أو فكّر بالبـزّاقة البحرية Aplysia Californica  — و هي أيضا تملك دماغا صغيرا بلا حبل شوكي، و الكثير من الكسل. المس خيشومها و ستنطوي على نفسها و ترفع ضغط  دمها و نبضها. تنتج البزاقة مجموعة من الانفعالات المتناغمة و التي إن نُقِلت إليك أو إلي، فستُعرف كمكونات مهمة من عاطفة الخوف. عاطفة؟ بلى. شعور؟ لا، على الأغلب.

     لا يأتي أيُّ هذه الكائنات انفعالاته عامدا مترويا. كما أنها لا تبني انفعالها شيئا فشيئا، مع تذوق مبتكر لكل حالة يعرض فيها الانفعال. تنفعل المخلوقات انعكاسيا و تلقائيا بشكل مقولب. إنها “تختار” استجابة ما بين الاستجابات الجاهزة للاستعمال و تمضي مثلما يختار المتسوّق المشتت التركيز غرضا من معرض الألبسة الجاهزة. إطلاق لفظ منعكسات على هذه الانفعالات غير صحيح لأن المنعكسات الكلاسيكية استجابات بسيطة أما هذه الانفعالات فحزمٌ مركّبة من الاستجابات. ما يميز الانفعالات المتعلقة بالعواطف emotion-related reactions  من المنعكسات هو تعدد مكوناتها و تنسيقها. من الأفضل وصفها بأنها مجموعات من الاستجابات الانعكاسية، بعضها مسهب جدا، و كلها منسقة للغاية. إذ تسمح للكائن بأن يستجيب لمشاكل معينة بحل فعال.

 

العواطف المخصوصة

هناك تقليد عريق يقضي بتصنيف العواطف في فئات منوعة. و بالرغم من أن التصنيفات و الوسوم قاصرة بوضوح، فإنه لا بديل لها في هذه المرحلة باعتبار الوضع التمهيدية لمعرفتنا. من المحتمل أن تتغير الوسوم و التصنيفات بتراكم المعرفة. في هذه الأثناء، علينا أن نتذكر أن الحدود الفاصلة بين الفئات مسامية. حاليا، أجده مفيدا أن نصنف العواطف المخصوصة في ثلاثة أدوار: عواطف الخلفية background emotions ، العواطف الأولية primary emotions  و العواطف الاجتماعية social emotions.

      و كما يشي المصطلح، فعواطف الخلفية غير بارزة في سلوك الفرد إلا أنها بالغة الأهمية. حتى و إن لم تعر الأمر كثير انتباه، فإنك غالبا ما تكون قارئا جيدا لعواطف الخلفية إن لمحت مصيبا طاقةً أو حماسا في شخص قابلته للتو أو كنت قادرا على تشخيص الطفيف من الوعكات أو الهياج أو الحدة أو الهدوء و الدعة في أصدقائك و زملائك. و لو كنت بارعا في ذلك، فستستطيع أداء عملك التشخيصي دون أن يتفوه ضحيتك بكلمة واحدة. إذ تستطيع تقييم انحناءات حركة أطرافه و كامل جسده؛ ما قوتها؟ ما دقّتها؟ ما اتّساعها؟ و. ما تكرارها؟ تلاحظ أيضا تعابير الوجه. و حين تنطق الكلمات، فإنك لا تكتفي بسماعها و تصور معناها القاموسي، بل تسمع موسيقى الصوت كذلك؛ تسمع الـتّصاوت[4] prosody.

     و منذ أن طورت هذا التصور، تراءت لي عواطف الخلفية كحصيلة لاستغلال تراكيب محددة من التفاعلات التنظيمية الأبسط (العمليات الاستتبابية الأساسية، سلوكيات الألم  و المتعة و الشهوات على سبيل المثال)، وفق مبدأ التداخل الآنف الذكر. عواطف الخلفية تعبيرات مركبة من هذه الأفعال التنظيمية و إذ تنفرج و تتقاطع لحظة بلحظة. أتخيل عواطف الخلفية كنتيجة عصية على التنبؤ لعدد من العمليات التنظيمية المتزامنة و الجارية بأجسادنا الشبيه بالملاعب الفسيحة. يشمل هذا تعديلات أيضية مرتبطة بأي حاجة داخلية تطفو للسطح أو أي حاجة أرضيت للتو، و مرتبطة بأي وضع خارجي تُقدِّره عواطفنا أو شهواتنا أو حساباتنا الفكرية. نتيجة مرجل التفاعلات دائم التغير هذا هو “حالة كينونتنا أو وجودنا” state of being ، قد تكون جيدة أو سيئة أو وسطا بينهما. حين نُسأل ” كيف نشعر”، نستشير ” حالة كينونتنا” و نجيب وفقا لما تمليه.

     من الملائم أن نتساءل إن كان هنالك أي انفعالات تنظيمية لا تسهم في تكوين عواطف الخلفية، أو نتساءل عن أكثر الانفعالات التنظيمية تكرارا في تكوين عواطف خلفية كالفتور أو الهياج، أو نسأل عن كيف تتفاعل الحالة الصحية و الحالة المزاجية  temperamentمع عاطفة الخلفية. الإجابة المباشرة هي أننا لا ندري بعد؛ لم تُجر الفحوصات اللازمة.

     تعريف العواطف الأولية أو الأساسية أيسر لأن تقليدا عريقا قضى بتكويم عواطف محددة بارزة في هذه المجموعة. القائمة الشائعة تضم الخوف، الغضب، الاشمئزاز، الدهشة، الحزن و السعادة — أو ما يتناهى إلى ذهنك حينما يذكر مصطلح عاطفة. هناك أسباب وجيهة لهذه المركزية. فهذه العواطف سهلة التمييز بين البشر من مختلف الثقافات و بين الفصائل الحيوانية أيضا.

3

     أيضا، أنماط السلوك المُعـرِّفة للعواطف الأولية و الظروف المسببة لها ثابتة لحد بين الثقافات و الفصائل. استقينا

     معظم ما نعرفه عن نيوروبيولوجيا العواطف من دراسة العواطف الأولية، و لا عجب. يقود الخوف الطليعة، كما قد يخمن ألفريد هيتشكوك، و لكن أشواطا واسعة قطعت باتجاه فهم الاشمئزاز، الحزن و السعادة.

    تشمل العواطف الاجتماعية التعاطف، الحرج، الخزي، الإحساس بالذنب، الزهو، الغيرة، الحسد، الامتنان، الإعجاب، الاستياء و الازدراء. ينطبق المبدأ التداخلي عليها أيضا. يمكن التعرف على حاشية كاملة من الانفعالات التنظيمية جنبا إلى جنب مع عناصر من العواطف الأولية, يخدمون جميعا كمكونات جزئية للعواطف الاجتماعية في تراكيب منوعة. الدمج التداخلي لمكونات الأدوار الدنيا واضح. تأمل كيف تستعير عاطفة “الازدراء” الاجتماعية تعابير الوجه من “الاشمئزاز” و هو عاطفة أولية تطورت بمعية الرفض التلقائي  و النفعي للأغذية المحتمل تسممها. و حتى الكلمات التي نستخدمها لوصف مواقف الازدراء و الهلع الأخلاقي – نعترف بأننا مشمئزون – تدور في فلك التداخل و العشاعش. يمكن أن نستجلي أثر مكونات الألم و المتعة تحت سطح العواطف الاجتماعية، ولو كان أخفت من تواجدها في العواطف الأولية.

      لقد بدأنا للتو بفهم كيف يثير الدماغ العواطف الاجتماعية و يفعلها. و بما أننا نستحضر لزاما فكرة المجتمع و الثقافة الإنسانية عند ذكر مصطلح “اجتماعي”، فمن المهم أن نلاحظ أن العواطف الاجتماعية ليست محصورة على البشر بأي حال من الأحوال. انظر حولك و ستجد أمثلة لها في الشمبانزي، البابون و القردة العادية، في الدلافين و الأسود، و في قطتك و كلبك بالطبع. الأمثلة وفيرة — المشي الفخور لقردٍ مهيمن، الهيئة الملكية حرفيا للذئب أو القرد الأعلى و المستدعية لاحترام بقية المجموعة، السلوك الذليل للحيوان الغير مهيمن و الذي يتنحى لزاما عن الحيّز و الأسبقية عند الطعام، التعاطف الذي يبديه الفيل تجاه آخر ينوح متألما، و حرج الكلب حين يفعل ما نُهي عن فعله .

     يبدو نزعة الكائن لإظهار عاطفة اجتماعية مغروسة عميقا في دماغه و جاهزة لأن تُستغَل ما إن ينجح الموقف الملائم بإثارتها، إذ أنه من الغير المحتمل أن تكون هذه الحيوانات قد لُقِّـنت مخالجة العواطف. لا شك بأن التسوية الدماغية العامة التي تعطي سلوكا معقدا كهذا دون أي لغة أو أدوات ثقافية هي هدية من جينوم فصائل محددة. إنه جزءٌ من دليل أجهزتهم لتنظيم الحياة التلقائية و الجبليّة لحد كبير، و هي ليست بأدنى مما تناولناه حتى الآن.

      أيعني هذا أن العواطف جِبليّة حرفيا و معدة لأن تُستغَل منذ الولادة مباشرة بنفس وضوح عمل التنظيم الأيضي؛ بعد أنفاسنا الأولى؟ على الأرجح أن الإجابة تختلف باختلاف العاطفة. قد تكون الاستجابات العاطفية جبليّة كليا في بعض الحالات، و في بعضها الآخر؛ تتطلب مساعدة بسيطة من التعرّض البيئي المناسب. بحث روبرت هيندي Robert Hinde مؤشر ٌجيد على ما قد يحصل حال الانخراط بعواطف اجتماعية. لقد وضح خوف القرود الجبلي من الأفاعي لا يستلزم تعرضا لأفعى فحسب بل تعرضا لتعبير أمه الخائف من الأفعى أيضا. مرة واحدة كافية ليباشر السلوك عمله، لكنه لا ينخرط في السلوك “الجبلي” دون هذه “المرة” . يسري مثيل ذلك على العواطف الاجتماعية. مثال ذلك؛ ترسيخ أنماط الهيمنة و الخضوع في الرئيسات primates  اليافعة جدا خلال اللعب.

