مجلة حكمة
يبقى أهم إسهام لألتوسير في نظري، خصوصا في السياق الذي نكتب فيه هذه الورقة،   في الحل الذي يقترحه للخروج من التكبيل الذي تمارسه الإديولوجيا على الأفراد وهي هذه القدرة الكامنة على التحرر والانعتاق من مطب الرأسمالية

عوائق دراسة الذاكرة و التراث في فكر ما بعد الاستعمار

الكاتبمبارك بوالزيت

في معرض كلامه عن الإديولوجيا يشير لويس ألتوسر إلى كون الأيديولوجيا تكون محمولة في المجتمع الرأسمالي على أجهزة أيديولوجية رمزية و أخرى مادية. من النافل القول أن الأيديولوجيا تكون محمولة في المجتمع عبر اللغة التي تكون وسيطا بين الفرد و الواقع. و هذه الوساطة تقتضي ما تقتضي من الإضافة و الحذف و الإيهام و غير ذلك. انطونيو غرامشي كان سباقا إلى الإشارة إلى  عمل الهيمنة الرأسمالية في الأجهزة المختلفة. إن هذا المنحى ما بعد البنيوي المستشري في أغلب كتابات ما بعد الاستعمار يكاد، في نظري،  يكون تحنيطا للمسارات التي يجب أن يأخذها تحليلنا لعمل الأيديولوجيا خصوصا و أن  مجتمعات ما بعد  الاستعمار مختلفة و مشاكلها مختلفة. 

      إن كثيرا مما ما يكتب ينصب غالبا، كما في علاقة التصاق مرضية، بالرأسمالية ومظاهرها السلبية على بلدان ما بعد الاستعمار ، كما تذهب كذالك مذهب  نظرية المآمرة والتي قد تصل في أحيان كثيرة حد التعتيم خصوصا في السياقات الفكرية التي يجب أن تغلب فيها الإبستيمولوجيا أو العقل على مثل هذا الإسقاط الساذج لنظرية المآمرة. نظرية المآمرة ها هنا أقصر طريق للكسل الفكري، لأن صاحبها يعتقد اعتقادا غريبا. فهو يرى أن من يعيشون النعيم (الغرب) لديهم نوايا سيئة لاستغلال من يعيشون البؤس (الشرق و إفريقيا)، و الأولى ربما، و إن كان هذا الطرح صحيحا، هو أن يعكف من هم في بؤس على فهم أسباب بؤسهم والرقي بأوضاعهم على هذا الشك في نوايا الآخرين، الغرب و غيره، ولومهم طول الوقت، ولن أشير إلى العدد الكبير لأبحاث الدكتوراه و الماجستير  التي تأخذ هذا المنحى في كليات العلوم الإنسانية في بلدان ما بعد الاستعمار و التي لم توجه بعد مناهجها إلى السياقات الإبستيمولوجية الأكثرإفادة.
 
     إن ما يحجبه هذا النمط من النظر من آفاق فكرية رحبة أكثر مما يظهر. لنا أن نتساءل : كيف تختلف الإديولوجيا داخل مصنع رأسمالي في برلين في مطلع القرن العشرين مثلا عن الإديولوجيا–إن كانت هناك أيديولوجيا– في مجتمعات لم تستقدم بعد تمام الاستقدام النمط الرأسمالي المبني أساسا على حرية المبادرة . كيف ستعمل الإديولوجيا  داخل التراث الذي كتب قبل بداية الرأسمالية بقرون مثلا؟ كل أفق نفكر فيه، علاقة بما يصلنا من الغير أو بالمكتوب من التراث، يجب أن يعرض  على الإبستيمولوجيا أولا.
 
