مجلة حكمة
المفهوم السوسيولوجي للحداثة

المفهوم السوسيولوجي للحداثة – ألان تورين / ترجمة وتقديم: عثمان لكعشمي


المفهوم السوسيولوجي للحداثة 

لا ريب في أن إشكالية الفكر العربي الذي يسمى اليوم بالمُعاصِر، وغير العربي من كيانات العالم الثالث قاطبة، هي إشكالية الحداثة نفسها. ينطبق ذلك على الفلسفة، كما على حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، منها الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والتحليل النفسي، كما ينطبق على واقع المجتمعات العربية من المشارق إلى المغارب، من تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العربي إلى بنيات المجتمعات العربية وتشكيلاتها الاقتصادية والاجتماعية. ينطبق ذلك على الفكر والواقع معاً. فأي حديث عن إشكالية الحداثة يجرّنا إلى إشكالية الهوية. إننا أمام إشكالية واحدة: إشكالية الحداثة والهوية. غير أن فكرة الحداثة عندنا، مازالت موضع تقاطب ثنائي مُفتعل بين مَن يقول بكونيتها ومن يؤكد على خصوصيتها؛ قد يعود ذلك التقاطب إلى طبيعة مفهوم الحداثة السائد في السوق الثقافية -المعرفية العربية. والتي تُغلب المفهوم الفلسفي على المفهوم السوسيولوجي للحداثة، إنْ لم نقل إنها تُغيبه وتطمسه. إننا في حاجة إلى مفهوم ثالث على نحو العالَم الثالث، من شأنه أنْ يفتح طريقاً ثالثاً. هذا المفهوم هو المفهوم السوسيولوجي للحداثة، أو لنقل المفهوم السوسيولوجي التاريخاني للحداثة والحالة هذه. مفهوم، من شأنه أنْ يفتح الفلسفة على الحساسية السوسيولوجية من جهة، ومن شأنه أنْ يفتح السوسيولوجيا بدورها على أفق الفلسفة الاجتماعية من جهة ثانية.

***

المُجتمعات الحديثة

   تُعرف المجتمعات التي نُسميها حديثة وفقاً لفعل الخلق والتحول، لكنها تعرف أيضاً وفقاً للهدم، هدمها لذاتها. يتعلق الأمر إذن، لمن يرمي إلى فهمها، بتعريفها انطلاقاً من تاريخانيتها، أيْ من خلال قدرتها على إنتاج التاريخ. يقتضي فهمها قبل كل شيء، تحليل كل ما مِن شأنه أنْ يجعل منها خالقة لتاريخها.

   تتعارض هذه المجتمعات التي تُعرف بحركتها، أو بتاريخانيتها، مع أولئك الذين يُعرفونها، على نحو معاكس، بالنظام الداخلي.

   ثمة محاولات كثيرة لتعريف الحداثة باءت بالفشل، لأنها تناقضت فيها بينها. فبينما كان يرى البعض في الحداثة انتصاراً للفردانية، رأى آخرون فيها ميلاداً لمجتمع الجماهير؛ ففي مقابل أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم يرصدون العقلنة والروح الصناعية التي انتشرت في أرجاء العالَم، كان غيرهم يُسجلون انخفاضاً ملحوظاً في الوقت المُخصص للشغل، وعلى عكس هؤلاء الذين كانوا يتباهون بقدرة البشر على التحكم في الطبيعة، كان آخرون، مؤخراً، أكثر انتباهاً لخطورة أزمة المناخ الراهنة، قد لَفتوا الانتباه إلى الضرورة الملحة لاحترام القوانين العليا للطبيعة. فلننسى هذه التعريفات، بما هي أكثر تناقضاً مع بعضها البعض مما نرى؛ لا يتعلق الأمر والحالة هذه باللا- مساواة المتزايدة في العالَم برمته وحسب، بما فيه الأنظمة الديموقراطية الصورية، بقدر ما يتعلق الأمر أيضاً بجزء كبير من البشرية يعيش تحت ظل إمبراطورية النظام أكان تحديثياً أم سلطوياً)أم شمولياً(، حتى يتسنى لأولئك الذين ينظرون إلى الدول على أنها تُهيمن دائماً على المجتمعات تقديم ما يكفي من الحُجج لمُحاجة هؤلاء الذين ينظرون إلى المجتمعات على أنها تفرض على دولتها قواعد الديموقراطية التمثيلية.

