مجلة حكمة
سيمون فايل

سيمون فايل، العمل والعمّال – كاثرين جوزف دروست / ترجمة: ناديه المطيري

سيمون فايل سيمون فايل
سيمون فايل، فيلسوفة فرنسية، صوفية، وناشطة سياسية

عُرِفَت سيمون فايل[1] أنها عبقريةٌ استثنائية غامضة. يثير إسمها العديد من صورِ المخيلة: عاملة مصنع تقف في خط التجميع، مفكرة فلسفية حادة، معلمة، يسارية تحارب في الثورة الإسبانية،  شابة شاحبة تعاني من السلّ، ناقدة لـ ماركس، ومتصوّفة. وأياً كانت الصورة فجميعها لإمرأة واحدة. تقارن طبيعة شخصية سيمون فايل الأخّاذة مع رمزٍ مثل القديسة كاترينا السيانيية. وليس القصد القول أنّ سيمون قديسة فهي لم تكن حتى كاثوليكية[2]، وحتى الاختلاف بينها وبين القديسة  كاترينا السيانييه أخّاذ أيضاً.  وبكل المقاييس، حياة سيمون فايل القصيرة تعكس عظمة وغموضًا مشابهين لحياة القديسة  كاترينا التي عاشت قبلها بنحو 600عام  فكلاهما شهدتا إنسانية واضحة تضمنت وعيًا ثوريًا بالمعجزات.

كلاهما اعتنقتا الحياة بشموليتها ووهبتا حياتهما بكل إخلاص للآخرين، كاترينا وهبتها للكنيسة وسيمون فايل للعمال. كلاهما قدمتا نفسيهما لخدمة الآخرين وتوفتا مبكرا في بداية الثلاثينات[3]. وكلتا المرأتين ذوات عزيمة ومحاورة شجاعة مع الرجال ذوي النفوذ، كاترينا مع البابا والأحبار وسيمون فايل مع تروتسكي و”رأس المال”[4]، وكلتاهما تركتا تأثيرًا مستمرًا ورسالةً في العالم.

كرامةُ الإنسان  أمرٌ جوهري  في رسالة سيمون فايل.  ودراسةُ رسالة سيمون فايل عن العمل تبيّن بالضرورة حدّة المرأة التي ابتعدت عن التدريس لتنخرط في قوى العمل الفرنسية من 1934-1935. لقد أتّخذت هذا القرار إنطلاقاً من فلسفتها الشخصية ومبادئها السياسية، كما أن التجربة أثرت أكثر في أفكارها ومشاركتها السياسية اللاحقة وكتاباتها. لذا، هذه الدراسة ستلاحق التطور الزمني لكتاباتها، أولاً تعاليمها الأولى عن العمل، ثم تنتقل إلى مذكراتها التي كتبت أثناء عملها في المصانع الفرنسية، وتختم بآرائها المدروسة عن العمل.

الكتابات الأولى:

سيمون فايل واحدة من بين العديد من المفكرين في فترة العشرينيات والثلاثينيات ممن وهبوا أنفسهم للدفاع عن العمال المضطهدين. لم يكن الدفاع الفكري كافيًا بالنسبة لها واعتقدت أن الخطأ الأساسي للمفكرين الناشطين والمُصلحين أنهم يفتقرون إلى خبرة العمل، لذا سعت للحصول على عمل، غير أن معدلات البطالة العالية بسبب الكساد منعتها من تحقيق رغبتها. أنهت سيمون فايل دراسة الدبلوم وحصلت على وظيفة تدريس في ثانوية للبنات. لم تمنعها الوظيفة من دخول مجتمع العمّال، فقد ترددت على حانات العمال، وساهمت في صناديق البطالة، وشاركت  في النقابات العمالية، ومظاهرات العمال وألقت المحاضرات لعمال المناجم في كلية العمال، وكتبت المقالات.

