مجلة حكمة
يحتاج كل واحد منا إلى بطل كي يحيا

يحتاج كل واحد منا إلى بطل كي يحيا

الكاتبشهرة بلغول

في حواره مع المجلة الفرنسيّة “سؤال الفلسفة” في عددها السادس والعشرين (جوان/ جويلية/ أوت 2022)، ناقش المتخصّص في الطب النفسي العصبي بوريس سيرولنيك Boris Cyrulnik وصاحب نظرية La résilience (التي يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية على نحو مقارب بنظرية الصمود والمقاومة) المقولة المركزيّة التي بنى عليها كتابه “Ivres paradis, bonheurs héroïques” (جنة ثملة، سعادة بطوليّة) ألا وهي الحاجة المشتركة بين البشر إلى وجود الأبطال؛ مع الإشارة إلى خطورة وجود أبطال مزيفين وتركهم ينحرفون بالحياة عن مسارها.

يستحضر المحاور مقولة وردت في كتابه مفادها “لا يمكن أن يستغني طفل في مسار تكوين شخصيّته، ولا بالغ جريح في إعادة بناء (ترميم) ذاته عن البطل” ليتساءل عن السبب الموضوعي الذي أوصله إلى تبني هذا الحكم (النتيجة).

يعلّل الباحث موضوعيًا حاجة الطفل إلى البطل بأنّه حين يأتي إلى العالم يكون فاقدًا للمعالم؛ فلا يدرك كيف يتصرّف، ممّا يجعله في حاجة إلى نماذج ليتعرّف على ذاته، ويتم ذلك في البداية على مستوى العائلة، حين تكون مبنيّة بشكل متلاحم؛ إذ يتكفّل الأب والأم بإحياء عالمه الصغير؛ لكن المصاعب ستعترضه في حال كانت العائلة أقل تلاحماً، ممّا يعيق نموه وتطوره، وهذا ما يجعله في حاجة إلى صورة (نماذج) أخرى ليتعرّف فيها على ذاته؛ لذا فالبطل بالنسبة إليه أشبه بعلاج يمكّن الطفل من بناء شخصيّته.

وفي ما يتعلّق بسؤال المحاور له عن أبطاله أثناء مرحلة الطفولة يجيب: “حين كنت طفلاً، الأبطال الذين أنقذوني هم طرازان وريمي، كانا يتحدثان عني ويقولان إنّه بإمكاننا النجاة حتى إن كنّا نفتقر إلى عائلة. هؤلاء الأبطال أدخلوا السرور إلى طفولتي المتداعيّة. صار طرازان ملك الغابة وأنا كنت أقول: “حين أكبر ستصبح لي عضلات مثل طرازان، سأملك لباسًا داخليًا من جلد الحيوان وسأنقذ الحيوانات الجريحة”. جعلني طرازان أتعرّف على قصتي الخاصة من الناحيّة الشعريّة. حوّل هذا البطل تعاسة طفولتي إلى مغامرة رائعة، أما بالنسبة إلى ريمي فقد قال لي: “أنا طفل لقيط”. كنت آنذاك في الحادية عشرة من عمري، كان هو في العاشرة. كان هذا البطل الصغير يتحدث عني، عن اليتيم الذي كنت، وكان يبيّن لي طريقًا لحياة ممكنة على الرغم من كل شيء.

كان لهذين البطلين وظيفة تعريفيّة منحتني الأمل. فقد آزراني كثيرًا خلال طفولتي. يمكن للبطل أن يساعد كل طفل على الشعور في قرارة نفسه بأنّ بإمكانه تجاوز الصعاب على الرغم من كل شيء.

وعن مدى حضور الأبطال في جوهر نظرية الصمود والمقاومة (la résilience) يشير إلى حقيقة أنّ الأبطال هم من وضعوه على هذا المسار. مستحضراً بعض التصوّرات المغلوطة التي يتبناها البالغون في التعامل مع الأطفال الذين عانوا من مصاعب، يقول “كم من أطفال جرحى سمعوا من البالغين عبارات فظيعة وأسئلة على نحو “كيف تتوقع منه الخروج من هذا الوضع؟”. تعد هذه العبارات بالنسبة إليه مصدر لعنة ينبغي محاربتها. “فكل طفل، مهما كانت المآسي والجراح التي ينفتح عليها ماضيه، بإمكانه الخروج منها وتجاوزها إذا أحطنا به، إذا آمنّا به، إذا رافقناه، إذا لم نخذله”. مشبهًا مقام البطل بالنسبة إلى الطفل بالنجم بالنسبة إلى الراعي، فهو الذي يبين له الطريق، والسبيل للخروج من الصعاب؛ لكنّه يستدرك حديثه بالتأكيد على أنّه من الضروري قبل أن نتمكّن من الحديث عن الصمود والمقاومة، أن نعترف أولاً بوجود الصدمة، فعلى مدى سنوات، كانت الصدمة موجودة في الواقع دون أن تحضر على مستوى التمثيل اللغوي، وقد استغرق الأمر سنوات للحديث عن “متلازمة ما بعد الصدمة” التي كانت تفسر سابقًا بردّها إلى قوى غيبيّة؛ بالقول إنّ الجندي العائد من الحرب قد تملكته روح شريرة؛ مشيرًا  في هذا المقام إلى أنّ فرويد كان أوّل من تحدّث عن الصدمة النفسية، كما أنّ الرؤية الحديثة عن الصدمة النفسيّة لم تتولّد عن الحرب العالميّة الثانيّة؛ وإنّما مع عودة الجنود الأمريكيين من حرب الفيتنام. كل هذا يفسِّر كيف أنّه كان من الصعب تقبّل مفهوم الصمود والمقاومة (la notion de résilience).