   إن هذا الإخفاق لجميع المحاولات سالفة الذكر، قد أعادنا بالضرورة إلى نقطة الانطلاق. وبالتالي، إنني أُعَرف الحداثة وفقاً لقدرة مجتمعات معينة على الخلق والتحويل، بغض النظر عن إرادتيْ الخلق والتحويل، علاوةً على الهدم والتحطيم، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ.

  الأمر الأهم هنا هو إعادة تعريف المجتمعات الحديثة، بوصفها تكتسب شيئاً فشيئاً الوعي بكونها ليست أكثر من مخلوقات لنظام إلهي أو طبيعي فحسب وإنما الوعي بكونها خالقة لذاتها- عينها.  ليست “الأوساط التقنية” وحدها هي التي تحل محل “الأوساط الطبيعية” أو تحولها، على غرار التحليل الكلاسيكي لجورج فريدمان، بل طالما كان الفعل البشري، كما قدمه أنطوني غيدنز ومن معه، انعكاسياً ويتملك معرفة بذاته، أكثر فأكثر، باعتباره خالقاً ومُحوِّلاً عبر تعديل الأوساط التقنية القائمة فعلياً.

   لقد غدونا حداثيين ليس لأننا مجرد “ذوات منفعلة” تُحَدَّدُ من خلال هويات وجماعات تنتمي إليها، بل لأننا أيضاً وبشكل خاص بمثابة “ذوات فاعلة” تُحَدَّدُ من خلال وعيها بذاتها.

   يبدو لي أن كلمة تأويل- المُستعملة على نطاق واسع، خاصة من طرف دارسي الهيرمنيوطيقا– هي الأنسب لتشخيص ظاهرة الحداثة. في الواقع، تُعرف المجتمعات الحديثة جميعها، بواسطة تأويل ذاتها، بما هو تأكيد لقدرتها وإرادتها الخلاقتيْن، فضلاً عن قدرتها وإرادتها التحويليتيْن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمثل ذلك التأويل لجوءاً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى أُسّ قدسي؛ وإنْ كانت المجتمعات الحديثة تؤكد على قوة من شأنها أنْ تجعل منها إلهاً خالقاً نوعاً ما، فإنها مازالت في حاجة إلى استدعاء أُسّ خارجي، غير بشري، لإضفاء شرعية معينة على فعلها.

   إنني أميز والحالة هذه بين أربع حضارات كبرى تُعرف بمستويات مختلفة من الحداثة والتاريخانية، تُعرف بقدرتها على الخلق الذاتي والتحول الذاتي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحضارات الثلاث الأولى قد لجأت هي الأخرى إلى أُسّ قدسي للشرعية. أما في المجتمعات الأولى التي تعرف بواسطة حضارة فلاحية، حيث التحكم في البيئة الطبيعية ضعيف، تُقَدم السلطة كمقدس، كما سبق لنا رؤيتها في المجتمعات الحديثة بشكل خاص، بمعنى أنها تكون مُوَجَّهة مسبقاً نحو الحركة- من خلال الغزو بخاصة- أكثر من النظام: إنها القدسية المتعالقة بالسلطة المَلكية أو الإمبريالية. وأما في المجتمعات الثانية التي قامت على التجارة الدولية الكبرى، حيث سادت في القرون الأولى للأزمنة الحديثة، تم فرض فكرة الأخلاق الطبيعية التي انتصرت لعصر الأنوار، مع فكرة الحقوق الطبيعية، الحاضرة بقوة عند روسو ثم عند كانط. وأما في المجتمعات الثالثة حيث توطن التصنيع فيما بعد، انطلاقاً من القرن التاسع عشر، بما هي مجتمعات تعتقد قبل كل شيء في العقلانية والآلات المخترعة بواسط العِلم والابتكار البشري، لقد تأكدت وتعززت أدلوجة التقدم، التي تستند على نظريات التطور الجديدة.