     للفصائل الحيوانية البسيطة و الغير مشتهرة بحضارتها القدرة على إظهار سلوكيات اجتماعية ذكية. تبقى هذه المسألة عصية على التقبل، و هذا لأن الجميع درجوا على الاعتقاد بأن السلوكيات الاجتماعية وليدة التعليم بالضرورة. لكنها تستطيع  ذلك حقا، و سنرى مجددا أنها لا تحتاج دماغا كبيرا لتذهلنا. تمتلك الديدان المتواضعة المسماة بالربداء الرشيقة C. elegans  ٣٠٢ خلية عصبية على وجه التحديد و قرابة ٥٠٠٠ صلة عصبية وسطية. ( و على سبيل المقارنة، فالبضر يملكون مليار خلية عصبية و عصدة تريليونات من صلات العصبية الوسطية). عندما تجوب هذه الوحوش الجنسية الصغيرة ( إنها ديدان خنثى!) في بيئة خالية من المنغصات و بموارد غذائية كافية، فإنها تنطوي و تتغذى منعزلة. أما إن فاحت رائحة كريهة أو كان الغذاء شحيحا— ستفهمه كـخطر فيما لو كان لك وجود دودةٍ و اتصلت بالعالم من خلال أنفك — فستجتمع الديدان في بقعة واحدة و تتغذى سويةً؛ تحسُّـبا لأي طاريء. يشي هذا السلوك البدائي الجنيني و بعيد المدى في الوقت ذاته بعدة مفاهيم اجتماعية مثيرة: الأمان بالكثرة، التعاون قوة، الإيثار، التّقشف، و نقابات العمال الأولية. هل ظننت يوما أن هذه الحلول السلوكية صنيعة الإنسان؟ خذ النحلة، كائن صغير و اجتماعي للغاية في مجتمع الخلية. للنحلة الواحدة ٩٥٠٠٠ خلية عصبية. هذا دماغ بلا شك.

      يحتمل جدا أن يكون لوجود هذه العواطف الاجتماعية دور في تكوين آليات الضبط الاجتماعي الثقافية المعقدة (طالع الفصل الرابع). من الواضح أيضا أن بعض الانفعالات العاطفية الاجتماعية مستدعاة في المواقف الإنسانية دون أن يكون محفز الانفعال ظاهرا بجلاء لا للمتفاعل و لا المراقب. استعراضات الهيمنة و التبعية الاجتماعية مثال على ذلك — فكر بكل طرائف و غرائب السلوك البشري في الرياضة، السياسة و مكان العمل. ما يجعل البعض قادة و البعض الآخر أتباعا و يجعل بعضهم يفرض احترامه حين يجبن الآخرين مرتبطٌ قليلا بالمعرفة و المهارة, و كثيرا بصفات جسدية محددة و بالطريقة التي يبث فيها الشخص استجابات عاطفية محددة في الآخرين. تظهر بعض الاستعراضات غير مدفوعة لمراقبيها و لمن أبداها، هذا لأن منبعها جهاز العاطفة الاجتماعية و حفظ الذات الجِبلّي و اللامَوعِي. علينا أن ننسب الفضل لِـمُسـتحقِّه، داروين، و الذي قادنا للأثر التطوري لهذه الظواهر.

       هذه ليست الانفعالات العاطفية الوحيدة ذات الأصل الغامض. هناك طائفة إضافية من الانفعالات لها أصل غير مَوعي يُشكَّله التعلم خلال التطور الفردي للشخص. إني أشير إلى التآلف و التباغض الذي نحصله بحرص و تكتم عبر حياةٍ زاخرة بالعواطف و المُدرَكَات الحسية  perceptions فيما يتعلق بتفاعلنا مع الأشخاص، المجموعات، الأشياء، الأنشطة و الأماكن و هذا ما أراد فرويد لفت انتباهنا إليه. من المثير أن هاتين المجموعتين من الانفعالات الغير المتعلَّـمة و اللامُوعِية — الانفعالات المتعلَّمة و الجِبليّة— قد تكونان مرتبطتين في هوة لا وعينا السحيقة. هذا يغرينا لنقول أن تفاعلهما اللاموعي المحتمل إشارةٌ إلى تقاطع الإرث الفكري لكل من داروين و فرويد؛ و كلاهما سخر مسيرته لدراسة التأثيرات للجبلي و المكتَسب.

     تدور كل ظواهر تنظيم الحياة بلا استثناء، من العمليات الكيميائية الاستتبابية إلى العواطف المخصوصة، حول الحفاظ على سلامة المخلوق و صحته بشكل مباشر أو غير مباشر. ترتبط جميع هذه الظواهر بتعديلات تكيفية في حالة الجسد و تؤدي بعدئذ إلى تغييرات في خرطنة الدماغ brain mapping  لحالات الجسد body states؛ تشكل هذه بدورها أساس المشاعر. يضمن تداخل البسيط ضمن المُّركَّب بقاء الغاية التنظيمي في الدرجات العُـلى من السلسلة. تـثبت الغاية رغم تغير التركيب و تشابكه. فالعواطف المخصوصة أكثر تشابكا من المُـنعكسات بلا شك، كما أن ما يثيرها من محفزات و هدف استجاباتها متنوع أيضا. يختلف قصد العمليات و المواقف المؤذنة ببدايتها على وجه التحديد.

      نكتشف أيضا تفاعلات تبادليّة مثيرة ما بين صنوف التفاعلات التنظيمية. إذ تؤثر العواطف المخصوصة على الشهوات؛ و العكس صحيح. يثبّط الخوف مثلا بواعثَ الجوع و الجنس و يحصل الشيء نفسه حال الحزن أو الاشمئزاز. و على العكس من ذلك، تعزّز السعادة باعثي الجوع و الجنس. إرضاء البواعث — أي الجوع، العطش و الجنس و غيرها— سببٌ للسعادة لكن العجز عن إرضاءها يؤدي إلى الغضب أو اليأس أو الحزن. و كما لاحظنا سابقا، تنفرج توليفة الانفعالات التكيفية يوميا، كالتعديلات الاستتبابية و البواعث، مشكلةً عواطف الخلفية الحالية و محددة المزاج عبر فترات ممتدة من الزمن. إنك حين تتأمل هذه المستويات المختلفة من الانفعالات التنظيمية عن بعد، يصعقك تشابهها التنظيمي البالغ .

      على حد علمنا، فمعظم الكائنات الحية المزودة بما يعينها على مخالجة العاطفة لصون حياتها قاصرةٌ عن امتلاك معدات الشعور بهذه العاطفة كقصورها عن التفكير بامتلاكها لهذه العواطف من الأساس. فهي ترصد وجود محفّـزات معينة في البيئة و تستجيب لها بعاطفة. كل ما تحتاجه هو جهزٌ إدراك حِسِّـي بسيط— مصفاةٌ تنقّي المحفّزات المختصة بالعاطفة (المحفزات ذات الاختصاص العاطفي ) و قدرةٌ تخالج بها العاطفة. معظم الكائنات الحية تؤدي ما يتعين عليها من أداء. إنها لا تشعر كما نشعر ناهيك عن أن تفكر كما نفكر. هذا افتراض بالطبع، لكنه افتراض تبرره فكرتنا عما يستلزمه الشعور كما سنشرح الفصل القادم. تفتقد الكائنات الأبسط للتراكيب الدماغية اللازمة لعرض التغيرات الحاصلة في الجسم أثناء الانفعال العاطفي في خرائط حسية؛ الشعور هو النتيجة. تفتقد أيضا لدماغ مؤهل لتمثيل المحاكاة المترقبة لهذا النوع من التغيرات الجسمانية، و هو ما قد يشكّل أساس الرغبة أو القلق.

      من الواضح أن الانفعالات التنظيمية أعلاه نافعة لمن يمتلكها من الكائنات و أن الحكم “بجودة” أو “سوء” مسبباتها— الأشياء أو المواقف المثيرة لها— يقف على أثرها على نجاة الكائن و عافيته. لا البراميسيوم و لا الذبابة و لا السنجاب قادرون على معرفة الصفات الخيرة من الشريرة لهذه المواقف و لا على العمل من أجل “الجيد” ضد” السيء” من باب أولى. و لا ننزع – نحن البشر- للخير حين نوازن الأس الهيدروجيني لوسطنا الداخلي أو ننفعل بسعادة أو حزن لأشياء حولنا. تميل أجسادنا للنتيجة “الجيدة” من تلقاء نفسها، إما بشكل مباشر كإعطاء استجابة سعادة أو غير مباشر باستجابة خوف و التي تتفادى “الشر” باديء الأمر ثم تنتهي “بالخير”. أقترح أن بمقدور الكائنات إتيان انفعالات نافعةٍ مفضيةٍ إلى نتائج جيدة دون أن تقرر إتيانها و دون الشعور بتكشف هذه الانفعالات؛ و سأعود لمناقشة هذه الفكرة في الفصل الرابع. و كما يظهر من بنية هذه الانفعالات، يتحرك المخلوق لفترة ما أثناء حصولها باتجاه حالات توازن فسيولوجي أبلغ أو أقل.

      أهدي تبريكاتي المُستحَقة لنا البشر لسببين. أولا، في الظروف المماثلة؛ تخلق هذه الانفعالات التلقائية أحوالا في الجسم البشري تتمثّل لنا كممتعة أو مؤلمة ما إن تموضعت في الجهاز العصبي، و هي ما يعرف بالمشاعر آخر الأمر. فلنقل بأنه هذا هو المصدر الحقيقي للبهاء الإنساني و المأساة الإنسانية. فلنتناول السبب الثاني الآن. نسعى نحن البشر للتحكم بعواطفنا عن قصد، إلى حد ما. على الأقل، و ذلك لوعينا للعلاقة بين أهداف محددة و عواطف محددة. يمكننا أن نقرر أيّ نوع من المواقف و الأشياء مسموح  له بالتواجد في بيئتنا و على أيّ نوع من الأشياء و المواقف نصرف اهتمامنا و وقتنا. بإمكاننا أن نقرر مثلا ألا نشاهد الإعلانات المتلفزة و أن نؤيد طردها الأبدي من منازل المواطنين الأذكياء. و بتحكمنا في تفاعلنا مع ما يسبب العاطفة، فإننا فعليا نمارس نوعا من التحكم على عمليات الحياة و نقود أنفسنا لانسجام أقل أو أكثر، كما كان سبينوزا ليرغب. نتجاوز فعليا طغيان التلقائي و غفلة الآلة العاطفية. من المثير للفضول هو أن البشر قد اكتشفوا هذه الاحتمالية منذ زمن بعيد بدون أن يعرفوا الأساس الفسيولوجي للاستراتيجيات المستعملة على وجه الدقة. فهذا ما نفعله حين اتخاذ خياراتنا حيال ما نقرأ و من نصاحب. و هذا ما فعله البشر لقرون باتباعهم المدركات الاجتماعية و الدينية و التي تعدل البيئة و علاقتنا بها فعليا. هذا ما نحاول فعله حينما نداعب برامج العيش الصحي و التي تجعلنا نتريض و نتبع حمية.