كتاباتها في بداية الثلاثينيات تعكس ميولًا مؤيدة للماركسية خصوصًا مع تعليمات ماركس أن ثورة العمال ستوحّد العمل الفكري واليدوي وحدة دمرتها الرأسمالية. لكنها أيضاً انتقدت ماركس مسميةً الشيوعية موقفًا للعقل لا يتماشى مع العلم وهو أمر اسطوريٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك، فهدفه النهائي لتحرير الإنسان من”القانون أو الدولة او أيّة قيود” كان دائماً مؤجلًا.

من وجة نظرها، جعل العمل الحديث الإنسانَ عبدًا للآلات. لم يعد الإنسان سيّد الطبيعة بل هذه سيّطرت على الإنسان من خلال الآلات. وأسياد الآلات  أصبحوا أسياد الإنسان والطبيعة. أقرّت بالجهود المبذولة لشركة فورد موتور في أمريكا بمنح العمال حصةً من عوائد الشركة. فالأحزاب الاشتراكية أنشأت مجالس العمل وكذلك بعض الدول أسست نقابات العمال: و روسيا ببساطة أخرجت الرأسماليين (لتستبدلهم بالبيروقراطيين) . لكن سيمون فايل تنتقد ما أسمته “المهدئات” لتوفيرها القليل من الفوائد الحقيقية وبدلا من ذلك  نادت بتحويلِ وسائل الإنتاج.

عاملة المصنع ديسمبر 1943-أغسطس 1935

تعمّق فهم سيمون فايل للحاجة إلى التحول أثناء فترة عملها في المصنع. لم تكن مجرد تجربة بدنية بالنسبة لسيمون فايل إلا أنّها تجربة غمرت كل كيانها، وتحولت إلى عبدٍ مثل كل العمال الآخرين. في مذكراتها المكتوبة أثناء تلك الفترة قالت انّ الأمر كاد أن يحطمها . لم تكن صحتها جيدة قط، فقد عانت من نوبات الصداع النصفي، واضطرت إلى أن تتغيّب بإجازة لمدة إسبوع، ولاحقا لمدة شهر بسبب مرضها.

لقد تساءلتْ كيف لأي شخص من غير الأقوياء بدنياً أن ينجو من هذا العذاب اليومي، الثقل الذي يشعر به المرء عند استيقاظه، ورتابة العمل، والحذر اثناء العمل مع الآلات الكبيرة وهو الذي كان صعبا وخطرًا، وكذلك هيمنة الخوف من أوامر الإدارة. وبعيداً عن الألم البدني ومعاناة عمال المصنع، تجسّد العذاب الحقيقي في تحطيم كرامة العمّال الشخصية. فعندما دخلت سيمون فايل المصنع لاحظتْ أنّها أصبحت عضواً في طبقة من ناس لا يعتد بهم ، فهم لا شيء، من ثمَّ توجّب عليهم الخضوع بصمت. هذا الإذلال كان معاناة ضخمةً لا يمكن تحمّلها.

لم تتجاهل سيمون فايل فوائد عملها في المصنع، فقد لاحظت بأنّ التجربة منحتها إحساساً بافتقارها لأيّ حقٍّ أيًّا كان، وتوجّبَ عليها أن تكون حذرة بما يكفي كل لا تنسى هذا الأمر. لقد تملّكت قدرةَ أن تكون مكتفية أخلاقياً: “أن أعيش في حالةٍ من الإهانة الدائمة والكامنة بدون أن اشعر أني مهانة في نظر نفسي” وأن ” استمتع بكل لحظةٍ من الحرية والصداقة”. هنا اختبرت سيمون فايل الاتصال المباشر بالحياة.

