مجلة حكمة
التقنية هايدغر

من التقنية إلى ماهية التقنية في وجودية مارتن هايدغر – عبد الكبير الوهابي


ملخص:

ينظر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى موضوعة التقنية من داخل التفكير الفلسفي و من زاوية أكثر عمقا من الناحية الوجودية، فهو لا يحصر فعاليتها و إنتاجيتها في أبعادها المادية و العلمية التي تبدو قائمة و موجودة أمامنا في العالم كما يقول فيلسوفنا نفسه، من خلال تجلياتها الظاهرة في الحياة و المتمثلة في انجاز مهمة السيطرة المعتمدة على  توفير و اعتماد الوسيلة لتحقيق غايات معينة، لكنه يتأمل الموضوع أبعد من ذلك بحيث يميز تمييزا عميقا بين التقنية و ماهية هذه التقنية في حد ذاتها، بحيث يرى أن ماهية التقنية أعمق و أشمل من التقنية من المنظور الوجودي، بحيث أن هذه الأخيرة مجرد ملمح ظاهر فقط من شساعة تلك الأولى، أو بمعنى أخر ما التقنية إلا جزء وفقط من ماهيتها التي تتجاوز ما هو مادي و تقني في الوجود، على الرغم من كون ما هو تقني صائب و صحيح في مسألة تعريف مفهوم التقنية، لأنه ببساطة بمثابة ذاك الأثر الواقعي الذي يتحسسه الإنسان في حياته الواقعية، بينما تلك الماهية الفريدة لا تتجلى إلا في عبقرية ذالك الانكشاف و الاستدعاء الذي  تقيمه في الطبيعة، لكي تبرز هذه الأخيرة ما كان مخبوءا و مخزونا فيها و اعتقدنا أنه حتما غير موجود أو على الأقل غير ممكن،بمعنى دقيق ترغمه و تجبره على الظهور في ساحة الممكن دائما، على أن يتحول تدريجيا إلى حيز الرصيد-الأساس على حد قول هيدغر، هذا الأساس الذي يحقق التقدم باعتباره حقيقة وجودية من صميم الإبداع الإنساني، و تعبير وجودي صريح  عن مكانة الكائن البشري في العالم و الوجود، من خلال هذه المخاطرة التي يسير فيها بحذر التساؤل و التأمل و التوغل في صميم بحث-الممكنات التي تنقذه و تدفعه رغم المعاناة إلى منطقة الوجود الأصيل الذي يسمو به ككائن منفرد عن كل ما يعرقل فرادته في الواقع الفعلي.

الكلمات المفاتيح: التقنية – ماهية التقنية – الانكشاف – الاستفسار – الرصيد الأساس- الحقيقة- التقدم – الكينونة .


 

لقد سبق أن صرح الفيلسوف الألماني المعاصر” مارتن هيدغر”(1889/1976)[2] في بحثه حول ماهية الفلسفة ، بأن الفلسفة شأن العقل على الرغم من أن الذي يصف و يربط الفلسفة بالعقل يحدد ذلك بمقياس العقل نفسه على حد تعبيره، و لا يمتلك العقل سوى الكائن الإنساني المنفرد، هذا الأخير الذي شكل و شغل في عمله الكبير نقصد هنا ” الكينونة و الزمن”(1927) البداية و النهاية في نسيج تأمله الأصيل السائل سؤال الماهية و المصير في صرح الكينونة المرير،هذا الصرح الذي يستوجب إقامة السؤال بالنسبة لمارتن هايدغر، وهو ما أظهره في كتابه- سالف الذكر- عندما قال” انه عن معنى الكينونة إنما ينبغي أن يطرح السؤال”[3]، وهنا يوضح فرانسواز داستور في عمله ” فلسفة هايدغر” هذه النقطة بقوله أن ” هايدغر أكد دوما أن سؤال أو مسألة الكينونة ظل هو الانشغال الوحيد لفكره”[4]، هذا الانشغال التساؤلي الوجودي الطامح لموقعة المشروع الإنساني في تعبيرات الوجود، يمكن النظر إليه  كمقامات تأملية لا تتجه إلا صوب التحديد العميق و المستمر  للوجود الإنساني في تحركه وتغيره من خلال فهم الكينونة بوجه مخصوص، بحيث أن فهم الكينونة تعين كينونة خاص بالدزاين”[5]، لكون ما يطرح هذا الأخير أي الوجود الإنساني من مشكلات فعلية -تبدأ من تلك القضايا  اليومية إلى العامة- هو الغاية السديدة لشهامة الفكر الفلسفي و من ثمة للفلسفة كلها، وهو كذلك الفحوى الذي نبتدئ به مجريات كتابه العملاق “الكينونة و الزمن”[6] في رحلة قراءتنا له، بالتالي فالوجود الإنساني هو اللقاء الفكري و التاريخي الذي ستلتقي فيه جميع الفلسفات شكا و تساؤلا و تأملا –بطرقها طبعا المختلفة-  منذ  الفلسفات القديمة حسب هايدغر، التي طرحت سؤال الحقيقة على الأقل تلك المقلقة صاحبة الحيرة و الدهشة.فما الذي سيواجه إذن، هذا الوجود الإنساني فهما و إدراكا ومن ثمة فهم ثنايا الكينونة ؟ و من سيحاول أن يفكر في وجودية الوجود بعدما أشرف “أرسطو” على سؤال الوجود بما هو موجود كموضوعا للفلسفة؟