   على العكس من ذلك، فمع المجتمع فائق الحداثة، إننا بصدد سواحل جديدة: يتعلق الأمر بمجتمعات ظهرت في القرن العشرين، تحت تأثير تقدم المعرفة العلمية والابتكارات التقنية، بل أكثر من ذلك، أعتقد أنها تمخضت عن الفواجع الناجمة عن الحربيْن العالَميتيْن، كما هو حال المحرقة اليهودية)الهولوكوست( على سبيل المثال لا الحصر، من الإبادة العرقية الجماعية إلى المذابح الجماعية، التي آلت، إذاً، إلى وعي المُجتمعات المعنية بقدرتها غير المحدودة على التدمير والهدم، علاوةً على الوعي بقدرتها على الخلق والتحويل، في الوقت نفسه. لقد كانت هذه المجتمعات على نحو ما، مُجبرة على استدعاء أساس غير بشري للشرعية. هذه هي الخاصة المتفردة بشكل كلي للحداثة الفائقة التي تفسر رد الفعل المُعادي للحداثة، والخوف من المستقبل، مما أدى إلى ممارسة تأثير قوي على المناطق المتطرفة، بغض النظر عن اليمين واليسار، فضلاً عن الرأي.

الإنسان الحديث بوصفه كائناً تاريخياً

   إن الإنسان الحديث هو كائن تاريخي، مرد ذلك إلى كونه خالقاً للعالَم ولذاته نفسها. إنه كائن الكلمة، فضلاً عن كونه كائن الشغل والوعي بفاعليته. لهذا نرفض جملة وتفصيلاً فكرة مجتمع من دون فاعلين، محكومة بنزعات حتمية محضة، كما نرفض بالقدر نفسه فكرة فرد من دون تاريخ، لا يفتش إلا عن مصلحته ورفاهيته.

   لقد كرستُ الكثير من الوقت والعمر في الكشف عن السمات المميزة للذات البشرية، من تاريخ التذويت إلى تطور الوعي الجماعي والشخصي للذات بوصفها خالقة ومحولة، فضلاً عن كونها هادمة للذات كذلك، كشفاً للكائن البشري الذي انتقل عبر التفكر والشغل من الوعي الحديث- الأولي بكونه كائناً مخلوقاً للإله، أو القدر أو الطبيعة، إلى الوعي بكينونته بكونه كائناً بشرياً خالقاً للوعي، بمعنى ذلك الكائن الذي أصبح ذاتاً لنفسه عينها، ضمن مجال بشري لا يخضع فيه لأوامر الآلهة، أو الموضوعات.

   لعل الكلمة التي أُحلها محل قناعتي المتمثلة في كون الإنسان الحديث هو “الإنسان الذي يُخلق من طرف الإنسان”، هي: التأويل. الإنسان الحديث يحول تجربة، ليست بوصفها حضارة مادية عبر تأويلها لفاعليتها الخالصة التي تضع المؤسسات والمعتقدات بين وضعيتها والوعي بفاعليتها أو بتاريخانيتها فحسب؛ وإنما باعتبارها أصلاً لقدرتها على خلق تاريخها.

   وعلى هذا النحو، فإن ما يلوح للبعض كقاعدة موضوعية وحتمية للوضع البشري سُرعان ما يُكشف باعتباره شرطاً بشرياً في حد ذاته بما هو، قبل كل شيء، خلق للتاريخ وتعديله.