      من غير الدقيق أن نقول أن كل الانفعالات التنظيمية، حتى العواطف المخصوصة، مقولبة حتما و بلا محالة. بعض انفعالات “الفروع الدنيا” مقولبة و هذا ما ينبغي أن تكونه— علينا ألا نتدخل بحكمة الطبيعة حينما يتعلق الأمر بتنظيم وظيفة القلب أو الهرب من الخطر. لكن بإمكاننا التحكم بتعرضنا للمحفزات الجالبة للانفعالات. نستطيع أن نتعلم تعديل كوابح هذه الانفعالات عبر الدهر. بإمكاننا ببساطة أن نستعمل قوة الإرادة المطلقة و نقول لا فحسب؛ أحيانا.

 

فرضية في صيغة تعريف

بأخذ الأنواع المتعددة للعاطفة في الحسبان، بإمكاني الآن تقديم فرضية عملية للعواطف المخصوصة في صورة تعريف.

١- العاطفة المخصوصة، كالسعادة و الحزن و الحرج و التعاطف، حصيلةٌ مركَّبَةٌ من الاستجابات الكيميائية و العصبية مكوِّنَـةً نمطا مميزا.

٢- تنتج الاستجابات عن الدماغ الطبيعي حين يرصد “محفزا مختصا بالعاطفة”  “emotionally competent stimulus”  ؛ أي ما يثير trigger العاطفة من أشياء أو أحداث حال وجودها حقيقة أو بالاستدعاء العقلي. الاستجابة تلقائية.

٣- الدماغ معدٌّ بالتطور ليستجيب لمحفزات محددة مختصة بالعاطفة وفق تعليمات محددة، مع ذلك، قائمة المحفزات المختصة بالعاطفة ليست محصورةً بما فرضه التطور، بل تشمل محفزات عدة متعلَّمـة خلال عمر من التجارب.

٤- النتيجة الفورية لهذه الاستجابات هي تغير مؤقت في حالة الجسم المخصوص و في حالة تراكيب الدماغ المخرطنة للجسم و الداعمة للتفكير.

٥- النتيجة النهائية للاستجابات هي وضع المخلوق في ظروفٍ موصلة إلى النجاة و العافية بشكل مباشر أو غير مباشر.

     يشمل هذا التعريف المكونات الكلاسيكية للانفعال العاطفي إلا أن فصل مراحل العملية و الوزن المعطى لهذه المراحل قد يبدو غير تقليدي. تبدأ العملية بمرحلة تقدير- تقييم appraisal-evaluation، منذ لحظة رصد المحفز المختص بالعاطفة. بحثي معنيٌّ بما يحدث في العملية العقلية بعد رصد المحفز— نهاية مرحلة التقدير. بالطبع، استبعدت المشاعر أيضا من تعريف العواطف نفسها، باعتبارها المرحلة التالية من دائرة العواطف-المشاعر.

     قد يجادل البعض بوجوب استبعاد مرحلة التقدير أيضا لدواعي الوضوح الوظيفي— باعتبار التقدير العملية المؤدية للعاطفة و ليس العاطفة ذاتها. لكن الإبعاد الجذري لمرحلة التقدير سيحجب القيمة الحقيقية للعواطف عوضا عن إيضاحها: وصلها الذكي للغاية بين المحفز المختص بالعاطفة و بين مجموعة الانفعالات القادرة على تغيير وظائف جسمنا و تفكيرنا بعمق. استبعاد التقدير سيجعل الوصف البيولوجي لوظيفة العاطفة معرضا أمام السخرية الكاريكاتورية التي تعتبر العواطف بلا تقدير عديمة المغزى. سيستعصي علينا أيضا أن نلحظ كيف يمكن للعواطف أن تكون بديعة و مبهرة الذكاء و كيف يمكنها أن تحل لنا المشاكل.

 

آلية العواطف الدماغية 

توفر العواطف وسيلة طبيعية تمكن الدماغ و العقل من تقييم البيئة داخل المخلوق و حوله و الاستجابة وفقا لذلك بشكل تكيّـفي. و بالفعل، نقيم بوعي ما يسبب عواطفنا في كثير من الظروف، بالمعنى الفعلي لمصطلح “التقييم”. لا نعالج حينها وجود المسبب فحسب، بل علاقته بالأشياء و المسببات الأخرى و صلته بالماضي أيضا. و في هذه الظروف، يقيم جهاز العواطف بشكل طبيعي و يشارك جهاز العقل الواعي مفكّرا بالتقييم. بإمكاننا تعديل استجابتنا العاطفية. و بالفعل، فإن من أهم غايات تطورنا التعليمي هو أن نحول بين المسببات و الاستجابات العاطفية بخطوة تقييمية غير تلقائية. نأمل أن يسهم ذلك في تشكيل استجاباتنا العاطفية الطبيعية لتتفق مع متطلبات ثقافة ما. كل هذا صحيح للغاية لكن ما أود الإشارة إليه هنا هو أن حدوث العواطف  لا يستلزم تحليل مسببها بوعي، ناهيك عن تقييم موقف حدوثها. إذ تعمل العواطف وفق إعدادات مختلفة.

     تشير العاطفة إلى نتيجة تقدير الكائن للموقف؛ حتى في الحالة التي يحصل فيها الانفعال العاطفي دون معرفة واعية بالمحفز المختص بالعاطفة. لا تهتم لكون التقدير غير معلوم للنفس بوضوح. بشكل ما، فُهِـمَت فكرة التقدير حرفيّا على أنها تقييم مَوعي، كما لو كان تقييمك المبهر لوضع و استجابتك التلقائية له إنجازا بيولوجيا ضئيلا.

      يتعلق أحد أهم جوانب تاريخ التقدم الإنساني بالكيفية التي تتمكن بها معظم الموجودات المحيطة بأدمغتنا من إثارة عاطفة ما؛ قوية أو ضعيفة، جيدة أو سيئة و بشكل موعي أو غير موعي. بعض هذه المثيرات triggers مهيّأ بواسطة التطور، البعض الآخر فأصبح مقترنا ،عبر أدمغتنا، بموجودات مختصة بالعاطفة بفعل تجاربنا الفردية. تذكّر منزلا اختبرت فيه طفلا تجربة خوف بالغ. عندما تعاود زيارة هذا المنزل اليوم، ستشعر بالانزعاج دونما أي سبب سوى تجربتك لمشاعر سلبية قوية في المكان نفسه منذ زمن. و قد يحصل أن يزورك الانزعاج نفسه عندما تزور منزلا آخر يشابهه بعض الشيء، و لا تجد مبررا هنا أيضا سوى رصدك السجل الدماغي لموقف مقارب.

      لا تملي عليك تراكيب دماغك الأساسية استجابةً مستاءة عند زيارتك لنوع معين من المنازل. لكنها التجربة الحياتية التي دفعت بدماغك ليربط هكذا منازل بالاستياء الذي جربته يوما. لا تعبأ لكون سبب الاستياء غير متعلق بالمنزل نفسه أصلا. سمِّه ذنبا بالارتباط، فالمنزل مجرد متفرجٍ بريء. لقد كُـيِّـفت على الشعور بالاستياء في منازل معينة و ربما على بغض منازل معيّنة دون أن تعرف السبب الفعلي. أو لربما كُـيِّـفت على الشعور بالرضا في منازل معينة بالآلية ذاتها. نشأ العديد مما نحب و نكره، العادي منه و المبتذل، بهذه الطريقة. لاحظ أيضا أن الرهاب قد يكتسب بنفس الآلية؛ و هو ليس عاديا و لا مبتذلا. و على أي حال؛ بالوقت الذي نغدو فيه بالغين بما يكفي لكتابة الكتب ، يبقى – إن بقي- القليل من الأشياء المحايدة عاطفيا في هذا العالم. التمييز العاطفي بين الموجودات تمييزٌ ذو درجات: يبثّ بعضها انفعالات عاطفية ضعيفة بالكاد تحس و يبعث بعضها انفعالات قوية و يتوسط بينهما درجات شتى. لقد ابتدأنا بكشف الآليات الخلوية و الجزيئية الضرورية لحصول التعلم العاطفي.

     تتعلم المخلوقات المركَّبة أيضا أن تعدل تفعيل  execution عواطفها بما يتّـسق مع كل ظرف على حدة— مصطلحي التقييم و التقدير هما الأكثر ملائمة هنا. تضبط أجهزة التعديل العاطفي مدى التعبير العاطفي دون الحاجة للمداولة المـوعية من الكائن. كمثال بسيط؛ إن قُصصـت عليك ذات القصة المسلية مرتين على التوالي، فستبتسم أو تضحك بشكل مختلف للغاية حسب السياق الاجتماعي لتلك اللحظة— عشاء دبلوماسي أو لقاء عابر في الرواق أو عشاء عيد الشكر مع الأصدقاء المقربين أو غيرها. و لو أحسن والداك صنعا في تنشئتك، فلن يتعين عليك التفكير بالسياق. الضبط تلقائي. مع ذلك، تعكس بعض الأجهزة الضابطة حكما نابعا من نفس الكائن و قد يحاول كبت العاطفة أو تعديلها نتيجةً لذلك. قد تختار أن تكتم جذلك أو اشمئزازك من عبارة تفوه بها زميلك أو محاورك مدفوعا بأسباب تتراوح ما بين الشريف إلى الوضيع. تساعدك معرفتك الواعية بالسياق و درايتك بالتبعات المستقبلية لكل جانب من جوانب سلوكك على أن تقرر كبت التعبير الطبيعي عن العاطفة. لكن حاول تجنب ذلك كلما كبرت؛ إنه مستهلك كبير للطاقة.

      قد تكون الأشياء المخصوصة بالعاطفة emotionally competent objects  حاضرةً أو مستدعاةً من الذاكرة. و لقد رأينا كيف انتهت الذاكرة الشرطيّة اللاموعية بعاطفةٍ حاضرة. و قد تحتال الذاكرة علانية بنفس الحيلة. فمثلا؛ قد تستدعى من ذاكرتك تلك الحادثة البعيدة التي دنت منك و روعتك؛ لترتاع بسببها مجددا. للصورة الأثر نفسه سواء كانت حاضرة حالا أو صورة مصوغة للتو أو صورة مُـجدَّدة و مستدعاة من الذاكرة. تنشأ عاطفة إن وجد محفز مختص بالعاطفة , و لا تختلف إلا حدتها. تعتمد حرفة الممثلين، على اختلاف مللهم، على ما يسمى بالذاكرة العاطفية. إذ يمكنون أحيانا ذاكرتهم بوضوح؛ فتسوقهم للعاطفة المنشودة. و في مرات أُخر؛ تتخل الذاكرة أدائهم برويةٍ بينما يعدون أنفسهم ليسلكوا مسلكا معينا. ما فاتت على سبينوزا ملاحظة هذا الأمر و هو اليقظ دوما: يتأثر المرء متعةً و ألما بصورة الحالي قدر ما يتأثر بصورة ما هو ماض أو آت (كتاب الأخلاق، الفصل الثالث، المسألة ٢٨).

