مجلة حكمة
هذا الجسد لي أم أنا الجسد؟

هذا الجسد لي أم أنا الجسد؟ – جاكلين لاغري / ترجمة: الحسين بوتبغة


هذا الجسد لي أم أنا الجسد؟

“الجسد هو الواقع الفعلي للفرد الذي اخترقه الوجود لذاته”. (هيجل ) 1

 أحدثت التقنيات البيولوجية -الطبية الجديدة بفضل القدرات الجديدة التي تمارسها

في ما يبدو على الجسد، أزمة في التصورات القانونية والفلسفية المتعلقة بوضع الجسد البشري وعلاقته مع الشخص. بادئ ذي بدء، فهي تنتهك في الممارسة ما كان يعتبر مبدأين ضمنيين مؤسسين لحقوق الأشخاص:

الأول : عدم انتهاك حرمة الشخص ، مثلا في حالة أخذ الأعضاء من شخص يحتضر وعند اعتبار عدم وجود اعتراض صريح نوعا من الموافقة الضمنية ؛

الثاني : عدم التعامل مع الشخص بمعايير السوق والسلع و الأثمنة  ، في حالة تأجير الرحم أو بيع الأنسجة والأعضاء والأمشاج.

إن هذه الممارسات المستجدة – أي تأجير الأرحام و بيع الأمشاج إلخ…-تدعو إلى التساؤل حول أهمية التمييز القانوني الصارم بين ما هو من صنف السلع و بين ما يتعلق بالشخص ، وهو تمييز  يشير على الفور ، بالنسبة للفيلسوف  الألماني  إ.كانط، إلى التمييز الواضح  بين ما له سعر – أي ما يدخل ضمن السلع- وما له كرامة و لا يقوم بالتالي بسعر ، لأنه من مرتبة أخرى ، مرتبة أعلى مما يدخل ضمن تقييم السوق للسلع ، يعني الشخص.

 من المؤكد أن الفلاسفة ليسوا ساذجين لدرجة تجعلهم لا يدركون أن للفرد في سوق الشغل (و في مجالات أخرى غيره) سعرا: السعر الذي نحن على استعداد لدفعه مقابل عمله أو خدماته . ولكن كما قال الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز ، “الإنسان إله و كذلك ذئب للإنسان “3. غير أن هذه الخاصية، في الواقع ، لا تعطل و لا تلغي الأمر الأخلاقي القاضي  “بمعاملة الشخص البشري ، في نفسه وفي الآخرين دائمًا باعتباره غاية وليس مجرد وسيلة “4 ؛ انها على العكس من ذلك   تعيد إحياءه و تجعل ضرورة التأكيد عليه أكثر إلحاحا و أكثر قوة . هذه المشاكل التي تبدو حديثة جدًا على وجه التحديد ، تعيد إحياء أسئلة  أخلاقية قديمة جدًا : الحق في التصرف في الجسد دون قيود (مشكلة الانتحار ، أو التشويه  الطوعي )5  أو الحق في  التصرف في جسد الآخر (مشكلة الرق والسخرة بشكل عام). إن هذه المشاكل تقود إلى إعادة صياغة   سؤال فلسفي قديم نشأ في سياق الفكر القائل بالثنائية: هل لدي جسد ام انا جسدي؟ هل الجسد حقًا كما تقول استعارة فيثاغورية قديمة “عبارة عن سجن” أم إنه بالأحرى مثلما قال هيجل “عمل فني للروح”؟ 6