     لن  تكون مناقشة طرح  ألتوسير معرض كلامي لأنه  صراحة كثر الكلام عن الجهاز الرمزي و المادي  للايدولوجيا ويكاد الدارسون لا يرون في فكر ألتوسير  وغرامشي إلا هذا الشق المتعلق برمزية الإديولوجيا و هيمنة أجهزتها المادية و الرمزية، دون الإشارة إلى منابع أخرى لا تقل أهمية .و أكاد اجزم أن الذين يمارسون الأدلجة أو الإيهام، لغاية في نفس يعقوب، واعون تمام الوعي  بالعنف و التدليس الذي تمارسه أجهزتهم المادية و الرمزية في المجتمع خير المعرفة ولن يفيدهم تحليلنا لها ربما إلا فيما قد يساعدهم على سد ثغراتها وهفواتها . وهذا ما صنعته الرأسمالية تماما بفكر ماركس إذ استفادت من هفواتها ونوعت من أساليبها.
 
     يبقى أهم إسهام لألتوسير في نظري، خصوصا في السياق الذي نكتب فيه هذه الورقة،   في الحل الذي يقترحه للخروج من التكبيل الذي تمارسه الإديولوجيا على الأفراد وهي هذه القدرة الكامنة على التحرر والانعتاق من مطب الرأسمالية وكل ايدولوجيا مهيمنة واستقدام هذا الأفق الحر قد يفيدنا مع مطب عهود ما قبل الرأسمالية كذالك ، وهذا ، من جهة، ما يهمنا في هذه الورقة كأفق للتفكير و التحليل . يرى ألتوسير أننا “أصبحنا نعرف أن إعادة إنتاج الظروف المادية للإنتاج هي مسألة لا يمكن التفكير فيها على مستوى المؤسسة، لأن لا وجود على هذا المستوى لظروفها الحقيقية. ما يحدث على مستوى المؤسسة هو عَرَض.” ( راجع الصفحة 2  من ورقته “الإديولوجيا و أجهزة الدولة الأيديولوجية” )
 
      يقترح ألتوسير إذا الكينونة الحرة كأفق للتخلص من تكبيل الأيديولوجيا، و يأتي قبل هذا طبعا الوصف، أي الوصف الدقيق لكل وضع يمارس التكبيل على الفكر، كأول لبنة تسبق أي تنظير أو عمل في هذا الصدد .  وعي الفرد بتأثيرات الإديولوجيا السلبية، أو لنقل إرادته وقدرته الحرة  على الإنعتاق من شباكها،  هي مربط الفرس في وعي عمل الأيديولوجيا  السلبي في المجتمع و الفكر و التراث ، لأنه و كما هو معلوم، الوعي أول العمل . سأركز في هذا المقال على الأيديولوجيا، ليس علاقة بالرأسمالية وحدها، و إنما في علاقتها بالذاكرة أو التراث، متمنيا أن لا تتيه بي السبل خصوصا وأن موضوع الذاكرة والتراث  و عوائق دراستهما استشكالي جدا.
 
     معلوم أن الذاكرة كل متشابك، ويندرج فيها ما هو مكتوب وشفهي وفيها ما هو مخزن في ذاكرة الأفراد المطلعين و قد يدخل فيه ما لم يقل و لم يكتشف بعد (رسالة الملكة إليزابيث مثلا ذاكرة لن تقرأ حتى ألفان و خمسة و ثمانون). من الذاكرة و التراث ما أخد سمة مادية و رمزية فغدا فلكوريا يصبغ  التفرد و الاختلاف على الثقافة و المجتمع و الفرد،   الذاكرة يدخل فيها كذالك الحضارة والمدنية، و من كل هذه  يشتق التراث المدوَّن و يأتيه الدارسون باختلاف مشاربهم.
 