الكتابات الناضجة عن العمل

تَفَرّد عمل سيمون فايل البدني في المصنع، وكما لاحظ جورج ابوت وايت فهي “دخلت في فكيه وتكلمت عن الضرورة من جوف الوحش”، وهي ضرورة لها معنى عميق عند سيمون فايل، معنى يشتمل على الرب والطبيعة، ومع ذلك نجحت بالحفاظ على الطاعة بينما جرّدت الضرورة من العبودية. دوّنت في دفترها: “الضرورة  إرادة الله. “

وباعتبار محدوديةِ الإنسان الذي لا يستطيع خلق نفسه، فهو ليس الخالق، يبقى مقيّدًا بالضرورة، لكنّه يستطيع في حريته إعادة خلق الهبة التي مُنِح، مُزيّفاً الشيء الذي يعاني منه. الإنسان بعمله قد يحول لحمه ودمه إلى ثمار عمله. تقول سيمون فايل إنّ العمل ليس وحشيًا بطبيعته و”لكنّ العمل اليدوي قد يكون عبودية مهينةً للروح أو تضحيةً.”  كان العامل المحدِّدُ هو تلك العلاقة بين الإنسان وعمله، وقد تأسست هذه العلاقة في طبيعة الواقع ذاته وحتّى في علاقة أعمق حدّدت حرية الإنسان – هي العلاقة بين الفكر والفعل.

التقنية سلاح ذو حدين، فهي، من جهةٍ، تمتلك مقدرةً على توسيع حرية الإنسان بمنحه مزيدًا من الوقت للتفكير والإبداع، ولكنّها، من جهةٍ اخرى، كما في خط التجميع، قد تدمر بقسوةٍ العلاقة بين الفكر والفعل باستعباد الإنسان برتابةٍ فتنحو نحوَ حالة سلبية تسمح بقليل من التدخل الفكري. ليست المشكلة في الآلة بل في طريقة استخدامها.

من اجل حماية حرية وكرامة العمال تنادي سيمون فايل بثورة ليست كالتي نادى بها ماركس، والتي قد تنتهي بتكرار المشاكل نفسها، بل بثورة من أجل تدمير عبودية الإنسان. ثورة سيمون فايل لا تلغي عمل الإنسان لكنها تنظمه بما يتناسب مع حريته. لا يُخلق الانسان لكي يخدم الآلة، بلا لا بدّ للآلة أن تبقى في خدمته، وفي خدمةِ كل البشر. للقيام بذلك يجب على كل عامل أن يرى ويدركَ ثمار عمله، وألاّ يبقى الإنسان وسيلة للإنتاج، بل أن يستطيع تحمّل رتابة العمل البشري إذا كان نور البقاء يضيئها.

كانت محاولة حل أزمة العمال من خلال تخفيف معاناة العمل جهدًا ناقصًا، فالتغيير الحقيقي للعمل يتطلّبُ أن تسعى الرأسمالية والقادة السياسيين والأمة إلى تحقيق “فرح” العمّال. بالنسبة لسيمون فايل: “إذا كانت مهمّةُ الإنسان هي الوصول إلى الفرح من خلال الألم، فإنّ العمال هم الأصلحُ  لتحقيق هذه المهمَّة في شكلها الحقيقي”.

المصدر


[1] النصّ الأصليّ:

 Simone Weil on Labor – Oikonomia – Rivista di etica e scienze sociali by Catherine-Joseph Droste

[2] يجادل البعض بأن ميول سيمون فايل الكاثوليكية القوية أودت إلى تعميدها قبيل وفاتها في 24 اغسطس 1943.

[3] بينما قد يزعم البعض أن سيمون فايل والقديسة كاترينا توفتّا بسبب الآنوركسيا [مرض فقدان الشهية]، تجادل آنا فرويد بأن لا أدلة على اضطرابات نفسية ظهرت على سيمون فايل تصاحب هذا المرض. ويمكن قول الأمر عينه بخصوص القديسة.

[4] قائمة صغيرة من الأعلام قد تضمّ أيضًا: تروتسكي، دوروثي داي، بيتر مورين، جورج اورويل أو حنّه أرندت، وذلك برغم أنّ سيمون فايل كانت قد تساءلت عمّا إذا كان تروتسكي، وقبله ماركس، قد تقدّما يومًا لعملٍ يدويّ.