مجلة حكمة
خوان دافيد ناسيو

تشكل الأخلاق: حوار مع الدكتور خوان دافيد ناسيو

أجرى الحوارفرانسواز بالدي ولوران لوموان
ترجمةالحسن علاج

خوان دافيد ناسيو : بادئ ذي بدء ، أنا جد سعيد بهذا الاقتراح  لإجراء هذا الحوار لصالح مجلتكما : مجلة الإيثيقا واللاهوت الأخلاقي (Revue d’éthique et de théologie morale) ، لقد أعدت الاشتغال على مقال تشكل الأخلاق من أجلكما ،وهو نص قصير غير منشور : ماهو مصدر الأخلاق ؟ ماذا تعني الأخلاق بالنسبة لمحلل نفساني ؟ … لماذا نمتلك أخلاقا ؟ بالإمكان البدء من هنا . أسوق قولة لـ فرويد : ” هكذا يصبح العجز الأصلي للكائن البشري مصدرا أساسيا لكافة الدوافع الأخلاقية . ” سأعمد إلى التعليق على هذه الجملة التي غالبا ما يتم اللجوء إلى استعمالها .

    قبل ذلك ، لابد من إبداء كلمة حول الأخلاق ، كلمة لمحلل نفساني بخصوص الأخلاق ، طالما أن الأخلاق يمكن مقاربتها من خلال وجهات نظر مختلفة . ماهي الأخلاق ؟ أسمح لنفسي بتقديم أول تعريف بسيط : الأخلاق هي مجموع السلوكات ، المشاعر والتوجيهات التي يقوم فرد ما بتنظيمها تبعا للمجتمع الذي يعيش فيه . الأخلاق إذن هي مجموع السلوكات والمشاعر ـ تحتل المشاعر الأخلاقية أهمية قصوى ـ والمعايير التي يكرسها الفرد بهدف التصرف داخل المجتمع . إن الإيثيقا éthique) ( ، التي تطلبان مني تمييزها عن الأخلاق ، تعتبر صيغة أكثر تجريدا  للأخلاق ؛ فالإيثيقا هي مجموع المبادئ التي توجه سلوكات الفرد في مجتمع ما . لذلك فأنا أنظر إلى عبارة ” أخلاق ” ضمن بعد فردي للغاية ، في حين أنظر إلى الإيثيقا ـ ضمن بعد فلسفي للغاية ـ هي مجموع الملفوظات والمقترحات العامة تخص كافة الأفراد ؛ إنها أكثر جماعية . هذا كل شيء . تعتبر الإيثيقا بعدا جماعيا للأخلاق ، وتشكل الأخلاق بعدا فرديا للغاية . أنا على وعي تام أنه بالإمكان اقتراح تعاريف عديدة . إنها المقاربة التي تناسبني بشكل أفضل تبعا لعملي كمحلل نفساني .

    إن ما يهمني كمحلل نفساني ، هو معرفة كيف تتولد الأخلاق عند الفرد : ما هو تشكل الأخلاق ؟ سوف نعثر بالذات في تكوين الأخلاق على القضية التي تلفت انتباهنا في حوارنا هذا ، أعني بذلك قضية أوديب . فبدلا من مقاربة أوديب في المقام الأول ، ومن ثم مقاربة الأخلاق ، أفضل البدء بتشكل الأخلاق لدى الكائن البشري ، فيما بعد التصدي بالدرس لمسألة أوديب .

    سيكون سؤالي هو : لماذا نمتلك أخلاقا ؟ لماذا يمتلك الفرد أخلاقا ؟ لقد تساءل العديد من الفلاسفة ، قبل فرويد بكثير ، حول مسألة تكون الأخلاق عندالكائن البشري . إن مظهر السلوك والأحاسيس والقواعد التي توجه نشاطي في المجتمع يصدر عن حقيقة أن الآخر l’Autre) ( كامن في الأنا moi) ( . وبعبارة أخرى ، ” لدي أخلاق ” . إن قول أن فردا ما يمتلك أخلاقا لدليل على أن الآخر يوجد بداخله ، وكون أن الآخر يوجد بداخله باستمرار ، سوف يتصرف محترما الآخر الذي يوجد خارجه ؛ حينئذ يبرز السؤال : كيف تتشكل هذه الأخلاق ؟ إن طرح   هذا السؤال يعيدنا إلى التساؤل من جديد : كيف يتم استدماج s’intérioriser) ( الآخر لدى الفرد ؟ وهنا توجد لدى فرويد فكرة رائعة جدا : فهو يعتبر أن تشكل الأخلاق لدى فرد ما يصدر عن عجز أصلي . ماذا يعني هذا ؟ إن الكائن البشري بكل بساطة ، على خلاف العديد من فصائل الحيوانات الأخرى  ، فهو منذ الولادة   ؛  يكون عاجزا عن أن يكون متمتعا باستقلال ما ، غير قادر على الاستقلال . بمعنى أنه منذ ولادتنا ، وإلى حدود سن معينة ، نكون مجبرين على الاعتماد على آخر ، أكبر سنا ، راشد ، راشد وصي يساعدنا على إطعام أنفسنا كما يقدم لنا يد المساعدة على النمو . يتميز الكائن البشري بالعجز منذ ولادته . يكون الجهاز العصبي غير مكتمل : يكتسب هذا العنصر أهمية قصوى في التحليل النفسي . لقد تمت العودة إلى هذا كثيرا ، ليس من قبل فرويد فحسب ، بل      بواسطة لاكان  Lacan) ( أيضا ، بخصوص مرحلة المرآة (le stade du miroir) على سبيل المثال ؛ بمعنى أن فكرة أن الكائن البشري ،بالنسبة للاكان ، غير ناضج عندالولادة كما أنه لا يمتلك القدرة على الوقوف بمفرده وأن يكون مستقلا من دون مساعدة آخر ، سواء أكان أما ، أو بالغا   أو أي بديل آخر ،  يجعل حضور الآخر حضورا ضروريا ، حيويا بالنسبة   للكائن البشري . تنشأ الأخلاق في ظل الحاجة إلى الآخر . إنها الخطوة الأولى للأخلاق . تنشأ الأخلاق ضمن هذه الحاجة الحيوية والتكوينية للكائن الإنساني . إليكما ما اقترحته :

