مجلة حكمة
يوجين ثاكر

أفكار مروعة: الفيلسوف يوجين ثاكر عن “العصر الذهبي  الجديد للرعب”

حاورهدانييل بيتي غارسيا
ترجمةعلاء عمر النجار

مقدمة المحاور

عندما دعا رينيه ديكارت، وهو جالس على مقعده بلايدن سنة 1641، قُراءه إلى التأمل برفقته، فإنك تدرك بأنه بمكنته القيام بذلك مرفوقا بصحبة. لقد اُعتبرت “التأملات” النص التأسيسي للفلسفة العقلانية، غير أنه ومن خلال قراءة سيكولوجية لل”الشك الجذري” الذي يلحق به، يصير المحرك الأساس لمشروع ديكارت هو البارانويا ]جنون الاضطهاد[. الرجال الذي يرتدون عباءات في الفناء قد يكونون مجرد روبوتات، وحواسه ]ديكارت[ خادعة، ثم هذا الأمر الأكثر شهرة: كل شيء عبارة عن حلم لا يمكن التخلص منه إلا بالاستيقاظ. يُتوَّج كل هذا بتجربة فكرية يتساءل فيها ديكارت عما إذا كان مخدوعا من طرف كائن شيطاني شرير، تلك الشخصية التي يقتبسها من اللاهوت، وإن كنا اليوم نميل أكثر إلى ربطها بأدب الرعب.

لقد وُلدت الفلسفة الحديثة في  مواجهة مع ]تجربة[ الرعب. لم يكن القصد من وراء شيطان ديكارت تقديم معضلة من معضلات سحل الدماغ، بل يتعلق الأمر بهذه الفكرة التي سرعان ما تجد نفسها تتحرك ضدا على حدودها الخاصة، وبأن تجربة ]كهذه[ هي بشكل ما تجربة مروعة.

في ثلاثيته الحاملة لاسم ‘رعب الفلسفة’، لا يقف الفيلسوف والباحث الأكاديمي في نظريات الإعلام، يوجين ثاكر Eugene Thacker عند حدود الكشف عن الطبيعة المرعبة للفلسفة، بل يتخطاها للكشف أيضا عن الطبيعة الفلسفية للرعب. يعتقد ثاكر بأن حكايات الأدب القوطي وإيقاعات ال”كراوندهاوس” لا تقف عند كونها مخيفة فحسب؛ بل بإمكانها مساعدتنا على التساؤل عن حدود المعرفة الإنسانية، وحدود تجربتنا، وذاتيتنا. خذ هذه السطور الأولى من قصة لافكرافت H.P.Lovecraft الشهيرة ]قصة نداء كثولو –  [The Call of Cthulho  التي يقول فيها: “أعتقد أن أكثر الأشياء رحمة هي عجز العقل البشري عن الإلمام بمكونات الكون. نحن نعيش في جزيرة هادئة من الجهل، وسط بحار سود من اللانهائية، وقد كُتب علينا ألا نبحر بعيدًا”. بالنسبة لثاكر، فـ”نداء كثولو”(1928) الذي لا يقل في شيء عن نقد كانط (1781)؛ هو تأمل في التناهي البشري.

في وقت سابق من هذا الشهر، طلبت من ثاكر أن يشرح هذا التداخل المزعج ]بين الرعب والفلسفة[، وما إذا كان الرعب قد دخل حقا عصرا ذهبيا جديدا، وما يعتقده حول القائلين بالأنثروبوسين، وبالتأكيد الحصول على جديده مؤخرا. (…)

دانييل بيتي غارسيا: لعلنا نستطيع البدء بالحديث قليلا حول ما تعنيه عندما تتحدث عن الرعب.

يوجين ثاكر: لطالما كنت مهتما بذلك الطراز من الرعب الذي يدور حول خلق مزاج أو جو معين، أكثر من ذاك الذي يقدم قصة ما، إنه الطراز الذي يكون مدفوعا بفكرة أكثر منه بالقصة. كُتاب “الرعب الكوني” ]جنس معين من أدب الرعب[ من قبيل هـ.ب. لافكرافت، هم أقل اهتماما بصدمك من محاولتهم وضعك على التخوم الفاصلة بين الطبيعي والخارق للطبيعة، أو حدود قدرتنا على معرفة الأشياء عن العالم وعن موقعنا داخله.

في منجزك تبدو خاصية حدود الفهم هذه في مواجهة العالم اللا-إنساني، هي صلة الوصل بين الرعب والفلسفة.

