مجلة حكمة
يوهان جوتفريد فون هيردر

ملحق للنقاش: يوهان جوتفريد فون هيردر – موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: طريف بن عيد السليطي

1- دور هيردر في نشأة اللغويات والأنثروبولوجيا

كان يوهان جوتفريد فون هيردر، لا سيما في كتاب” أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” قد رسخ النظام المعرفي للغويات ضمن المبادئ الخمس التالية:

1- يعتمد الفكر بصورة جوهرية على اللغة، وهو مقيّد بها، أي أن المرء لا يمكنه التفكير إلا بواسطة اللغة، ولا يمكنه التفكير إلا بما يمكن التعبير عنه لغوياً.

2- تتشكل المعاني والمفاهيم عبر الممارسة اللغوية (لن يحدث ذلك عبر الإحالة إلى المثل الأفلاطونية أو الأفكار الذهنية والذاتية التي يفضلها التجريبيون البريطانيون).

3- تبرِز الإنسانية اختلافات عميقة في أنماط التفكير، والمفاهيم، واللغة، لا سيما بين الحقبات التاريخية والثقافات المختلفة.

4- بسبب المفاهيم (1) و (2) عبر البحث في خصائص لغات الناس واختلافاتها البينية فإن في ذلك طرائق موثوقة وأولية لاكتشاف خصائص التفكير والمفاهيم واختلافاتهما من حيث المبادئ (1) و (2) يترتب على ذلك أن لغات الناس تفتح نافذة تجريبية موثوقة وسهلة المنال نحو طبيعة أنماط تفكيرهم ومفاهيمهم.

5- في حين أن هيردر الشاب صاحب “مقالة في أصل اللغة”(مثل سابقيه من مفكري التنوير) قال أن اللغات هي مجموعة من المفردات والمفاهيم، إلخ. فإنه في الأفكار شدد على البناء النحوي [Bau] ودوره الجوهري في اللغات. وكان تصوره عن النحو، في عمل مبكر، قد تأرجح بين افتراض أن النحو غير جوهري للغة وأنه كوني، ففي الأفكار طور هيردر رؤيته المتماسكة حول جميع اللغات وأنها تملك النحو ولكن تختلف تماماً في بنيانها النحوي، كما تبدي اللغات أشكالاً  أخرى من الثراء المتنوع ” في البنية اللغوية [Bau] وفي العلاقة والنظام والتوافق بين الأجزاء وبعضها، فإن ذلك كله لا يقبل القياس” (G6:353).

كوّنت هذه المبادئ أصول اللغويات الحديثة. مضى فريدريش شليجل بعيداً بهذه المبادئ وطورها في كتاب “حول لغة الهنود وحكمتهم “ 1808. وطبق هذه المبادئ بالتحديد كي يبحث السنسكريتية واللغات المتعلقة بها (أي اللغات الهندو أوروبية) وكان عمل شليجل قد ألهم سريعاً موجة كاملة من الأعمال الهامة والمبنية على نفس المبادئ العامة هذه. وهذا يتضمن أعمال فرانز بوب Franz Bopp وأوغست شليجل August Schlegel وياكوب جريم Jakon Grim وفلهلم فون هومبولت Wilhelm Von Humboldt.

وما لا يقل أهمية أن فلسفة هيردر في اللغة والتأويل، يداً بيد مع عدد من المبادئ الفلسفية الأخرى التي طورها، قد لعبت دوراً أساسياً في ولادة الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة. وقد تضمن عدد من كتابات هيردر لا سيما المجموعة العاشرة من “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” مخططاً افتراضياً لهذا النظام المعرفي في المستقبل. كما أن إسهاماته الخاصة في هذا الجانب كثيرة وعميقة لتشمل ماهو آت: (1) أن ما ينبغي التركيز عليه في هذا النظام هو علم النفس. (2) مبدأ الاختلاف العقلي والجذري. (3) تصور الهدف من هذا النظام المعرفي يكمن في الفهم لا الشرح. (4) تبني هرمونيطيقا مؤسسة على إدراك التنوع العقلي الجذري. (5) التشديد على التجريبية المنهجية في التأويل. (6) التشديد وفقاً لروح فلسفته في اللغة على الدور الأساسي للغة في الثقافة. (7) التشديد على الشمولية في التفسير. (8) التوصية على المشاركة في المراقبة والملاحظة. (9) المفهوم المميز لهيردر عن الثقافة. (10) التشديد على التنوع والتلاؤم النسبي وعدم قابلية القيم للقياس الكمي. (11) العولمة التعددية. (12) التشديد على فهم الثقافات الأخرى وأن من شأن ذلك فهم الذات بشكل أفضل.

تؤسس هذه المفاهيم نواة النظام المعرفي الجديد للأنثروبولوجيا الثقافية، وتتضمن الأسماء المركزية التي مارست تأثيرها على نشأة الأنثروبولوجيا فرانز باوز، مؤسس الأنثروبولوجيا الأمريكية، وبرونيسلاف مالينوفيسكي مؤسس الحقل الأنثربولوجي البريطاني.

2- النسبية الأخلاقية عند يوهان جوتفريد فون هيردر

فيما يتعلق بهذه النسبية وعلاقتها بالمكونات الأخرى لفلسفة هيردر، فإن هيردر كثيراً ما يتخلى عنها. وكما أشار فريدريك بايسر، فإنه في كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتاريخ الإنساني” يحاول الجمع بين النسبية وفرضية وجود مرتكز للأخلاق يسمح في نهاية المطاف بتصنيف يقارن بين الأخلاقيات، وذلك عبر التوسل بمماثلة سلسلة من تاريخ الثقافات والحقب للإنسان. ثم في كتاب أفكار يتراجع أيضاً لكن بطريقة أخرى عبر التوكيد على وجود قيمة أخلاقية جوهرية ومشتركة في كافة الحقب التاريخية والثقافات، يمكن الإفادة منها كمعيار مشترك لتقييم أخلاق حقبة ما أو ثقافة والقول بأفضليتها أو سوئها طبقاً لهذا المعيار، وهو الإنسانية [Humanität].

لا تمثل هذه المحاولات في التراجع عن النسبية مشكلة حقيقية لأنها على كل حال ستحتفظ بطابعها الإشكالي (أي الأخلاق النسبية أو الكلية: المترجم) وإن المماثلة المنشودة بين العصور المختلفة للإنسان هي إما ضربٌ من الشرح الغامض obscrum per obscrus  وبالأخص التناقض الذاتي الواضح من قِبل الآخر، أو تعمد تجاهل حقيقة قيامنا بالتناقض الذاتي الذي يتضح في تقييمنا للعصور الإنسانية المختلفة، وعلى وجه الدقة حين نقول بالمساواة بين القيم والتطلعات لمختلف العصور التي اعتقدنا أنها ذات تطلعات غير أخلاقية، لكن حين نخلع عليها التقدمية سنعتبرها أخلاقية. وأكثر من ذلك فإن نشدان القيم لأخلاقية  الإنسانية المشتركة سيبدو في محصلة الأمر نكوص يائس نحو أخلاق كونية زائفة تجريبياً تبناها التنويريون السابقون على هيردر (مثل هيوم وفولتير) بيد أن لحظة هيردر الثاقبة والنسبية كشفت الغطاء عن هذا الخطأ (وجه نتشه في وقت لاحق نقداً لهيردر في كتابه مسابقة هوميروس حيث حاجج ضد تمجيد الإنسانية لدى هيردر وأن هوميروس وثقافته مجَّدا القسوة والصراع والعذاب).