   لقد تطلعنا منذ البداية والحالة هذه إلى تنبيه القارئ إلى كيف أفضى انبثاق هذه الذات الفاعلة، التي تشكلت وأصبحت واعية بذاتها انطلاقاً من تحويلها للعالَم، إلى انقسامها على ذاتها؛ لأن خلق التاريخ هو قطيعة للجماعة مع نظامها، وفي الوقت نفسه انفصال للذي يراكم عن الذي يستثمر، وللذي يُذْعِن أو التي تذعن لسلطة الذي يُنتِج عن الذي يوفر، علاوةً عن الذي يَستثمر ويقود المسيرة نحو التاريخ. لم أسطر عبارة “الذي” سالفة الذكر لأن رَبّ الإنتاج والتاريخانية هو السيد فقط، وإنما لأنه إنسان ذَكر أيضاً. فعلى الرغم من كون المرأة مازالت توجد “في الطبيعة” وفي الحياة، وإنْ كانت تعيش في عائلة أمومية، فإنها طالما كانت خاضعة للرجل.

   على أي حال، لا يُمكن للكائنات البشرية أنْ تغدو حديثة وتثبت ذاتها باعتبارها كذلك إلا عندما تستشف فاعليتها ونضالها، ليس ضد سلطة الأسياد وحسب وإنما ضد المحرمات المُصاغة والمصونة من طرف هؤلاء الأسياد بخاصة، بماهم في المقام الأول ممثلين للنظام القائم الذي يقاوم كل المبادرات الخلاقة على نحو شبه جامد، لكنها تحولت واكتسبت وعياً لم يكن سابقاً أكثر من وعي جماعة، فوعي قبيلة، ثم وعي حَاضِرة. من جانبها، شكلت الفئات المُتغلَّبة، من العبيد إلى الأقنان، من الفلاحين الأحرار إلى الحِرفيين، ومن البلديات إلى المدن، قلنا شكلت مجالاتها الترابية الحرة التي تنفلت من قبضة رجال الدين والنبلاء.

   إن التاريخانية صراع من أجل الحرية، بقدر الشغل بوصفه خالقاً للوعي.

   ففي الشغل تتجلى الفاعلية ويَؤُولُ الوعي بها إلى ابتكار مجتمع جديد.

   انطلاقاً من اللحظة التي تجلى فيها الوعي بـ الحداثة، والتي أخذت في الغرب شكل حملات استكشافية كبرى، اكتشافات ونهضة قد أعادت تأويل الوعي القديم للحاضرة والإمبراطورية، وصولاً إلى نكوص العالَم المقدس وكذا تزايد الارتباط الوثيق بين ثقافة التذويت والأفعال الاجتماعية والسياسية التحريرية، التي تؤكد بافتخار متصاعد على حقوق الإنسان.

   يتصاعد بشدة اندماج هاتين الحركتين، المتكاملتين والمتعارضتين في الآن نفسه. إن الحداثة هي إنتاج وفاعلية، فضلاً عن كونها وعي بالذات وتحرر من كل السلط التي مازالت تلوذ بجدران المقدس. ذلك هو الوجه المزدوج، كما هو حال الجسد والروح إنْ جاز التعبير، للإنسانية، للوعي بالذات وللبشرية الحديثة.

   وبالتالي فإن الحداثة، كما أسلفت الذكر، هي في الوقت نفسه خلق للذات من خلال الشغل وخلق لحقوق الإنسان من خلال معارك التحرر. لكنها أقرت منذ البداية بالحرية وحقوق الرجال الذين ينتمون إلى عالَم الأسياد، إلى أنْ تجاوزت الروح الديموقراطية حصنها لتطال النساء في بلد الأسياد ومجموع العالَم المستعمَر والمُستعْبَد.


  1. Touraine, Alain. Défense de la modernité. Paris: Seuil, octobre 2018. P. 33-36.
  2. , p.173-175.