لقد أصر مارتن هايدغر من خلال أعماله الفلسفية و محاضراته الوجودية النوعية، أن يتشبث بفكرة جوهرية مفادها أن تناول قضايا الإنسان و الوجود و المصير من باب المقولات الجاهزة و الإجابات الواقفة و الأحكام السابقة  بمثابة ركود فكري و عجز تاريخي بالنسبة للوجود الإنساني، بالتالي يستلزم الأمر للخروج من هذا الموت الفكري وهذا الانحباس الوجودي أن يتموقع الكائن الإنسان في رحاب الفلسفة و التفكير الفلسفي، لكي يتخلص من أغلال السطحي و لا جدوى المبهم معا في حياته اليومية، ومن ثم يسير في طريقه العقلي في تجاه وجوده الأصيل الذي سيتعب لا ريب من أجل بلوغه و اعتناقه و كذا الانعتاق من خلاله، هذا الوجود الإنساني المنفتح الذي يتوجب عليه أن يغامر في كل مرة بالتأمل و بالتفكير و التساؤل وهو ما يموضع الإنسان في وجوديته الفعلية باستمرار ودون توقف، ذلك لكون مارتن هيدغر” يذهب إلى أن الكائن الانساني يتشكل بواسطة الزمان، و الزمان عنده ليس وسيطا نتحرك فيه كما تتحرك حزمة طافية من القش في النهر، فهو صميم بنية الحياة الانسانية نفسها، و بعد من أبعاد الوجود يصنع الانسان ابتداء منه قبل أن يكون شيئا ما يقيسه، فالإنسان لا يوجد كانسان إلا بواسطة إسقاط نفسه أمامه دائما محققا امكانات طازجة للوجود دون أن يكون مطابقا لذاته أبدا بل سابقا لنفسه دائما[7]، و هذه الديمومة التي يستمر الإنسان في تحقيق ثناياها من خلال انجازه و إبداعه المتعدد و المختلف لأشكال من التعبيرات الوجودية القائمة على الانفتاح على سماء الممكنات-المنتجة لصيغ الحقيقة داخل ساحات الحياة الفعلية الإنسانية، التي لا يتأتى إمكان خوض تجربة التحليق الوجودي فيها و مواجهة مشكلات الحاضر و المصير عبرها، إلا بسلاح السؤال و الإيمان العقلي بحب الاستشكال الدائم حول الكينونة، التي منها و إليها و من أجلها ” يسرد –هيدغر- دائما الجملة التي أوردها أرسطو في كتاب “الميتافيزيقا” و هي ” الكينونة تقال بكيفيات متعددة”[8] حسب تعبير داستور، وهو دليل على انفتاحية الوجودية الهيدغرية إزاء معالجة مسـألة الكينونة، وهنا بالذات يعتبر هيدغر السؤال بوجه مخصوص عن هذه المسألة عمق القضية الوجودية، بحيث يعتقد بأنه أساس التفكير و منطلقه و أساس بداية مهمة مواجهة مسائل الوجود الإنساني وفهمها، و القدرة المستمرة على التمييز عقليا ووجوديا بين الصائب المحيط بتفاصيل الكائن الحاضر أنيا ، و الحقيقي المفاجئ و الكامن في جوهر مبدأ الانبثاق المسترسل للانفكاك من اعتيادية الشائع في الحياة.

ان الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن يطرح السؤال عن الوجود لكي يعي وجوده هو الإنسان باعتباره كائن متسائل ، من ثم فان هذا الوعي الماهوي هو الطريق المنير صوب ما يسميه هيدغر” الوجود الأصيل” في فلسفته، الشيء الذي لم ولن يتأتى إلا إذا جرب الدزاين مرارة معاناة السؤال عن الإمكان و التفكير في المألوف البادي أمامنا بلغته، و الثرثرة اليومية والفضول السطحي و الالتباس الغير المجدي ومجريات  الحياة العادية عامة  التي تحجب الرؤية و تضع الإنسان في دوامة الطمأنة و سلطة الوضوح، لكون ” الحياة الاجتماعية تفرض علينا عالما مصاغا من قبل، غير أن الدزاين([9](Da-sein أو الوجود الإنساني في العالم عن طريق اهتماماته الخاصة، يستطيع أن يدخل صيغ بنى جديدة ترد على حاجاته و تغير من شكل ذلك العالم المصنوع من قبل، و بذلك فكأن مكان العالم ما هو إلا حقل يحقق للدزاين أو الوجود الإنساني مجالا لإمكانياته المختلفة ولا يمكن أن يفهم المكان أو الامتداد إلا رديفا لوجود الإنسان في العالم، الذي يملك ليونة و حركية تسمح له بتحقيق شتى مظاهر فعالياته”[10]،هذه الأخيرة  التي لا تفصله عن وجوديته الأصيلة التي يشكل فيها و بها غمار القلق ميلاد وجودي جديد لكائن إنساني فريد، ذلك لاعتبار “القلق في وجه الموت كإمكان حاضر دائما يجعل الفرد يعد كشف حساب عن حياته و أهمية أو عدم أهمية هذا الشأن أو ذاك، و بذلك يتحرر من الشؤون التي فرضت عليه كما يحصل على إحساس بوجوده باعتباره كلا.وهذا القلق الخصب يجعل الفرد يحيط بمجمل وجوده ناظرا إلى الإمكانات الغافية أمامه في علاقتها بالإمكان النهائي، إمكان الموت لرصد بنية حياته على نحو متماسك بدلا من تبعثرها في حادثة تتلوها حادثة دون تجاه أو ترابط[11]. وهذا التصوف الداخلي الصامد في رغبته في العثور على حقيقة الكينونة الإنسانية من داخل عوالم آلمه و وصور موته هو الملمح الذي يستدعي ذكرى الوجودية الكلاسيكية، التي سيعمل على تجاوزها هيدغر بنظرية الصيغ الوجودية[12] المبشرة بوجودية معاصرة تنطلق من اليومي صوب الكلي  بالتأمل و التفرد ناقدا بذلك فيلسوفنا أسس الفلسفة المدرسية و الحديثة بشكل نقدي عميق، باحثا عن الأصيل الوجودي في كل ثنايا الكينونة، و هو ما يبدو ” في تقييم هيدغر للشرط الإنساني في العصر الحديث، العصر المعدم يكرر أن وجودنا في العالم غير أصيل و ساقط في طرائق الجمهور بلا وجه، “الهم” و تحت ديكتاتوريتها ومن ثم فنحن مغتربون أو مقتلعو الجذور من أنفسنا، و هو يؤكد أنه لم يكن هنا وضع أصيل في البداية”[13]، هذا الأصيل الذي سيتمكن هيدغر من تشييد صرحه من خلال روحه الوجودية المتسائلة الناقدة لأسس الموضوعات الغابرة و مراجعتها بنفس جديد، لكون فلسفة هذا الأخير تكمن أهميتها في عمقها و في جدة تناولها للعديد من القضايا الفلسفية التقليدية كالحقيقة و الماهية و التاريخ و الإنسان[14] على حد قول المفكر المغربي محمد سبيلا .