      لا يمكننا الحسم بشأن الحدود القانونية لمشروعية (أو لا مشروعية) هذا التدخل أو ذاك، أو هذه المعاملة أو تلك، دون التساؤل حول المبادئ التأسيسية للقواعد والمحظورات التي تجعل من الممكن تأسيس إنسانية الإنسان، وبالتالي التساؤل أيضًا حول تصور الإنسان المرتبط بذلك، الأمر الذي يحيلنا في النهاية على الأسئلة الميتافيزيقية المتعلقة بتعريف الإنسان باعتباره ذاتا (أي باعتباره حرية وعقلا ومسؤولية) ومظاهر تمفصل الوجود والتملك داخله. ومن المفارقات أن إبراز مدى تعقيد الشخص في أبعاده الثلاثة التأسيسية: الفردي (أو العضوي) ، العلائقي (الموجود للآخرين وفي  علاقته بجسده) والرمزي (باعتباره كائن اللغة والمعنى) لا يعمل إلا على تقوية الوعي بالوحدة الصميمية للشخص الإنساني : روح متجسد و جسد روحاني ، ملتقى  و مركز  الدلالات  .الروح و الجسد لا ينفصلان وإنما يمتزجان بشكل لا يقبل الانفصام، حتى على الجلد، مما يعكسه بوضوح الوجه و اليد؛ إذ لو كان أصلهما عضويا بحتا ويستجيب لبرنامج وراثي ، فإن وجودهما  الحالي سجل لتاريخ   ؛ إن ما يبدو منهما ليس مجرد مظهر خارجي  بل هو المظهر،  كاشف لحياة و لمزاج. أن نؤكد أن لدينا – أن لي  – جسدا يبدو أنه يفترض مسبقًا تمييزًا ربما تم تحديده بشكل خاطئ  على أنه بسيط و واضح: فهناك من ناحية ، الأنا ، الذات التي تملك جسدا ، مأخوذة على أنها المتحدث ، على أنها مصدر  القول و الوعي ؛ و هناك من ناحية أخرى ، هذا الأنا شبه المالك ،   لديه الجسم ، في متناول اليد ، تحت تصرفه ، باعتباره أداة ، باعتباره طريقة تعبير ، أو  بالعكس من ذلك في مواجهة مع الجسد باعتباره عائقا غامضا  يشكل حاجزا بين الفاعل والعالم ، أو بينه وبين ذات أو ذوات أخر مثل ما هو الأمر في حالة المرض  المسبب للإعاقة ، أو في  حالة إرهاق العمل حي لا يعود بإمكان الجسد  التجاوب مع مطالب الإرادة ،  أو في تجارب الاغتراب المرتبطة بالقبح أو بالجمال المفرط . كتب سارتر في «الأشياء”، حول طفولته يقول: “كان من الممكن أن يكون الأمر مثالياً لو كنت أعيش حياة جيدة مع جسدي. لكن الواقع أننا كنا نشكل معا زوجًا غريبًا. ” 7

        هذه التجربة في وضع مسافة بيني وبين جسدي التي يبدو أنها تعني أن لدي جسداً دون أن أختزل فيه، يتم إنكارها على الفور من خلال تجارب أخرى عادية بنفس الدرجة حيث يتحقق التماثل بيني و بين جسدي، على سبيل المثال تجربة الخجل أو تجربة خدش الحياء، حيث يكون الهجوم على جسدي (أو على مظهري المادي) هو هجوم علي ، أو على العكس من  ذلك  مثال تجربة المتعة حيث يبتهج الأنا بشكل كلي من خلال الجسد  . باختصار، ففي القبح أو الجمال، في اللذة أو الألم، في المتعة أو المرض، فإن تجربة الجسد هي دائمًا تجربة نمط وجود غامض. “الجسد ليس شيئًا، والوعي الذي لدي عنه كذلك ليس فكرة. إن وحدته هي دائمًا ضمنية ومربكة.”8 كتب الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي، بحق.

          إن السؤال  : هل أنا جسد أم إني أملك جسدا؟ ليس سؤالاً سيكولوجيا من نوع : هل لدي علاقات جيدة بجسدي؟ أو باستعمال مصطلحات عصرية : هل أشعر بالرضا أو بعدم الرضا  بسبب مظهري الخارجي؟ إنه سؤال ميتافيزيقي يتعلق بالبنية العلائقية للجسد من حيث هو المركز الذي انطلاقا منه يوجد بالنسبة إلي عالم: عالم من الأشياء المصفوفة عن يميني أو عن شمالي ، أمامي أو خلفي ، و عالم من الدلالات انطلاقا من اللغة الأم ، وهو كذلك ، بالنسبة للغير  ، أنا في عتمة . هذا السؤال الميتافيزيقي يفسح المجال للعلاقات بين “المادية ” و “المعنى “، و كذا بين “وجد” و “امتلك”.

        تشير الحيازة إلى خانة الملكية من قبيل ما يميزني ومن قبيل ما يمكنني الحصول عليه واستعماله.  فهل ، بهذا المعنى ، لدي جسد ؟  على نحو ما ، نعم . الجسد الذي أملكه هو مركز الادراكات والأفعال   التي من خلالها أندمج في العالم في مكان وزمان محددين. لقد لاحظ الفلاسفة القدماء منذ فترة طويلة أن اليد ليست   أداة بل هي ما يصنع الأداة. غير أن يد النجار ليست هي يد الموسيقي، وفي اليد تنقش بشكل ملموس قصة حياة : اليد لا تعلن عنها ، ولكنها تختزلها .