     المؤرخ مثلا يبحث في أرشيف الذاكرة المدونة فيقف على ما يستفاد منه لكي لا تُكرر أخطاء الماضي ، على أن لا يبحث  فقط عما يمارس به الأدلجة فيؤكد تبعا لذالك شعوره وهواه فقط كما فعل هانتينغتون في صراع الحضارات مثلا. إن كل محاولة لفهم التراث و كيف يؤثر في الحاضر ، هي دراسة في الذاكرة . إن كل فهم للماضي بوسائل الحاضر دراسة في الذاكرة. و كل دراسة في الماضي بمناهج الماضي وسياقاته دراسة في الذاكرة كذالك، و أن يدرس التراث داخل سياقه أولا و من تم ينتقد بمنهج جديد أفضل للدارس على إسقاط  الأحكام القبلية الجاهزة.
 
     بما أن سياق التراث  في بلدان ما بعد الاستعمار تتقاذفه إيديولوجيات كثيرة، يتبادر إلى الذهن سؤال أولي : ما الذي يجعل  النقل السلفي مثلا مختلفا عن العقل المعتزلي ؟ ما الذي يجعل المفكر الليبرالي مختلفا عن الماركسي الشيوعي  ؟ و ما الذي يجعل المفكر “العرقي”مختلفا عن كل هؤلاء (لست أتكلم طبعا عن الدارس الذي يدرس العرق من منطلق الاكتشاف و إنما الذي يجعله أساسا للتعريف العنصري) ؟  هي كلها مسارات لفكر بدأ من عقل أحدهم في الماضي في ظروف مادية أو نفسية محددة فترسب في كتب و عقول وحياة من يعيشون الحاضر، لا زال النازيون الجدد و الخوارج الجدد وغيرهم كثير يحتفون بمنظريهم.
 
     لكي لا نتوه تهمنا أساسا تلكم العوائق الذهنية التي لا يلقي لها الدارسون بالا عندما يدرسون الذاكرة  أو التراث و التي قد تكون مطبات يصعب التخلص منها . أولها النكوصية (atavism)، و ثانيها الاختزالية ، وثالثها  الأحادية (monism) وأخيرا الإحتمائية (protectionism) و غيرها كثير , أسردها على القراء لكل غاية مفيدة .

        الأحادية (monism )هي المطب الأول لدارسي التراث.    معروف عند الدارسين للفلسفة، خصوصا المتخصصين منهم في فكر ما قبل السقراطيين  ، ما قام به طاليس من اختزال للوجود في أصل واحد و هو الماء، وقد أتى بعده من اختزل العالم في اللامتناهي (apeiron)  كأصل لكل شيء كالفيلسوف أناكسيماندر، ومنهم  من اختزل العالم في النار و التراب و غير ذالك من المواد التي شكلت منظورا  واحدا غير قابل  للتخطيء. يرى بيرتراند راسل  “أن هذا المقطع (أي دراسته لفكر ما قبل السقراطيين) من تاريخ العلم يوضح أمرا مهما. و هو أن النظرية مهما كانت مبهمة، قد تكون مفيدة للعلم، خصوصا إذا كانت تفتح آفاقا للمستكشف للنظر إلى الأنوار من منظور جديد.”   ( راجع الصفحة 131 من كتابه تاريخ الفلسفة).

       الانطلاق من العرق مثلا كنمط مادي متوحد وكل ما يتعلق به مظهر معاصر لهذا النمط من النظر.  الاستناد إلى لغة العرق مثلا وحدها, شفوية كانت أو مكتوبة, لتأويل العالم يقتضي أن تنتهي  كل أسئلتنا حول الوجود و الموجود بقراءتنا لآخر صفحة في قاموس هذا العرق، و لو جمعت كل قواميس العالم و كتبه بلغاته ولغيَّاته لكانت غير كافية لصبر أغوار العالم و أسراره. حاجتنا اليوم إلى فهم التسعين في المائة المتبقية من أسرار المحيطات، مثلا، يتطلب إبداع وسائل و معها تبعا كلمات جديدة و ينطبق هذا على أسرار كثيرة.