 

إثارة و تفعيل العواطف 

يعتمد ظهور العواطف على سلسلة معقدة من الأحداث. أراها على النحو التالي: تبدأ السلسلة بظهور المحفز المختص بالعاطفة. يتناهى للعقل محفزّ ما؛ شيء أو موقف موجود فعليا أو مُتَـذكَّر. فكر بـدبٍّ صادفته في رحلتك لألاسكا ( أوردته تقديرا لـ ويليام جيمس William James  و الذي نسج مناقشته للخوف من خيوط ذكرى دبٍّ مماثل) أو بلقاءٍ مرتقب مع شخص تفتقده.

      و نقول بمصطلحات محايدة بأن الصور المرتبطة بالأشياء المختصة بالعاطفة لا بد و أن تمثل في واحدة أو أكثر من أنظمة المعالجة الحسية بالدماغ، كمناطق الإبصار و السمع. لِـنسمّها مرحلة العرض. و بغض النظر عن سرعة زوال العرض، فلا بد من عرض الإشارات الدالة على وجود المحفز على مواضع زنادية لإثارة العاطفة   emotion-triggering sites أيضا و الموجودة في أماكن دماغية آخرى. يمكن تصورها كأقفال لا تفتح إلا إن طابقتها مفاتيحها الملائمة. بالطبع، فالمحفزات المختصة بالعاطفة هي المفاتيح. لاحظ هنا بأنها تختار قفلا من أقفال موجودة مسبقا عوضا عن تلقين الدماغ كيف يصنع قفلا. تنشّط مواضع إثارة العاطفة بعدها عدة مواضع أخرى لتفعيل العاطفة  emotion-execution sites, و هذه الأخيرة هي السبب المباشر للحالة العاطفة الحاصلة في الجسد و في المناطق الدماغية الداعمة للشعور بالعاطفة. بالنهاية، قد تتضخم العملية مدويةً أو تنكمش ذاوية و تنتهي. بلغة الفسيولوجيا العصبية و تشريح الدماغ؛ تبدأ العملية عندما ترتحل إشارات عصبية ذات هيئة معينة ( و الناشئة من القشرة البصرية الحاملة لأنماط بصرية تقابل الاقتراب السريع لجسم خطر) على التوازي عبر سبلٍ عدة قاصدةً تراكيب دماغية عدة. ستصبح بعض التراكيب المستقبِلة ، كاللوزة مثلا amygdala، نشطةً عندما ترصد هيئةً معينة – عندما يدور المفتاح في القفل- و تشرع بإرسال إشارات تستهدف مناطق أخرى مكونةً تسلسلا من الأحداث التي ستصبح عاطفة.

      يشبه هذا الوصف حال المـُستَٓضِدّ  [5] antigen ( كفيروس مثلا) مقتحما مجرى الدم و مؤديا إلى استجابة مناعية (مكونة من عدد كبير من الأجسام المضادة – أو الأضداد- القادرة على تعطيل المستضد). و ينبغي عليهما أن يتشابها، فعملياتهما متشابهة منهجيا. في حالة العاطفة؛ يعرَض ” المـستَضَد” خلال النظام الحسي و الاستجابة العاطفية هي “الضّد”. يحصل “الانتقاء” في واحدة من عدة مواضع دماغية معدّة لإثارة عاطفة. تتم العمليتان في ظروف متقاربة و لهما نفس المعالم و نتائجهما متماثلة النفع. الطبيعة ليست خلاقة فيما يتعلق بابتكار الحلول الناجعة. ما إن ينجح أحدها، تعاود استخدامه مرارا و تكرارا. لو كان لمنتجي هوليوود نجاح مثيل ، لأدرّت كل تتمة للأفلام مالا على الدوام.

      من المناطق الدماغية المعروفة الآن باعتبارها مواضع إثارة للعاطفة: اللوزة، مستقرة عميقا في الفص الصدغي؛ جزء من الفص الجبهي معروف باسم قشرة المقدَّم الجبهيّ البطني الإنسي  ventromedial prefrontal cortex؛ و منطقة جبهية أخرى في الباحة الحركية الإضافية  supplementary motor area و القشرة الحزامية cingulate . هذا ليس حصرا لكل مناطق الإثارة، لكنه تعداد للمفهوم منها. تستجيب مناطق الإثارة للمحفزات الطبيعية، أي الأنماط الكيميائية الكهربائية الداعمة للصور في أدمغتنا، و الغير طبيعية بالمرة؛ كتيار كهربائي يلامس الدماغ. لكن لا ينبغي النظر لهذه المواضع باعتبارها ثابتة صارمة؛ تنتج ذات الأداء المقولبة المرة تلو المرة، لوجود عدة مؤثرات تعدِّل نشاطها. و مجددا، تفعل الصور العقلية البسيطة ما يستطيع التحفيز الدماغي المباشر فعله.

     وافتنا دراسة اللوزة عند الحيوانات بمعلومات جديدة، أبحاث جوزيف ليدو Joseph LeDoux  على وجه الخصوص، كما جعلت تقنيات تصوير الدماغ الحديثة من دراسة لوزة الإنسان أمرا ممكنا، ممثلة بدراسات رالف ادولفز  Ralph Adolphs و ريموند دولان Dolan Raymond #٢٤. تقترح هذه الدراسات أن اللوزة صلة هامة بين المحفزات السمعية و الإبصارية المختصة بالعاطفة و إثارة العواطف، كالخوف و الغضب؛ على وجه الخصوص لا الحصر. لا يستطيع مرضى الأمراض العصبية المصابون بأذى في اللوزة إثارة هذه العواطف و بالتالي ؛لا يملكون ما يقابلها من مشاعر. أي أن أقفال خوفهم و غضبهم تبدو كما لو كانت مفقودة، على الأقل فيما يتعلق بالمثيرات السمعية و الإبصارية المفعلة تحت ظروف معينة. بالإضافة لذلك، تسفر الدراسات الحديثة المعنية بالتسجيلات المباشرة لنشاط الخلايا العصبية المنفردة من اللوزة البشرية عن وجود قدر أكبر من الخلايا العصبية المضبوطة للاستجابة للمحفزات الغير سارة مقارنة بالمحفزات السارة.

      بشكل مثير للفضول، تؤدي اللوزة الطبيعية بعض وظائف الإثارة بغض النظر عن درايتنا بوجود المحفز المختص بالعاطفة. يقدم بحث بول ويلن Whalen Paul أول الأدلة على قدرة اللوزة على الرصد اللامَوعِي للمحفزات المختصة بالعاطفة. عندما عُرض هذا النوع من المحفزات بسرعة بالغة على أشخاص طبيعيين مما جعلهم غير مدركين بتاتا لطبيعة ما يرون، كشفت صور الدماغ عن نشاط باللوزة. أوضح بحث حديث لآرني اومان Ohman Arnie و ريموند دولان أن الأشخاص الطبيعيين بمقدورهم أن يتعلموا خفيةً أن محفزات معينة، دون غيرها، (وجه معين غاضب دونا عن الوجوه الغاضبة الأخرى) مرتبطة بأحداث غير سارة. يعزز التمثيل المتوارِ للوجه المرتبطِ بحدثٍ سيء نشاطَ اللوزةِ اليمنى بينما لا يحصل الشيء نفسه مع التمثيل المتوار للوجه الآخر.

      تُـرصَد المحفزات المختصة بالعاطفة بسرعة فائقة تسبق الانتباه الانتقائي selective attention، كما يبين هذه الاكتشاف المبهر: تسبب إصابات الفص القذالي occipital lobe أو الجداري lobe parietal ساحة رؤية عمياء (أي ساحة رؤية لا يمكن رصد محفزاتها نتيجة الإهمال أو انعدام الانتباه)، و بالرغم من ذلك؛ “تجتاز” المحفزات المختصة بالعاطفة ( كالوجوه السعيدة أو الغاضبة) حاجز العمى أو الإهمال و ترصد بلا شك. تلتقط آلية الإثارة العاطفية هذه المحفزات المهملة لقدرتها على اجتياز قنوات المعالجة الطبيعية— و التي كانت ستقود إلى تقدير معرفي لولا العمى أو الإهمال. قيمة تسوية “المجاز الجانبي” البيولوجية بيّنة: يرصد المحفز المختص بالعاطفة بغض النظر عن إعارته انتباهك. نتيجًة لذلك، يحوَّل الانتباه و الفكر لهذه المحفزات.

     يوجد موضع إثارة آخر مهم في الفص الجبهي، تحديدا في منطقة مقدَّم الجبهي البطني الإنسي. هذه منطقة مضبوطة لرصد الأهمية العاطفية لمحفزات أكثر تعقيدا مختصة بإثارة عواطف اجتماعية،  سواءا كانت أشياءا أو مواقفا ؛ طبيعية أو مُتعلَّمة. التعاطف الناجم عن معاينة مصيبة أحدهم أو الحزن المثار بخسارتنا الشخصية يتطلبان واسطة هذه المنطقة. تكتسب عدة محفزات أهميتها العاطفية عبر تجربتنا الحياتية — كمثال المنزل مصدرِ الاستياء— و تثير عاطفةً ملائمة من هذه المنطقة.

      فيما يتعلق بإصابات الفص الصدغي، أوضحت و زملائي، انطوان بشارة Bechara Antoine و حنة داماسيو Damasio Hanna  و دانييل ترانيل Tranel Daniel ، تغير القدرة على مخالجة العواطف لما يكون محفزها المختص بالعاطفة اجتماعيا و لما تكون استجابتها الملائمة عاطفة اجتماعية كالحرج أو الإحباط أو الإحساس بالذنب. يخل التلف المماثل بالسلوك الاجتماعي الطبيعي.

في سلسلة دراسات حديثة من مجموعتنا البحثية، بيّن رالف ادولف أن مقدَّم الجبهي البطني الإنسي يستجيب بسرعة و بشكل مختلف بحسب ما إذا كان محتوى الصور العاطفي سارا أو غير سار. إن تسجيلات الخلية العصبية الواحدة من مقدَّم الجبهي البطني الإنسي في المرضى المزمع معالجة تشنجاتهم جراحيا تشي بالاستجابة البالغة للعديد من عصبونات هذه المنطقة ، اليمنى أكثر من اليسرى، للصور الباعثة للعاطفة الغير سارة. كما تبدأ بالانفعال سريعا بعد مضي ١٢٠ ميلّي ثانية فحسب عقب عرض المحفز. أولا، تعلق عصبونات المنطقة نمط حَـفْزِها firing الذاتي، ثم تَحْفِز بتواتر أبلغ و بشدة أبلغ بعدما سكنت لـهنيهة. يستجيب عدد أقل من الخلايا العصبية للصور الباعثة على العواطف السارة كما يفتقدون أيضا لنمط التوقف و الإنطلاق السالف الذكر. اللاتناظر بين شقي الدماغ الأيمن و الأيسر أكثر تطرفا مما توقعت لكنه متفق مع مقترح قدمه ريتشارد دافيدسون Richard Davidson  قبل سنوات. و بناء على دراسات تخطيط المخ المجراة في الأشخاص الطبيعيين، اقترح دافيدسون ارتباط القشرة الجبهية اليمنى بالعواطف السلبية أكثر من اليسرى.