لقد شكل تجاوز هيدغر التاريخي لسلطة وجودية سورين كيركجارد الصوفية فرصة فلسفية جديدة لتأسيس رؤية وجودية فعلية، للتفكير في مشكلات الوجود-الإنساني بشكل مخصوص، بحيث توغلت الرؤية الفلسفية الوجودية الأولى -مع سورين كاركيجارد- في رحاب صراط ميتافيزيقية الإيمان و صوفية المآل الذي تأسست معالمه بواسطة المنهج الصوفي الذي انخرط في تطويره الوجودي كيركيجارك من منظوره الخاص، القائم على ضرورة الانفصال عن الواقع الخارجي المادي و ما يكونه من أنماط وجود زائلة، و المرتبط-أي منهجه- بعالم الداخل الصامت في ذاته الدافع إلى التأمل و التفكير المسترسل في الوجود الحقيقي -الذي لا يمكن ضبطه في مذهب[15]– و في هذا الصدد يقول سورين كيركيجارد ” يعجبني هذا الصمت، إذ أنني أجد فيه نفسي قادرا على بذل هذا الجهد( أي الصمت)، و إنني أشعر أنني أستطيع أن أحمل المرآة، مهما أظهرتني”، هذه المرآة التي تمثل عمق السؤال و الاستشكال الذي تخضع له الذات باستمرار، على أمل دائم في تحقيق و بلوغ الحقيقي بواسطة الوجودية-الذاتية التي بالغ كيركيجارد نسبيا بصددها عندما اعتبر الذاتية معيارا و حقيقة الموضوعية، وهو المنفذ ذاته الذي أخرج منه انتقاده الصارم في حق المثالية المطلقة للفيلسوف الألماني “هيجل”، بحيث قال في هذا السياق-حسب قول صفدي دائما- ” إن المذهب الهيغيلي هو ذروة التمذهب الفلسفي، و أما بالنسبة للحياة فالحدس الذاتي هو السبيل الوحيد”، هذا الذاتي الذي تكون و تشكل في حضن التجربة الصوفية ذات الطابع الوجودي و التي أبدعها المنظور الكيركيجاردي،بفعل المشقة الذاتية التي يدخل في غمارها الإنسان في كل حين، ليبني معنى الوجود الذي بدوره لا يمكن أن ينفصل عن معنى الذات حياديا في مسألة صياغة مفردة الحقيقة، وهو ما يطلق عليه ” كيركيجارد” مقولة الاتحاد مع الذات. هذا الذاتي-الصوفي الكيركيجاردي سينعتق منه مارتن هايدغر بفضل منهجه العقلي الواقعي الذي جمع شتاته على أنقاض صرخة فينومينولوجيا أستاذه المباشر “ادموند هوسلر”، بحيث قام بالاستفادة منها و محاولة تعديل المنهج العميق فيها لغاية دراسة ما يسميه هايدغر بعلم الوجود (أو الأنطولوجيا) الذي يندلع منه أبرز موضوع في فلسفة فيلسوفنا وهو الوجود الإنساني، و هذه الدراسات الفلسفية التي انبنت على أساس المنهج الفينومينولوجي ستخطو خطواتها خارج دوائر الغيبيات و الصوفيات السائدة إلى حدود سياق كيركيجارد، و ستسعى في الوقت ذاته مع هيدغر وبعده سارتر إلى تأمل الوجود الإنساني في أبعاده المتعددة و المختلفة ومن خلال واقعه الفعلي اليومي،على “اعتبار أن تحليل وجود الإنسان هو الوسيلة الوحيدة و الحقيقية، التي يمكنها أن تطلعنا على حقيقة الوجود المطلق”[16].

سوف نحاول أن نبحث عن فهم وجودية هايدغر من خلال تناول قضية فكرية أساسية و ضرورية  في مشروعه  الفلسفي الباحث عن الفهم بدوره، على اعتبار أن الفهم في تفكيريته يشكل إحدى السمات الوجودية العميقة في متنه ككل كما يبين الباحث مطاع الصفدي. هذه القضية الفلسفية هي بشكل مخصوص التقنية التي تعتبر مكون  من مكونات الحاضر أو الحداثة التي سعى هيدغر تشخيصها من خلال محاولته الجدية إن شئنا استعمال لفظ محمد سبيلا، هذه المحاولة التي لن نخوض البحث فيها بشكل كلي وواسع في هذا المقام، لكوننا سنخصصه لتناول موضوعة أساسية من موضوعات فلسفة هايدغر الوجودية المتسائلة و التي ذكرناها سلفا، ومن ثم فالحديث عن الامتدادات التاريخية و الفلسفية لفكر هايدغر بالخصوص، انطلاقا من التأثر بالألمانيين كانط و أستاذه هوسلر- الذي ذكرنا ملمح من ملاحه قبلا- بوجه خاص و تفاصيل الانتقال التاريخي لمنهج الفينومينولوجي، وكذا بداية التفكير في موضوعات الوجود و الفكر من خلال قراءته لفرانتس برنتانو”  و كارل برايغ” ، و تطوير مشروع المدرسة الوجودية  سوف يكون سياقها مجملا في مقام أخر.