        إن عدم النضج والعجز الأصلي للكائن البشري طيلة الأشهر الأولى من حياته ، يجبرانه على الاعتماد على شخص بالغ يقدم له المساعدة ؛ حينها ، وشيئا فشيئا ، يعمل الصبي على استدماج هذا الآخر ضمن اشتغاله الذهني ، على شكل أنااجتماعية . فهذا الآخر الذي يتم استدخاله ، هذه الأنا الاجتماعية الداخلية هي التي سوف تنظم كافة السلوكات الأخلاقية لشخص يعيش في مجتمع . إن مصدر الأخلاق ، أصل الأخلاق ، وتشكل الأخلاق يمكن إجماله إذن في المقطع التالي : عجز أصلي للكائن البشري ، يقود إلى تبعية الآخر المعاون . تقود التبعية إلى الآخر المساعد إلى استدماج هذا الآخر . ثم إن استدخال هذا الآخر يفيد أن جزءا من الذات يتماهى مع هذا الآخر . كما أن هذا الجزء ، أناي التي تحولت إلى هذا الآخر  ، هذا هو ما سأطلق عليه جزء أناي الاجتماعية .

    فكما لو أن لي  أناوين ، أنا فردية وأنا اجتماعية ، وتعتبر هذه الأنا الاجتماعية حصيلة لاستدخال الآخر ، الخارجي إلى الداخل . وهكذا ، ومنذ أن كنت ، أنا كائن بشري بلغت في الوقت الراهن سن الرشد ، ومنذ طفولتي ، انشطرت أناي إلى شطرين  : أنا هي أناي عينها ، فردية ، وأنا تمثل الآخر بداخلي . إن هذهالأنا التي تمثل الأنا الأخرى ـ تعي فرانسواز بالدي françoise Baldé) ( ذلك فعلا ـ ، تسمى الأنا الأعلى . ثمة جزآن لأناي ، الأنا الفردية ، وأناي الأعلى أو الأنا الاجتماعية .

    فرانسواز بالدي : إنه مفهوم Nebenmensch) ( لفرويد ؟

    خ. دافيد ناسيو : يختلف مفهوم فرويد ل Nebenmensch) ( ، إلى حد ما مع الآخر المساعد .أستدرجتكم إلى الأنا الأعلى من دون الإشارة إليه من قبل ، فلو نطقت بالأنا الأعلى ، سوف تقولون : ” انتهى الأمر ! ” ، ما كنت أرغب في ذلك . أود أن نفهم تشكل الأنا الأعلى كمنطق طبيعي ، وأن يتم التسليم به .

   لوران لوموان (laurent Lemoine) :اعتقدت أنكم منذ البداية كنتم ستقولون فورا على أن تشكل الأخلاق كان يصدر عن الأنا الأعلى …

   خ. دافيد ناسيو : تماما ! أفضل قول أن تشكل الأخلاق يصدر عن كون أن الكائن البشري يكون تابعا في البداية . معنى هذا أننا لو ولدنا بدون عيوب مثل الإنسان الخارق Superman) ( عندما يولد على كوكبه ، على كريبتون Krypton) ( ، حيث كان كاملا ،  فسوف لن نكون في حاجة إلى الآخر .وحتى لو كان إنسانا خارقا ، في القصة ، فهو كان في حاجة ماسة إلى أب وأم . فنحن أنفسنا بحاجة ماسة إلى أب وأم ،  وهذا هو المدهش في الأمر . نحن في حاجة إلى أم تسعفنا ، تقدم لنا يد العون ، نحن في أمس الحاجة إلى شخص بالغ . و ، في نفس الوقت ، نحن في حاجة إلى أب يمنحنا قاعدة للتمكن من العيش في هذه البيئة . هل نحن في حاجة فقط إلى أم ، بالرغم من أن فرويد يشير إلى ” وصي راشد ” : ولم يقل ” زوجان ” …

   لم يتحدث فرويد بصريح العبارة عن زوجين من رجل وامرأة . وإنما ساق القول عن “الآخر الوصي ” على أنه يمكن القول أن ” الآخر الوصي ، بالإمكان شطره إلى شطرين : أب وأم . غير أن المثير للإعجاب ، هو أن الكائن البشري سوف يكون دائما في حاجة ، بواسطة طبيعته الجسدية ، المادية ، إلى آخر . وبما أنه في حاجة دائمة إلى آخر ، فسوف يكون للآخر تأثير عليه . سوف يكون الطفل قابلا للنفاذ ، للاندغام ، لاستدماج هذا الآخر بداخله ، وبمجرد ما يتم استدخال الآخر  بداخله ، سوف يشكل بداخله تلك الأنا الاجتماعية ، التي ندعوها أنا أعلى . فهذه الأنا الأعلى ، هذه الأنا الاجتماعية ،هذا الممثل للآخر ، الخارجي  ، بداخل الأنا ، هي التي سوف تحدد سلوكاتي الاجتماعية ، ستحدد احترامي للآخر ، ستحدد كذلك الخوف ـ يحتل الخوف أهمية قصوى ، لم أخصه بالحديث بعد . سوف يمكنني باعتباري   فردا وكوني مسكونا بهذا الآخر الاجتماعي ، من التموقع في المجتمع . وبعبارة أخرى ، وقصارى القول ، فأنا لست في حاجة إلى القانون ، ولن أحتاج في أسوإ الأحوال إلى الشرطة ، ولا إلى الدرك ، لست في حاجة إلى العديد من الأشخاص لطالما  أنهم يوجدون بداخلي .

   ومع ذلك ، ثمة مشكلة الخوف . ولأن فرويد قال بأن الطفل منذ البداية ، يكون في حاجة إلى الخوف . لذلك سوف يقول بأن هذا الأنا الأعلى يتشكل لأنني في حاجة إلى هذا الآخر ، وشيئا فشيئا ، وجنبا إلى جنب إلى  استئثار الآخر بي : سوف يمارس هذا الآخر تأثيرا عليّ ، وفي نفس الوقت يتمالكني القلق بتخلي هذا الآخر عني . إني أكون مجبرا إذن على التمسك بالهدوء ، وألا أقوم بحماقات ، لأنه لو قمت بأشياء تدفعني إليها نزواتي ، مثل العدوانية ، فإنني سوف أتسبب له في الأذى . سوف لن أضر بالآخر ، لأن الآخر بإمكانه التخلي عني . وكون أن الكائن البشري ـ ويعتبر هذا شيئا فرويديا جدا ـ شخصا خوّافا، جبانا وانتهازيا ، فإنه يحسن التصرف ؛ فهو لن يقوم بما من  شأنه أن يعكر صفو العلاقة الجيدة بولي الأمر الراشد هذا .