4

      لخلق حالة عاطفية ما، لا بد من نقل نشاط المواضع المثيرة إلى مواضع تفعيل العاطفة بصلاتٍ عصبية. تشمل مواضع تفعيل العاطفة المعروفة إلى الآن: الوطاء، مقدم الدماغ القاعدي، و بعض الأنوية في جذع المخ. الوطاء هو المـُفعِّل الرئيس لاستجابات كيميائية عدة تمثل جزءا لا يتجزأ من العواطف. إذ يرسل جزيئات كيميائية لمجرى الدم، مباشرةً أو عبر الغدة النخامية، مغيرةً بذلك الوسط الداخلي، وظيفة الأعضاء و وظيفة الجهاز العصبي المركزي نفسه. ببتيدات كالأوكسيتوسين oxytocin و الفازوبرٍسّين vasopressin  أمثلة على جزيئات مطلقة بفعل الأنوية الوطائية و بمساعدة الجزء الخلفي من الغدة النخامية. يعتمد طيف واسع من السلوكيات العاطفية (كالتعلّق و الحضانة) على وجود هذه الهرمونات في التراكيب الدماغية الآمرة بتفعيل السلوكيات. بالمثل، تؤدي الوفرة المحلية لجزيئات كالدوبامين dopamine و السيرُوتونين serotonin، و اللذان يعدلان النشاط العصبي، إلى حصول سلوكيات معينة. و على سبيل المثال، يبدو بأن مجموع ما نَـختبره كمثيب أو ممتع من السلوكيات معتمد على إطلاق الدوبامين من منطقة محددة (الباحة البطنية السقيفية من جذع الدماغ) و تواجده ( النواة المتكئة nucleus accumbens  في مقدم الدماغ القاعدي) بمنطقة أخرى. جملةُ القول أن مواضعا كمقدم الدماغ القاعدي، الأنوية الوطائية، بعض أنوية سقيفة جذع الدماغ و أنوية جذع الدماغ المسؤولة عن حركات الوجه و اللسان و البلعوم و الحنجرة هي المـُفعِّل النهائي للعديد من السلوكيات المـُعرِّفة للعاطفة؛ بسيطها و مُركَّبُها. و المتراوحة من التودد أو النفور إلى الضحك و البكاء. إن حصيلة الأفعال المركبة البادية على محيانا نتيجةُ التنسيق المذهل بين أنشطة هذه الأنوية و التي تسهم كل واحدة منها بجزء من التفعيل في نظام و وفاق متناغمين. لقد سخّر ياك بانسيب  Jaak Panksep عمره البحثي لعملية التفعيل هذه.

      في كل العواطف، يغير وابل الاستجابات الكيميائية و العصبية الوسطَ الداخلي و الأعضاء و الجهاز العضلي الهيكلي، و ذلك لمدة معينة و وفق نمط معين. تصدر عنا بعدها تعبيرات الوجه و النطق و وضعيات الجسد و أنماط سلوك محددة (الجري، الانعقاد، التودد أو الأبوة). كيميائيات الجسم و الأعضاء الداخلية كالقلب و الرئة تلعب دورا مساعدا أيضا. تدور العاطفة حول التبدّل و و التقلقل و ربما الاضطراب البدني الفعلي في بعض الأحيان. تتغير التراكيب الدماغية المسؤولة عن الانتباه و إنتاج الصور على التوازي بفعل أوامر دماغية؛ نتيجة لذلك، تبدو بعض مناطق القشرة الدماغية أقل نشاطا بينما تنشط مناطق أُخر.

     إليكم، في أبسط رسم توضيحي ممكن، الكيفية التي يثير بها محفز بصري مُهدِّد عاطفة الخوف و يُفعِّـِـلها (الشكل ٥.٢)

      من أجل عرض وصف ميسّر لعمليات العاطفة و الشعور، بسطتها بما يكفي لعرضها في سلسلة أحداث واحدة، تبدأ بمحفز وحيد و تنتهي بتوثيق ركائز شعوره. واقعيا، تنتشر العملية جانبيا، كما هو متوقع، مولدةً سلاسل أحداث موازية و مضاعفةً نفسها، و هذا لأن المحفز الأولي المختص بالعاطفة غالبا ما يقود إلى استرجاع محفزات أخرى مماثلة؛ و هي بدورها مختصة بالعاطفة أيضا.

     و بمرور الوقت، تعمل هذه المحفزات الإضافية على استدامة إثارة العاطفة نفسها أو إثارة تعديل عليها أو تحفيز مشاعر مناقضة لها. و بالتالي؛ تتوقف استمرارية و حدة الحالة العاطفية المرتبطة بالمحفز الأولي على العملية الإدراكية الجارية حينئذ. إما أن تمنح محتويات العقل الانفعال العاطفي مزيدا من المحفزات أو تطرد هذه المحفزات؛ مما يؤدي إلى استدامة أو مضاعفة العاطفة من جهة أو تحجيمها من جهة أخرى.

      تُعالج العواطف وفق هذا المسار المزدوج: انسياب المحتويات العقلية المصطحب معه محفزات الاستجابة العاطفية و الاستجابات الًـمُـفعَّلة نفسها، أي العواطف، و المؤدية إلى المشاعر بالنهاية. تتابع السلسلة البادئةُ بإثارة العواطف و المستمرة ُحال تفعيل العواطف توثيقَ مادة الشعور في مناطق استشعار الجسد body-sensing regions  الملائمة.

5

      لعله من المثير للاهتمام أننا نعود إلى المجال عقلي بمجرد أن تبلغ العملية مرحلة تجميع المشاعر— نعود إلى حبل الأفكار حيث بدأ المنعطف العاطفي بأسره. إّن المشاعرَ عقليةٌ بقدر مماثل للأحداث و الأشياء المثيرةِ لعاطفتها. ما يميز المشاعر كظواهر عقلية هو منشأها و محتواها الخاص؛ أي حالة جسم الكائنِ فعليةً كانت أو مخرطنة  mapped في مناطق استشعار الجسد.

 

بـَـغــتة

مؤخرا، قدمت بعض الدراسات العصبية منظورا أوضح للآلية المتحكمة بتفعيل العواطف. أتت أبلغ الملاحظات تبيانا من امرأة تبلغ الخامسة و الستين من العمر أثناء خضوعها لعلاج لمرض الباركنسون (الشلل الرعاش) Parkinson’s disease . ما دار بـِخلدنا أننا سنُمنَح لمحةً عابرة لكيفية ظهور العواطف إلى حيز الوجود و كيفية ارتباطها بالمشاعر في الحين الذي حاولنا فيه تخفيف أعراضها.

     الباركنسون هو اضطراب عصبي شائع يُخل بالقدرة على الحركة بشكل طبيعي سلس. رغم أنه لا يسبب الشلل، إلا أنه يسبب الـصَـمَل ( التيبس) العضلي و الرُعاش و تعذر الحركة؛ و لعل هذه هي الأهم بينهم. تشير الأخيرة إلى صعوبة استهلال الحركة. هادة ما تكون الحركات بطيئةً و هو عرضٌ آخر يعرف ببطء الحركة. اعتدنا على اعتباره مرضا عضالا إلا أن تخفيف أعراضه صار ممكنا في العقود الثلاثة الأخيرة بواسطة دواء محتوٍ على الليفودوبا levodopa؛ سلفٌ كيميائي للناقل العصبي الدوبامين. فالدوبامين غائبٌ عن دارات عصبية محددة في مرضى الباركنسون مثلما يغيب الإنسولين عن مرضى السكري. (تموت الأعصاب المنتجة للدوبامين في الجزء المُكتَنِز  pars compactaمن منطقة المادة السوداء substantia nigra فــيقصُر عن منطقة أخرى تعرف بالعُقَد القاعدية  (basal gnaglia. للأسف، فالدواء المصمم لزيادة الدوبامين في الدارات الدماغية الـمُعوزة لا يساعد كل المرضى.

     بالإضافة إلى ذلك، قد تفقد الأدوية فعاليتها تدريجيا على من نجحت بمساعدتهم بادئ الأمر أو تسبب تغيرات حركية أخرى ليست بأقل إعاقة من المرض نفسه. لهذا السبب، هناك وسائل علاجية أخرى عديدة قيد التطوير، يبدو أحدها واعدا على وجه الخصوص. يتضمن أحدها زرع مسارٍ (أقطاب) ضئيلة في جذع مخ مرضى الباركنسون بحيث يغير مرور التيار الكهربائي عالي التردد و خفيض الشدة طريقة عمل بعض الأنوية الحركية. النتائج مبهرة غالبا، إذ تتلاشى الأعراض بأعجوبة بمجرد مرور التيار الكهربائي. فيحرّك المرضى أيديهم بدقة و يمشون بأريحية بالغة لا يُـخَمـّن معها الغريب وجود اعتلال سابق.

     أساس نجاح العلاج هو التثبيت الدقيق لٓنٓسٓق مُمـاسّات الأقطاب. و لتحقيق ذلك؛ يستخدم الجراح جهاز موضعة تجسيمية device stereotacic (و هو جهاز يسمح بتحديد تركيب دماغي ما في الفراغ الثلاثي الأبعاد) و يقود القطب بحذر إلى الجزء المسمى بالدماغ المتوسط mesencephalon  في جذع الدماغ. هناك قطبان طويلان عموديان؛ أحدهما في الجانب الأيسر من جذع الدماغ و الآخر في الجانب الأيمن و لكل واحد منهما أربع مُماسّات. يبعد كل مماس عن الآخر بنحو ميليمترين و يمكن تحفيز كل مماس على حدة بتمرير تيار كهربائي. و بتجربة تحفيز كل مماس ، يصبح من الممكن معرفة أي المماسات يعطي التحسن الأعلى دون أي مضاعفات جانبية.

     القصة المثيرة الني سأقصها عليكم تتعلق بمريضةٍ درس حالتها زميلي إيف آجيد Agid Yves و فريقه في مشفى سالبيتغيغ  Salpetriere Hospital بباريس. كانت امرأة في الخامسة و الستين من العمر و لها تاريخ طويل من مكابدة أعراض الباركنسون و الذي لم يعد يجد معه الليفودوبا نفعا. لم تعان المريضة من الاكتئاب لا قبل و لا بعد حدوث المرض، و لم تشتكِ حتى من تقلبات المزاج؛ أحد الأعراض الجانبية لليفودوبا. ليس للمريضة أي تاريخ شخصي أو عائلي من الأمراض النفسية.