لا شك أن موضوعة التقنية تعتبر بمثابة مدخل من مداخل التفكير و التناول و التساؤل الوجودي في قضايا الوجود الإنساني الراسمة لملمح الحرية الحقيقية، التي تعيد الانسان ككائن وجودي إلى وجوده الأصيل بالوعي و التأمل الحر الذي لا يخضع لدوائر جاهزة و لا لسلطة النسق المعتاد القاتل لقوة الممكن، لأن هيدغر نفسه يقول في هذا الصدد  ” لا أريد أن أبني نظام” في سياق (محاولات و محاضرات)، ومن ثم فالتقنية شكل من أشكال التعبير عن الوجود الإنساني و محاولة من محاولات التفكير الوجودي في الوجود، وهو الحدث الذي سيجعل التقنية غير منحصرة في أثرها المادي الخارجي الذي يسعى به و من خلاله الإنسان لتحقيق غايات معينة، بالتالي فهيدغر يعتقد أن التقنية وجوديا تختلف عن ماهية التقنية، لأن ماهية التقنية ليست بالمرة شيئا تقنيا، لأن سؤال الماهية سؤال مستمر و يؤثر في الانسان بل هو سؤال تاريخي أي أنه يتعلق بمصيرنا الوجودي  [17]، فعندما نبحث في ماهية الشجرة علينا أن نفهم أن الذي يحكم كل شجرة باعتبارها شجرة ، ليس هو ذاته شجرة يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى[18] ، بالتالي فحسب هيدغر أننا إذا أردنا أن نسأل و نبحث في موضوع التقنية علينا أن نسال عن ماهيتها[19] العميقة، وهو ما أمكن تفكير هيدغر من تجاوز موقفين سبق لهما أن عالجا قضية التقنية، يمكن تحديدهما أولا في الموقف ألأداتي الذي ينظر إلى التقنية كوسيلة و أداة  ترمي لتحقيق غايات مادية بشرية، و الموقف الأنثروبولوجي الانساني الذي يلخص خاصية التقنية في بعدها الفاعلي، أي باعتبارها فعالية بشرية يحتسب للانسان شرف انتاجها و ابداعها.و كلا الموقفين يؤديان دورا خارج الماهية رغم تضافرهما لتأسيس جزء الماهية دون تحديدها، فهاتان الطريقتان (المادية- الأنتروبولوجية) في تحديد التقنية متعاضدتان ، وذلك لأن وضع غايات و تكوين و استعمال آلات و أجهزة و أدوات يعد جزءا من ماهية التقنية[20] ، فرغم عدم تحديدهما لماهية التقنية بعمق فيبقى تعريفهما و تصورهما للتقنية صريحا و صائب بلغة هايدغر، لأننا نجده في العصر الحديث قائما و موجودا  أمامنا و هو ما يظهر في حياتنا الجلية من خلال تلك الغائية التي يرسمها الانسان و يسعى إلى تحقيقها من خلال مختلف التقنيات التي يعتمدها في شتى المجالات الصناعية و الفلاحية و الاقتصادية و غيرها. وهو ما ترسخه نظرية العلل الأربع [21] الأرسطية بدورها التي تعلي من شأن العلية الفاعلة و الغائية منها بالخصوص المرتبطة بالفعل المؤدي لتحقيق نتائج و غايات محددة.

اذا كان هيدغر قد ميز بين الشيء التقني و ماهية هذا التقني من الناحية الوجودية، و اعتبر أن ما هو تقني جزء لا غير من ماهية التقنية ما دام الشيء التقني حاضرا  أمامنا و موجودا في معيشنا البشري الفعلي، علاوة على أنه يؤدي مهامه المنتظرة منه فهو صائب و صحيح بلغة هيدغر، على الرغم من أن ماهية التقنية وجوديا تبقى صرح أعمق و غير متوفر أمامنا بشكل يسير، لأنه ببساطة سؤال جوهري و عسير يحتاج منا أن نخوض معاناة التفكير و التأمل لإدراك ما وراء المخبوء المستتر .فماهية التقنية إذن؟.

إن ماهية التقنية شكل من أشكال التموضع في الوجود و شغف الإنسان المستمر في فهمه و الإبحار فيه وجوديا، لأن ما هو حاضر بالنسبة للإنسان حسب هيدغر في ذاته دائما إمكان الانفتاح المتضمن المستور-المنتج، هذا الإمكان الباحث عن استجلاء ما لا تصرح به الكينونة الطبيعية أمامنا، نحن أمام ما يسميه هيدغر ” الانكشاف” او الإظهار أو الإحضار أو الاستدعاء وهي أوصاف  تفيد نفس المعنى وهو الكشف عن ما ليس حاضرا في واقع الطبيعة بالنسبة للوجود الإنساني ، لأن في الانكشاف يكمن إمكان كل صنع منتج [22]، وهو ما يعتبره من صميم ماهية التقنية أو حقيقة التقنية  التي تسعى بثبات إلى رفع الغطاء عن الممكن في الوجود الإنساني و الطبيعي معا،  الذي لا نقدر على رفعه في حياتنا المعتادة بل لا نملك ذلك الشغف الطامح لمعرفة ما وراء الكائن التقني منه بوجه خاص، و هذا يعود إلى ” أننا نكون عادة مأخوذين بالتقنية إلى حد أننا لا نهتم إلا بما هو تقني، و ما يهمنا عادة في التقنية هو منفعتها و مردوديتها و وسائلها في الإنتاج، و أساليبها في العمل و التنظيم، أما ماهية التقنية فلا نعبأ بها في العادة، إننا من شدة تعلقنا بالتقنية نغفل السؤال عن ماهيتها[23]، هذه الأخيرة التي لا يمكن أن تكمن في هذا السطح المادي الذي نحيا فيه دائما في حياتنا اليومية حسب هيدغر، لأنه و ببساطة لا يبدي الوجود الحقيقي الكائن وراءه الذي نبحث عنه من خلال سؤال الماهية، ومن ثم فان التقنية هنا لا و لن تنحصر في كونها أداة و عدة مادية مستغلة في أداء واجب تحقيق الغاية المحددة، لكن هي نمط من أنماط الظهور الفريد للممكن في الوجود الأصيل للإنسان المتسائل و المتأمل، الغير القابل للأحرفة (تلخيصه في العمل الحرفي) كما حدث مع مجهود الإغريق الذي لم يستوعب حسب هيدغر فكرة أن التقنية أيضا فن من الفنون الجميلة و مجال للإنتاج خاصة مع أفلاطون الذي ربط التقنية بالمعرفة على حد تعبيره.