    إن تشكل الأخلاق ، هو بادئ ذي بدء تشكل استدماج الآخر ، الخارجي ، بداخلي . المسألة الثانية : يظهر استدخال الآخر بداخلي ، أولا لأنني في حاجة إليه ، فعجزي هو الذي ينشئ الأخلاق بداخلي ، إلا أنه الخوف الذي يساورني من هجره لي أيضا ، وأن هذا الخوف هو الذي يفضي بي إلى اتباعه وعدم تركه . ينشأ تشكل الأخلاق إذن بموجب الحاجة  والخوف . وفي الواقع ، فإن تشكل الأنا الأعلى هو كلام الأخلاق بالنسبة لي   ، إنه الحاجة والخوف .

   حسنا ، سوف أسوق لكم الآن مقولة لفرويد . إنها رائعة . وهي توجد في كتاب نشأة التحليل النفسي . فقد كتب” يكون الجسم الإنساني في مراحله المبكرة ، غير قادر على إحداث هذا التصرف النوعي [إحضار الغذاء مثلا] الذي لا يمكن إنجازه إلا بمساعدة خارجية وفي اللحظة التي يكون تركيز شخص ملم جدا ينصب على حالة الطفل الذي يقوم بإخطار هذا الشخص ، من جراء تفريغ يحدث في اتجاه التغيرات الداخلية ( بواسطة صرخات الطفل على سبيل المثال ) . تمتلك قناة التصريف [الصرخات] وظيفة ثانوية ذات أهمية قصوى : إنها وظيفة التفاهم المتبادل . وهكذا يتحول العجز الأصلي للكائن البشري إلى مصدر أساس لكل البواعث الأخلاقية 1 . ” ” يكون الجسم الإنساني ، في مراحله المبكرة عاجزا عن إحداث هذا التصرف النوعي …” : التصرف النوعي ” : إنه إحضار الطعام ، على سبيل المثال . ” يكون الجسم البشري ، في مراحله المبكرة ، غير قادر ” على التصرف بهدف إطعام نفسه بنفسه . هذا هو ما يقصد به قوله ؛ ” … والذي لن يتحقق [ هذا التصرف النوعي ] إلا عبر مساعدة خارجية …” ـ ها هي الأم ، الوصي البالغ ، ” … وفي اللحظة التي يكون تركيز شخص ملم جدا ينصب على حالة الطفل . ويقوم هذا الأخير بإخطار ذلك الشخص ، من جراء التفريغ الذي يحدث في اتجاه التغيرات الداخلية ( عبر صرخات الطفل ، على سبيل المثال ) ” . لذلك ، فأنا باعتباري طفلا ،لا قدرة لي على توفير الطعام بنفسي ، إنني بحاجة إلى شخص يقدم لي يد المساعدة . ثانيا، يتم إخطار الشخص بسبب صرخاتي. ” تمتلك قناة تفريغ [ الصرخات] وظيفة ثانوية ذات أهمية قصوى ” . يطلق فرويد على الصرخات ونوبات البكاء عبارة نوعية : ” الفهم المتبادل ” . وهو ما سيشتغل عليه فنيكوت Winncott) ( فيما بعد ، وكذلك فرانسواز دولتو Françoise Dolto) ( : جدير بالذكر أنه على الأم أن تكون جاهزة بما فيه الكفاية بغاية فهم صرخات الطفل ، وفهم الرضيع الذي يبكي ، وأنه في هذه اللحظة بالذات يكون في حاجة إلى تناول الطعام ،إلخ. يعتبر هذا فهما متبادلا ؛ ثم يضيف فرويد :” وهكذا يتحول العجز الأصلي للكائن البشري إلى مصدر أساس لكل البواعث الأخلاقية . ” ويشدد فرويد في مكان آخر : ” يرتبط التدين ، بيولوجيا ، بالعوز الطويل والحاجة الدائمة لتقديم يد العون للصبي باعتباره كائنا بشريا . ”  يكتسب هذا أهمية قصوى . كما لو أنه الانبثاق الأول للإله ، أو الآلهة ، إنه الآخر المساعد . يا له من شيء مذهل !

   فرانسواز بالدي : هذا موجود في كتاب مستقبل وهم ؟

خ. دافيد ناسيو : بالطبع .

   فرانسواز بالدي : إن ما أذهلني وأنا أنصت إليكم ، أنه !ثمة ، في الواقع ، أصل مشترك بين الحاجات الحيوية والأخلاق .

   خ. دافيد ناسيو : تماما .