أنا، إذن ، أملك جسدا بالمعنى الذي يوجد به تحت  تصرفي بشكل مستمر، أي باعتباره أداة طيعة إلى  هذا الحد  أو ذاك في خدمة اندماجي  في العالم ، وساطة  فعلية ملموسة لإرادتي أو لمشروعي. غير أن هذا الوضع يمكن أن   يزول ، وإن كان ذلك  لا يعني أنني اتوقف عن الوجود. قد ارغب في الذهاب إلى مكان ما ،  لكن إذا كنت مشلولا ، فإن الرغبة في المشي لا تتطلب إنكار الجسد بل قبوله على الوضع الذي أصبح فيه ، وقبول الحيلة الفنية للأطراف الاصطناعية  التي  ينتهي بها الحال على كل حال لتصبح  تقريبا جزءًا من الجسد. وبهذا المعنى، فالسائق الذي يقول :”أنا سوف أمر ” يعني :” سيارتي سوف تمر بين هذين العائقين ” ، لأنه تم دمج أبعاد سيارته  في مخطط جسده. بيد أن الجسد الذي لي ليس من قبيل ما أملك : من جهة ، إذ من الناحية القانونية لا يجوز لي التصرف في جسدي كما أريد ؛ فلا وجود لثقافة تبيح لأعضائها حق التصرف  في أجسادهم كما يحلو لهم ، لأن جسد الإنسان هو تجلي أكثر مما هو  مجرد شيء قابل للامتلاك ومن ثمة للهبة أو للبيع أو للتقطيع إلخ.. إن الجسد الذي لي ليس بدنا، بل  هو جسد. و بالنسبة للآخر الذي يعاملني باعتباري بدنا لا باعتباري جسدا، يبدو أنه كذلك شيء أملكه مثل كل ما أملك من أشياء، مع إمكانية  أن لا أكون أنا نفسي أي شيء بعد الآن. إن ساقي المريضة ،  ليست هذا العضو الخامل والمتصلب الذي يفحصه الطبيب ، إنها  إمكانيتي  التي حرمت منها في المشي والجري والتسلق والرقص. فإذا حصل أنني حرمت منها ، فأنا لم أعد أنا “ناقص” شيئًا  ما ، بل أنا مغاير تماما. الجسد الذي لي ليس شيئا يحق لي تملكه ، إنه كياني داخل العالم ، إنه أناي  الهشة المعروضة للآخرين ، وهو مركز  منظومة من الاحتمالات  ومصدر للمخاطر .

            إن الوجود هو أفقر مقولة من مقولات الفكر ، و هو في نفس الوقت أغناها. و بدون الرغبة في الدخول في النقاشات الميتافيزيقية التي ميزت التفكير في معنى هذه المقولة، سوف نلاحظ هنا أنه لو كنت جسدي فحسب ، بالنظر إلى أن “أنا “تعين وعيًا ، فإنني لا أنحصر في هذا الكائن -هنا ، لأن كل وعي هو حركة خارج الذات تجاه الآخر ، ابتعاد عن الآنية وتجاوز للذات. بالطبع ، أبدو لأول وهلة ،للآخرين ولنفسي ، في المرآة  كل صباح ، باعتباري الجسد الذي أنا هو، طازجا و مرتاحا أو متعبا ومتمردا. غير أنني لا أنفك أبتعد عن هذا الجسد بالتأثير في ا لعالم بواسطته و بالجلوس عليه بالتالي . لهذا السبب أنا مسؤول عن جسدي: عن وضعه الصحي و عن مظهره و عن التجاعيد التي تظهر على الوجه والتي لا تتعلق بالعمر فقط، وإنما تعود إلى العادة والسلوك و المزاج. فتجاعيد الانسان دائم الابتسام، ليست هي تجاعيد الشخص دائم التجهم. إن الجسد الذي هو أنا بالنسبة لي و كذا بالنسبة للآخرين هو، بهذا المعنى، حامل على سطحه لجلد و لعلامات ، لتاريخ كامل وشخصي و علائقي . الجسد-الوجه أو الجسد – القناع .

       لا يختزل الجسد إذن في الشيء. فالشيء عبارة عن تجميع   للمادة التي تحتل حيزا محددا، بينما العضوية الحية هي بنية من العناصر ( خلايا وأنسجة وأعضاء) والأجزاء المتكاملة ، لها غايات محددة  ، ذاتية التنظيم ، تملك القدرة على التكاثر و على الإصلاح الذاتي بشكل جزئي. و إلى هذه الخصائص كلها، ينضاف بعد رمزي: إنها مصدر و موضوع للرغبات و حامل و مصدر للدلالات. الجسد الذي أنا هو الرسم البياني لحياتي ، يختزل كل ما اكتسبته ، كما أنه كذلك الخطاطة المستقبلية لكياني في كليته . حينما نعتبره من وجهة نظر الوجود والملكية، يقدم الجسد نفسه لنا على أنه نمط وجود ملتبس ،  باعتباره علامة ومعنى متشابكين بشكل لا ينفصم ، باعتباره معطى طبيعيا وفي الوقت نفسه نتيجة لنشاطي ، باعتباره عملا ابداعيا  و ألما.  وحين ننظر من زاوية فينومينولوجية إلى علاقة الذات (مأخوذة دائما بضمير المتكلم”أنا ” ) بجسدها، فإننا سنجد أنها دائما علاقة انتماء وعلاقة تباعد ، علاقة قرب- بعد ، علاقة تملك بالمعنى الذي أجعل فيه من جسدي كياني ، لا ملكيتي . الجسد الإنساني “لحم”، موضوعية صارت ذاتية، علامة حضور تحث على الحوار وعلى الاحترام، لا على التلاعب والاستعمال.

