مجلة حكمة
هل تسعى لأن تكون جيدا في الفلسفة؟

هل تسعى لأن تكون جيدًا في الفلسفة؟ إذن يتوجب عليك دراسة الرياضيات والعلوم – بيتر بوغوسيان وجيمس ليندساي / ترجمة: مرام العنزي، مراجعة: على بر أحمد


إذا كنت تريد أن تكون فيلسوفًا جيدًا، فلا تعتمد على الحدس أو تخلد إلى الراحة: ادرس الرياضيات والعلوم، وحينها سيتوسع أفقك و تتهيأ لك أفضل الطرق التي نملكها لمعرفة العالم، بالإضافة إلى إمدادك بالأدوات اللازمة للتفكير الواضح ذو المنطق التحليلي . الرياضيات هي اللغة الفلسفية التي تفضلها الطبيعة، والعلم هو الوسيلة الوحيدة الفعالة حقًا لدينا لربط فلسفتنا بالواقع. وبالتالي فإن الرياضيات والعلوم أمران مهمان للفلسفة الجيدة – لوضع الأمور في نصابها الصحيح.

الحقيقة ليست دائمًا بديهية أو مريحة. كالمُصادفَة الغَريبة في نظامنا الرقمي العشري، على سبيل المثال، الرقم 0.999 …، وهو عبارة عن سلسلة لا نهائية من التسعة، يساوي 1. أي، 0.999… هو 1، والتعبيران، 0.999… و1، هما ببساطة طريقتان للتعبير عن نفس الشيء. والأدلة على هذه الحقيقة عديدة وسهلة ويمكن الوصول إليها من قبل الأشخاص الذين ليس لديهم خلفية في الرياضيات (أسهلها هي إضافة الثلث 0.333… إلى الثلثين، 0.666…، وشاهد النتيجة). هذه النتيجة ليست بديهية، وعلى هذا يشهد أي شخص قام بدراستها، ولا يشعر الجميع بالراحة معها لأول وهلة.

العلوم -وهي إلى حد كبير نِتاج للفلسفة- مفعمة أيضًا بالحقائق غير البديهية، وحتى غير المُريحة. وقد عُثِرَ على الأمثلة الأكثر تطرفًا في ميكانيكا الكم، مع تفسيرات تجارب الشق المزدوج، والتشابك الكمي، ومبدأ هايزنبرغ (مبدأ الريبة) التي أربكت الجميع تقريبًا. ولكن حتى العلوم التي تحقق في المقاييس المألوفة عندنا -مثل التطور البيولوجي- هي غير بديهية وغير مريحة لدرجة أن عددًا كبيرًا من الناس يرفضها، على الرغم من الإجماع العلمي الساحق الذي يمتد لما يقرب من قرن ونصف القرن.

يتطلب التفكير الفلسفي القدرة على التعاطي مع الأفكار بشكل منطقي ودقيق، ومن ثمَّ إما قبول النتائج أو رفض افتراضاتنا – بغض النظر عن مدى كونها غير بديهية أو غير مريحة. والرياضيات هي أداة مثالية لتعليم هذا؛ لأنها لُغة مُجرَّدة وتُبسِّط الواقع إلى حدَّ بعيد. وهذا لا يضمن أن لغة الرياضيات هي اللغة الوحيدة الصائبة دائمًا للفلسفة الجيدة، على الرغم من أنها قد تكون كذلك. لكن هذا يعني أن تعلُّم التنظيم والتفكير والتدليل على المنوال الرياضي له فوائد جليلة في التفكير الفلسفي الجلي. والفلاسفة الذين يمكن أن يفكروا مثل علماء الرياضيات تفكيرهم واضح، مما ينعكس على وضوح فلسفتهم.

خذ على سبيل المثال تطبيق نظرية المجموعات في الدراسات اللسانية؛ حيث أسهمت بعض أفكار نظرية المجموعات-من قبيل تطبيقات العلاقات الفرعية، والتقاطعات والحلقات، والمجموعة الشمولية، وحتى الرموز الرياضية ذات الصلة بالمعدلات مثل الصفات، والظروف، والعبارات التشاركية -في مساعدة اللغويين على توضيح العلاقات بين الكلمات وفئات الأفكار التي يمثلونها. لقد سمح هذا التطبيق بفهم أكثر دقة وأعمق للطرق التي تخلق بها الاستخدامات المختلفة للكلمات معنى في الجمل وبالتالي القدرة على تعبيرات أوضح وأكثر ثراءً للأفكار، بما في ذلك المقولات الفلسفية. وقد فعلت ذلك على الرغم من حقيقة أن علم اللغة لا يعتمد على الرياضيات ولا يشابهها مثلما تشابه الرياضيات لمجالات أخرى كالفيزياء.