     وضعت الأقطاب في موضعها و مضى الإجراء على نحو مماثل للتسعة عشر مريضا الذين عولجوا من قبل الفريق الطبي ذاته. وجد الأطباء المماس الذي حقق لأعراض المريضة التحسن الأكبر. لكنَّ أمرا مفاجئا حصل حين مر التيار الكهربائي خلال إحدى نقط التماس الأربعة في الجانب الأيسر، و تحديدا؛ أدنى من المماس الذي خفف أعراضها بمليمترين. أمسكت المريضة عن الكلام بغتةً، أرخت بصرها و وجهته يمينا ثم انحنت قليلا لليمين و كَـسَت تعابيرها مسحة الحزن. و بعد ثوانٍ؛ شرعت بالبكاء فجأة. جرت دموعها فيّاضة و اعتراها أسى بالغ. ما لبثت أن نشجت بعده. استمر بعدها عرضٌ حزين ظلت تتحدث خلاله المريضة عن الحزن العميق الذي ينتابها عن عـَوَزها الشديد للطاقة بالشكل الذي يستحيل معه المضي قدما، و عن قنوطها و إرهاقها. حين سئلت عما بها، جاءت كلماتها كاشفةً:

إنّي أتداعى داخلا. لم أعد راغبة بأن أعيش و لا بأن أرى أي شيء أو أسمع أي شيء أو أحس بأي شيء..

سئمت الحياة و لا أحتمل المزيد.. لا أرغب بالعيش بعد اليوم، عافت نفسي هذه الحياة..

لا شيء يجدي .. أشعر بالتفاهة و الضآلة.

مُرتاعةٌ أنا من هذا العالم.

سأنتبذُ رُكـنا قصـِيّا.. أتحسر على نفسي طبعا..

لا أمل يرجى، لِـمَ أكلفك عنائي؟

     أدرك الطبيب المسؤول أنّ هذا الحدث الغير المألوف ناتجٌ عن التّيار و أنهى الإجراء. عاد سلوك المريضة إلى طبيعته بعد مضي نحو ثلاثين ثانية على انقطاع التيار. كـفّ النشيج فجأة تماما كما بدأ. تبدد الحزن عن محياها، كما انقطعت عن إقرار الحزن لفظيا. ابتسمت بسرعة و انفرجت أساريرها، و خلال الخمس دقائق التالية، كانت فكهةً و مزّاحة أيضا. تساءلت: ما شأن ذاك النحيب كله؟ لقد كانت مستاءة لكنها لم تَـدرِ ما السبب. ما الذي أثار يأسها المفرط؟ ما كانت حيرتها أقل من حيرة مراقبيها.

     مع ذلك؛ فإجابة أسئلتها على قدرٍ كافٍ من الوضوح. لم يمر التيار الكهربائي بتراكيب التحكم الحركي كما كان مزمعا، عوضا عن ذلك؛ مر التيار غبر واحدة من أنوية جذع المخ المسؤولة عن أفعال مخصوصة. تنتج هذه الأفعال مجموعةً عاطفة الحزن. يشمل هذا الدليل حركاتٍ لعضلات الوجه، حركات الفم و البلعوم و الحنجرة و الحجاب الحاجز المسؤول عن البكاء و النشيج؛ بالإضافة إلى أفعال متنوعة تنتهي بـصبِّ الدموع و ذرفها.

     يبدو الأمر مذهلا كما لو أننا أدرنا مفتاحا داخل دماغها بإدارتنا للمفتاح خارجه. انخرط دليل الأفعال هذا في حفلة موسيقية مُمرَّنةٍ لا تَعدو أي خطوة فيها عن الزمان أو المكان الملائمين لها، بحيث يظهر الأثر مسفرا عن وجود أفكار مُحزِنة أيا كانت النوايا و الأغراض؛ أي وجود محفز مختص بالعاطفة. إلا أنّ المريضة ما اختبرت ، بكل تأكيد، أفكارا مماثلة من قبل هذه الحادثة الغير متوقعة و ما كانت معرضة لاختبارها عفويا. بعدما بدأت العاطفة، تلتها الأفكار المتعلقة بالعاطفة.

    عجب هاملِت من قدرة الممثل على استحضار عاطفةٍ غير مدفوعة بسبب شخصي و ذاتي.  ” ألا تجده شنيعا أن يـُطوِّع هذا الـمؤدِّ  روحـَه، فـتـَقُصَّ خيالا و تـدَّعِي وجدًا؛ تـشحبُ لهما طـلعـته و ترثـيهما مدامِعُه، فيهدجُ صوته و يغـمرُه الـتّـيه إذ يتابعُ كل كيانِه وَهمَا تـصوَّرَهُ ؟ ” لم يكن للممثل أي سبب شخصي لينفعل — كان يتحدث عن مصير شخصية تدعى هيكوبا Hecuba و كما يقول شكسبير : ” ما شأنه بهيكوبا  و ما شأنها به ليبكي ؟”. على أية حال، يبدأ الممثل أدائه باستدعاء أفكار عقلية حزينة و التي تثير بدورها العاطفة و تساعده على تمثيلها بحرفيّـة. لكن لا يطابق هذا حالة المريضة الغريبة، إذ لم يسبق عاطفتها وهم و لا خيال.

     لم يحفز سلوكها أي أفكار على الإطلاق، لم يتناه لذهنها أفكار مؤرقة تلقائيا و لم يطلب منها استحضارها. برز عرض الحزن، بكل تعقيده البهي، من العدم حرفيا. و لا يقل عن هذا أهميةً ملاحظة أنّ مشاعر الحزن انتابت المريضة بعدما دخل عرض الحزن في حيّز التنفيذ. كملاحظة مهمة أخرى؛ بعد أن بلّغت عن شعورها بالحزن، امتلكت أفكارا متسقة مع الحزن— القلق بشأن حالتها الصحية، الإجهاد، اليأس، خيبة أمل حياتية و تمني الموت.

     يبين تتابع الأحداث عند هذه المريضة حدوث عاطفة الحزن أولا. تبعها شعور الحزن مصحوبا بجمع من الأفكار التي تسبب و تصاحب عاطفة الحزن عادةً؛ الأفكار المميزة للحالة العقلية التي نصفها بالتعبير العامي: “بالشعور بالحزن”. ما إن توقف التحفيز إلا و قد خبت هذه المظاهر. اختفت العاطفة و كذلك الشعور. لم يعد للأفكار المقلقة وجود أيضا. تساعدنا حالة هذه السيدة لنرى متجاوزين اللبس. لم تملك أي أفكار مسببة للحز أو مشاعر حزن قبل عاطفة الحزن. يدعم الدليل كلا من الاستقلال النسبي للآليات العصبية لإثارة العاطفة و اعتماد الشعور على العاطفة.

     أهمية هذه الحادثة العصبية النادرة واضحة. يصعب علينا في الأحوال العادية تحليل التتابع الفعلي للظواهر؛ نظرا لسرعة ظهور العواطف و تمهيدها للمشاعر و الأفكار ذات الصلة. حينما تقفز للذهن أفكارٌ مسببة للعواطف بطبيعتها، تحصل عواطفٌ تتبعها المشاعر، و التي تستدعي بدورها أفكارا أخرى مرتبطة موضوعيا و مسهمةً في توسيع الحالة العاطفية. قد تعمل الأفكار المستدعاة كمثيرات مستقلة لعواطف إضافية و بالتالي؛ تنشّط الحالة الانفعالية الجارية. تعطي العاطفة المتزايدة شعورا متزايدا و تستمر الدورة إلى أن يوقفها تدخل المنطق أو تشتت الانتباه. بالوقت الذي تبلغ فيه كل هذه المجموعات من الظواهر أوجها– الأفكار المسببة للعاطفة؛ سلوكيات العاطفة؛ الظاهرة العقلية التي نسميها شعورا؛ و الأفكار التابعة للشعور— يصعب علينا أن نميز بالاستبصار الداخلي لأيّها كان البدء.

     قد يسأل سائل: لِم قد يستدر دماغ المريضة الأفكار الجالبة للحزن مع الأخذ بعين الاعتبار أن العاطفة و الشعور غير مدفوعَين بالمحفزات الملائمة. الإجابة متعلقةٌ باعتماد الشعور على العاطفة و بدهاليز العاطفة المثيرة. سرعان ما يتبع شعور الحرن تفعيل عاطفة الحزن. باختصار، يستجلب الدماغ أيضا ضروبا من الأفكار المسببة عادةً لعاطفة الحزن و شعور الحزن، لأن التعلم الشرطي قد ربط العواطف في شبكة غنية ثنائية الاتجاه. تبث أفكارٌ معينةٌ عواطفا معينةً و العكس صحيح. تُربط مستويات المعالجة العاطفية و الإدراكية باستمرارٍ على هذا النحو. بمكن إثبات هذا التأثير تجريبيا كما وضحت دراسة لـبول إيكمان Ekman Paul و رفاقه. سأل إيكمان المشاركين أن يحركوا عضلات وجهية معينة في تتابع معين، بحيث يصبح التعبيرُ تعبيرَ حزن أو سعادة أو خوف دون علمهم. لم يدر المشاركين أي التعابير بادٍ على وجوههم. لم يَعرض لعقولهم أفكار من شأنها أن تسبب العواطف الظاهرة. رغم هذا؛ شعر المشاركون بشعور ملائم للعاطفة المعروضة #٣٢. كان السبق لأجزاء من نمط العاطفة دون أدنى شك. إذ كانت تحت سيطرة الباحث لا المشارك، ثم لحقها أجزاء من الشعور فيما بعد. يتماهى كل هذا مع حكمة رودجرز Rodgers و هامرستاين  Hammerstein. تذكروا بأنهم قد دفعوا بآنّـا Anna (و التي قدمت لمملكة سيام لتعليم أطفال ملكها) لتقنع نفسها و صغيرها المرتاع بأن الصفير بنغمٍ سعيد سيُـحيل خوفهما ثقةً: ” نتائج هذه الخدعة غريبة بالفعل. لأنني حين أخدع بها من أخشاهم، أخدع نفسي أيضا”. فالتعابير العاطفية الـمُمثَّلة و الغير مدفوعة بدوافع نفسية لها أن تسبب شعورا. تستدعي التعابير المشاعر و الأفكار التي تعلمنا انسجامها مع هذه التعابير.