أمّا عن السبب الذي يجعل البالغ الجريح هو الآخر في حاجة إلى البطل، فيرى أنّ كل واحد منا في حاجة إلى بطل كي يحيا أو كي يعيد بناء (ترميم) ذاته. مشيرًا إلى وجود صنفين من الأبطال؛ الصنف الأوّل يُحتاج إليه خلال أزمنة الحروب، أمّا الصنف الثاني فيُحتاج إليه خلال أزمنة السلم، إذ “تتمثّل حلبة المعركة في ثقافة السلم في ملاعب كرة القدم مع زيدان. يقاتل البطل في زمن الحرب من أجل إنقاذ الصورة المترديّة لجماعته. أمّا في أزمنة السلم فيضحي بحياته لإنقاذهم من ضجر قاتل عبر تسجيله لهدف على بعد خمسين متراً.”، مشيرًا في الوقت ذاته إلى إمكانيّة حدوث تغيير يلحق صورة الأبطال ووضعيتهم خلال أزمنة الحروب، يقول: “كنا خلال حرب 14-18 (الحرب العالمية الأولى) في حاجة إليهم، فأضفينا البطولة على الجنود، ثم على القصّر، ممّا مكّن من التضحيّة بهم. ثقافة تحتاج إلى أبطال هي ثقافة مريضة. بالمناسبة، تم استبدال لفظ “متعصب” خلال حقبة النازية في ألمانيا بلفظ “بطولي”. ممّا يكشف كيف يمكن لقوة اجتماعيّة أن تتسبّب في الانحراف نحو التعصب”.

وفي محاولة لتفسير الانحرافات الأخرى الممكنة التي قد تلحق تجسيد فكرة (البطولة) على المستوى السياسي يرى أنّ المترشح- البطل حين يقول بتواضع: “أدين بنفسي لشعبي. أنا مستعد للتضحية بنفسي في سبيل إنقاذه” فهدفه من هذه الاستراتيجيّة هو الوصول إلى السلطة؛ لأنّ الشعب حينها يجيب: “كنا نشعر بالبؤس؛ لكن منذ ظهور بطلنا المبهر استعدنا أهليتنا، أعاد إلينا الشعور بالفخر”. فهذه الاستراتيجية حسبه تمكّن من الوصول إلى السلطة عبر التأثير في الرأي العام؛ إذ يغدو البطل بذلك معيارًا للإيديولوجيات المتطرِّفة، والأصوليات الدينيّة، والقوميّات الملتهبة، والطوائف المؤمنة بالعصر الألفي السعيد (Sectes millénaristes). إذ يعِد هؤلاء أتباعهم بالأزمنة السعيدة لإثارة الحشود على نحو يقودها إلى الكارثة. هناك ارتباط ضمني بين البطل والجماعة التي ينتمي إليها والانحراف الشمولي.”

وحول الانحرافات الإرهابيّة، والمفارقة المرتبطة بتفسير النظرة إلى “الإرهابي” – من قبل الكثير من شباب اليوم – بوصفه بطلاً يجيب بأنّه التقى نماذج من هؤلاء الشباب في أحياء طولون وفي شمال مارسيليا، فوجد أنّ السمة المشتركة بينهم تكمن في أنّهم يحيون في ظل مصاعب شتّى؛ فهم يعيشون في أحياءّ هشّة ولم يتعلّموا كيف يتحدّثون، أمّا أولياؤهم فهم عادةً بطّالون (لا يعملون)، لذا يتم احتقارهم بحكم أنّ الثقافة الفرنسيّة قد احتقرت آباءهم. (آباء بائسين، لا يجيدون الحديث باللغة الفرنسية). وهذا ما يجعل البطل بالنسبة إلى هؤلاء لا يتمثّل في الآباء؛ لأنّهم يخجلون من صورة الأب، فيلجؤون إلى شخصيات أخرى تشبههم للتعرّف على ذواتهم، مثل مرّاح أو كوليبالي، ذلك أنّ هؤلاء مثلهم، افتقدوا العائلة، المدرسة، الحياة الاجتماعيّة، الجيش؛ لكنّهم وبتحولهم إلى إرهابيين، صار الجميع يخشاهم، يضاف إلى ذلك حضور مفهوم التضحيّة المتضمّن في التصوّر حول البطل، وفي استراتيجيّة حيازة السلطة. “البطل- الإرهابي يُصلِح عطب نفسيتنا المحتقرة”، فهذه البطولة تضفي على الإرهابي القتيل معاني النبل حين تقرن ذلك بتضحيته بنفسه في سبيل إنقاذ الجماعة التي ينتمي إليها. لذا يرى أنّ هؤلاء الشباب الذين يذهبون عادة للقتال باسم الإسلام، هم فريسة سهلة للقائد الشمولي والإرهابي؛ إذ يكفي إقناعهم بأنّهم سيصبحون أبطالاً وسيحيون في جوار الله بعد موتهم.