ان هذا الانكشاف العميق الذي يشكل ماهية التقنية هو الحقيقة الوجودية لما استطاع الوجود الانسان القيام به، لأنه حسب هيدغر هو تحديا و استدعاء و مغامرة و فضول مستمر لرصد الغائب الحاضر في وجودنا الطبيعي بالخصوص، بل إرغام و إنذار للعالم الطبيعي لكي يقدم و يمنح ما يخفيه كأنه ليس فيه من إمكانات مكنوزة يمكن بلغة هيدغر أن تستخرج أن تراكم كرصيد بعدما كانت  مجرد غير حاضر و غير ممكن، وهنا بالذات يعطي هيدغر مثال القشرة الأرضية اليوم التي خضعت للانكشاف و ظهرت كحوض فحم و مستودع معادن الذي نستخدمه من أجل الحصول على “الأورونيوم” قصد الحصول بعدها على الطاقة الذرية ، التي بدورها يمكن إنتاجها بغية التدمير أو للخدمات السلمية على حد تعبير هيدغر، كما الزراعة اليوم كذلك التي انكشفت بدورها بوصفها صناعة غذائية تخضع لتكنولوجيات متطورة انتقلت بها من المعطى الطبيعي إلى الاحتمالي المفتوح، جعلت معها الغير الممكن منذ زمن مضى واردا و ممكنا بل و واقعا في أية لحظة بفعل الاستدعاء و الاستنطاق الذي توليه التقنية للطبيعة.هذا الاستدعاء هو ما يحقق الحديث باستمرار و ينسج التقدم[24] دون إنذار و بعراك السؤال الدائم مع ما تحمله الطبيعة من مخزونات و مكنوزات قد تحوز وجوده الفعلي بعد عملية الانكشاف وهنا نستحضر مثال  يقول فيه  مارتن هيدغر لقد وضعت المحطة  الكهربائية على نهر الراين و أرغمته على تقديم و إطلاق ضغطه المائي، هذا الإرغام الذي يدعو ما وراء الكائن الطبيعي إلى الحضور و الظهور و تحت الطلب من أجل تقديم ما بحوزته من طاقة و إضافة، كانت مخزونة و صارت بعدها مستخرجة و موزعة و مستعملة  بأقل عمل و تكلفة، ومنه صارت الطبيعة في كل إطلالاتها متماهية و محايثة لكايانات التقنية و تحركاتها المتعددة، إنها-الطبيعة- تفقد استقلاليتها و مباشرتها التلقائية و تدخل ضمن عملية الاستحضار التي يفعلها إلزام العقل لكي تظل عناصر الطبيعة رهن الإشارة دون مشاورة بل بالإخضاع و المناورة، هذه الأخيرة التي يكون منطلقها و مدبرها الإنسان و أحيانا كثيرة يتيه فيها و يصبح موضوعا لها مجبرا بدوره كباقي الموضوعات، أو بمعنى أخر أن الكائن الإنساني هو الذي يتكلف بهذا الاستحضار لممكنات العالم الطبيعي وفق إلزامية العقل، وفي الوقت ذاته يكون خاضعا لهذه العملية أي لا يتحكم فيها حين تفرض نفسها و تنفلت منه و تخرج عن سيطرته لتحقق انفتاحيتها اللامحدودة بمساندة العلم الرياضي الذي بدوره يتجسد بفضلها في أرض الواقع .

يبدو أن ماهية التقنية التي انشغل بها هيدغر بمثابة ” نومين” كانطي معاصر ممكن هذه المرة وجوديا لقراءة موضوعات الطبيعة و الوجود من زاوية مستحدثة، يلعب فيها الانكشاف صرخة الانسان المتأمل و الموجود هنا و الآن الراغب في الخروج من ضيق التاريخ و الطبيعة و الموروث بأشكاله العديدة، انه كائن متسائل يبحث عن استحضار المخبوء  بلغة فيلسوفنا، هذا الاستحضار/ الاستدعاء الذي يحمل معنى التحدي الحر المراقب لكرامة الوجود الأصيل و المعلق للحكم(الابوخي) ان شئنا استحضار مفهوم أستاذه ادموند هوسلر الفينومينولوجي. ان هذا الانكشاف المميز لماهية التقنية اختبار صريح للطبيعة و لصمتها التاريخي الذي تبديه للإنسان واقعا، و قد أضحى هنا و الآن كلاما بل و صراخا معلنا رحلة الانتقال من الصامت إلى المتكلم، من الخفي إلى المعلن، من الغير الممكن إلى الممكن في الطبيعة و التاريخ معا بفعل أحقية المشروع الإنساني الوجودي، القادر على الخلق و الإبداع لكن هذه المرة على حدود الممكن المنكشف خلافا لعادته ومسلماته المنهارة، لأن هذا المستور في الطبيعة الآن و بلغة “هيدغر” أصبح  يتحقق و يكون في أي مكان مستدعى للحضور على الفور إلى المكان المبتغى، إن يوجد فيه بشكل يكون بالإمكان استدعاؤه ليقوم بمهمة لاحقة[25] ،تدخل بشكل أو بأخر في مشروع المتراكم الذي خاض الكائن الانسان تجربة البناء و التشييد في صرحه، ليبدو الواقع الفعلي مفتوح الإمكان و ليبدي أن الإنسان مشروع وجودي صعب الانحصار، لأنه و بوجه مخصوص يبني مهمة الانكشاف المنتج  و يساهم في نجاحها على الرغم من أنه قاصر على فهم ما يقع بعد الانكشاف الذي يتحلى بأسلوب غير بشري خالص على حد قول هيدغر، أي أن الانسان يكون مركز العملية و أحيانا هامشها، في معركة الاستجلاء و الإظهار التي يديرها العقل المصادراتي النظري .