وأيما كان الأمر فإن نسبية هيردر هي في واقع الأمر إشكالية في جوهرها. والمشكلة الأساسية معها هي استحالة كبح النفس عن إصدار الأحكام التقييمية والمقارِنة تجاه الأخلاق الأخرى التي ترفضها وفوق ذلك الضرر المترتب من هذا السلوك. وكما ذكر نتشه في عبارته المعروفة “أليست الحياة إصداراً للأحكام، والتفضيل، والظلم؟ ” (ماوراء الخير والشر: القسم التاسع). وإذا ما ووجه المرء بقضايا صعبة كالشريعة الأخلاقية الهندية التقليدية سوتي sutti (أي حرق الأرملة مكرَهة وهي حية) أو الشريعة الأخلاقية لبعض القبائل التي تعذب أسرى الحرب أو تأكلهم، فهل نتمسك هنا بالتقييم النسبي “وأنها مجرد مدونة أخلاقية مختلفة ولا نستطيع القول بأنها أسوأ أو أحسن من التي لدينا” ؟ ولو استطاع المرء أن يبدي رأيه فهل هذا بالأمر الجيد؟ إن الجواب البادي على هذين السؤالين هو لا. وبالتأكيد، كما لاحظنا سابقاً، فإن هيردر – حتى في أكثر أعماله نسبية – وخاصة في أقلها نسبية مثل الأفكار لا يمتنع عن إصدار أحكام سلبية حيال الشرائع الأخلاقية الأخرى.

ولا يزال الخطر قائما “كي لا يغرق الرضيع في مياه الحمام” فحتى نسبية هيردر لا يمكن المحافظة عليها دونما تعديل بالنظر للأسباب السالف ذكرها. ولعلها مثلت خطوة كبرى للأمام نحو الطريق الصحيح، لكن تحتاج لبعض التعديل كي يمكن الدفاع عنها وهذا ما أقترحه في هذه الحالة. إن هذا ” التعديل ” الخاص هو موضع الجدل، كي أضمن لنسبية هيردر ألا تكون كونية أو موضوعية القيمة الأخلاقية. وأن تكون القيم الأخلاقية – وبشكل معتاد – مناسبة لسياقاتها، ولكي تظل متماسكة حيال قيمها الأخلاقية وكي تصدر الحكم على أخلاق الآخرين وفقاً لهم، بهذا الفعل والآن فقط وعبر نهجٍ غير كوني وغير موضوعي (كما قالها نتشه ” إن حكمي هو حكمي أنا ” ماوراء الخير والشر: القسم الثالث والأربعون) وحتى لو وجد أحدهم فردية نتشه متطرفة وإشكالية سيقول “إن حكمنا هو حكمنا نحن” (ونحن – بالنسبة للبعض – أدنى من الكونية). إن هذا الموقف عادلٌ حيال الأفكار النظرية لنسبية هيردر، ويجنبنا تكبد كلفتها الفادحة.

وفوق ذلك لاتزال التعديلات تؤيد التسامح الذي ارتأى فيه هيردر فائدة كبرى لنسبيته، مع أنها الآن تتخذ أسلوباً مختلفاً بعض الشيء: لا من خلال الخروج على نظام التقييمات المقارنة لكافة الأخلاقيات، لكن بدلاً من ذلك ستحتفظ النسبية بيقظتها في الحالات التي تتصادم فيها أخلاقنا مع أخلاقٍ أخرى، لاسيما وأنهما تنطلقان عادةً من عواطف أخلاقية غير كونية تتناسب نوعاً ما مع سياقاتها، ومن ثم فمالم يحدث بينهما الصدام الحاد فإن موقف الاحترام والصبر هو المناسب.

ولا يمكن لهذا الموقف أن يشكل خطراً في تقويض جدية التزاماتنا الأخلاقية (كي أستبق الاعتراض المتحمس لبعض المنظرين الأخلاقيين المعرفيين cognitivists) فإن المثال الذي يسعفني هنا هو: أنني عندما أحب ولدي، وعندما يدفعني الأمر لتفضيله على الأولاد الآخرين، فإن هذا الالتزام لولدي لا يجب أن يزول من جانبي (وهذا ما ينطوي عليه الحس السليم) وكذلك لأن للآباء والأمهات تفضيلهم الخاص بأولادهم على الدوام، ومن ثم لا يعني ذلك أن ولدي هو موضوعياً أفضل من سواه، علاوةً على أن تفضيل الآباء الآخرين لأبنائهم سيؤدي أدواراً هامة لهم.

3- فلسفة التاريخ المتأخرة عند يوهان جوتفريد فون هيردر

لا تلتزم كتابات هيردر تماماً بالرؤية القائلة بأن التاريخ لا يملك معنى معلوم. وأصر هيردر علانية في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على أن للتاريخ غايته العامة، وأن هذه الحقيقة (وهي مختلفة عن طبيعة هذه الغاية) متميزة عن البناء التراكمي والتاريخي للثقافات بعضها فوق بعض، وكتاب الأقكار يمضي في سرد قصة طويلة في أثر الغاية التاريخية وكيف تكوّنت بفضل الإدراك الثابت والمستمر لـ” العقل” و “الإنسانية”. وعلى كل حال لم يغادر هيردر تخوم الشك العميق تحت هذا السطح، وهذا ما يتضح في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” فالعنوان يستنكر ذاتياً وبشكل ساخر عبر شعاره البيروني (الشكاك: المترجم) ويتردد بين نماذج متنافرة في اتجاه التاريخ (هل هو تقدمي أو تقدمي دائري أو دائري بحت أو حتى تراجعي؟) وتحمس هيردر بالخوض في ذلك، وحاول بشكل غير مقنع في رد حجة من يشك بعدم غائية التاريخ (بعد سنوات قليلة في كتابه “رسائل لاهوتية” عام 1780-1781 سيكتب هيردر عن التاريخ واصفاً إياه بـ” كتاب التفاهة لكل الإنسانية” [G9/1:438]). ومن الجلي في كتاب الأفكار أن موقف هيردر الأساسي عن غائية التاريخ يتناقض مع نصوصه الأخرى التي تصر على لاجدوى التفسيرات الغائية في التاريخ (الأمر الذي يتناقض مع السبب الكافي). إن موقف هيردر الأساسي هذا قد أثر بالتأكيد على بعض من تبعه (خاصة هيجل) ولكن مع تريث أكبر في مواجهة النزعة الشكية التي تمثل أحكامه الفلسفية الأفضل.

وفيما يتعلق بأفكاره عن السبب الكافي كانت أعمال هيردر المتأخرة قد بقيت وفية لموقفه الشكاك في”االغابات الحرجة” لكن مع تنقيحها في هذا الوقت ومن أجل خطاب فلسفي أفضل. كان هيردر الناضج – على خلاف ماكان عليه في زمنه المبكر – يتبنى الشكية بشكلها  العام حول دور السبب الكافي في التاريخ. على نقيض ذلك كان هيردر يصر على كون التاريخ محكوماً بالسبب الكافي وأن علينا محاولة الكشف عنه وعن سبله الخاصة ما أمكننا. لكن بقي هيردر شكاكاً للغاية حيال مدى نجاح هذا المشروع والمسافة التي يمكن قطعها نحو تفسير حقيقي للماضي أو حتى تجاه توقعاتنا نحو المستقبل وإمكانية تحكمنا به. إن السبب الرئيسي خلف هذا الموقف لهيردر يكمن في شكه حول الأفعال والأحداث التاريخية الكبرى وأنها ليست نتاج عامل واحد أو حتى عوامل قليلة يمكن تحديدها (كما يزعم المؤرخون السياسيون والعسكريون) ولكن هي نتاج الالتقاء بين فرص وممكنات هائلة العدد ومن عوامل وأسباب مختلفة، كثير منها مجهول بالنسبة للأفراد وغامض بالنسبة للمؤرخ، فبعض العوامل مثلاً تافهة للغاية كي تسجّل، وبعضها عوامل نفسية فشل المؤرخ في الكشف عنها للجمهور أو تعمد إساءة عرضها أو كان على غير وعي بها وهي مدفونة في عقله الباطن.

4- يوهان جوتفريد فون هيردر والنزعة الشكية

يميل هيردر إلى التعامل مع مشكلتين بهذا الصدد: (1) المشكلة المتعلقة حول ما إذا كان ثمة معنى فيما يبدو لنا فوضوياً ولانهائياً من التغيرات بين عصر وآخر (أو بين ثقافة وأخرى)؛ (2) ومشكلة التضارب المتكرر بين الرؤى في كل القضايا وسط التاريخ (أو المقارنة بين الثقافات المتعددة) وهذا ما يفاقم في أقل الأحوال من المصاعب الشكية القديمة حيال النزاعات المستعصية على الحل والتي تدفع المرء نحو “تعليق” رأيه.