     تقديس لغة العرق، خصوصا إذا تداخل هذا التقديس مع أهواء عنصرية كامنة، قد يكون أساس إقصاء قد لا يعيه البعض.  تجربة سواحلي في كينيا وتنزانيا معروفة للعيان، حيت استبعدت لغية محدودة آفاق عالمية رحبة بانفتاحها على اللغة الشفوية المحلية المحدودة فصنعت بذالك لغة منغلقة لا يكترث لها إلا أهلها تقريبا، ولا يأتيها من الدارسين إلا قلة قليلة، ونفس الشيء ينطبق على تجربة مالطا واللغة المالطية.  دون أن ننسى ما قام به هتلر مثلا حين ركز على وحدانية العرق الآري و إقصاءه لما دونه من الأعراق و الجنسيات التي كونت ألمانيا و العالم و التي وصلت حد الإلغاء من الوجود كما نعلم جميعا. هذا التوجه كان أساسا ماديا متوحدا (monist ) لفكر اقتنع به أغلب الألمانيين حينها، دون أن يكون أغلبهم قادرين على استشراف ما قد ينتج عن هذا الميل العنصري من كوارث.  ما أن ينغلق الفرد بلغته على نفسه حتى يكتشف بعد هذا الانغلاق حاجته إلى غيره ليساير العالم، فيستورد بعد ذالك أكثر مما يصدر، فيغدو مفسدا من حيت أراد أن يصلح. ولست أفوت الإشارة إلى حاجة كل لغة لآفاق جديدة، خصوصا الآفاق  التي لا توفرها قواميسها المحدودة،  و كل لغة تحتاج في بعض الأحيان لخلق لغة جديدة داخلها لتساير تقدم العصر و تجدده.

       يخبرنا بيرتراند راسل عن أهمية إعمال العقل للاستشراف، في مثل هذه الأمور طبعا لكي لا نكون من المنجمين؛ ” الاستشراف أو الاستباقية  ينبثقان  عندما ينهمك الفرد في عمل لا ينم عن أي هوى، إذ يخبره عقله، أي الفرد، عن الفوائد المستقبلية الممكنة،  فالصيد لا يحتاج كثيرا من التكهن القبلي لأنه بالهوى ممتع ،  في حين أن الحرث مثلا هو عمل لا ينم عن المتعة فقط.” (راجع الصفحة 33 من كتاب  تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمتي للجملة من النسخة الإنجليزية ) عملية الحرث يكون معها استشراف للمستقبل، لأن سقوط المطر مهم تماما  كما جودة الحبوب والتربة . قصة الرحالة المغربي مصطفى الزموري رفقة دورانتيس و نارفاييس إلى أرض الهنود الحمر عبرة في هذا الصدد، ويستفاد منها أن الإنسان لا يقتله إلا ما لم يكن يعلم ولو احتاط لسلم.
     من  يجعل أي مكون واحد متوحد، منظورا كان أو ثقافة  أساسا لفكر أو لا يريد أن يرى نفسه من الخارج أو من منظور الآخر ، يكون غالبا مغاليا في طرحه.   صحيح أن أنفة العرق ولغته  قد يكونان أساس تفرد، ولكن يجب أن لا يكون هذا التفرد أبدا أساسا  لإقصاء الآخر و استبعاده بأي شكل من الأشكال. هيكل، مثلا، نظر لمنطق هوياتي ساهم في ظهور أغلب الديكتاتوريات المعاصرة في الغرب، (راجع كتاب الدكتور كارل بوبر في هذا الصدد خصوصا المجتمع المنفتح و أعداءه) و يرجع كل ذالك إلى التركيز المفرط على أصل غير متغير وغير قابل للتخطيء . فيتم بذالك تقديس الدولة الوطنية و العرق و الجماعة  و غير ذالك  على حساب آفاق أكثر رحابة (الإنسانية والعقل مثلا كآفاق أكثر رحابة للتعليم و التعلّم).