حتى الجهود الفلسفية بشأن موضوعات معقدة للغاية مثل الأخلاق –التي تتصف بطبيعة ذاتية تحوِّطها بستار يمنع دخول الكثير من التجريبية الموضوعية فيها- تستفيد من عوائد التفكير الرياضي. على سبيل المثال، خذ مساهمة سام هاريس المثيرة للجدل لعام 2010 في كتابه الأكثر مبيعًا “المشهد الأخلاقي” (The Moral Landscape)، حيث جادل لتحديد القيم البشرية علميًّا. يسهل تصوُّر هذا المشهد الأخلاقي المجازي من خلال طُبوغْرافِيا متعددة الأبعاد التي يمكن فيها تصور قدر من الازدهار والمعاناة في تصور القمم والقيعان كحد أقصى وأدنى لذروات. علاوة على ذلك، تعتمد حجة هاريس بأكملها جزئيًا على قدرته على التعبير عن نظير موضوعي، وهو الحد الأدنى المطلق، في تلك المساحة – أقصى معاناة ممكنة لكل كائن حي. ويمكن اعتبار المشهد الأخلاقي بأكمله كمجموعة مرتبة من المواقف الأخلاقية جنبًا إلى جنب مع عواقبها الناتجة مقاسة على مقياس افتراضي متعلق بالرفاه والمعاناة.

بالطبع، الرياضيات قابلة للتطبيق بشكل أوضح على الفلسفة حيث تتقاطع مع العلوم الرياضية الدقيقة، مثل الفيزياء.  يعتمد الكثير في الفيزياء، على سبيل المثال، على الفهم الواضح لنطاق وقوة وتأثير مُبرهنة نويثر (الأولى)، المسماة على اسم إيمي نويثر. كانت مبرهنتها، التي تم إثباتها قبل قرن ونشرت في عام 1918، ثورية حقًا في الفيزياء لأنها غيرت تمامًا كيفية فهمنا لقوانين الحفظ، وكشفت أن قوانين الحفظ تتبع تلقائيًا من افتراضات معينة عن ثبات القوانين الفيزيائية (على سبيل المثال، إذا كانت قوانين الفيزياء لا تختلف باختلاف المواقع في الفضاء، يتبع الحفاظ على الزخم تلقائيًا). وما إذا كان من الأفضل تصنيف نظرية نويثر على أنها نتيجة للرياضيات المجردة أو الفيزياء النظرية، ولكن ذلك يحتاج الفلاسفة فهمها؛ على الأقل إذا كانوا يرغبون في العمل بكفاءة على الأفكار المتعلقة بهذا. ومع ذلك، يتطلب الفهم والتقدير التام لنظرية نويثر فهمًا جيدًا للجبر المجرد، على الأقل على المستوى الجامعي المتقدم. ولذا فليس للميتافيزيقيين الكونيين بد من تحصيل ما يلزم من الرياضيات لفهم مثل هذه الأفكار.

ومع ذلك، فإن الفلسفة بشكل عام، والميتافيزيقيا على وجه الخصوص، ليست مُتقنة ومنظمة مثل الرياضيات؛ لأنها يجب أن تتفاعل مع فوضى العالم لمساعدتنا في التأكد من حقائقها. وبالتالي، فإنه لا تتمتع برفاهية كونها محض تجريد. تحاول الميتافيزيقيا استخلاص الحقائق حول العالم والتعبير عن هذه الحقائق في صيغة قضايا. وتفعل ذلك من خلال فحص النتائج المنطقية للافتراضات حول الواقع التي تستند إلى أقرب ما يمكن الواقع، تمامًا مثل الرياضيات (الأشكال الحسابية والهندسية أماكن انطلاق تجريبية لكثير من تفكيرنا الرياضي) – وبالتالي يجب أن تبدأ الميتافيزيقيا بالاعتراف بأن العلوم هي الطريقة الشرعية الوحيدة لربط أفكارنا بالواقع. وحتى نتيجة قوية مثل مُبرهنة نويثر ليس لها تطبيق حقيقي إذا لم يكن لدينا أسباب جيدة مُدعَّمة بالبيانات للاعتقاد بأن قوانين الحفظ تنطبق على الكون.  والمساعي الميتافيزيقية التي ابتعدت عن العالم بإغفالها العلم ليست سوى ألعاب أكاديمية.