لقد نوقشت المشكلة الأولى، بينما لا تزال المشكلة الثانية تهمنا. مشكلة أسهم إرنست ترولتش Ernst Troeltsch في خوضها في القرن العشرين وقد رآها هيردر بوضوح قبله. صمم هيردر على تجنب هذا النوع من الشكية؛ فكان لديه استراتيجيتان رئيسيتان وأولاهما هي محاولته لحل المشكلة من مصدرها ونزع فتيلها عبر المحاججة على وجود أرضية مشتركة بين الحقب المختلفة والثقافات أكثر مما هو سانح، وتتوفر هذه الاستراتيجية في كتاب ” الغابات الحرجة” حيث حاجج هيردر (كما هو مذكور آنفاً) بأن المعايير المختلفة للجمال تملك وحدة باطنة، وتلعب دوراً مركزياً في كتاب ” أفكار” وعلى وجه التحديد تتمثل “الإنسانية” بوصفها قيمة أخلاقية مشتركة. أما استراتيجيته الثانية فهي تسليم هيردر بوجود المشكلة بصيغتها الصعبة ثم التجاوب مع النسبية: لا سيما في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” حين حاجج بشأن الأسئلة عن القيم الأخلاقية والجمالية والائتمانية وكونها ترتبط بحقبها المختلفة وثقافاتها وأنها متساوية في صحتها ولما تنتمي إليه من مراحل وثقافات، بالتالي ليس من مبرر للتفضيل التراتبي بينها. أما كتاب “رسائل في تقدم الإنسانية” فتأرجح بين هاتين الاستراتيجيتين.

ليس من هاتين الاستراتيجين ما يشفي الغليل في نهاية الأمر. فالأولى، أي التوكيد على وجود مشتركات عميقة، هي مجرد استراتيجية يائسة (على الرغم مما تبدو عليه من جاذبية أخاذة لدى الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية ممن تنقصهم الدراية التجريبية) وهي استراتيجية تصادم الدليل التجريبي بشكل سافر، وماهو أكثر من ذلك أنها تصادم أحكام هيردر التأويلية الأفضل منها عن الدليل التجريبي، مثل كتاب حول تغير الذائقة ومواضع أخرى حيث لم تتغير القيم الأساسية عبر التاريخ فحسب وإنما انقلبت في بعض الحالات.

وأما استراتيجيته النسبية والبديلة فهي أكثر إثارة للاهتمام وإن لم تسد الرمق هي الأخرى (حتى فيما يتعلق بالقيم التي بدت آفاقها أفضل لديه) ولعل المشكلة الأكبر مع هذه الاستراتيجية ذات شقين، أحدهما رآه نتشه: فأولاً وكما نوقش سابقاً أنه يستحيل من الناحية النفسية الحفاظ على النسبية وما هو أكثر من ذلك أن الحفاظ عليها ضار. وثانياً إن ظاهرة التنوع العميق في القيم  يتطلب منا اللامبالاة. فمع هذه الاستراتيجية يتبدى لنا بلا شك أنه ما من قيم كونية أو موضوعية، بيد أنها تتركنا مع خيار بديل أفضل من اللامبالاة: أي المحافظة على قيمنا لنحكم على قيم الآخرين وفق رؤيتهم وفقط عبر وعي ذاتي غير كوني وغير موضوعي (” إن حكمي هو حكمي أنا” نتشه) أو بعبارة أقل فردية “إن حكمنا هو حكمنا نحن” ولفظة (نحن) هنا أقل من الكونية.

5- هيردر وحقوق الإنسان

كان القرنان المنصرمان، السابع عشر والثامن عشر، بمثابة عصر عظيم لمفاهيم ” الحقوق ” بشكل عام و”حقوق الإنسان” على نحو أخص (وفق صيغة حقوق ” كل البشر”، ” les droits de l’homme”) وانظر على سبيل العينة: وثيقة الحقوق الإنجليزية (1689) وإعلان الاستقلال الأمريكي (1776) والدستور (1787-1789) وأيضاً وثيقة الحقوق (1791) و إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي (1789).

هيردر ذو التعليم الراقي بزمنه، والمتعاطف مع الثورتين الأمريكية والفرنسية، كان بالتأكيد متآلفاً مع مفهوم حقوق الإنسان، أو بالألمانية Menschenrechteوالذي كان موقفه فيه على كل حال متذبذباً. لهذا فمن يقرأ كتابيه المتعلقين بهذا الموضوع فكرياً وزمنياً أي “أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” 1784-1791 و “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” 1793-1797 يبدو الأمر فيه هكذا: فمن ناحية يتعاطف هيردر كثيراً مع الثورتين الأمريكية والفرنسية، ويتبنى “الإنسانية” كمثال أعلى أخلاقياً وسياسياً، ويكتب طبقاً لذلك بشكل مطول وبعاطفة جياشة ضد الاستبداد والامبريالية والحرب وكل أنواع الأذى والاضطهاد واستغلال الإنسان لإنسان آخر، ثم في كتابه غير المكتمل ” الأفكار “يهاجم الكنيسة الكاثوليكية وتاريخها في انتهاك هذه القيم، وقد كان يخطط لإنهاء الكتاب بالإشارة إلى الإصلاح البروتستانتي على النقيض وتمهيده لظهور وثيقة الحقوق الإنجليزية. أما من الناحية الثانية فيتجنب هيردر وبشكل واضح استخدام المصطلحات القائمة والجاهزة كمفهوم “حقوق الإنسان” وذلك بغية إيضاح ماهيتها؛ فهو من جهة يلتزم وبحماس مع المعايير الجوهرية لمفهوم “حقوق الإنسان” ولكن من جهة أخرى لديه شكوكه حيال المفهوم نفسه.

إن هذا التذبذب مثير للانتباه، لا بسبب السرد والتاريخ فحسب ولكن لأنه الأمر الذي يجدر بنا مشاركته مع هيردر. ما هي الأسباب – أو على الأقل الاحتمالات- التي تقف خلف ارتياب هيردر بهذا المفهوم ؟ (بما إنه لا يفصح كثيراً عن هذا الأمر).

هناك مجموعة من الهواجس التي انهمك بها هيردر وتخص مفهوم ” حقوق الإنسان ” ومنها ما يتعلق بالارتباط الجوهري بين هذا المفهوم، ومفهوم القانون. ساد التصور في القرن الثامن عشر عن حقوق الإنسان وانتماؤها للنظام الإلهي أو الطبيعي، فالقانون يتم تصوره كمجموعة من المعايير الكونية التي أرساها الإله أو تم ترسيخها في النظام الطبيعي بطريقة أو بأخرى. فمثلاً كان كتاب إعلان الاستقلال الأمريكي قد تبنوا كلا الأمرين، في حين أهمل كتاب إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الإله واحتكموا إلى القانون الطبيعي وحده. وفوق ذلك فإن مفهوم حقوق الإنسان قد برز أواخر القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر وسط سياق القانون الوضعي خصوصاً، ووسط سياق التأطير لقانون دستوري جديد. إن وثيقة الحقوق الإنجليزية، وإعلان الاستقلال الأمريكي، والدستور الأمريكي مع وثيقة الحقوق الملحقة به، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، قد أبرزت جميعها هذه السمة.

ما من ريب أن الترابط الجوهري بين مفهوم حقوق الإنسان ومفهوم القانون كان واضحاً لدى هيردر، لا بسبب التاريخ الذي تم ذكره فحسب ولكن بسبب المعنى الألماني لكلمة حق Reicht التي تعني أيضاً القانون law وكذلك في الكلمة الفرنسية للحق droit وتعني القانون هي الأخرى.