 
      الاحتماء، حين يختبئ الفرد وراء العرق و القبيلة و يجعلها آفاق منغلقة، يكون أساس تعصب و عنصرية مقيتة تكره ما يوجد خارج حدودها–وهذا خطأ وقع فيه كثير من طلاب دراسات  ما بعد الاستعمار. فغدا بذالك جوابهم على عنصرية المستعمر و استعلاءه  (و تقدمه) وتعذيبه لهم في عهود الاستعمار وما بعدها هو هذا الاحتماء  بالقبيلة والضريح و العرق  و نمط من التدين قد يكون إحتمائيا و جبريا، و الأقرب إلى الصواب في كل مواجهة من هذا النوع ليس الاحتماء و إنما اكتشاف أسس التفوق عند الغير، فتتولد بعد ذالك الندية المنتجة . وبذلك نضيف إلى ما عندنا بالفهم الكامل لما عند الآخر–أخبرنا الجاحظ في حقل الترجمة مثلا أن العلم الكامل  باللغة المُترجَم عنها يجب أن يكون أكمل  عند الدارس من العلم عن اللغة المترجم إليها، ويجب أن ينطبق هذا الضبط في الترجمة على كل العلوم .

      الاحتماء إذا من أمراض دراسة  التراث.حين سافر السيد قطب إلى أمريكا في الثالث من نونبر سنة  1948 ألمَّ به ما شاهده  من مظاهر التخلف و النكوص الحضاري من عنصرية و عري، و نزعم أن اغلب ما شاهد كان موجودا في  بلده مصر كذالك .لم يعجب سيد قطب  بمظاهر الحداثة و يكاد الواحد يجزم أن سيد قطب كان سيكون سعيدا بزيارة الآميش أو أي قبيلة في أدغال إفريقيا، أو أي من  الجامدين  في مربع القرون الغابرة، على زيارة أي من المدن الأمريكية أو الأوروبية  الحديثة . القضية مسالة اندماج ربما.   كان الأولى ربما أن يغض الطرف ويعود بما يفيد بني جلدته وليس يعود بحكم قيمة عن بلدان اختار أهلها  نمط عيشهم بكل حرية.  هذا الاستعداد النفسي للوقوف على الأطلال وحدها  و الجمود في مربع الزمن سمة نفسية غريبة في التيار السلفي المتشدد، و الذي بالمناسبة لا يقصي الغرب فقط من أفقه الفكري و إنما يقصي بني جلدته كذالك ممن يعملون عقولهم في الدنيا و الدين.   ألم يكن المعتزلة أهل عقل راجح رغم ما لهم و ما عليهم؟ لماذا يضيع تراثهم؟  أكثر ما  كان يوصي به القاضي عبد الجبار المعتزلي هو التفكر و النظر، وجعلهما أول الواجبات، يورد القاضي عبد الجبار ما يلي في كتابه شرح الأصول الخمسة (راجع  الصفحة 39) ” سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكير و النظر. ” و يضيف في نفس الصفحة، ” ولا يحسن أن نتكلم في وصف لشيء أو حكم له ما لم نعلم ذالك الشيء.”

     يجب ان نعلم أن الفرد الصالح لا يولد بإسقاط الوعظ عليه بالفرض أو بالسوط.  الإنسان المتسلح  بالحرية المسؤولة و الواجب الأخلاقي من الأساس التربوي خير على  الدين ربما،  أما الإنسان الغير المتخلق في الأساس، لمثل هذا الخلل في التربية، فهو مصيبة على الدين وعلى نفسه . إذ يصبح حارسا للمعبد، حتى و إن أخبره النص انه ليس وكيلا ولا مسيطر على الناس،  لكنه  مع ذالك يحشر أنفه في حياة غيره ، فيصبح الدين في يده وسيلة للاضطهاد و التفريغ عن عقد نفسية مبهمة ، و تنطبق عليه ‘عقدة المصلح’ في الفهم النفسي المعاصر للظاهرة . 