ان ماهية التقنية العابرة لكائن التقنية كما ذكرنا سابقا، تتحرك بفعل ما يسميه هيدغر “الاستفسار” المتمثل في عملية الإخضاع لنظام العقل و استنطاقاته الدائمة، المنصبة بالخصوص على طاقات الطبيعة المخزونة و الغير القائمة أمامنا، ذلك بفضل أسلوب الانكشاف الذي  قال عنه هيدغر بأنه رفع الغطاء عما هو محتجب في البحث عن السبب”، ومن ثم بلوغ ما يهم في العملية الانكشافية و هو الرصيد الأساس الذي يستخلص بأقل تكلفة، من الطبيعة كمخزون كامن غير ظاهر ورائي غير أمامي، قابل للحساب و التدقيق العلمي النظري و التنبؤ  كقوى و طاقات خام بعد الظهور و الاستخراج الملزم، هذا الأخير الذي يعتبر ماهية التقنية الحقيقية التي تفتح دروب الممكنات أمام الوجود الانساني المنفتح الراغب في تصويب المصير من خلال معيار التقدم الذي يولد من رحم المخبوء في العالم الطبيعي، بالتالي يصير الانسان كائنا يصغي لا عبدا يؤمر على حد تعبير مارتن هايدغر، ذلك من خلال كونه أي الكائن الانساني متضمنا و ذائبا في عملية صياغة المصير-الممكن باستمرار، والذي يتموقع ديناميا في كل مرة تتم فيها محاولات و مساءلات الانكشافات و تحمل على دروب المشروع الوجودي. إنها ماهية التقنية بوصفها سؤال استنطاقي و استجوابي و ارتكابي يحاول في كل مرة أن يقول لعالم الطبيعة أن يقول ما يريده  أن ينطق به و كذا ما يخفيه أن ينطق به أيضا، في سياق الإلزام و الإرغام الباحث دون توقف عن سبل لتحقيق الإمكان رغم ما يصاحبه من قلق الخطر الذي هو فرصة للإنقاذ أيضا .

ان هذا الفهم الذي نستشفه من ماهية التقنية مع هيدغر يجعلنا من جديد نواجه سؤال الإنسان الذي شكل و لازال علامة فارقة و ناصعة  في تاريخ الفكر الفلسفي و الإنساني عموما،هذا إن لم نقل بالكثير من المبالغة المتأنية  هو نفسه التاريخ عندما نستحضر فكرة نفيه(الانسان)، أو عندما نفكر من داخل وجودية إدراكه التي اقترح “بيركلي” مضمونها، هذه الأخيرة التي اشتغل هيدغر بعمق على صرحها من خلال تناول انتاجات الإنسان و ممكناته الفعلية ابتداء من أسئلة  أناه الوجودية، على اعتبار  أن الإنسان لا يستطيع أن يفهم كينونته إلا من خلال انيته، إلا من خلال ذاته الموجودة، ذلك أنه يدرك في كينونته أنه موجود وأن له طبيعة ذاتية تساعده على التعبير عن ذاته بطرق مختلفة و كينونته هذه إنما هي في الوقت نفسه دافعه إلى الكينونة الكونية[26]،  رغم محطات التهديد التي يتحرك فيها باستمرار و التي في نظر فيلسوفنا مجال سيتخذ فيه الإنسان هيأة و مكانة سيد الأرض في ظل هذا التحرك، الذي بدوره سيكون حيز للتجديد في مجال الممكن بفعل فعاليات الإنسان سواء في الفن أو الفلسفة أو التقنية التي نتحدث عنها في هذا المقام، هذه التقنية أو بالأحرى ماهيتها التي سنستأنف الكلام عنها و نقول بأنها من هذا الاتجاه مغامرة مستمرة و مباغتة ذات الطابع الفجائي المقتحم و المتحدي بلفظة هيدغر، الهادف بالأساس إلى تحقيق الفعل المنتج ليس اقتصاديا بل وجوديا و المرتبط علاوة على ذلك بسؤال المصير كصميم المخاطرة الوجودية، التي لا يتأتى للكائن الإنساني أن يصنعها و أن ينتجها بفكرة أو صورة ما يدوم و يبقى و يستمر التي نحتها و تفنن فيها كل من سقراط و أفلاطون باسم الماهية على حد ما بينه هيدغر، ذلك لكون المشروع الإنساني اليوم و من خلال ماهية التقنية يحمل شغفه المتسائل عن إمكان ممكن غير كائن آنيا، أي أفق بعدي محتمل بل كائن غير منكشف و غير قائم اليوم أمامنا  بفعل نظام المحافظة في الطبيعة الواقفة وقفة رجال الدين مع فكرة الوساطة و الوصاية إبان فترة الكنيسة الكئيبة، التي حتما و كما لم نكن نعرف و أصبحنا نعرف بأنها غطاء و سينكشف لأن المخزون المنتج وراء ما يظهر هو الحقيقة التي لابد لها من الحضور لأنها تحتل مكان ضمن سياقات الممكن، التي سيغزوها فضول ماهية التقنية و شغف الوجود الإنساني الأصيل عامة.