        إن استخدامي لجسدي وتآكله بفعل ذلك ،لا يعني أنني أو أي شخص آخر يمكننا استخدامه بعيدا عن أية  معايير وبدون قواعد. ومن هنا تأتي الحاجة إلى إعادة التأكيد ، إضافة إلى  حرمة الجسد ، على احترام الأحوال الشخصية (الحق في الخصوصية ، الحق في السرية ، والحق في عدم التبرع بالأعضاء) وعدم التعامل مع الجسد و كأنه سلعة 10: حظر بيع الأنسجة أو الأعضاء  ، وهو ما يكون دائما لصالح الأغنياء ويخلق طبقة جديدة من العبيد .

     وحتى نختم  ، سنقدم مثالا يمكن أن يوضح لنا  كيف أن من الضروري ، بالرغم من وحدة الرؤى بين الوجود و الملكية ، أن الثانية ينبغي أن تخضع للأول، و هذا المثال هو علم الحمية. ففي الفكر اليوناني القديم، يدخل علم الحمية بالتأكيد في نطاق سلطة الطبيب الذي يصف أفضل نظام  (في مجال التغذية  والأنشطة ، و في مجال النوم واليقظة) ولكنها أيضًا جزء من  الفلسفة ، لأن الحمية  هي نظام من أجل الحياة  ، وهي جزء من فن العيش السليم ،  و تدخل في إطار ممارسات جمالية الحياة التي  حللها جيدا ميشيل فوكو  في كتابه “الانهمام بالذات ” .

علم الحمية جزء من فنون الوجود لا فنون المظهر، إنه يحيل على هذا الاهتمام الفلسفي بالذات الذي لا يكتفي بالعيش أو حتى بالعيش بشكل جيد ، ولكنه يأمل في الحياة السعيدة ، والعيش باستقامة وتحويل الحياة إلى عمل فني رائع .

 والآن، ما الذي آل إليه علم الحمية؟ لقد بقي في نطاق الطب أو بالأحرى التكنولوجيا الطبية (هرمونات النمو ، بناء الجسم الرياضي  وفق متطلبات الإنجازات الكبيرة )  هذا إن لم يكن قد ولج بشكل كامل نطاق تسويق زراعة الأغذية .لقد  فقد علم  الحمية اليوم كل علاقة  مع الفلسفة.  أليس جسد الإنسان أكثر من منتوج ترويجي يتضخم أو يتقلص وفقا للحميات الغذائية المعتمدة   أو أكثر من رأسمال للصحة أو للدخل يجب أن نتعلم كيفية تدبيره مثل مقاولة ؟ ولكن أن يظل الجسد نظرة، وجها ، وفي بعض الأحيان قناعا بواسطته أخوض مع الآخرين مغامرة الوجود – مع – الجماعة  ، هو بالنسبة لي التبرير النهائي لهذا التفكير الفلسفي في الجسد الذي هو  أنا و الجسد الذي لي . وللآخرين، لك أنت أيها القارئ، الآن، أن تستخلصوا الآثار القانونية والسياسية، كذلك، لهذا التفكير الفلسفي في الجسد .


الهوامش :

فينومينولوجبا الروح – ترجمة جان هيبوليت أوبيي ، ج 1، ص. 258. “1 –هيغل :

2 -هذا المبدأ الذي يخرج الجسم البشري من  نطاق التجارة يبطل بالتالي أي عقد يتعامل معه كشيء .

  1. توماس هوبز :”المواطن” “

.4 – الصياغة الثانية للأمر القطعي عند كانط

. أثير  من قبل أفلاطون ثم من قبل الرواقية القديمة. 5 –

الموسوعة ، §411. 6

.  طبعة فوليو ، ص. 77. 7

8 – موريس ميرلوبونتي :” فينومينولوجيا الادراك ” تيل غاليمار ص : 231

9 -حول هذا الموضوع راجع إ. كانط ، نقد ملكة الحكم  ، الجزء الثاني و ف.جاكوب  “منطق الأحياء ”  ص. 102- 106

10 – ولذلك يجب الطعن في الحق المزعوم في استغلال  المرء لجسده دون حدود أو قيود.

11 – تلك التي وصفها غونتر غراس في رواية ” رأس تركي ” .