  خ. دافيد ناسيو : فقد حدث ما يلي …لقد وصلنا إلى تركيب أول : ينتج تشكل الأخلاق ـ تستطيعون الآن ترجمة ما قمت بشرحه لكم بواسطة تشكل الأنا الأعلى ـ من خلال الحاجة الضرورية لآخر ، معين ، وعبر الخوف ، والقلق من تخلي هذا الآخر على الطفل . بيد أنه سيتم إنجاز تجربة ثانية ، شبيهة بالأولى بالرغم من اختلافها ، سوف تقوم بتقوية حضور الآخر  لدى الطفل ، الذي سوف يقوي جزء الأنا الاجتماعية للذات ، والذي سوف يقوي تشكل الأنا الأعلى . لا تحدث هذه التجربة الثانية عند الولادة ، ولا أثناء السنة الأولى ، لكنها تحدث بعد سنوات فيما بعد ، بين الرابعة والسادسة ، أثناء الفترة المسماة فترة أوديب . سوف تظهر ظاهرة أقرب إلى الأولى . لن يبق الطفل في حالة تبعية مطلقة . يكبر الطفل ، يمشي ، يتكلم ، يفكر . لم يعثر بعد على الحياة الداخلية . إنه طفل له من العمر خمس سنوات ، لم تتكون بعد لديه  فكرة امتلاكه لحياة داخلية ، فهو لا دراية له ماذا يعني أن يعيش المرء حياة خاصة : إنه طفل لا يعرف ولا يفكر في الموت ، لا يفكر في الحياة ؛ إنه طفل لا يفكر في الإله ، إنه طفل لايفكر في موت أبويه على سبيل المثال . أعني بذلك أنه طفل لم يبلغ بعد سن الحياة . تكون سن الرشد في السنة السابعة !  حسنا ، إن الطفل قبل البلوغ لم يعد عاجزا ، مازال لم يصل مرحلة البلوغ ، إلا أنه يوجد في سن استثنائية . ستظهر لديه ظاهرة فريدة في حياته ، عبارة عن اجتياح ، أشبه ما يكون بانفجار بركاني ، طفرة جنسانية . سيصبح تحت تأثير شرارات إثارة جنسية . إنه طفل مهيج . إنه طفل سيعبر هذه الفترة التي نسميها فترة أوديب . إنه طفل يخضع لرغبة شديدة قصد التمتع بجسد الآخر ، بجسد مختلف خاصة . باختصار ، إنه طفل شقي ، خبيث ،وصبي مهيج . تغمره السعادة مثل الجميع ، إلا أنه طفل خوّاف . ونصادف هنا نفس الشيء في الوضع السابق . فقد كان الآخر عاجزا وخوّافا ، أما الآن فإن هذا الآخر شخص مهيج خوّاف ؛ فمماذا يخاف ؟ فهو لم يعد يخامره الخوف من تخلي البالغين عليه ، لكنه خائف من ضربهم له ، ينتابه الخوف من إساءتهم إليه ، إنه يخاف من أن يُوبخ من قبل البالغين ـ الأب خاصة ـ له ، وربما تعنيفه . لذلك يذكر المحللون أنه بدلا من القول أنه يخاف أن يُضرب أو يُعاقب ، يتحدث المحللون عن ” قلق الخصاء ” . يعتبر قلق الخصاء castration) ( عبارة مجازية ، إلى حد ما ، ومأساويا ، نوعا ما ، من أجل قول أن الطفل يخاف من أن يُزال منه ما يعتبر أساسيا بالنسبة إليه ، ألا وهو كنزه الثمين : عضوه التناسلي . وفي المقابل ، فإن الطفل لا يرغب في أن تنتزع منه قوته ، أن يتم إخضاعه ، ولا أن يتم التجسس عليه ، ولا أن يُضرب ، إلخ . أود القول أن كل تلك المخاوف تم حصرها  من قبل المحللين ،وحتى نتحدث بطريقة استعارية ـ لكنها مثيرة للاهتمام أيضا عن ” الخوف من الخصاء ” . فكما لو أن الأبوين كان بإمكانهما خصيه أمام هذه الوقاحة ، إزاء هذه الجرأة ،تجاه هذه التمظهرات البذيئة ، إزاء تجليات صفيقة للرغبة الجنسية .  

    لكي لاننسى الطفلة الصغيرة ، لأن العديد من قارئات مجلة الإيثيقا واللاهوت الأخلاقي سوف يطلبن منا ذلك … يلذ للطفلة كثيرا الاحتكاك بوالدها ، كما أنها سوف تتنكر مثل صبي ، مثل الأب . أحيانا ،سوف تقرص ، وتتسبب في إزعاج أمها … ثمة سلسلة كاملة من السلوكات الخاصة بهذه السن للطفلة الصغيرة ؛ فأمام هذا المظهر واتقاد الجنسانية sexualité) ( التي تجتاح الطفل في هذه السن ، وأمام المحظورات وتهديدات الأبوين أمام هذه التمظهرات ، سيشعر الطفل بالخوف ، وبواسطة الخوف ، من جديد ، سوف يقوم تماما بنفس الحركة في البداية : سوف يقوم باستدخال القيم، المحظورات والتوبيخات ، و ” اللاءات ” ، وكافة النصائح التي قدمت له من قبل الوالدين ، سيعمل على استدماجها في أناه الاجتماعية ، في أناه الأعلى ، بداخله ، كما سيقوم بتعضيد هذه الأنا الاجتماعية التي كانت جنينية أثناء الولادة ، والتي شيئا فشيئا ، نحو خمس أو ست سنوات ، من جديد ، يتقوى [الأنا الاجتماعية ] من جديد ، وسوف يعرف من جديد انتعاشة جديدة لتشكل الأنا الأعلى .

    وهنا سوف يبرز توطيد ثان للأخلاق ، بمعنى تعزيز ثان لحضور الآخر في الأنا . هذه هي الأخلاق ، فعلا : إنها كل ما ينتج عن حضور الآخر في الأنا . هذا هو النجاح الباهر لتعاريف الأخلاق في الوسط المسيحي : فالأخلاق تنتج عن حضور الآخر  في الأنا . ثمة انتعاشة ثانية للأخلاق ، إثبات ثان …

    يفكر العديد من الرجال والنساء ، في الوقت الراهن ، في وضع المجتمع والأعراف الحالية متسائلين ما إذا لم يكن قد أصاب الأخلاق الفقدان والانهيار : ويكمن السبب في كون أن العديد من المشاعر الأخلاقية اتسمت بالضعف وأسيء التعامل معها على حد قولهم . ربما يعود ذلك إلى ضعف حضور الآخر في بداية تطور الطفل ، وضعف هذا الآخر بهدف استيعاب تمظهرات الجنسانية الطفلية في فترة أوديب . ثمة ما يشبه وهَنا لحضور الآخر الوصي ، في البداية وهنا للحضور المانع للآخر في مرحلة أوديب . فعندما أرى وأسمع الحرائق المهولة ، كما يُقال في الوقت الراهن ، لمئات ومئات السيارات بالضواحي ، وهو ما يعتبر في تصوري واحدا من المشاكل الخطيرة في شمال شرق فرنسا ، يُقال : ” ولكن كيف يكون هذا ممكنا ؟ ” لدي اعتقاد في وجود تأثير واضح لكل ما ننتجه في الثقافة ، بداية بالتلفيزيون والسينما ، بالتأكيد ، على أنه ثمة غياب ، أعتقد ذلك ، لدى كل هؤلاء الشباب ـ بما أن الغالبية العظمى بينهم هم شبان ـ ، ثمة غياب لثقل الآخر ، غياب لفعل الآخر الوصي خلال سنوات الطفولة الأولى .