وفيما أعتقده أن هيردر يرفض كل مفهوم قانوني عن ” حقوق الإنسان ” من حيث المبدأ، ولننظر أولاً نحو تصور حقوق الإنسان وأنها قانون إلهي أو قانون طبيعي. سيرفض هيردر استنباط الحقوق مباشرة من القانون الإلهي لأسباب تماثل رفضه نسبة اللغة أو أية ظواهر طبيعية أخرى إلى الإله مباشرة. ماذا عن مفهوم حقوق الإنسان كقانون طبيعي؟ سيمتعض هيردر على حد سواء حين ينظر إلى الحقوق بوصفها قانوناً. مضى فريدريش ماينيكه في كتابه الشهير “التاريخانية: صعود المنظور التاريخي” ([1936] 1972) في وصف إطاحة هيردر بمفهوم القانون الطبيعي بأنه أحد أعظم منجزاته الفلسفية (ومن ثم فقد بشّر بتاريخانية جديدة تخص القيم). التقطت قراءة ماينيكه أهم أفكار هيردر وأكثرها أصالة وقيمة وتأثيراً، وهي أفكار سادت في أعماله مثل “حول تغير الذائقة” (1766) و” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” (1774) وأجزاء كثيرة من “رسائل نحو تقدم الإنسانية” (1793-1797). حاجج هيردر وبحدة عبر هذه الموجة من أفكاره ضد تقليد القانون الطبيعي والقائل بأن كل القيم الأخلاقية (وكذلك القيم الجمالية والائتمانية) هي كالتالي: (1) إنها قيم متنوعة بعمق بين الحقب والثقافات ونوعاً ما بالنسبة للأفراد من نفس الحقبة والثقافة. (2) ثمة تنوع كبير في العواطف الأخلاقية (لا يحدث ذلك عبر الأوامر الإلهية أو بنية معيارية مستمدة من الطبيعة).

سيظل هيردر متشككاً حيال مفهوم حقوق الإنسان كقانون إلهي أو طبيعي، كما ستتساوى لديه الشكوك تجاه التقارب التقليدي بينهما مع القانون الوضعي هو الآخر. لماذا؟ إن السبب الأهم لدى هيردر هو أن القانون الوضعي يختلف عن الأخلاق كظاهرة عميقة مع ضرورة أن يتقيد بها، وإن المثل التي يتضمنها حقل ” حقوق الإنسان ” تنتمي إلى المستوى العميق من الأخلاق. ووضح هيردر هذا الموقف في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” حيث ناقش القضية واتصالها بقوانين الرومان وأخلاقهم، مستنتجاً الآتي:

" علينا أن نتبنى مفهوم الإغريق والرومان عن الأخلاق، فإن حقوق الإنسان Menschenrecht تصيبنا بالقشعريرة" (G7:151–3).

أخيراً وبينما لا يذهب هيردر بعيداً للحد الذي ينفي فيه مشروعية استكمال المثل الأخلاقية في مجال حقوق الإنسان وتأطيرها بالقانون، فإنه مع ذلك يقلق حيال هذا التقنين وإضعافه لحقوق الإنسان بطرق شتى، وقد تضمنت “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” هذا القلق حيث عارض هيردر الأخلاق البسيطة للقبائل الجرمانية مفضلاً عليها القانون الروماني المعقد والذي جاء بعدها.

لهذه الأسباب جميعها يحاول هيردر العثور على المثل الأخلاقية الجوهرية التي تحكم التعامل المحترم بين الكائنات البشرية، كما يشارك هيردر – في الأساس – أبطال ” حقوق الإنسان ” وفق مفهوم ” حقوق الإنسان ” رغم مضامينه القانونية المضللة، وعِوضاً عنه يفضل هيردر بلا تردد المفهوم الأخلاقي لـ”الإنسانية”.

قد يبدو مثيراً للجدل نقد هيردر لمفاهيم ” حقوق الإنسان ” وكونها إلهية أو قانوناً طبيعياً، ويأتي نقده لهذه المفاهيم بحكم الترابط الحميمي بينها وبين القانون الوضعي، وهو نقد له وجاهته، فيفرض هذا الأمر مشكلة مصيرية أو حتى مهلِكة لمفهوم ” حقوق الإنسان ” بالنظر لترابطه المفهومي الوثيق مع القانون. فلهيردر مخاوفه العديدة والمحتملة تجاه مفهوم ” حقوق الإنسان ” الذي أدى به لتفضيل مثاله الخاص عن الإنسانية. إن مفهوم ” الحقوق” يتضمن في جوهره مفهوم ” نيل ” الحقوق، ومن ثم يستجلب معه ترابطاً مفهومياً مع المؤسسة القانونية للمِلكية. ومن منظور مسيحي/ يساري كما هو حال هيردر فإن هذا الانسجام المفهومي مع المِلكية سيحتم رفض هيردر له.

وما هو أكثر من ذلك أن مفهوم ” حقوق الإنسان ” يتجاهل – أو ربما يهدم – حِمايات أخلاقية أخرى وهامة. فمنذ ظهور هذا المفهوم وحتى اليوم تم توجيه هذا المفهوم وبشكل أساسي لحماية الأفراد من أذى حكوماتهم. يعتقد هيردر وبجدية أن هذا هام للغاية. لكن يهتم بالقدر نفسه بحماية الأفراد من الأذى الوافد من الخارج كالحرب، والإمبريالية، والاستعمار، والاستعباد، والاستغلال الاقتصادي، وهلم جرا. لهذا فمفهوم ” حقوق الإنسان ” يبقى ناقصاً في أفضل حالاته، وما هو أسوأ أنه يتعرض لإساءة الاستخدام بشكل خطر وضار: فهو مفهوم جاهز لتشتيت الانتباه عن صنوف إيذاء الناس من قبل قوى خارجية كما هو حال الحرب والإمبريالية، بل ويصل الأمر لتأمينه المشروعية الأيديولوجية للمعتدين، فألّف هيردر وبهذه الروح كتابه ” نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني”.

"إن الثوب العالمي للفلسفة ومحبة الإنسانية قد يخبآن الاضطهاد والعدوان ضد الحقيقة وضد الحرية الشخصية للبشر والأراضي والمواطنين والناس، أي تماماً كما يتمناه قيصر بورجيا " (HPW 351).

ثمة ما يلفت الانتباه في منظور هيردر الأخلاقي، فتعاطفه من هذه الناحية يمتد لما هو أبعد من البشر ليشمل الحيوانات هي الأخرى، وإن رجلاً يتبنى هذا الموقف سينظر بعين الريبة نحو مفهوم ” حقوق الإنسان”.

أخيراً فإن لهيردر مصادره في تغذية اعتراضاته الإضافية على مفهوم ” حقوق الإنسان ” والتي تتقارب مع اعتراضاته السابقة؛ ففي مواضع عدة من كتابه  “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” يقدم هيردر مفهوماً مقنعاً في أن الحقوق تستلزم الواجبات، ولا يحدث ذلك ضمن منطق أن حق أحدهم هو واجب الطرف الآخر على الدوام، وإنما أيضاً ضمن منطق أن الأفراد الذين ترتبط بهم الواجبات والتي يأخذونها على محمل الجد، وحدهم من يملكون الحقوق. إن هذا المفهوم وبلا شك يملك منطقيته في السياق القانوني لمفهوم ” حقوق الإنسان ” المستنبط منه. لكن ثمة نتائج مؤسفة للغاية حين ينتقل المفهوم إلى الفضاء الأخلاقي في صيغة تعاليم ” حقوق الإنسان “. فإن من شأن ذلك توسيع نطاق الحماية الأخلاقية نحو أفراد لا يملكون هذه الحقوق ولا يبلغون ما يتعلق بها من واجبات، فالأخلاق في ثقافتهم قد لا تتضمن الالتزام بحقوق الإنسان، أو لأنهم قاصرون أو معاقون عقلياً، وهذا ما قد يوقع في فوضى المفاهيم.

هذه إذن أسباب إضافية (أو حتى أسباب محتملة) خلف إعراض هيردر عن مفهوم ” حقوق الإنسان ” وتفضيله لمفهوم ” الإنسانية ” بديلاً عنه.