وعن مدى اقتران الرغبة في الظهور كمترشح-بطل بالضعف العقلي أو النفسي يؤكّد أنّ تقديم المترشّح نفسه على هيئة بطل يحيل إلى شعوره الذاتي بالامتهان، مستدلاً على ذلك بحالة هتلر، الذي كان حسبه رجلاً بائساً يمتلك شفافيّة مدهشة. لم يكن يعمل أو يقرأ. فهو ببساطة لم يكن أحداً؛ لكنّه تمكّن بفعل الإعلام من بناء شخصيّة ولغة إيماءات أقوى بكثير من الكلمات. وعلى الرغم من ذلك تسبّب هذا الرجل الحقيقي، البائس والشفّاف في إحداث تحوّل عاطفي لا يصدّق بين الحشود. فقد جنّت النساء بحبه؛ ولأنّه عاش ذليلاً، استطاع إطلاق عمليّة إصلاح وترميم للإذلال.

يستحضر المحاور الإشارة التي أوردها في نهاية مؤلفه بأنّه قد غيّر اليوم أبطاله، وصار يفضّل مغامري (أبطال) الحياة اليوميّة من أطباء وكتّاب. متسائلاً عن مدى ارتباط ذلك بالمسار المهني الذي اختاره (طبيب في علم النفس العصبي)، فيجيبه بأنّه كان يحلم بذلك منذ الصغر؛ إذ لازمه الغضب المقترن برغبته في فهم كيفية إنقاذ الطفل المصدوم الذي كانه. “حين نتأرجح بفعل صدمة، نتحوّل إلى شيء، لا نبقى كائنات بشريّة، السعي للفهم، يعني أن نغدو فاعلين. حين أفهم أغدو فاعلاً ولا أخضع للافتراضات”.

يختتم الحوار بسؤاله عن الأثر الذي يستشعره نتيجة مساعدته للكثير من الأشخاص من ذوي الأرواح الجريحة خلال مسيرته، ألا يعتقد أنّه بذلك قد أنار طريقهم بجعل واقعهم يطاق، مجسّدًا بذلك الدور الذي لعبه الأبطال في طفولته، لتأتي إجابته تعبيرًا عن السعادة التي تغمره حين يقال له هذا الكلام “أتلقى هذا كهديّة رائعة. حين نتعرض إلى صدمة يمكن أن نعاني مرتين. المرّة الأولى في الواقع، والمرّة الثانيّة في تمثّل هذا الواقع. حين اشتغلنا على نظريّة الصمود والمقاومة، حلّلنا العوامل التي تمكّن من إطلاق عملية إعادة بناء مستمرة. يمكننا إذاً تحويل الرعب، الصدمة، إلى متعة الفهم. لست بطلاً، لا أريد قتل أي شخص كما لا أريد أن أموت. عندي نقائص، ومواطن ضعف، مخاوف. البطل لا يمكنه أن يحظى بالبطولة إلاّ داخل السرد”.

مؤكّداً في الختام سعادته بتلقي دعوات من الشباب لزيارة جامعاتهم؛ لأنّها تجعله يحظى كل يوم بمتعة محاورة الآخرين، أن يروي، أن يفكر. “لمّا كنت طفلاً، كان يتملّكني الغضب نتيجة رغبتي في الفهم، كنت مجبراً على الفهم. كنت أملك روحاً جريحة وكانت عندي رغبة في الفهم حتى لا أظّل خاضعاً للحدث. اليوم، يسعدني أن أفهم. أتلقى كل كتاب، كل لقاء جديد بشراهة. حتى أنّي أستشعر متعة حسيّة في ذلك. لقد أصبح الفهم بالنسبة لي متعة روحيّة.”


 

المصدر:

Question de Philo, grand entretien « Boris Cyrulnik “Chacun de nous a besoin de héros pour vivre”, trimestriel n°26- Juin/ Juillet/ Aout 2022, pp 26-29.