     من وجهة نظرٍ ذاتية، يشبه حال المريضة عند تفعيل القطب “الصفر يسارا” حالنا عندما نعي بمشاعر و أمزجةِ لا نجد لها مسببا. كم مرة لاحظنا، في لحظة معينة من بوم معين، أننا سعداء و مفعمون بالأمل و الحيوية دونما أن نعرف السبب؛ أو على العكس، أننا نزقون و حزينون؟ في هذه الأحايين، يحتمل أن يكون ما أهمَّنا أو أسعدنا فكرةً تعالج خارج نطاق وعينا. لكنها افكار قادرة، بالرغم من ذلك، على إثارة آلية العاطفة و بالتالي الشعور. قد ندرك مرات منبع هذه الحالات الانفعالية و قد لا ندرك. و لأمدٍ غير قصير من القرن العشرين، هرع الكثيرون لآرائك المحللين النفسيين  psychoanalysts ليعرفوا المزيد عن أفكارهم اللامَـوعِية و عن صراعاتهم اللاموعية المؤدية لها. أما أيامنا هذه، فلا يجد أغلب الناس مناصا من التسليم باتساع عقولنا الرحبة لعدد من الأفكار المجهولة يفوق ما يستطيع هوراشيو، صديق هاملت، تصوره يوما ما في فلسفته. لما نفشل في التعرف علًى الفكرة المُسبِّبة العاطفة، تزورنا العواطف و المشاعر الغير مبررة. لحسن الحظ؛ عادة ما يكون هذا النوع أقل حدةً و أقل فجاءة.

     درست مجموعة الأطباء و الباحثين المسؤولة عن حالة المريضة حالتها الغير معتادة بشيء من التفصيل #٣٣. تحفيز أيُّ مماسّ آخر للأقطاب المزروعة في هذه المريضة لا يسفر عن أي نتيجة غير متوقعة، و كما أسلفنا؛ لم يحصل شيء مماثل في المرضى التسعة عشر الذين عولجوا بالطريقة ذاتها. تـثبّت الأطباء من الحقائق التالية بعد فحص المريضة في مناسبتين إضافيتين، بعد موافقتها. أولا، عندما أخبروا المريضة أنهم ينوون تحفيز القطب ذي المماسِ الْمـُشكِل إلا أنهم أداروا مفتاح قطب آخر، لم يحصل تغير سلوكي من أي نوع. لا شيء غيرُ اعتيادي فيما لاحظوه أو فيما بلغتهم به المريضة. ثانيا، عندما أداروا المماس المُشكِل مجددا دون إنذار، أعيد إنتاج نفس مجموعة الأحداث الحاصلة في الملاحظة الأولى المفاجئة. إذن ترتبط موضعة القطب و تفعيله بالظاهرة بكل وضوح.

     كما أجرى الباحثون أيضا دراسة تصوير دماغي وظيفي ( باستخدام التصوير المقطعي بإلإصدار البوزيتروني positron-emission tomography )  بعد تحفيز المماس الصفر يسارا. إحدى ملاحظاتها الهامة هو ملاحظة النشاط الكبير لتراكيب في الفص الجداري الأيمن، و هي منطقة ذات علاقة بتخطيط حالة الجسد، تحديدا؛ تخطيط الجسد فراغيا. على الأغلب؛ يرتبط هذا النشاط بالتغير البالغ في حالة جسد المريضة و الذي بلغت عنه مرارا خلال التحفيز، من ذلك؛ إحساسها بالسقوط في هاوية.

     القيمة العلمية لدراسات الحالة – لا سيما لمريض واحد- محدودة دائما. يشكل هذا الدليل عادةً نقطة بداية لفرضيات جديدة و استكشافات متواصلة عوضا عن كونه ختام الدراسة. مع ذلك؛ فالدليل المستقى من هذه الدراسة قيّـم للغاية. إنها تدعم التوجه الذي يرى إمكانية تحليل عمليات العاطفة و الشعور مُـكـوّنا مكونا. كما أنها ترسخ مفهوما رئيسيا في العلوم العصبية الإدراكية: تنتج أي وظيفة عقلية مُركـّبة من مساهمات مُـتناغمةٍ من عدة مناطق دماغية في مستويات منوعة من الجهاز العصبي المركزي بدلا من نشاط منطقة دماغية واحدة مفهومة بشكل تـَفـرُّسِـي.

 

مفتاح جذع الدماغ

من غير الواضح إطلاقا أيّ أنوية جذع الدماغ بدأت الانفعال العاطفي في هذه المريضة. يبدو بأن المماس المشكل قد مر عبر المادة السوداء مباشرة لكن يحتمل أن يمر التيار الكهربائي نفسه بأي مكان مجاور. يعد جذع الدماغ منطقة صغيرة جدا من الجهاز العصبي المركزي و هو مزدحم بالأنوية و الدارات المعنيّة بوظائف شتى. بعضها ضئيل جدا و قد يقود أي اختلاف عن التشريح المعياري إلى إعادة توجيه مسار التيّـار بشكل مؤثر. لكننا لا نشك ببدء الحدث من الدماغ المتوسط ليستدعي بعدها الأنوية اللازمة لإنتاج مكونات العاطفة العديدة تدريجيا. بل من الممكن أيضا، اعتمادا على ما عُرف من التجارب الحيوانية، أن تكون أنوية المنطقة المسماة بالمادة السّنجابية المحيطة بالمـَسَال periaqueductal gray  مرتبطة بإنتاج العاطفة المنّـسق. وعلى سبيل المثال؛ نعرف أن أعمدة مختلفة من السنجابية المحيطة بالمسال منوطة بإنتاج أشكال مختلفة من انفعال الخوف— إما الشكل المنتهي بسلوكيات الكرّ و الفر أو بسلوك الانعقاد ). قد ترتبط السنجابية المحيطة بالمسال بأفعال الحزن أيضا. و على أية حال، بدأت سلسلة انفعالات من إحدى أنوية الدماغ المتوسط المتعلقة بالعاطفة، لتشمل سريعا بعدئذ أجزاء جسدية شتى — الوجه و الصوت و التجويف الصدري و لا يفوتنا ذكر الأجهزة الكيميائية التي يصعب مراقبتها مباشرة. قادت التغيرات إلى حالة شعورية معينة. بالإضافة إلى ذلك، استحضرت المريضة أفكارا متسقة مع الحزن أثناء تكشف عاطفة الحزن و شعور الحزن. بدأت سلسلة الأحداث في منطقة تحت قشريّة عوضا عن أن تبدأ في القشرة الدماغية، إلا أن أثارها مشابهة لما قد يحصل نتيجة للتفكير بحدث أليم أو حضوره. و إن شهدها أحدهم في تلك اللحظة فحسب، فلن يكون قادرا على تمييز ما إذا كانت حالةً طبيعيًة من الشعور بعاطفة  emotion-feeling أو حالة شعور بالعاطفة خلقتها براعة ممثلة قديرة أو حالة شعور بالعاطفة أدارها مفتاح كهربائي.

 

ضحكٌ مفاجىءٌ

لئلا تظن بأن الحزن و البكاء مميزين للغاية، سأضيف بأن دراسة أجراها اتزاك فريد  Itzhak Fried وضحت أن الضحك قد ينتج عن ظاهرة مماثلة للحالة الآنفة الذكر. ظروفها مرتبطة أيضا بمريضة خاضعة لتحفيز الدماغ الكهربائي لكن هدفها مختلف بعض الشيء: تخطيط  وظائف قشرة الدماغ. يمكن مساعدة مرضى الصرع الذين لم تخضع نوباتهم لأي دواء، و ذلك بإزالة المنطقة الدماغية المسببة لتلك النوبات جراحيا. قبل إجراء الجراحة، لا يتعين على الجراح تحديد المنطقة اللازم إزالتها بدقة فحسب، بل يلزمه التعرف على المناطق الواجب عدم إزالتها نظرا لأهميتها الوظيفية، كالمناطق المرتبطة بالكلام. يحصل هذا بتحفيز الدماغ كهربائيا و مراقبة النتائج.

    حينما بدأ الجراحون تحفيز منطقة في الفص الجبهي الأيسر للمريضة أ.ك. ، تعرف بالباحة الحركية الإضافية supplementary motor area، لاحظوا بأن التحفيز الكهربائي لعدد من المواضع المتقاربة يثير الضحك على التحديد و على الدوام. كان الضحك أصيلا للغاية، حتى أنّ المراقبين له وصفوه بالضحك المعدي. لم يكن متوقعا بالمرة — إذ لم يُـعرَض على المريضة شيء مضحك و لم تسمع بدعابة و لم تفكِّر بشيء طريف. و مع ذلك ضحك؛ ضحكا غير مدفوع بأي شيء و لكنه واقعي. المثير للدهشة هو أنّ الضحك تلاه “إحساس بالمرح و الجذل” بالرغم من طبيعته العفوية؛ تماما كما حصل مع المريضة الدامعة. من المثير للانتباه أيضا عزو المريضة ضحكها لأي شيء صدفت مطالعتها له وقت التحفيز. فمثلا؛ إن عُـرِض على المريضة صورة حصان، ستقول ” الحصان مضحك”. و في بعض المرات؛ كان الباحثون أنفسهم محفزات مثيرة لعاطفة الضحك، مثل قولها: ” أنتم طريفون للغاية يا شباب.. واقفون هكذا”.

     كانت رقعة الدماغ الجالبة للضحك رقعةً صغيرة، لا يعدو حجمها حوالي السنتيمترين طولا و عرضا. أما المناطق المجاورة؛ فنتج عن تحفيزها ظواهر معروفة مثل حبسة الكلام أو توقف حركات اليد. مع ذلك؛ لم تسبب هذه التحفيزات الضحك مُـسبقا. علاوةً على ذلك؛ يجب أن نلاحظ أن نوبات المريضة السابقة لم تتضمن الضحك مطلقا.

     في ضوء الهيكلة السابق شرحها، آظن بأن تحفيز المواقع المذكورة بهذه الدراسة يؤدي إلى نشاط في أنوية جذع الدماغ المنتجة لأنماط الضحك الحركية. لم يُـتعرَّف على أنوية جذع المخ و تتالي أنشطتها بدقة بعد؛ لا للضحك و لا للبكاء. تعطينا هذه الدراسات مجموعةً لمحةً عن آليةٍ عصبيةٍ متعددةِ متدرجة لإنتاج العواطف. بعد معالجة محفز مختص بالعاطفة، تستهل المواضع القشرية العاطفة الفعلية بواسطة إثارة نشاطٍ في مواضع أخرى، جُـلّها تحتَ قِشريّ، و هنا، يجري تفعيل العاطفة بالأخير. بالنسبة للضحك، يبدو بأن مواضع إثارته الأولية موجودة بالمناطق الإنسية الظهرية من قشرة مقدم الجبهة؛ مواضع كالباحة الحركية الإضافية و القشرة الحزامية الأمامية. بالنسبة للبكاء، أغلب الظن أن مواضع الإثارة موجودة بمنطقة مقدم الجبهة البطنية الإنسية. مواضع التفعيل الرئيسة لكليهما موجودة بأنوية جذع المخ. و بمحض الصدفة، يتفق الدليل المكتشف في دراسة الضحك مع ملاحظاتنا للمرضى المصابين بضرر في الباحة الحركية الإضافية و الجزء الأمامي من القشرة الحزامية. إذ لاحظنا أنهم لا يبتسمون ابتسامةً “طبيعية” — كالضحكة العفوية المثارة بدعابة— بل يبتسمون ابتسامةً مصطنعةً كابتسامة مواجهة عدسة التصوير.