6- علمانية هيردر

يمكن النظر في علمانية هيردر من خلال مقارنته مع إرنستي Ernesti (أهم علماء الإنجيل ممن سبق ذكرهم، وأكثر من نال تقدير هيردر). كان كتاب إرنستي العظيم ” التفسير التقليدي للعهد الجديد “ Institutio interpretis Novi Testamenti (1761) والذي حظي بثناء خاص من هيردر، هو البيان الرئيسي للعلمانية موضع السؤال هنا. يبدو هذا العمل، في البداية، مؤيداً للعلمانية وبشكل يتطابق مع روح هيردر، ويحاجج في وجوب تفسير الكتب الإنجيلية بنفس الطريقة التي تفسر بها النصوص الدنيوية، بالتالي يمكن تعلم أية حقيقة دينية تتضمنها. وعلى كل حال كان الكتاب كلما تقدم يزداد غموضاً.  

من المهم أن نميز بهذا الصدد بين سؤالين يمكن طرحهما بخصوص العلاقة بين الإلهام المقدس والتفسير: (1) هل يمكن لقراء النصوص المقدسة أن يعتمدوا على إلهام مقدس يخصهم (مثل روح القدس) الذي يمنحهم التفسير السليم بدلاً من الطرائق المألوفة للتفسير؟ (2) هل يمكن للقراء أن يفترضوا في تفسيراتهم أن  كتاب النصوص الذين تلهمهم القداسة هم محقون على الدوام ومتسقون مع أنفسهم؟ لقد اتضح – حين طور إرنستي تفاصيل موقفه – أنه قد مضى للأمام نحو العلمانية وذلك بالإجابة على السؤال (1) بالنفي وليس السؤال (2) وفشله في النفي للسؤال (2) أوقعه في تناقض فج مع التزامه الرئيسي في تفسير النصوص المقدسة بنفس الطريقة التي تفسر بها النصوص الدنيوية (بالتأكيد وكما تضمنت أفكاره تفسير النصوص الدنيوية وإمكانية عدم افتراض صحة النصوص بالكامل وعدم اشتراط تماسكها) ومما يبدو أنه لا يمكن الدفاع بشتى الطرق عن الكتاب المقدس، وأن يرفض التزييف الذي يهدف إلى الدفاع عنه في التفسير. أما هيردر الشاب فكان على نقيض ذلك متقدماً أبعد من إرنستي في العلمانية، لأنه أجاب على السؤالين بالنفي المستمر، ومن ثم، بخلاف إرنستي، قد ظفر بموقف متماسك يمكن الدفاع عنه. وما هو أكثر من ذلك أن تفسيرات هيردر للإنجيل تتوافق مع موقفه النظري بشكل يدعو للإعجاب، لا من ناحية رفض الاعتماد على الإلهام المقدس واستبداله بالتقنيات التأويلية العادية فحسب، ولكن أيضاً من خلال وصفه المستمر لمواقف الإنجيل بالهشاشة والزيف (أي العهد القديم والعهد الجديد على السواء).

7- تأثير هيردر

لنبدأ أولاً مع ما ذكر في السابق، وهو أن هيردر من أرسى أطروحتين كبريين أسستا الفلسفة الحديثة للغة (وليس هامان Hamman كما افترض كثيرون). أي الأطروحة القائلة باعتماد الفكر التام على اللغة وتقيّده بها، وأطروحة المعنى وتكوّنه من خلال الممارسة اللغوية. إن هيردر من خلال هاتين الأطروحتين في فلسفة اللغة (بالإضافة لأطروحة ثالثة) يداً بيد مع إدراكه الثوري للاختلاف العقلي الجذري بين الأفراد، قد أسس نظرية التأويل الحديثة أو ” الهرمونيطيقا ” والتي أخذ بها شلايرماخر في محاضراته الشهيرة في هذا الباب، وهي النظرية التي أعيدت صياغتها بشكل منهجي من قبل تلميذه بوك Boeckh. إن هيردر هو من أسهم بشكل جوهري في تأسيس الأصول المنهجية للدراسات الكلاسيكية الألمانية في القرن التاسع عشر (وقد استندت على منهجية شلايرماخر وبوك) وهذا ما مكّن من إنجاح هذا الحقل من الدراسات وما تلاها من مناهج ودراسات كلاسيكية أخرى. إن هيردر ومن خلال نظريته الجديدة في التأويل واكتشافاته التفسيرية الدقيقة في الإنجيل، هو من أسهم بشكل جوهري في تطور الدراسات الإنجيلية الحديثة. إن هيردر بتعرفه على خاصية تشابه الفنون المرئية مع النصوص، والمبادئ الملائمة لتأويل هذا النوع من الفن، قد مكّن من تطور تأريخ الفن الحديث. إن هيردر مرة أخرى، وعلى أساس فلسفته الجديدة في اللغة بجانب إدراكه للاختلاف العقلي الجذري، قد طور أولاً النظرية الثورية الجديدة في ” تغريب ” الترجمة foreignizing التي أثرت لا في نظرية الترجمة وحدها وإنما تطبيقات الترجمة أيضاً، وهي نظرية لا تزال بارزة حتى اليوم (مثال ذلك في عمل أنطوان بيرمان Antoine Berman). إن هيردر وعبر أطروحاته في فلسفة اللغة واكتشافه للتنوع العميق في الفكر واللغة عبر الحقب التاريخية المختلفة والثقافات، وبإدراكه للدور المحوري للنحو في اللغة ومدى التنوع العميق في البنى النحوية للغة، ومنهجه التجريبي في البحث في اللغات وتمكينها لأنماط التفكير المختلفة، قد ألهم فريدريش شليجل وفلهلم فون همبولت وآخرون في تأسيس اللغويات الحديثة. إن هيردر بفلسفته الجديدة عن اللغة ونظريته في التأويل مع إسهامات أخرى مهمة، قد أنجز أكثر من غيره في تأسيس النظام المعرفي الحديث للأنثروبولوجيا الثقافية.

إن تأثير هيردر هائل على المفكرين من ذوي القامة الرفيعة. مثل جوته الذي تحول من مجرد شاعر موهوب وتقليدي في سنواته الأولى إلى فنان عظيم بفضل التأثير المستمر والمبكر لأفكار هيردر عليه. يرجع ذلك على وجه التحديد إلى اللقاء الأول بينهما في ستراتسبورج سنة 1770 وعبر صداقة امتدت لعقود عديدة كان هيردر فيها سبباً في تنامي التزام جوته بالواحدية الاسبينوزية جنباً إلى جنب مع شغفه بالعلوم الطبيعية، ثم ابتعد جوته عن الشكلانية المحافظة في شعره المبكر واتجه نحو شعر الطبيعة والإحساس (يرتبط هذا البرنامج خصوصاً بفكر هيردر في تلك الحقبة أثناء لقائهما الأول مطلع السبعينات من القرن الثامن عشر) ويشتمل على محبة هوميروس، والتراجيديا القديمة، وشكسبير، وأوسيان Ossian وأن تؤخذ قصص الناس العاديين في الاعتبار، وأن يلتَزم بالعولمة، وأن يهتَم بالأدب العالمي، وبالتأكيد فقد تطورت شخصية فاوست Faust عبر المسرحية التي تحمل نفس الاسم وصممت بشكل كبير على غرار شخصية هيردر.