يمكن للمرء أن يجادل في أن بعض فروع الفلسفة، مثل الأخلاق، لا تحتاج إلى توضيح حقائق عن العالم، أو حتى أنه لا يوجد فرع من الفلسفة يفعل ذلك لأن اختصاص الفلسفة مجرَّدٌ بطبيعته. وبغض النظر عن وجاهة هذه الاعتراض فهو يضمحل حتى لو عملت الفلسفة ببساطة على تحديد النتائج المنطقية للافتراضات المختلفة، حيث أن القيمة الحقيقية لهذه الافتراضات تعود إلى كونها تستند إلى ملاحظات للواقع. وعلاوة على ذلك، إذا كان سيكون للاستقصاء الفلسفي أيُّ أهمية في العالم الحقيقي -وهو هدف كل عالم أخلاق منذ سقراط- فيجب أن تكون نتائج تحقيق المرء قابلة للتطبيق. فعلى سبيل المثال، قد تكون المناشدات البليغة لبيتر سنجر ضد تناول الحيوانات هي نتائج منطقية لافتراضاته، ولكن كل من افتراضاته واستنتاجاته مرتبطة على الفور بالواقع: لا تأكل الحيوانات، وهو سلوك حقيقي قابل للتطبيق، بسبب المعاناة الحقيقية للحيوانات.

علاوة على ذلك، تتطلب التخصصات الفرعية للأخلاقيات على وجه الخصوص رؤية هائلة لطبيعة أنظمة العالم الواقعي المعقدة ورغبة صادقة لمراجعة المعتقدات في ضوء الاكتشافات الجديدة – وكلاهما يُعزَّز من خلال فهم العلم والأساليب العلمية، وطريقة الفكر العلمي.  يؤدي علم الأخلاق دور النظام المُقيِّد لعلم النفس البشري والكائنات الحساسة الأخرى، وهو عبارة عن مجموعة من الحقائق التي يمكن تحديدها -من حيث المبدأ- عن العالم (جون رولز، أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا في القرن الماضي، اعترف بذلك صراحة “في نظرية العدالة”، كما فعل روبرت نوزيك، أحد المنتقدين الرئيسيين لرولز). من غير المحتمل أن تكون هذه الحقائق مُنظمة ومُتقنة بنفس طريقة حساب المقذوفات لصاروخ يذهب إلى المشتري، لكنها ما تزال تمثل مجموعة من الحقائق المعروفة افتراضيًا عن العالم. وبشكل جلي، الكثير من هذه الحقائق ليس تعسفيًّا. كل شيء في تلك المجموعة يعتمد كليًّا على حقائق العقول التي تدرك الألم والمتعة والفرح واليأس والشفقة والشماتة (علاوة على ذلك، على الرغم من اختلافنا، لسنا مُختلفين على نحو كبير، لذا فإن العبارات المعيارية قوية بشكل ملحوظ، على الرغم مما قد يفوتها في التفاصيل). لذلك، يجب على علماء الأخلاقي أن يكونوا مثقفين في مجالات فكرية متعددة، مثل علم النفس علم الأعصاب وعلم الاجتماع، وخصائص أي علم ينطبق على مشاريعهم المحددة، مثل الطب وعلم الأحياء وعلم الوراثة.

من خلال المساهمة في تطوير المنهج العلمي، يمكن القول إن الفلسفة تعمل بانسجام وتعاون. ولا يمكن أن نفلت من ملاحظة أن العلم والفلسفة يفسدان هذا التعاون؛ فغالبًا ما ينتقد العلماء –عن حق- الفلاسفة لإطلاقهم تكهنات لا علاقة لها بالواقع وفشلهم في تحقيق تقدم جوهري، ويميل الفلاسفة –عن حق- إلى الاستخفاف بالعلماء بسبب افتقارهم إلى المعرفة الفلسفية، سواءً أكانت هذه المعرفة ذات صلة بالعمل في العلوم أم لا.  ومع ذلك، فإن العلم يحصل بشكل لا لبس فيه بالضبط على ما تسعى إليه الفلسفة: الإجابات الصحيحة ذات الصلة بالعالم. في بعض الأحيان، تكون هذه الإجابات الصحيحة هي النتائج المرغوبة للعملية الفلسفية، وفي أحيان أخرى تكون مدخلات ضرورية، إذ أن أحد الأدوار الرئيسة للفلاسفة هو مساعدة العلم على طرح الأسئلة الصحيحة وتقديم سياق للإجابات التي يحصل عليها.