    فرانسواز بالدي : لاشك أن الآخر يكون ضحية للبطالة وأشياء أخرى ضمن غياب الأب .

    لوران لوموان : هل تعتقدون أن الأسر الربيبة recompositions familiales) ( الحالية تساهم في قصور الآخر في البداية ؟

   خ.دافيد ناسيو : سأتطرق إلى ذلك  . المسألة هي كالآتي : لماذا لا يوجد الآخرون هنا ؟ لماذا لا يوجد الآخر هنا ؟ لماذا يُترك الطفل لحاله ، هل يتم إطعامه ، ولنقل ، هل تقدم له المساعدة في تطوره في الحد الأدنى ؟من المحتمل أن الآخر منشغل باهتمامات أخرى ، على المستوى الاجتماعي ، وسأستدل ، للعودة إلى سؤالكم ، بالأسر الربيبة .

    ثمة امرأة ورجل يعيشان معا ـ لن نقول : متزوجان ـ ؛ يلدان طفلا على وجه السرعة . وبعد مرور ستة أشهر على ولادة الطفل ، ينفصلان . يستمر هذا الطفل في النمو . سوف تتزوج الأم من جديدأو سوف تعيش مع رجل آخر .سوف يعيش الأب مع امرأة أخرى . سيصبح للأب أبناء جدد من امرأته الجديدة ، وسيصبح لوالدة هذا الطفل أبناء جدد من رجل آخر . سوف نكون بإزاء عائلة حيث سيكون لهذه الأم ثلاثة أطفال من زوج جديد ، أو رفيق جديد ، وطفل ترعرع ، والذي هو ابنها البكر ، ابنه البكر ، من أبوين غير متزوجين ، أشبه بيتيم من وجهة النظر الاجتماعية . إنه طفل وحيد . بالتأكيد له إخوة صغار ، إخوة غير أشقاءمن أمه ، وإخوة غير أشقاء من والده . بصفة عامة سوف يشيد الأب حياته الخاصة في مكان آخر … لقد عرفتهم ، أعرفهم ، إني أشاهدهم هنا بعيادتي ، ومن المحتمل أن فرانسواز تلاحظهم بدورها ، إلا أنني غالبا ما أشاهد هذه الظاهرة لأطفال محرومين من بنية أسرية تماما . إنهم أطفال يكبرون كأطفال يتامى ، كما لو أنه لا وجود لأم ولا لأب .

   لن أقول أن هذا الطفل تعوزه الأخلاق ! لن يكون جوابي قاطعا . على أنه بإمكاني ،بالتأكيد ، القول أنه يُحتمل وجود صعوبات جمة لبناء أناأعلى يساعده على العيش في المجتمع بطريقة تكون متسقة مع النظم الاجتماعية ، تكون منسجمة مع حياته العائلية . وربما سيتمكن هو نفسه ، من تشييد أسرته الخاصة لما يصبح راشدا ، على أنه مثلما أتصوره في الوقت الراهن ،سوف يكون من الصعوبة بمكان بالنسبة لطفل ينشأ ويعيش في بيئة أسرية مستقرة نسبيا .

    هذا ما أستطيع قوله لكم . أنتم تلاحظون ، فقد تم الانتقال إلى أوديب ، ولقد تمت البرهنة على أن أوديب يعتبر حافزا ثانيا لتشكل الأنا الأعلى كاستدماج لقيم وقدوات الأبوين . وبالفعل ثمة ثلاثة إجراءات : 1. ضرورة الآخر ، 2. الخوف من انسحاب الآخر ، 3 . الانفصال عن الآخر ؛ بطريقة معينة ، ونظرا لوجود الخوف ، فإن هذا يعني أنه سوف يغير وضعه وجها لوجه أمام الآخر ؛ ففي الوقت الذي يغير فيه وضعه وجها لوجه أمام الآخر فإن هذا الأخير يتم استدخاله . الشيء الجوهري هو التالي : الحاجة إلى الآخر ، من ثم الخوف من مغادرة الآخر ، أو مخافة ضرب الآخر ؛ فسواء أتعلق الخوف بالتخلي ، أو الخوف من العقاب .  

    لوران لوموان : حينما قلتم أنه يتوجب قطعا وجود الآخر ، في البداية وأثناء أوديب ، فإذا ما ظل المرء متمسكا بموضوعة الأسرة الربيبة ، يكون بإمكان المرء أن يتصور ، في واقع الحال ، ربما ، في حالة ما إذا كان الأب والأم غير موجودين  هناك أو لم يعودا موجودين البتة هناك ، لأنه ثمة أسر حيث على الدوام يكون الأب غائبا ، أو الأم غائبة ، فإن الآخر المتواجد هناك يمكن أن يكون شخصا آخر غير الأب ؟  أفكر في تلك الأسر المختلطة أو ربما هذا هو الواقع فعلا …

    خ. دافيد ناسيو : الجدان على سبيل المثال .

   لوران لوموان : الجدان ، أو شخص آخر ينتمي إلى العائلة ، أو الأقارب .

   خ.دافيد ناسيو : تماما . ثمة خيارات لانهائية بالتأكيد .

   فرانسواز بالدي : ذلك ما كنت بصدد التفكير بخصوصه . ينبغي في واقع الحال ، تحاشي إضفاء الطابع الأخلاقي على ذلك بسرعة كبيرة .