أثر هيردر بصورة عميقة على نتشه، يصدق ذلك على فلسفة اللغة لدى نتشه التي كتب عنها في العلم المرح (1882-1887) ومواضع أخرى، حيث تبنى نتشه نسخة معدلة من موقف هيردر في أن الفكر معتمد على اللغة وبالتالي يعتمد على المجتمع والنفس (مع أن أسلوب نتشه المعتاد يؤكد – على نقيض هيردر- أن ثمة فكرٌ عميق لا يعتمد على اللغة ولا المجتمع) كما تبنى نتشه تصور هيردر حول الطبيعة الرمزية العميقة للغة، على سبيل المثال إسقاط الجنس على العالم (التذكير والتأنيث- المترجم) وذلك في النحو وفي التحولات الإبداعية والفردية الكثيرة، والتي قادتنا من “الشيء” إلى المحفز إلى الفكر ثم اللغة، قارن هنا (نتشه: عن الحقيقة والكذب ضمن منطق أخلاقي عال 1873) مع هيردر (عن الصورة، والشعر، والخرافة). صحيح أن فلسفة العقل عند نتشه تتضمن رفض الثنائية dualism ورفض لكل تقسيم حاد بين المَلَكَات العقلية (لا سيما الإدراك والإرادة أو العواطف) إلا أنها فلسفة تشدد على اللاوعي وتصر على الفردانية النفسانية. كما يصدق على فلسفة نتشه عن التاريخ وما تتضمنه من التزام بالاختلاف الجذري بين العقليات عبر الحقب التاريخية والثقافات والأفراد واستخدامه للمنهج الوراثي بغية تسليط الضوء على المقاربات الحديثة، هي منهجية مشتقة من منهج هيردر الوراثي. كما يصدق على فلسفة نتشه الأخلاقية حيث الصياغة المعقدة للنزعة العاطفية والإصرار على التنوعات التاريخية والثقافية والفردانية والتعارضات في العواطف الأخلاقية وشرحه للأخلاقيات وفق وظائفها في خدمة مجتمعات محددة وأنماط معينة من الحياة، وتطبيقه للمنهج الوراثي. وهذا كله، مستمد من هيردر.

ثمة فلاسفة آخرون ومهمون في القرن التاسع عشر ممن تأثروا بهيردر بصورة عميقة. مثل فلهلم فون هومبولت ودينه الكبير تجاه هيردر في فلسفة اللغة واللسانيات ومثاله عن التعليم Bildung  وفلسفته الليبرالية السياسية. أيضاً يدين دلتاي Dilthey بدينٍ ثقيل لهيردر في مقاربته للتاريخ والعلوم الإنسانية. حتى جون ستيورت مل يدين لهيردر في فلسفته الليبرالية السياسية (بشكل كبير من خلال هومبولت).

وأيما كان الأمر فمن أجل أن نرسم لوحة عن تأثير هيردر الهائل علينا مناقشة جانب مهم من هذا التأثير بتفصيل أكثر: إن دور هيردر الأساسي في تطور الحركات الفلسفية المهيمنة على الفلسفة الألمانية في الجيل الذي تلاه كالرومانسية الألمانية والمثالية المابعد كانطية. لقد أرهص هيردر وبشكل كبير لظهور هاتين الحركتين ولم يكن لهما أن تبرزا من دونه.

 لنبدأ مع الرومانسية الألمانية التي لعب فيها هيردر دوراً جوهرياً من خلال ابتكار فريدريش شليجل  لفكرة ” الرومانسية ” وهي بالأساس نظرية لهيردر عن التبادل التاريخي بين الأجناس الأدبية ومغالطة الحكم على الأعمال الأدبية بقوانين وأغراض تخص جنس أدبي مغاير، وهذا ما طبقه هيردر على وجه التحديد في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية”لا سيما في مسألة الاختلاف بين الشعر القديم والحديث، وهذا ما حفز فريدريش شليجل على قيامه بالمنعطف الشهير نحو تأليف ” دراسة في الشعر اليوناني” (1795-1797) الذي أعلن ميلاد الرومانسية: تلك الانعطافة بدأت من موقف مبدئي للكلاسيكية الجديدة حيث التلهف صوب اللامتناهي، والفردانية، والمزج بين الأجناس الأدبية، وهلم جرا، ليست سوى انتهاكات للمعايير الكلاسيكية، فتغير الموقف واعتبرها تأسيساً لضربٍ جديدٍ من الشعر لا تقل قيمته عن الشعر الكلاسيكي. إن هيردر، بالأخص في “رسائل من أجل تقدم الإنسانية” هو من ساهم بآثارٍ عديدة في تبلور الشعر الرومانسي عند الأخوين شليجل (مثل انصهار التطلع نحو اللامتناهي مع الشوق الغزلي نحو الأنثى المحبوبة، وتعريف الرواية بأنها الجنس الأدبي الأساسي للرومانسية).

لكن إسهام هيردر في الرومانسية الألمانية يذهب لما هو أبعد. أحد الأمثلة المهمة بهذا الصدد يتمثل في الواحدية الاسبينوزية الجديدة للرومانسية وذلك في الميتافيزيقا أو الدين. جاء اعتناق الرومانسية لهذا الموقف وبشكل كبير نتاج تطوير هيردر المسبق لأطروحته في “الإله: شيء من المحادثات” ووفقاً لذلك تبنت الرومانسية تعديلات هيردر لموقف اسبينوزا. ثمة مثال آخر ما تبناه شلايرماخر سالفاً في أواخر التسعينات من القرن السابع عشر من نسخة للواحدية الاسبينوزية في الدين والميتافيزيقا، فتضمن تصور هيردر عن المبدأ الواحد أثناء قيامه بذلك وأنه القوة الأولية (بدلاً من الجوهر).

مثال آخر وهام يقع في فلسفة اللغة، والهرمونيطيقا، ونظرية الترجمة. فقد تبنى شلايرماخر مبادئ هيردر الثورية في هذه الحقول الثلاثة ومثله فعل فريدريش شليجل.

وثمة مثال آخر مهم يقع في فلسفة العقل. فبدأ شلايرماخر في التسعينات من القرن الثامن عشر واستمر حتى محاضراته المتأخرة في علم النفس في تبنى مبادئ هيردر الثلاثة في فلسفة العقل كي يصيغ نواة فلسفته عن العقل: حيث نفي الثنائية لمصلحة واحدية عقلية/فيزيائية غير اختزالية، ونفي كل تمييز حاد بين المعرفة والإرادة، والتواؤم مع صيغة معينة من الحتمية.

وهناك مثال آخر يقع في الجماليات. فكما ذكِر سابقاً كانت محاضرات شلايرماخر عن الجماليات أكثر من مجرد استعادة لنظرية هيردر المنهجية عن الفنون العديدة في الغابات الحرجة. وبالمثل، فإن نظرية فريدريش شليجل عن الفن (بصورة أكثر أهمية) تدين بعمق لهيردر. فعلى سبيل المثال كان شليجل في نظريته عن الفنون الأدبية والفنون غير اللغوية مماثلاً لهيردر. وماهو أكثر من ذلك تبني شليجل لموقف هيردر عن الفنون غير اللغوية وتشابهها مع النصوص، فهي حبلى بالمعاني والأفكار وعليه فإنها تستوجب التأويل. بالتالي فإن المعاني والأفكار تشرح بنهج التعبيرية الضيقة narrow-expressivist وتعتمد بشكل أساسي على لغة الفنان.

أخيراً هناك مثال آخر من الأهمية بمكان ويقع في حقل الأخلاق والفلسفة السياسية، وبالتحديد عند فريدريش شليجل وشلايرماخر، خاصة في مرحلتهما المبكرة والأكثر أهمية، فكلاهما تبنى – على التوالي ولحد معين- التزام هيردر بقيم الفردانية والليبرالية والجمهورية والديمقراطية وذلك في السياسات الداخلية. كما تبنيا العولمة في السياسات الدولية (وهذا يشمل الرفض القوي لكراهية المرأة، ومعاداة السامية، والعنصرية).