يوجين ثاكر: ثمة ترابط قوي بين هذا الطراز من الرعب الكوني وبعض الفلاسفة الذين عملوا أيضا على سبر حدود فهمنا. عندما نفكر في الفلسفة، عادة ما نفكر في صورة معينة للعالم، وعندما نفكر في الفلاسفة، نفكر في ذاك الذي يعرف، والذي سيخبرنا كيف نحيا حياتنا وكيف نوجد في العالم، وهكذا.  بيد أن بعض الفلاسفة أكثر اهتماما بطرح الأسئلة من تقديم الإجابات، وبإيجاد سبل مقنّعة للتعبير عن الارتباك.

غالبا ما يكتب هذا الطراز من الفلاسفة داخل منطقة رمادية تقع بين الفلسفة والأدب، كتابة هي أقرب للشعر بالمعنى الذي يفيد سبر الأغوار على نحو يسمح لهم بأن يكونوا أكثر حرية ومرونة. هكذا فكرت: ” ألن يكون من المثير إذا ما عدت لقراءة قصص الرعب كما لو كانت فلسفة؟ ثم ماذا لو قرأت فلاسفة مثل كيركيغارد، شوبنهاور أو نيتشه، كما لو كانوا يكتبون قصص رعب؟” لقد كان التلاعب بهذا الطراز من سوء القراءة الخلاق هو ما مكن المشروع من أن يتخذ قواما.

الفلسفة والرعب إذن ينفذان إلى نفس الأسئلة ويختبران نفس المأزق. من خلال التعامل مع الرعب كما لو كان -بمعنى معين- ممارسة للفلسفة، ألستَ تكون بهذا أقرب لفلاسفة ما بعد النزعة التحليلية، مثل ستانلي كافيل، الذي يدرس تقاطع الأدب أو الفيلم والفلسفة؛ منك إلى نظرية الرعب الكلاسيكية، التي تعد أكثر تأثرا بالتحليل النفسي؟

يوجين ثاكر: بالنسبة لي، ليس النقد المثير للاهتمام للرعب ] بوصفه جنسا من الكتابة[ هو ذاك الذي مصدره دراسات الأفلام التي ينجزها أكاديميون يكتبون عن أفلام الرعب. إنني أكثر افتنانا، على سبيل المثال، باللاهوتيين الذين يكتبون عن التجربة الدينية. إنهم لا يتحدثون البتة عن أفلام الرعب، لكن ثمة شيء ما في ما يتحدثون عنه يتردد صداه في الأفلام التي تثير اهتمامي.

أعتقد أنه ليس صدفة أن تكون العديد من الشخصيات أو القصص من ]أدب[ الرعب ذات أصل توراتي، سواء تحدثنا عن الاستحواذ، الشياطين، أو الشيطان نفسه.

يوجين ثاكر: هذا هو الجانب الأكثر أرثوذوكسية ]التزاما أو تشددا[ في الدين من الناحية السياسية. بإمكانه أن يصير مصدرا لجنس الرعب الأدبي، ولكنك على هذا، إذا نظرت إلى التقاليد الصوفية، ستجد أنهم ببساطة يستخدمون مصطلحات الدين أو اللاهوت لكي يتحدثوا عن نفس القضية الهيكلية، والتي تشكل أفقا للفهم الإنساني.

بهذا المعنى، بإمكانك القول بأن الرعب الحديث يجد سلفه في اللاهوت السلبي. بيد أنه على الرغم من السعة التاريخية لمصادرك، فإن فهمك للرعب كما لو كان مواجهة لشيء ما بالكاد يوجد، يبدو غير تاريخي نوعا ما: هذا شيء لا يخضع للتغيير، حدود المعرفة البشرية –إن لم تكن الحدود نفسها، ومن ثم حقيقة وجود حدود. كيف لنظرية مثل تلك التي تقدمها أن تفسر حقيقة أن الرعب بدا فجأة أنه قد اتخذ موقعا ثقافيا جديدا كلية يقع في مركز الصدارة، وأقصد هنا “العصر الذهبي” المفترض للرعب؟

يوجين ثاكر: بكلامك ما يستحق الاهتمام. بيد أن مقاربتي تُعنى بالنظر في فكرة أن ثمة شيئا جديدا، وكذا في أنه لطالما كان الأمر هكذا دوما، في الآن معا. على سبيل المثال، مع هذا الوعي المثقل الذي نحمل اليوم تجاه قضايا من قبيل تغير المناخ وكرنفال الهذيان الجنوني في المشهد السياسي، لا يصير من الصعب إقامة الحجة على أن الرعب يستجيب لوضعية العالم بالتصرف كما لو كان مرآة له.