     تشهد هذه الدراسات بإمكانية فصل مراحل و آليات عملية العاطفة و الشعور — التقدير و التقييم المؤديان لعزل المحفز المختص بالعاطفة، الإثارة، التفعيل و الشعور الحاصل. المحفز الكهربائي المصطنع في دراسة الضحك محاكٍ للنتائج العصبية الناتجة طبيعيا عن عزل المحفز المختص بالضحك، و هذا بفضل نشاط السبل و المناطق العصبية الداعمة لمعالجة محفز مثيل و التي تنعكس على منطقة الباحة الحركية الإضافية. في حالة الضحك الطبيعي، يكون المحفز داخليا، أما في حالة المريضة أ.ك. ، فـيأتي من طرف قطب كهربي. في حالة المريضة الدامعة، تدخل التحفيز الكهربائي في مرحلة متأخرة، أثناء آلية تفعيل العاطفة، أي على بعض خطوة على الأقل من مرحلة الإثارة.

 

ضحكٌ و المزيد من البكاء

يعطينا نوع آخر من الحوادث العصبية نظرةً أخرى على مفاتيح جذع المخ للعواطف. إنه متعلق بحالة تدعى الضحك و البكاء المرضي. إنها مشكلة معروفة في تاريخ طب الأعصاب منذ القدم، لكن لم يُتـعرَّف عليها تشريحيا و فسيولوجيا إلا منذ عهد قريب. المريض س. مثال ممتاز على هذه المشكلة، و لقد درست حالته بالتعاون مع جوزيف بارفيزي Joseph Parvizi  و ستيفن آندرسون  Steven Anderson.

     حين أصيب س. بجلطة دماغية صغيرة في جذع المخ، عدَّه الطبيب المعالج محطوظا جدا. فبعض جلطات جذع المخ قاتل و يُـخلّف الكثير منها إعاقات مريعة. أما هذه الجلطة تحديدا؛ فقد سببت مشاكلا حركية بسيطة نسبية و من المحتمل جدا أن تزول. تبعت حالة المريض س مجراها المتوقع فيما يتعلق بهذا الشأن. أما ما لم يكن سهلا و لا متوقعا  فهو العرض الذي عانى منه المريض و عائلته و من اعتنى به مسببا خسائر فادحة. قد ينفجر المريض س. ينفجر مقهقها أو يشله البكاء دونما أي سبب ظاهر. بالإضافة لكون دافع الانفجار مجهولا، فقد تعاكس قيمته العاطفية جو اللحظة الانفعالي. يمكن أن ينفجر، حرفيا، المريض س. ضاحكا وسط محادثة جادة للغاية عن صحته أو شؤونه المالية، دون أن تجدي محاولاته الحثيثة أي نفعٍ لكبحه. و بالمثل، قد يتفطر قلبه بكاءا وسط محادثة هامشية جدا و لا يقدر أن يكبح انفعاله مجددا.

     قد تتوالى الفورات تباعا، بحيث لا يكاد س. يلقط أنفاسه ليقول بأنه فاقدٌ للسيطرة، بأن أيا من بكاءه و ضحكه لم يكن معنيا، و أنه لا يجد مبررا لهذا السلوك الغريب في أفكاره العقلية. غنيٌّ عن التوضيح أنه لم يكن متصلا بأي تيارات كهربية و لم يُـدِر أحدٌ أي مفتاحٍ. مع هذا؛ فالناتج واحدٌ. نتيجةً لضرر أصاب منطقةً في الجهاز العصبي مكونةً من أنوية في جذع المخ و المخيخ؛ تخالج س. هذه العواطف دون سبب عقلي مقنع و يصعب عليه أن يلجمها. أمر مهم آخر: تنتهي الفورة و يشعر س. بشيء من الفرح أو شيء من الحزن، رغم أنه لم يكن لا فرحا و لا حزينا بداية الأمر، و لم تؤرقه أفكار محزنة و لم تشجه أفكار سعيدة. هنا مجددا؛ أدّت عاطفة غير مدفوعة للشعور و جلبت حالة عقلية متسقةً مع خزين حركات الجسد.

     لطالما كانت الآلية الدقيقة التي تمكننا من التحكم بالضحك و البكاء وفق السياق الاجتماعي و المعرفي غامضةً. أماطت دراسة حالة هذا المريض اللثام عن جزء من الحل و بيـّنت أن أنويةً في الجسر pons  و المخيخ تلعب دورا مهما في آلية التحكم. كما وفرت دراسات لاحقة لمرضى آخرين بنفس الحالة و بإصابات مماثلة دعما إضافيا لهذه النتيجة. تخيل آلية التحكم على النحو التالي: في جذع الدماغ، توجد مفاتيح مكونة من أنظمة من الأنوية و السبل القادرة على خلق الضحك أو البكاء المقولب. يعدل نظام آخر في المخيخ أجهزة الضحك و البكاء الأساسية. يحصل التغيير، مثلا، بتغيير الحد اللازم للضحك أو البكاء و حدة و مدة بعض مكونات الحركة و هكذا. في الظروف الطبيعية ؛ يمكن لنشاط القشرة الدماغية أن يؤثر على النظام — المناطق المتعددة التي تعمل كمجموعة و تمثل في كل مناسبةٍ السياقَ الذي يغدو فيه ملائما أن يسبب المحفز المختص بالعاطفة الكثير أو القليل من الضحك أو البكاء. بالتالي؛ يؤثر النظام على القشرة الدماغية نفسها.

     تقدم حالة المريض س. أيضا لمحةً غير مسبوقة للتفاعل بين عملية التقدير السابقة للعواطف و التفعيل الفعلي للعواطف الذي كنا نناقشه. يمكن للتقدير أن يؤثر بالحالة العاطفية الحاصلة و يتأثر بها بالمقابل. عندما تنفصل عمليتي التقدير و التفعيل، تكون النتائج فوضوية؛ كما حصل مع س.

     إن وضحت الحالة السابقة اعتماد العمليات الذهنية و السلوكية على أنظمةٍ عديدةِ المكونات، فإن هذه الحالة توضح كيف تعتمد هذه العمليات على التفاعل المعقد بين هذه المكونات. نحن أبعد ما يكون عن “المراكز” المنفردة و أبعد ما يكون عن فكرة المسار وحيد الاتجاه للسبل العصبية.

 

نقلـةٌ من الجسد النّشط إلى العقل

تحصل الظواهر التي تناولناها في هذا الفصل — العواطف المخصوصة، الشهوات و الانفعالات التنظيمية الأبسط— في مسرح الجسد و تحت قيادة دماغٍ وُلِد حكيما ؛ صممه التطور ليساعد على إدارة الجسم. تنبّأ سبينوزا بهذه الحكمة النيوروبيولوجية و رمـَّز لهذه البديهة بعباراته عن الكوناتوس؛ و هي الفكرة الـمـُقرَّة بـسعي المخلوقات الحية كلها، لـِزاما- لحفظ أنفسها دون معرفة موعية بما تتعهده و دون قرار موعي، كنفوس منفردة، بأن تتعهد أي شيء. باختصار؛ هم لا يدركون المشكلة التي يحاولون حلها. بو بعد موضعة تبعات هذه الحكمة الطبيعية على الدماغ مجددا، تنتج المشاعر، و هي المكون التأسيسي لعقولنا. بالأخير، كما سنرى، قد تقود المشاعر سعيا مقصودا لحفظ الذات و تساعد في صنع قرارات بشأن المنحى الذي سيتخذه حفظ الذات. تترك المشاعر المجال مفتوحا لنوع من التحكم الإرادي بالأفعال التلقائية الممكننة.

    يبدو بأن الطبيعة قد جمعت آلية العاطفة و الشعور الدماغية على دفعات. كان السبق للآلية التي تنتج انفعالا موجها لموقف أو شيء كرد فعل على حدث أو شيء — آلية العاطفة. تلتها آلية تنتج خريطة دماغية متبوعةً بصورة عقلية، أو فكرة، للانفعالات أو لحالة الكائن الناتجة عن هذا كله— آلية الشعور.

     مكـّن الجهاز الأول، العاطفة، المخلوق من الاستجابة بشكل فعال و لكن غير خلاق لعدد من الظروف المهددة للحياة أو المعينة عيها — ظروف “ملائمة للحياة” أو “غير ملائمة للحياة” ، تبعات “ملائمة للحياة” أو “غير ملائمة للحياة”. أما الجهاز الثاني، الشعور، فقد أضاف تنبيها عقليا للظروف الملائمة أو غير الملائمة و أطال تأثير العواطف عير تعديل الانتباه و الذاكرة ليدوم أثرها. بالنهاية، و عبر اتحاد موفّـق مع الذكريات الماضية ، الخيال و المنطق، مهد الشعور الطريق لنشأة بعد النظر و احتمالية خلق استجاباتٍ مبتكرة و غير مقولبة.

    و كما هو الحال مع كل جهاز جديد يـُضاف، استعملت الطبيعة آلية العاطفة كبداية و ألحقتها ببضع مكونات إضافية. في البدء؛ كـانت العاطفة، إلا أن الفعل action مبدأها.

 

 


[1] استتباب: خاصية للكائن الحي ينظم بها متغيرات بيئته الداخلية للاحتفاظ بحالة من الاتزان و الاستقرار لوظائفه الحيوية المختلفة. (المترجمة)

[2]مُنعَكَس reflex: فعلٌ سريعٌ و لا إرادي يحصل كاستجابة لمحفّـز. كثيرا ما تكون المُنعكسات جزءا من أقواس انعكاسية متفاوتة التعقيد؛ مكونة من عضو حسّ متلقٍّ، عصب وارد، مركز عصبي، عصب صادر و عضو مستجيب. (المترجمة)

[3] السيتوكينات: مواد بروتينية أو ببتيدية تعمل كوسائط أو إشارات للتواصل بين الخلايا. (المترجمة)

[4] التصاوت: تطلق على جوانب الكلام المتعلقة بالخصائص الصوتية للمقاطع اللفظية، كالإيقاع و النغم و النبرة و غيرها، أي المحتوى العاطفي و ما لا يستنبط من اختيار الكلمة و قواعد اللغة. ( المترجمة)

[5] المستضد: جزيء قادر على إثارة رد فعل مناعي بإثارة أجسام مناعية مضادة. ( المترجمة)