وهناك صورة مشابهة لتأثير هيردر الحاسم، تبرز هذه الصورة في الترابط القائم داخل المثالية الألمانية ما بعد الكانطية: أي شيلنج وهيجل. إن تأثير هيردر أساسي بكل تأكيد وحاسم (وهذا بالطبع لا يستثني التعديلات الهامة ووجود التأثيرات الأخرى). يتعلق المثال الأبرز لهذا التأثير في الواحدية الميتافيزيقية لدى شيلنج وهيجل، أي ” المثالية المطلقة” والتي اشتقاها من الواحدية الاسبينوزية الجديدة عند هيردر. كان التزام هيردر بالواحدية الاسبينوزية الجديدة سابقاً بأكثر من عشر سنوات على كتاب Pantheismusstreit وحدة الوجود 1785 بين ياكوبي ومندلسن، ومن ثم فهذا الكتاب دون أدنى شك نتيجة ماكتبه هيردر. وفوق ذلك لم يكن ياكوبي ولا مندلسن مسؤولان عن الموجة العارمة من الحماس تجاه الواحدية الاسبينوزية الجديدة التي ظهرت في الجيل التالي مع الرومانسيين والمثاليين الألمان، وجميعهم كانوا على عداء مع موقف اسبينوزا، لكن بفضل هيردر وحماسه الكبير تجاه اسبينوزا (بجانب رفيقه المتحمس ليسنج وتابِعَه جوته) فتأكد ذلك عبر المراجعات الأساسية لواحدية اسبينوزا والتي تكفل بها هيردر في “الإله: شيء من المحادثات” واستنسِخَت في وقت لاحق عبر صيغ عدة من الواحدية الاسبينوزية الجديدة المحتفى بها من قبل الرومانسيين والمثاليين الألمان.

كانت مراجعات هيردر موضع السؤال هي الآتي: (1) التذويت subjectivizing لمبدأ واحدية اسبينوزا (ينسب هيردر لهذا المبدأ الفكر، والفهم، والإرادة، والمقاصد، وينعته بالروح Giest على نقيض اسبينوزا). (2) ديناميكية المبدأ dynamizing (على الخلاف من اسبينوزا لا ينعت هيردر المبدأ بأنه جوهر لكن بدلاً من ذلك هو قوة Kraft). (3) الترابط الوثيق بين المبادئ (أي العقول المتناهية) كالفكر مع المادة/الامتداد أي ضمن المعنى الذي يدل عليه مفهوم القوة. (4) التحفيز والغائية بالنسبة للقوى سواء في المبدأ الواحدي أو في الطبيعة التي تتحد معه في محصلة الأمر. (5) الانحدار الأنطولوجي ontological demoting لا بالنسبة للزمان فحسب ولكن حتى للمكان نحو رتبة المظهر المحض (خفّض اسبينوزا من الزمان لا المكان).

مع هذه الصورة الواسعة أمامنا سنكون في موضع نناقش فيه تأثير هيردر على شيلنج وهيجل مع شيء من التفصيل. بدأ انشغال شيلنج بأفكار هيردر منذ عهد مبكر، ففي أطروحته للماجستير De prima malorum origine “حول أقدم الأصول للإنسان” عام 1792 عالج فيها شيلنج التأويل الميثولوجي لسفر التكوين في مقالة هيردر “أقدم مستند عن الجنس البشري” 1774 -1776 وكذلك مقالته “عن الشعر، والأساطير التاريخية، وفلسفة العالم الأقدم” 1792-1793 حيث طور شيلنج نظريته عن الميثولوجيا مستلهماً إياها من هيردر وبمعونة ما كتبه هيردر في “مقالة في أصل اللغة” و “الأفكار”.

لكن أثر هيردر الأهم على شيلنج يرتبط بالظهور المتأخر لواحدية شيلنج المثالية والمطلقة وفلسفته في الطبيعة. ومنذ كتابه “عن الأنا بوصفه مبدأ الفلسفة، أو اللامشروط في المعرفة الإنسانية “ وكذلك في “رسائل فلسفية عن الدوجمائية والنقد “(كلاهما عام 1795) كان شيلنج متبنياً لنسخة هيردر المراجَعَة للواحدية الاسبينوزية (مع أنه يسقط ذكر هيردر ويرفض اسبينوزا علانية). على وجه التحديد، كان شيلنج قد أدمج المراجعة (1) خلال المراجعة (4) وفيما يتعلق بالمراجعة (5) أي الانحدار الأنطولوجي للزمان والمكان فإن شيلنج على الأقل قد ركز على الانحدار الأنطولوجي للزمان.

في كتابه “أفكار من أجل فلسفة الطبيعة” عام 1797 (ولنلاحظ صدى هيردر في العنوان: أفكار من أجل فلسفة التاريخ الإنساني) وكذلك في كتابه “عن روح العالم” 1798 يتبنى شيلنج بواكير فلسفة طبيعية كان هيردر قد رسم ملامحها في بداية كتابه “أفكار” وخاصة في خاتمة كتابه “الإله: شيء من المحادثات”. كان شيلنج على وجه التحديد معتنقاً ومطوراً لنموذج هيردر عن النظام التراتبي للقوى الحيوية (في المغناطيس على سبيل المثال، وفي الكهرباء، والجذب والتنافر) وهي قوى تصعد نحو ضرب من التوازن والنظام بحيث تستقر في روحٍ مطلقة. أصبحت مقاربتا شيلنج لنظريات هيردر المذكورة آنفاً ذواتا مكونات مركزية في “فلسفة الهوية” الاسبينوزية والتي بدأ شيلنج في إجلالها مطلع القرن، وأثرت لاحقاً وبقوة على هيجل.

أما أثر هيردر على هيجل فهو أعمق وأكثر كثافة. ومثل شيلنج فإن هيجل اشتهر بخوضه مرحلة لاهوتية وميثولوجية في التسعينات من القرن الثامن عشر، كانت أفكار هيردر وقتئذٍ تمارس تأثيرها عليه. عندما انتقل هيجل إلى يينا عام 1800 واستهل مشواره الفلسفي، كان قد استبقى على جزء كبير من تلك الأفكار الهيردرية، وما هو أكثر من ذلك أنه مضى نحو أفكار بعيدة لهيردر (وكثيراً ما عمل على تنقيحها بكل تأكيد).

اعتنق هيجل الواحدية الاسبينوزية الجديدة لهيردر، وذلك على نحو مباشر وغير مباشر. أولاً: تبنى هيجل تصور الاسبينوزية الهيردرية الجديدة عن الإله بوصفه روحاً [Geist] بطريقة مباشرة، بدايةً في الإضافات الأخيرة لـ ” إيجابية الدين المسيحي” 1795-1796 ثم بشكل أكثر توكيداً في “روح المسيحية ومصيرها” 1798- 1800. يتعاطى الكتابان مع أسئلة تتمحور عن أصول وخصائص اليهودية والمسيحية واللتان كانتا الموضوع الرئيسي لهيردر، وبالتالي فقد ترك هيردر تأثيره القوي عليه (والذي ذكره هيجل بالاسم). كان تأثير تصور الروح في الواحدية الاسبينوزية الجديدة لهيردر جزءاً من تأثيره الواسع. ثانياً: عندما ارتحل هيجل إلى يينا مطلع القرن، كان قد تبنى ضرباً من التأليف بين هذه الواحدية الدينية مع “فلسفة الهوية” لصديقه شيلنج، وهذا يشمل فلسفته للطبيعة، والتي تضمنت تأثير هيردر غير المباشر هي الأخرى. كافح هيجل إبان السنوات اللاحقة لإنقاذ الذاتية subjectivity المرتبطة بمبدأ الواحدية، والذي كان مفقوداً لدى شيلنج خلال تطويره لـ ” فلسفة الهوية” وبالطبع أكد هيجل على الذاتية بمرور الوقت وبصورة متزايدة (انظر على سبيل المثال: مقدمة  فينمنولوجيا الروح لهيجلPhenomenology of Spirit) 1807 إذ أصر هيجل على أن الجوهر لدى اسبينوزا تنقصه الذاتية التي يجب أن تتمه). كانت محصلة ذلك عند هيجل نسخة من الواحدية الاسبينوزية تكاد تتطابق مع هيردر، وعلى وجه التحديد صيغة تحتوي على مراجعات هيردر (1) و (5) وهذه الأخيرة خصوصاً جاءت في تأويل هيجل الشهير أثناء دفاعه عن واحدية اسبينوزا بوصفها صيغة أحادية acosmism.

لكن أثر هيردر على لا يمتد إلى واحدية هيجل فحسب وفلسفة الطبيعة، وإنما يبلغ سلسلة كاملة من الحقول الأخرى لفلسفة هيجل (حقول لعلها تحيا اليوم أكثر من الواحدية وفلسفة الطبيعة).