   خ.دافيد ناسيو : طبعا . على أنه في نفس الوقت ، لا ينبغي التخوف من ذلك . فأنا أنتمي إلى هذا المجتمع ، يبدو لي الأمر عاديا جدا أن أحدهم  يطرح تساؤلا على محلل نفساني : ” سيدي المحلل النفساني ،كيف تعتقدون بوجود سلسلة من الأفعال العنيفة في مجتمعنا في الوقت الراهن ؟ ما هو تفسيركم لذلك ؟ إلى من سوف أطلب ذلك ؟ هل سوف يُسأل القساوسة على ذلك ؟ ” أتمنى ذلك جيدا . صحيح أن المرء يرغب كثيرا في مساءلة علماء الاجتماع ، والمحللين النفسانيين ،مساءلة أولئك الذين يفكرون ويعمقون البحث في الحياة البشرية وفي الحياة الداخلية للكائن الإنساني ، كي يفسروا لنا كيف يمكن تقديم جواب شاف عن تلك الأعمال العنيفة والاجتماعية حاليا ، لاسيما وأن أولئك الجناة هم أصغر سنا ؛ فالكل على علم في الوقت الراهن أن الأمر يتعلق بشباب بين العاشرة والخامسة عشر سنة ؛ لابد إذن من تقديم جواب ما . لن أقدم جوابا قاطعا ، أكتفي بتقديم جواب يتعلق بمنظوري الخاص ، جواب محدد ، على أنه بإمكانه أن يساهم في إضاءة موقف أولئك الذين ينشغلون بعمق بالحقيقة الاجتماعية : بالتأكيد هناك نقص ،ثمة خلل في حضور الآخر في التربية .

  لوران لوموان : لقد قلتم بالأحرى ” وجود الآخر ” ، في الوقت الذي يستحضر فيه البعض انسحاب الأب .

    خ.دافيد ناسيو : قلت ” حضور الآخر ” .  لن أكتفي بالقول فقط ” بحضور الأب ” . وبالتأكيد ، فإن مشكلة الأب ، تنتمي إلى مجتمعنا . شيء مألوف القول بأن مكانة الأب ضعيفة ، وأن مكانة السلطة واهنة . ثمة مكانة مرموقة للمرأة ، مشروعة تماما، إلا أن تلك المكانة هي في طور التسريع ببعض معطيات المجتمع .

    لا يتعلق الأمر بتقصير فقط ، لا أرغب في حصر نفسي في مشكلة الأب والقانون والسلطة . أعتقد أنه من الواجب أن يتم تتبع الطفل منذ صغره ، أن يكون مصحوبا بأم تهتم به ، تتفهمه ، تواكبه ، تهتم به ، كما ينبغي مصاحبته من طرف أب ، بطبيعة الحال ، لكني أفكر خصوصا فيما تم التطرق إليه في البداية ، في المرحلة الأولى ، تلك الفترة التي يشكو فيها الطفل من عجز أصلي ، هو تواجد الآخر الذي يكون في وضع تفهم ، تواصل حي وعميق .

    لوران لوموان : هل بالإمكان الحديث عن الاستمرارية ؟ الحضور الراسخ للراشد الوصي الذي يساعد على التبنين ، أليس كذلك ؟

    خ.دافيد ناسيو :طبعا . من دون أن يشكل ذلك ضمانة مبالغا  فيها ! إن القول بأن الطفل عندما يكون مصاحبا تماما من قبل   الآخرين ، لا يعني عدم وجود انحراف ما ، لا وجود لانتهاك سلوك ما . بإمكان المرء ملاحظة سلوكات منحرفة لدى البالغين حيث لم يكن يشوب حضور التربية لديهم وحضور الأبوين أي شائبة .

   فرانسواز بالدي : لحسن الحظ بطريقة معينة !

   خ.دافيد ناسيو : طبعا . ومع ذلك ، فإن الأمر يكون إشكاليا جدا في سيرة مغتصب للأطفال على سبيل المثال . بإمكان المرء ملاحظة مغتصب أطفال تمت مواكبته مواكبة تامة ، تمت تنشئته من قبل أبويه بطريقة صحيحة ، ومع ذلك ، فإن هذين الأبوين لم يستطيعا منع أي شيء … إلا أنها قصة أخرى ، حوار آخر يمكن إجراؤه بخصوص تشكل الانحرافات  ، وليس تشكل الأخلاق البتة : إنه تشكل الانحراف . إن ما نعثر عليه في تشكل الانحراف ، هو أن الوالدين حاضران تمام الحضور هناك ،ثمة بالغون مثاليون يقدمون يد المساعدة ، بعودتنا إلى عبارة فرويد ، ومع ذلك ، لا يقدران على الحيلولة دون أن يصبح ابنهما ضحية لاعتداء جنسي ، ثم إن تلك التجربة المؤلمة ، المأساوية للطفل لن تكون محددا في كونه هو ذاته ، بعد غد يصبح راشدا ، من ضحية ، يصبح هو ذاته شخصا منحرفا ، لأن الغالبية العظمى لمغتصبي الأطفال كانوا ضحايا في السابق لمغتصبي أطفال بالغين آخرين . يوجد في حوزتنا أيضا مثال لراشد يبرز سلوكه ضررا للأخلاق برمتها ، للآخر في المجتمع ،  للحلقة الأضعف التي هي الطفل . تهدف مقترحاتي إلى منح توجيه تحليل نفسي لفهم تشكل الأخلاق ، جزئيا ، لدى الكائن البشري ، بغاية فهم أهمية أوديب ، أهمية الأبوين أثناء حياة الطفل العاجز ،وأهمية المنع الذي يصدر عن الأبوين أثناء عبور أوديب .

   لوران لوموان : حينما يعبر محلل نفساني هكذا ، حينما يكتب ، عندما يأخذ الكلمة أمام الملأ ، فإنه يعبر عن نفسه بمقتضى كفاءته المهنية بهدف تقديم المساعدة لفعاليات  اجتماعية لاتخاذ موقف ، غير أن ما يقوله في الغالب ، من وجهة نظر تبنين اللاشعور ، وأيضا من وجهة نظر ، لنقل ، القاعدة النفسية ، فإنه ينزلق بسرعة فائقة على أرضية القاعدة الأخلاقية …