كنتيجة ضرورية لهذا الترتيب، بغض النظر عن مقدار التذمر الذي يثيره في ذوي الميول الفلسفية، فإن الحقيقة هي أن الفلسفة الجيدة يجب أن تكون مُطعمةً بالعلم – ينبغي أن يجري هذا التعاون لتتحقق الفائدة. ولحسن الحظ، فإن فكرة أن تكون الفلسفة أكثر رياضية وعلمية لها سابقة قوية في تاريخ هذا المجال (سبينوزا وديكارت وآخرون، على سبيل المثال، معروفون باستخدام “الطريقة الهندسية” في الفلسفة). ويدرك الفلاسفة البارزون الأهمية التاريخية للرياضيات والعلوم في مجال الفلسفة وعواقب غيابها. خذ، على سبيل المثال، دانيال دنيت، الذي شبَّه العديد من المشاريع الفلسفية باستكشاف الأكوان المنطقية لمتغير خيالي وغير ذي صلة في الشطرنج. والنقد الأقسى من بيتر أونغر، في كتابه “أفكار فارغة” (Empty Ideas) وجه نقدًا مدمرًا لأجزاء كبيرة من المسعى الفلسفي، خاصة تلك الجاهلة علميًّا. وإذا كانت الفلسفة تأمل في تحقيق هدفها في إيجاد الحقيقة المعرفية والميتافيزيقية، وبالتالي أن يكون لها “أهمية باقية”، فيجب أن تكون متأصلة في العلم.

مع ذلك، مثلما يكتسب الفلاسفة الجيدون الكفاءة من خلال إحاطتهم علميًا، يكتسب العلماء النظريون الجيدون الكفاءة من خلال معرفة المزيد في الرياضيات والتعمُّق فيها. وهذا لا يعني أن كل علم جيد هو رياضي بشكل كبير، لأن علم الأحياء هو مثال واضح للعلم الجيد الذي ليس رياضيًّا في المقام الأول. في كتاب “أصل الأنواع”، على سبيل المثال، لا توجد معادلات، ولكنه يزخر بالملاحظات والاستدلالات. ولكن حتى علم الأحياء التطوري، يتم تعميقه من خلال نظرية الرسم البياني (“شجرة الحياة”، على سبيل المثال)، العلاقات فرعية (علم التصنيف)، الاحتمالية والاندماج (وراثة الجينات)، النموذجة الديناميكي (معدلات النمو التفاضلي للسكان لوصف آثار الضغوط البيئية، على سبيل المثال على غرار معادلات Lotka-Volterra وغيرها)، والعمليات العشوائية (الاختلاف العشوائي للصفات)، والنهج التوافقي للتفكير في الحمض النووي على أنه “كلمات رياضية” في أبجدية من أربعة أحرف. ولا يوجد نظام أفضل من الرياضيات لضبط العقل للتفكير بهذه الطريقة المُتقنة بشكل أبداعي واضح.

قد يعترض البعض على أن عبء تطوير الكفاءة الرياضية وعادات الفكر يُوضع على العلماء النظريين أكثر من الفلاسفة، ولكن هذا يُقلِّل من قدرات الفلاسفة الجيدين ومتطلبات الفلسفة الجيدة. والخطوط التي تقسم العلم النظري والفلسفة الجيدة للعلوم غير واضحة ودقيقة، وبالتالي تتطلب العديد من فروع الفلسفة أن يكون الفلاسفة في الواقع علماء نظريين. وفي هذه الحالة، تمامًا مثلما يتمسك العلماء النظريون بالبيانات، بغض النظر عن براعة نماذجهم، وكذلك الفلاسفة الجيدون. ولذلك، من الضروري أن يكون الفلاسفة مثقفون علميًّا ومن المفيد أن يكون الفلاسفة بارعين رياضيًّا.

عندما تتعارض نتائج الحجج السليمة المنبثقة عن الأدلة مع المنطق السليم، فمدار الرفض يجب أن يوجه تجاه المنطق السليم مع استبقاء نتائج الحجج السليمة. فالفلاسفة الجيدون لا يعتمدون على الحدس أو يركنون إلى المُريح، ويستخدمون الرياضيات والعلوم لتوضيح فلسفتهم واثباتها علميًّا. والرياضيات تساعد على صقل مهارات التفكير الواضح والدقيق بالإضافة إلى العلوم بشكل لا مثيل لها في تحديد الحقائق والنظريات التفسيرية التي تصف الواقع. ولذلك، تعد الرياضيات والعلوم حاسمة بالنسبة للفلسفة كونها تقدم مساهمات ذات قيمة دائمة، ولذا يجب على أولئك الذين يرغبون في أن يكونوا جيدين في الفلسفة دراسة كليهما.

 

المصدر