    أما الاختزال فهو أكبر المصائب على الذاكرة و التراث. يختزل الماركسي اليافع الوجود في صراع الطبقات ، وله  كل الحق في ذالك، لكن المجتمعات الخارجة من محنة الاستعمار مثلا،  يتبدى لنا فيها ما يشبه الإقطاعية المقيتة، مما يجعل الإسقاط الميكانيكي للماركسية و حتى الرأسمالية على بعض هذه المجتمعات،  يكون ضربا من العبث بوسائل النظر و البحث و جهلا بواقع هذه المجتمعات .  نفس الشيء ينطبق على من يختزل الحديث في السند لا المتن. كتاب السلطة في الإسلام للدكتور عبد الجواد ياسين أكثر إفادة في هذا الصدد.

     في نفس سياق هذا الكلام، يضع الباحث  في مجتمعات ما بعد الاستعمار نصب أعينه هذا الجر الاختزالي الذي تمارسه الأبحاث التبسيطية السهلة (الإستشراق مثلا) على البحث في المواضيع العلمية الأكثر إفادة، فكر ابن رشد  وكانط و هيوم مثلا، و اختر ما شئت من المفكرين العقلانيين، أفضل لنا مثلا من التركيز المفرط على التمثلاث السلبية في الروايات الفرنسية أو الإنجليزية عن إفريقيا و الشرق، مع كامل الاحترام طبعا لاختيارات الباحثين و الطلاب.

      ختاما، كل هذا لا يجب أن يلغي  من أفقنا أمرا  مهما. الوقوف ضد النكوصية و الإختازلية و المنظور الواحد و الإحتمائية، في مناحيها السلبية بالطبع، يجب أن لا يحمل في طياته ميولا نفسية لا واعية لاحتقار كل ما يأتينا من التراث و الذاكرة.  و التصدي لزلات التفكير في الذاكرة ، ليس نزعا للقدسية عما يصبغ المعنى على حياة الناس، لأن كل نقد  مثلا للبوذية وطقوسها لا يلغيها من الوجود و لا يلغي كذالك أفق من يعتقدون بتعاليمها. محمد عابد الجابري أكثر إفادة في هذا الصدد آذ يقول: ” كيف يمكن أن يتصور الإنسان أن داعية ما يقول للفلاحين أو غيرهم ما يمس مقدساتهم؟ إنك إذا مسست بهاته المقدسات فقد أزلت ما يربط الناس. والمقدس ليس من الضروري أن يكون صحيحا أو باطلا، المقدس يحمل صوابه وصدقه وصلاحيته وأفضليته في نفسه، أي بوصفه مقدسا.” (راجع كتابه مواقف، إضاءات وشهادات)  و هذا طبعا لا يصح في السياقات التي يحدث فيها المقدس اضطهادا أو إزهاقا في الأرواح و الأنفس، كما في ممارسة ‘الساتي’ في الهند في الماضي ، و قس على ذالك . المقدس لا يكون وسيلة للاضطهاد  ولا  وسيلة للإرجاء أو الجبر.  المقدس يبقى تنفيسا للروح عن غبنها و أفقا تتنفس فيه الجماعة و تعطي به لوجودها قيمة و تفردا و استمرارية، على أن تبدع  و تواكب هذا العالم المتغير من حولها. 


مراجع

  • التوسير، لويس. “الإديولوجيا و أجهزة الدولة الاديولوجية” ، ترجمة – عمرو خيري، من:”لينين والفلسفة ومقالات أخرى”، مانتلي بريفيو بريس: لندن ، 1971.
  • الجابري، محمد عابد . مواقف، إضاءات وشهادات، ,2003.
  • راسل، بيرت راند.  تاريخ الفلسفة الغربية، نيويورك:  سيمون و شاستر، 1945.
  • عبد الجبار، القاضي .  شرح الأصول الخمسة ، القاهرة : مكتبة وهبة، 1996.