أولاً: لقد طور هيجل تصوره في الانتقال من الطبيعة إلى العقل (الإنساني) أثناء مراجعة وتأمل موقف هيردر. في كتاب “أفكار عن فلسفة التاريخ الإنساني” حاجج هيردر بشأن الكائنات البشرية وأنها (أ) تظهِر استمرارية نشطة في “عالم الحيوان” (ويصف الحيوان بأنه أخ البشر الأكبر) لكن (ب) يتميز البشر عن الحيوانات بامتلاكهم للروح، ومن ثم تأسيسهم لـ”عالم الروح” المتميز. وكما نلاحظ من عنوان الفصل الساخر في فينمنولوجيا الروح وهو “عالم الروح الحيواني” ومثله نصٌّ في كتابه المتأخر “العقل في التاريخ” (المنشور بعد وفاة هيجل سنة 1837) يرفض هيجل (أ) ولكنه يقبل (ب) وهذا ما أنتج تصوره المنهجي عن الانتقال من الطبيعة إلى الروح (الإنسانية).

ثانياً: مارس هيردر تأثيره القوي على فلسفة هيجل في الروح الإنسانية، أو العقل نفسه. فمثلاً كانت معارضة هيردر للمعادلة الثنائية للعقل الإنساني من خلال (القوة) وذلك في كتاب “حول المعرفة والإحساس” والذي تلقفه هيجل مبدئياً في مطلع القرن، ثم عرّضه هيجل لمراجعة دقيقة. وكما رأينا سالفاً، افترض هيجل مسبقاً التصور الواقعي للقوة بشكل عام، وهي في ماهيتها لا تقبل الاختزال بحكم احتوائها للتجاوب في السلوك الفيزيائي. وأيّما كان الأمر فإن هيجل في مرحلة يينا (1801-1807) كان قد نقد هذا التصور الواقعي للقوة واستبدله بتصور معارض للواقعية  يختزل القوة في التجاوب السلوكي الفيزيائي. قادت هذه المراجعة هيجل وبشكل تلقائي نحو تشخيص مباشر للعقل على وجه التحديد مع التجاوب السلوكي الفيزيائي، ومن ثم إلى صيغة أقوى من معارضة الثنائية التي مجَّدها هيردر. لقد كان رفض هيردر للتقسيم الحاد والسريع بين المَلَكات العقلية في كتابه “حول المعرفة والإحساس” ومن أمثلة ذلك رفضه الفصل بين المعرفة والإحساس أو بين المعرفة والإرادة، وهو ما قاد إلى رفض مشابه لهذا الفصل الصارم والسريع لدى هيجل.

ثالثاً: مارس هيردر تأثيراً قوياً على فلسفة هيجل في اللغة. يتضح هذا التأثير على وجه التقريب في كافة مراحل هيجل لكن يتسيد بوجه خاص في “فينمنولوجيا الروح” حيث تكاد تدين فلسفة هيجل اللغوية بالكامل لهيردر وتتفق معه. ولنضرب بعض الأمثلة القليلة: (1) كما رأينا في السابق، كان هيردر في أعماله المبكرة لا سيما في “فهم العديد من اللغات المعلومة” و “الشذرات” يمجّد التعاليم القائلة بأن الفكر يعتمد بشكل جوهري على اللغة ويتقيد بها. في فصول من “فينمنولوجيا الروح” مثل: “اليقين الحسي” و ” علم فراسة الدماغ” و “صانع الأثر” بجانب أعمال أخرى من مرحلة يينا، اعتنق هيجل نفس الأفكار (بالإضافة للتصور القائل بأن اللغات الشفوية أكثر رسوخاً من اللغات المكتوبة). (2) لقد أجلَّ هيردر وبالأخص في كتابه “عن المعرفة والإحساس” النظرية القائلة بأن اللغة والفكر عالة على المجتمع اللغوي: يلعب هذا الموقف دوراً محورياً في “فينمنولوجيا الروح” لهيجل وكذلك في أعماله الأخرى. (3) في مقالة هيردر “عن أصل اللغات” حاجج هيردر بأن العقل الإنساني يعتمد – برمّته – على الفكر، ومن ثم سيعتمد على اللغة، وسيحتويهما بحميمية. وبشكل مماثل في “فينمنولوجيا الروح” يشخص هيجل اللغة بأنها “الإنية Dasein” للذات أو العقل، ويستمر في تمجيد التصور الهيردري وبقوة حتى فترة كتابته لمقدمة الطبعة الثانية من “علم المنطق”1832. (4) بالتوافق مع هذا الموقف، يمجد هيردر أطروحة كتابه “عن المعرفة والإحساس” والقائلة بأن اللغة والفكر لا يعتمدان وحدهما على المجتمع اللغوي وإنما الذات أيضاً. وهي أطروحة لعبت دورها المحوري في “فينمنولوجيا الروح” لهيجل.

رابعاً: مارس هيردر تأثيراً بالغاً على فلسفة التاريخ عند هيجل، ويمكن تمييز بعض المكوّنات من هذا التأثير وفق الآتي: (1) حاجج هيردر في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” بأن للتاريخ دورته الضرورية كي تحقق الغاية النهائية، ثم توصل إلى هذه الغاية في كتاب “أفكار في فلسفة التاريخ الإنساني” وتتمثل بإدراك (الإنسانية) أو العقل. في “فينمنولوجيا الروح” لهيجل ومحاضراته في فلسفة التاريخ، يتبنى هيجل هذا الموقف ويمضي في تطويره نحو ما هو أبعد. (2) في “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” على نحو خاص، يشدد هيردر على أن الروح الإنسانية، أو العقل، يتغيران على نحو عميق خلال دورة التاريخ. يتبنى هيجل هذا الموقف هو الآخر لا سيما في “فينمنولوجيا الروح” وفي أعماله الأخرى المرتبطة بالتاريخ. (3) في كتاب “محاولة لتأريخ الشعر الغنائي” 1774 وفي “الشذرات” 1767-1768 وفي “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتكوين الإنساني” 1774 يطور هيردر منهجه الوراثي الذي يسعى إلى تفسير الظواهر العقلية والروحية ضمن تطوراتها المتدرجة ووفق مراحلها التاريخية وأصولها المبكرة. تبنى هيجل لاحقاً هذه المنهجية وبالأخص في “فينمنولوجيا الروح” (إذ ناقش هيجل ذلك في المقدمة). (4) أخيراً وفي كتاب “نحو فلسفة تاريخ تهتم بالتاريخ الإنساني” يتوسع هيردر في تطبيق مفهومه حول التكوين Bildung منتقلاً به من استخدامه العادي المرتبط بالأفراد والتعليم إلى البشرية وتطورها الذاتي بوصفها كلية. وتبنى هيجل هذا التطبيق الواسع للمفهوم التكويني في “فينمنولوجيا الروح” (وهذه القائمة من ديون هيجل لهيردر هي للتمثيل وليست للحصر أبداً).

باختصار، وبالنظر للطرق العديدة التي مارس فيها هيردر تأثيره العميق على من تلاه، فإنه قد فعل ذلك على وجه التحديد عبر إتاحة الإمكان وزرع البذور للحركات الفلسفية التي ظهرت في ألمانيا من بعده وفي الجيل اللاحق له؛ أي جيل الرومانسية الألمانية والمثالية ما بعد الكانطية.

لماذا تلقى هيردر القليل من تقدير الجمهور رغم منجزاته الهائلة؟ يرجع السبب الأكبر إلى مطلع القرن التاسع عشر وكون هيردر لا يهادن، وصاحب عقل مستقل وروح نقدية استنفرت ضدها أكبر قوتين فكريتين في ألمانيا آنذاك: أي كانط وفيشته وأتباعهما (بسبب نقده اللاذع والعلني لأفكارهما الفلسفية) وجوته وشيلر ومعجبيهما (بسبب نقده لقيمهما وشعرهما). لهذا لم يكن لأحدهم أن يبدي اهتمامه العلمي في تقدير هيردر علنياً أو الثناء على منجزاته بل لعل ما حدث هو العكس، بالرغم من أن ثراء هيردر خليق بكل هذا الاحتفاء.