لقد أبان جانب من انجازات هيدغر الفلسفية-نقصد هنا بالتحديد”سؤال التقنية”[27]– على ما تحدثنا عنه بالكثير من التفصيل تجاه ماهية التقنية، هذه الأخيرة التي اعتبر فهمها تصحيح و تعديل لأنماط ما كان يجمع الكائن الانساني بمحيطه الطبيعي و الوجودي عامة في الأزمنة القديمة، بحيث أصبحت الذات الانسانية اليوم غير مدفوعة بقوى طبيعية محنطة متوفرة أمامها و في جوانبها الحياتية، بل صارت تتوفر على ميكانيزمات ميثافيزيقية بالمعنى الهيدغري هي مع و ضد في نفس الوقت، لا يظهر معها الموجود معطى واضح الملامح أمامها باعتبارها سؤال مصادراتي، بقدر ما ينكشف كمصادر و مستودعات و مخازن من الطاقات المراد تسخيرها من أجل الإنسان بعد تحريضها و تحويلها، بطرائق عقلية حسابية تلقي بضلالها على مكانة الإنسان و تستحوذ عليه، في صميم مجتمع يعيش عصر التقنية في كل الاتجاهات و الأصعدة، ومن ثمة يخضع لمنبهات القوة الايقافية-الإخراجية -بلغة الباحث اسماعيل المصدق- التي يبنيها و يشرف عليها النسق التقني-الشموليGestell  على الدوام،   مما يجعل الانسان مجبور هو والطبيعة على إتباع و تنفيذ ما تمليه عليهما تحريضية الاستفسار من أوامر، بالتالي يصيرا من بين جملة كائنات مستحضرة و محاكمة و مراقبة بالمعنى الفوكاوي في أي لحظة، كل ذلك من أجل تحقيقية الرصيد كنتاج للعملية الانكشافية. هذا الانكشاف التقني الذي ولد و يولد في مختبر الإنسان يتردد في نطاق مفارقة، مفادها في البداية كونه مملوكا من طرف العقل الإنساني المصادراتي من جهة، و من جهة أخرى كونه مالكا لهذا الكائن الانساني الذي اعتقد في نفسه سيدا و منتجا حقيقيا، في الوقت الذي هو فيه خاضعا و فاقدا لإرادة التحكم و القوة، من ثم يصبح المنجز ليس وليد التحكم الانساني، أي بمعنى أخر و بلغة داستور الذي يذهب إلى القول بأنه ” أمر لا يتولد عن قرار انساني، لأن الانسان نفسه يرى ذاته مأخوذة في سياق هذا النسق، بحيث التقنية تضع الانسان في موقع يجعله يستسلم لجنون السيطرة، لأن هيمنة الفكر العملياتي التقني و تمدده ليشمل جميع مجالات الكائن، وليطاول الانسان ذاته، ذلك الكائن الذي يجد نفسه مطلوبا و متحكما فيه من طرف النسق التقني الكلي، الذي يشكل عموما عملية مخاطرة يسايرها الانسان أحيانا و يسيرها  أحيانا أخرى.

نستوعب إذن، أن ماهية التقنية عند الفيلسوف الألماني هيدغر تكمن بشكل صريح في ذاك الانكشاف المنتج الذي يلزم الطبيعة على الظهور على غير عادتها و نموها الطبيعي، أي ذاك الذي  يدفعها إلى البوح بما لا تقوله عادة ومن ثم يستدعي ما تكنزه و تخزنه من طاقات بجدار الكائن و الموجود أمامنا، فترسم بذلك فاعلية التقدم بفعل الممكن الذي يظهر، ومن هنا يذوب الفكر الذي يلخص التقنية في وضعها ألأداتي أي باعتبارها وسيلة تعمل تحت إمرة الإنسان في الواقع بغية تحقيق غايات محددة، لأنه و ببساطة أي هذا التصور يمر بجانب ماهية التقنية و لا يجسدها و لا يحققها بالرغم من أنه يحدد الجزء الظاهر منها و الموجود معنا و أمامنا في العالم، بمعنى ذاك الجانب الذي يجعل الإنسان مسيطر و مالك للطبيعة بالمعنى الديكارتي، الذي لا يحقق  تجربة استدعاء مكنونات الطبيعة التي لن تخضع لنظام العقل إلا إذا كان العمل  باستفسار ما ليس قائما في الحاضر الطبيعي،بالتالي فتح الأبواب أمام الممكنات في ثنايا الوجود بفعل آليات التحدي و الإظهار و الإرغام التي توليها ماهية التقنية لعوالم الطبيعة الصماء عادة و الغير المنكشفة في كل مرة، لتثبت بذلك رونق و أصالة الوجود الإنساني الفريد بما تقدمه من إمكان-الإنتاج في الواقع الفعلي .


المراجع المعتمدة:

  • مطاع صفدي، مارتن هيدغر و الكينونة، مجلة الفكر العربي المعاصر،لبنان،العدد الثالث،1980.

  • مارتن هايدغر، الفلسفة في مواجهة العلم و التقنية، ترجمة فاطمة الجيوشي،مديرية المطبوعات و النشر، وزارة الثقافة، سوريا،دمشق،1998.
  • هيدغر مارتن، كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة و تحرير إسماعيل المصدق، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2003.
  • بيير بورديو، الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هايدغر، ترجمة سعيد العليمي، مراجعة و تقديم ابراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2005.
  • مارتن هيدغر، الكينونة و الزمن، ترجمة وتقديم وتعليق فتحي المسكيني، مراجعة اسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديد،الطبعة الأولى .
  • فرانسواز داستور، فلسفة هايدغر، ترجمة محمد سبيلا، مجلة تبين، العدد الثالث،
  • مرتن هيدغر، أصل العمل الفني،ترجمة أبو العيد دودو،منشورات الجمل، كولونيا،الطبعة الأولى.
  • مارتن هايدغر، التقنية –الحقيقة- الوجود، ترجمة محمد سبيلا و عبد الهادي مفتاح ، المركز الثقافي العربي،بيروت،لبنان.

[1]  باحث من المغرب، مهتم بالفلسفة و علم الاجتماع و القانون.