هذا جيد. لكنك بإمكانك أيضا  العودة إلى الوراء والنظر إلى تغير مفاجئ آخر حدث في أواخر التسعينات عندما ظهرت في الساحة أفلام رعب مستقلة. تلك كانت نمطا مختلفا من المحطات المربكة رافقتها ضروب مختلفة من الأشياء التي تحققت فيها. بإمكانك الرجوع إلى الخلف أكثر، إلى أواخر السبعينات أو بدايات الثمانينات، حيث صار الرعب هو البضاعة الرائجة. لقد لاحظت هوليوود هذا فقامت بالتعديل في حدود هذا الجنس الأدبي ]الرعب[. لكن مجددا، لديك هنا محطة مختلفة عندما تم هذا. يمكنك الذهاب بعيدا والعودة إلى القرن الثامن عشرة، ذروة الأنوار، وبروز الرواية القوطية كجانب خفي يعبر عن تكلفة العقلية الأداتية. أعتقد ]إذن[ أن هناك اتساقا على مستوى الهيكل أو الصورة، وحده المضمون يمكنه أن يتغير بحسب اللحظة والسياق الثقافي الذي أشرت إليه. 

لعل أكثر مثال جلّي على الرعب الذي يختص بإعطاء الأسبقية للمزاج على القصة هو الأدب القوطي؛ حتى أن إدجار آلان بو قال مرة في مكان ما أن كل مفردة في القصة يتعين عليها أن تتجه نحو خلق هذا الجو. هل هناك أية أفلام معاصرة تشعر بأنها تقوم بهذا؟

يوجين ثاكر: هناك فيلم شاهدته مؤخرا وكنت مأخوذا به بحق وهو Hagazussa. إنه ينتمي لذلك الطراز أو الإتجاه من أفلام الرعب التي تدور كلية حول البطء وإطالة الوقت، بحيث يصير كل شيء فيها يهدف لبناء هذا الجو العام. يستخدم هذا الاتجاه بعض تقنيات أفلام الرعب المعتادة، لكنه يركز على أن يضعك في هذه الحالة من الهلوسة التي تشبه النشوة. هنا يبدو كل شيء وكأنه صار أكثر اتساعا، ولهذا يمكنك أن تسمي هذا الطراز من أفلام الرعب بالرعب البطيء. ما يحصل هو خلق هذا الشعور العميق بالزمن، تحصل معه على هذا الإحساس بأن الموجود البشري مجرد عنصر ضمن عالم ضخم، وهو ليس حتى عنصرا دالا فيه.

(…) هناك ذلك الشعور الذي يداهمك بأنك أمام شخصيات ليست هي حقا من تتخذ قراراتها، وكأن ثمة مجموعة اخرى من القوى السديمية الغامضة، وما الإنسان إلا دمية في يدها إن شئت. في بعض الأحيان يتم التعبير عن هذا بصريا؛ فقد شاهدت لتوي هذا البرنامج التلفزيون “الذعر“.  إنه يستخدم تلك التقنيات التي تراها كثيرا في الأفلام حيث يتم التركيز على المناظر الطبيعية، إذ يكشف لك هذا عن التناقض بين ضآلة الإنسان –الدراما الإنسانية الصغيرة والمركزة التي تتم على متن السفينة – وبين هذا المشهد من الطبيعة الشاسعة غير المبالية التي تحيط بها ]بالدراما الإنسانية[. مجددا، ثمة ذلك الصدى الذي ما ينفك يتردد بين هذا الضرب من الخبرات ]بالضآلة[ وبين التجارب والخبرات الصوفية والدينية الضاربة في القدم.

ألا يمكن لهذه التجربة الشعورية بالضآلة في مواجهة شساعة الطبيعة واستعصائها على الفهم، أن تكون تجربة إيجابية؟ الشعراء أطلقوا على هذا اسم “تجربة السمو”.

يوجين ثاكر: بالتأكيد..بالنسبة لبعض الفلاسفة مثل كانط، هناك نهاية سعيدة للقصة، سببها أن العقل البشري قادر على تعرف حدوده، وهو إذ يفعل يصيح قائلا “حسنا، هذا يقع خارج الحدود، بيد أنه من داخل هذا المجال ]حدود العقل[ يمكننا أن نؤسس لمستوى جديدة من السيادة”. من المثير للاهتمام هنا أن نقتبس من شخص مثل لافكرافت جنبا إلى جنب مع كانط؛ فكلاهما يتحدث عن ذلك الفارق بين العالم في ذاته والعالم كما يظهر لنا، وإن كان لافكرافت يتفوق عليه بالذهاب إلى نهاية الطريق، بالقول بأنه ليس ثمة من لحظة لانعتاق العقل أو خلاصه ]من حدوده[.