    خ. دافيد ناسيو : تماما ! نحن المحللون ، ، يتم حثنا على التفكير حول كيفية ولادة مشاعرنا ، كيف تطرأ سلوكاتنا فجأة ، كيف نتخذ قراراتنا الحاسمة في الحياة : قرار  شراء بيت ، العيش في مدينة معينة ، قرار الزواج ، اتخاذ قرارالعيش مع شخص ما ، قرار إنجاب طفل ما ، قرار اختيار صيغة ما ، اختيار وظيفة ما ، إلخ . كل تلك القرارات ، بالنسبة لي ، تمت بصلة إلى اللاشعور ، بمعنى أنها تنهض عن اشتغال الحياة النفسية ، وبخاصة عن اشتغال اللاشعور . أعتقد أن اللاشعور هو محدد لقراراتنا الأكثر حيوية وشديدة الأهمية لوجودنا . يُقال دائما : ” اللاشعور ، هو من أجل تفسير فلتات اللسان والأحلام ” ؛ ويشكل هذا بالنسبة لي التمظهرات الأكثر فقرا لللاشعور  . يعبر اللاشعور عن نفسه في ظروف غاية في الأهمية لحياة كائن بشري ما . يجعل اللاشعور من كل واحد منا أن يكون وحيدا أو برفقة كائن ما ، واختياركم ، في أن تكونوا أخا ، كائنا متدينا ، سيتوقف بالنسبة لي على اللاشعور ؛ فكوني متزوجا بهذه المرأة منذ أربعين سنة ولم أنفصل عنها ، إن هذا يتوقف على لاشعوري ؛ وأن يكون لي أطفال فهذا ينتمي إلى اللاشعور ؛ وأن أكون محللا نفسانيا، هذا المساء ، في شهر يناير 2007 ، على ضفة نهرالسين بباريس ، أمامكم وأمام فرانسواز بالدي ، فإن هذا يدخل في نطاق اللاشعور . إن الأشياء ذات الأهمية القصوى ، بالنسبة لي تنهض عن اللاشعور . إلا أنه ، وانطلاقا من اللحظة التي نشرع فيها بالتفكير حول آليات الاشتغال ، دوافع الأفعال الأساسية ،لا مفر من مقاربةمشكلة وملامسة حدود الأخلاق بالضبط ، لأنه ، يظهر ، مباشرة ، تساؤلان ، حاضران على الدوام لدى الكائن البشري .ألا وهما : هل هذا جيد ؟ هل هذا سيء ؟ بعبارة أخرى ، لاحظوا ، مع كل ما قيل من قبل ، فسوف تسلمون أنه حينما أطرح سؤال ” هل هذا جيد . هل هذا سيء ؟ “، فإني أكون بصدد الكلام باسم الآخر ” هل هذا جيد ، أو أسوأ ؟ ” . من يطرح هذا السؤال ؟ فإذا ما كنت لاأعيش مع آخرين ، فإن هذا الخير وهذا الشر لن يوجدا أبدا .   إن الخير والشر موجودان فلأن الآخر موجود ، لأنه يوجد الآخرون ؛ وإلا فإنه لن يكون في حوزتي خير ولا شر . نفترض أنني مسكون بغريزتين ، الخير والشر ، ونفترض أنني أمارس تخصص الدكتور جيكيل Dr Jekyll) ( ، الذي قال أننا نتكون من جزأين ، غرائز سيئة وغرائز خيرة ، والذي علاوة على ذلك انضم إلى معلمنا العزيز فرويد ، فقد قال أننا جميعنا ، ككائنات بشرية ، مكونين من كائنين : خير وشرير . ما أود قوله هو ماذا لو كان الآخرون غير موجودين ، سوف لن أعرف ما إذا كنت خيرا أو شريرا . ثمة خيّر وشرير لأن الآخرين يوجدون هنا ، يوجد الخير والشر ، أن هناك يوجد إله وشيطان ، أنه ثمة غريزة حياة وغريزة موت . فإذا ما انعدم الآخرون ، فسوف لن يكون هناك الخير والشر ، لن توجد هناك أخلاق ، إذأن الأخلاق ، كما قلت لكم منذ قليل ، تتولد  عن حضور الآخر في الأنا . سوف تسلمون ما أن نشرع في الاشتغال على تأثيرات اللاشعور في حياتنا ، تبزغ على الفور الأسئلة : ما هي تداعيات ما تقومون به على الآخر ؟ ما هي تداعيات ما تفكرون فيه على الآخر ؟ ماهو انعكاس ما تحسون به على الآخر ؟

    لوران لوموان : ألا يساعد التوسع في هذه المسألة التوصل إلى مساعدة الآخر على العثور على المعنى ، ثم الخروج من ثنائية ، خير / شر ، بهدف بلوغ المعنى ؟

    خ. دافيد ناسيو : طبعا ، ربما . لكن ما المعنى ؟

   لوران لوموان : يبدو المعنى بالنسبة للاكان دينيا !

   خ.دافيد ناسيو : نعم …على أنه ما المعنى ؟ المعنى هو أن تسلم جدلا بفعل في إطار هدف قصد تحقيقه ، أن تفترض عملا بموجب بلوغ هدف وتداعيات ذلك على الآخر . يسمح لي الهدف المنشود بتحديد ماإذا كانت هناك مقصدية لذلك . وبعبارة أخرى ، ما هي دلالة العمل ؟ إن مسألة المعنى هي دلالة الفعل وأثر ذلك على الآخر ؛ وهذا معناه أن المعنى هو دلالة فعل acte) ( وأخلاقه ، إذ إنه فعل خيّر لو أحدث خيرا ، وإذا ما تسبب في الإضرار بالآخر فهو حدث سيء . وبالنسبة للمعنى ، فلا بد من وجود آخر ، شخص ثالث ، لا بد من قارئ يمنح المعنى ؛ بمعنى أني أستطيع فعل ذلك بعملي الخاص ، على أنه لا بد من الفعل وقراءة الفعل ، وإلا فإنه لن يكون ثمة معنى . إن لم يكن المعنى يصدر إلا عن قراءة العمل . لا بد لي إذن من العمل ومن يقوم بقراءة هذا العمل ، سواء أكنت أنا نفسي من يقوم بذلك ، أو آخر . لذلك فلو قلتم بأن المعنى ذو طبيعة دينية ، فإني أقوم هنا على إدراج الهيئة العليا التي سوف تكون هي الإله ، أعني عملي بالنسبة لهذه الهيئة العليا ، الإلهية ، التي ندعوها إلها . لكل واحد الحق في أن يؤمن أو لا يؤمن به …

   فرانسواز بالدي : إنها مسألة الغيرية .

   خ. دافيد ناسيو : تماما . ثمة غيريتان . ثمة غيرية أولئك الذين يمكن لفعلي أن يجلب لهم المضرة أو المنفعة ، وثمة غيرية سامية ، الإله .

   لا تتوقف قراءة العمل لا على الدقة ولا على البطلان ، أود القول ، بغض النظر عن قراءة العمل ؛ فالمعنى هو ما ينتج عن قراءة عمل ما تبعا للمقصدية ، الهدف أو التأثير على الآخر .