[2]  هو فيلسوف ألماني، عاش ما بين 1889 و 1976م، درس في جامعة فرايبورغ تحت اشراف أستاذه ” ادموند هوسلر” الذي أخذ عنه المذهب الفينومينولوجي ( الظاهراتي) و طوره فيما بعد، كما عرف بانتمائه للمذهب الوجودي الفلسفي الذي عالج من خلاله قضايا الحرية و التقنية و الفن و الموت و غيرها من الموضوعات.من أبرز أعماله : ” الكينونة و الزمن” ، ” نداء الحقيقة” ، ” في ماهية الحرية الانسانية”.

[3]  مارتن هيدغر، الكينونة و الزمن، ترجمة وتقديم وتعليق فتحي المسكيني، مراجعة اسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديد،الطبعة الأولى 2012،ص 54.

[4]  فرانسوا داستور، فلسفة هايدغر، ترجمة محمد سبيلا، مجلة تبين، العدد الثالث، 2015، ص1.

[5]  المرجع السابق،63.

[6]  هذا الكتاب الذي قال عنه مترجمه إلى العربية، المفكر فتحي المسكيني أنه ” نص أعجوبة ليس في التاريخ الشخصي للمؤلف ” مارتن هايدغر” ، بل في أفق الفلسفة المعاصرة برمتها”.ورد في تقديم المترجم لكتاب ” الكينونة و الزمان”، لمارتن هيدغر.ص8.

[7]  بيير بورديو، الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هايدغر، ترجمة سعيد العليمي، مراجعة و تقديم ابراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2005، ص 18.

[8]  فرانسواز داستور، فلسفة هايدغر، مرجع سبق ذكره.ص1.

[9] يفسر المفكر ” فتحي المسكيني” هذا المفهوم بأنه ” قدرة أصلية على الكينونة هناك الذي بحوزته من حيث هو الكائن الذي يتعلق الّأمر في كينونته بمعنى الكينونة نفسها.” الهناك” هو نمط انفتاح كينونة ذاتها من حيث هي كينونة- في العالم”.من تقديم المترجم،” الكينونة و الزمان”،ص20.

 مطاع صفدي، مارتن هيدغر و الكينونة، مجلة الفكر العربي المعاصر،لبنان،العدد الثالث،1980،ص10.[10]

[11]  بيير بورديو، الأنطولوجيا السياسية عند هيدغر،مرجع سبق ذكره.ص21.

[12]  نقصد هنا الصيغ الوجودية التالية: – الوجود في العالم – الوجود الزمني– الوجود مع – الوجود من أجل.

[13]  بيير بورديو، نفس المرجع.ص21.

[14]  مقدمة ترجمة محمد سبيلا لكتاب “التقنية ، الحقيقة، الوجود”.ص5.

[15]  يقول الباحث مطاع الصفدي في الصدد نفسه: ” إن أشد ما يكره كيركيجارد هو فكرة المذهب في الفلسفة، فالمذهب هو هذه السلسلة من الأفكار التي يضبط علاقتها منطق عقلي صارم، و تتصدى لجميع الأسئلة الخالدة في الفكر، و تدعي أنها تجد الجواب عليها كلها، اعتمادا على حكم شامل واحد، ـأو بالأحرى استنادا الى تفسير كلي، يشتق من ذاته قدرة لا متناهية على اطلاق أحكام جزئية مرتبطة كلها بالحكم الأول الكلي،وهو مبررها الوحيد”.مطاع صفدي ،المرجع السابق، ص6.

[16]  مطاع الصفدي،مرجع سبق ذكره،ص8.

[17]  مارتن هايدغر، الفلسفة في مواجهة العلم و التقنية، ترجمة فاطمة الجيوشي،مديرية المطبوعات و النشر، وزارة الثقافة، سوريا،دمشق،1998.ص 35.

[18]  مارتن هايدغر، التقنية –الحقيقة- الوجود، ترجمة محمد سبيلا و عبد الهادي مفتاح ، المركز الثقافي العربي،بيروت،لبنان، ص43.

[19]  ان كلمة ماهية ليست اغريقية بل عربية و نقلت الى اللاتينية بكلمة Quidditas وحرفيا ” ماهو”؟ أما السؤال ماهو ؟ فاغريقي و جوابه ليس الماهية بل الجوهر(أوسيا).ورد في ص34 من كتاب الفلسفة في مواجهة العلم و التقنية الذي سبق ذكره.

[20]  هيدغر مارتن، التقنية –الحقيقة-الوجود، نفس المرجع السابق،ص 44.

[21]  العلل الأربع للفيلسوف اليوناني أرسطو هي التالية : 1.العلة المادية (المادة التي نصنع بها شيء ما).2.العلة الصورية(الشكل الذي تدخل فيه المادة و تأخذه صورة).3.العلة الصورية(الغاية التي يتحدد بها الشيء).4.العلة الفاعلة (الصانع للشيء).

[22] هيدغر مارتن، الفلسفة في مواجهة العلم و التقنية،مرجع سبق ذكره.ص68.

[23]  هيدغر مارتن، كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة و تحرير إسماعيل المصدق، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2003.ص 154.

[24]  في هذا الصدد يقول مارتن هيدغر: الانكشاف الذي يتحدى  الطاقات الطبيعية يكون تقدما. و التقدم يرمي إلى احضار شيء أخر أي أننا ندفعه إلى الأمام نحو استخدامه الأقصى و بالحد الأدنى من الكلفة.نفس المرجع أعلاه ص71.

[25]  هيدغر، الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية.مرجع سبق ذكره.ص72.

[26]  مرتن هيدغر، أصل العمل الفني،ترجمة أبو العيد دودو،منشورات الجمل، كولونيا،الطبعة الأولى،ص12.

[27]  مقال فلسفي عميق خصصه هيدغر لدراسة ماهية التقنية بشكل أكثر تفصيلا في ثلاثينيات القرن الماضي، و كان هذا العمل في أصله عبارة عن محاضرة من محاضراته الوجودية.