برونو لاتور ]سوسيولوجي وأنثربولوجي فرنسي[ لديه وجهة نظر مثيرة للاهتمام حول هذه النقطة. إنه يشير إلى أنه في حالة ما أظهر بحث جديد من داخل الأنتروبوسين ]إشارة إلى أصحاب نظرية العصر الجيولوجي البشري[ أن العالم الذي يغيب عنه الإنسان Nonhuman world سيكون ملحوظا في كل نقطة من طرفنا، فإن هذا يدل على أن التأثير الإنساني قد شهد ارتفاعا وصل حدا لم يعد ممكنا معه أن نتصور أننا بهذا القدر من الضآلة والصغر قياسا إلى الطبيعة. وهكذا فإن تجربة السمو، هذا الشعور بالضآلة، يصير مستحيلا. بالنسبة له، ما يكشف عنه هذا الأمر هو أن ما اعتدنا على اعتباره عالما غُفلا يغيب عنه الإنسان أو عالما غير تفاعلي، كان في الواقع ذا حساسية طوال الوقت، ونحن عالقون ضمن هذه الحساسية في كل نقطة نقطة.

يوجين ثاكر: ثمة أشياء مثيرة للاهتمام في هذا الضرب من النظريات، لكنها ]بالرغم من ذلك [تظل مثقلة بنظرة مركزها الإنسان Anthropocentric. أعتقد أن واحدة من دروس الأنثروبوسين هي أنه يبدي ميلا لنزعة أنا-واحدية Solipsism  تميز النوع؛ نحن عالقون فيها، لدرجة أننا أطلقنا فعلا على حقبة من الزمن تسمية تعود علينا ]الأنثروبومورسين: العصر الجيولوجي البشري[.

ما الشيء الذي ينقص نظريات الأنثروبوسينAnthropocene ؟

يوجين ثاكر: غالبا ما يتجاهل أصحاب هذا المنظور في أعمالهم، ضربين من الغفلية أو اللامبالاة Inddiference: الأول هو أننا وإن كان بمُكنتنا أن ندعو العالم بما نرغب من مسميات ونقيسه على ما نشاء من معايير، فإنه على ذلك يظل حاملا لمنطقة غموض عصية على الاختراق تسم شيئا آخر يقع هناك، سواء تفاعل معنا أو لم يتفاعل. الضرب الثاني من هذه الغفلية محدد أكثر: إذا ما أنت نظرت إلى تقليد الرواية القوطية، ستلحظ وجود توتر بين العلم والدين، وغالبا ما يتم رد ذلك إلى الصراع بين ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني. اليوم نجد أن هناك شيئا جديدا أضيف، يمكن أن نسميه ب”العقلانية الباردة”.

يمكنك أن تطالع يوميا جريدة “الجارديان”، وستكون هناك بعض المقالات التي بها عدد هائل من الحقائق والمعطيات عن كمية الكتلة الحيوية التي نستهلك والانقراض الجمعي السادس، أو أي شيء آخر. إننا نحيا داخل فائض من المعطيات المخيفة التي أغرقتنا داخلها. ليست هذه مشكلة العلم، في الواقع أعتقد أن العلم يعمل بشكل جيد جدا، وما يكشفه لنا هو بالضبط مدى لا اكتراث العالم بمحاولاتنا للسيادة، أو السيطرة عليه، أو إنتاج معرفه عنه. لقد سبق وأدرك هذا أدباء يعودون لأوائل القرن العشرين، مثل لافكرافت وغيره من الكتاب ّ”الغريبين”، وكان هذا الذي أدركوه هو أن المسار الأكثر رعبا ليس مضادا للعلم، بل هو غير عقلاني. [بعبارة اخرى] إن ما يرعب بشدة هو ما سيكشفه العلم.

(نهاية الحوار).


 يوجين ثاكر فيلسوف أمريكي معاصر، شاعر وكاتب لمؤلفات وكتب مختلفة. من أشهر كتبه ثلاثية ‘رعب الفلسفة’، وعمله المبكر ‘ما بعد الحياة’. يشغل حاليا منصب أستاذ للدراسات الإعلامية بالمدرسة الجديدة بنيويورك. (المترجم)[1]

 وقد عملنا في ترجمته على تجاوز بعض المقاطع التي بدت لنا موغلة في التفاصيل الفنية. https://2u.pw/NgZb7 المقال الأصلي: [2]