   لوران لوموان : شيء مدهش للغاية ذلك أنكم حينما تستعملون مصطلحات ” مقصدية ” ، ” هدف ” ، إلخ . ، فإنكم تقدمون توصيفا ، بالنسبة للاهوتي أخلاقي ، لما يعتبر عملا أخلاقيا !

    فرانسواز بالدي : أتذكر مقالا لأكسيل كهان (Axel Kahn) في جريدة لوموند Le Monde) ( منذ عدة أشهر ، لمّا كان لا يزال منتميا إلى اللجنة الوطنية للأخلاقيات ، حيث قال بأن عظمة الديموقراطية كانت تكمن في بناء الذات ، ليس بشكل كامل ، لكن على الأقل بشكل جزئي ، بناء المرء لأخلاقه ، بمعنى أن يعقد المرء العزم مثلا على الاشتغال على الجنين أولا ، ولما تقرر الديموقراطية ، لنقل في هيأتها التنفيذية ، أن ذلك كان مسموحا به.

   خ. دافيد ناسيو : فيما يتعلق بالصراع الأوديبي ، فقد قرأت كثيرا ، ولم أستطع قراءة كافة المراجع التي كتبت حول أوديب ، لأنه ، وأكرر ذلك ، ثمة مكتبات كاملة ، سوف أمضي حياتي كلها في قراءة ذلك ، إلا أنني قرأت النصوص الأساسية حول أوديب ، وأستطيع أن أؤكد لكم حتى ولو أني قمت بتأليف هذا الكتاب 2 ، فلأني وجدت أنه لا وجود لنص ، بالرغم من غزارة الأدب ، نصا يقول ما كنت أرغب في قوله بعد التفكير في المسألة ، الإنصات إلى مرضاي ، الفهم على مستوى قصة الأطفال الذين يأتون هنا ،هذا العنصر الأساسي والبسيط ، على أن ذلك لا يُقال صراحة : إن أوديب هو مسألة جنس ، وليس مسألة حب أو كراهية . إن ذلك مثير للإعجاب ؛ لطالما تم التقليل من كثافة ذلك ، وكان ينتهي المطاف بالمرء إلى القول : ” أوديب ، هو : الطفل يحب أمه ولا يحب والده ” . إن ذلك خاطئ ! إنها قضية جنسية ، قضية جنسانية ، قضية عضة ، نظرة ورائحة ؛ إن ذلك شيء مادي للغاية ، جسماني جدا ! فحتى ولو أن فرويد لم يصرح بذلك بطريقة … واضحة جدا . فقد وددت إعطاء أوديب حمولته الجنسية .

   في نفس الوقت كنت أرغب في وضع الجنسانية هناك حيث هي ، فعلا ، بدلا من تعرفها في كل مكان ! نقر بها هناك حيث هي ، سليمة ، مثل ثوران ، متحمس ، بركاني لدى طفل ذي خمس سنوات ، ثم إدراك أن ذلك الطفل مسكون بتلك الإثارة الجنسية المفرطة . إنه لأمر مدهش ملاحظة ذلك ! انطلاقا من اللحظة التي يتم فيها الإفصاح عن ذلك ، فإن الجميع يلاحظ ذلك . أنا لا أقول أن كل الأطفال هم على هذه الشاكلة . ثمة أطفال تتجلى لديهم هذه الإثارة الجنسية المفرطة بطريقة معلنة بشكل أو بآخر ، مصرح بها بدرجات متفاوتة ، حاضرة نوعا ما ، على أنه في جميع الأحوال ،فإن جميع الأطفال خاضعون وهم يشكلون موضوعا لهذا الثوران البركاني الجنسي .

” أود التوقف لحظة أخرى كي أستنطق العلاقة بين الجسد واللاشعور ، عاملا على طرح السؤال التالي : من يحكمنا ؟ من هو السيد الذي يوجه مصيرنا ؟ من سيكون بإمكانه أن يفرض عليّ التوقف عن كتابة هذه الصفحة والاستسلام للنوم لمداواة نزلة برد ، إن لم يكن سيدي ، قائدي بلا منازع ؟ ومع ذلك سيقول آخرون بأن قائدهم الذي لا يمكن التشكيك فيه ليس هو الجسد بل اللاشعور ذاته ، وآخرون سيقولون أيضا إنه الإله . وبالنسبة لي ، فإني أعتبر نفسي خاضعا لسيدين لا ينفصلان ، أحدهما أشد قوة من الآخر ، متحدين معا لقيادتي . يمثل أحدهما الجسد ، ضرورة ملحة لامناص لي منها ، ويمثل الآخر اللاشعور ، عامل غير مرئي وصامت يملي قانونه . الاثنان متعالقان يعيشان في انسجام . يعتبر الجسد مرنانا شديد الحساسية لللاشعور ، ثم إن اللاشعور يتفق بدوره مع التفاوتات الحتمية لجسم حي وفان يتغير باستمرار . وبكل تأكيد ، فإن الإله ، غيرية عظمى للإنسان ، هو هيئة كونية ومتعالية كل واحد سوف يدركها أو لا يعترف بها 3 . “

  فرانسواز بالدي : علاوة على ذلك ،  وفي جميع الأحوال ، يعتبر الإله آخر للـ” ذات ” ، أن يتم الإيمان به أو لا ، فلا حاجة إلى ” الإيمان ” بالإله من أجل هذا .


 

• مصدر النص : مجلة الإيثيقا واللاهوت الأخلاقي (Revue D’Ethique et de Théologie Morale )عدد 244 يونيو 2007 الصفحات : 97 ـ 109

1ـ سيغموند فرويد ، نشأة علم النفس . رسائل إلى ويلهلم فليس ( 1887 ـ 1902 ) ( طبعة أولى 1895 ) ، باريس ، منشورات بوف ، 1991 ، ص 336 .

2ـ خوان دافيد ناسيو ، أوديب . المفهوم الأكثر جذرية للتحليل النفسي ، باريس ، منشورات بايو Payot  ، 2005 .

Payot  ، 2005 .                  

3ـ خوان دافيد ناسيو ، جسدي وصوره ، باريس ، Payot  ، 2007 ، ص 200 ـ 201 .