مجلة حكمة
الإبستيمولوجيا والميتافيزيقا عند آين راند - موسوعة ستانفورد للفلسفة

الإبستيمولوجيا والميتافيزيقا عند آين راند – موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: علي الحارس

(الإبستيمولوجيا والميتافيزيقا عند آين راند) هي مادة ملحقة لمدخل (آين راند) من موسوعة ستانفورد للفلسفة، ننوه بأن ترجمة مدخل آين راند هي للنسخة المؤرشفة (خريف 2017) في الموسوعة على هذا الرابط، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


أ. 1 الإدراك الحسي

أ.2 نظرية للمفاهيم

أ.3 الوجود، والهوية، والوعي

أ.4 ميتافيزيقا الطبيعة البشرية


أ. 1. الإدراك الحسي

طوّرت آين راند رؤاها حول الإدراك الحسّي من خلال حواراتها مع ناثانيل براندن وليونارد پيكوف بشكل خاصّ، واللذين عرضا هذه الرؤى في محاضراتهما؛ ثمّ استفاض كيلي (Kelley 1986) وپيكوف (Peikoff 1991) وغيرهما في عرضها. وتعتقد راند بأنّ المعرفة بأجمعها مستمدّة من الإدراك الحسّي، وأنّ أيّة محاكمة عقلية لا يمكن “المصادقة على صلاحيتها” (هذا المصطلح تستخدمه راند لتثبيت أساس الفكرة ضمن الواقع) إلّا باقتفاء جذورها ضمن مستوى الإدراك الحسّي. وبهذا المعنى تعدّ راند ضمن أصناف المفكّرين التجريبيين؛ لكنّها ترفض الفصل التقليدي بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي، وتعتبر هذا الفصل تجسيدًا لنموذج (البديل الزائف)، أي: إنّ العقلانية تعتقد بأنّنا قادرون على استنتاج المعرفة من المفاهيم المكتسبة دون عون الإدراك الحسّي، بينما تعتقد التجريبية بأنّنا قادرون على اكتساب معرفة قضوية من التجربة دون عون المفاهيم؛ إذ ترى راند أن كلا الأمرين مستحيل: فبينما تقدّم الحواسّ المادّة الخام للمعرفة، لا بدّ من المعالجة المفاهيمية لتثبيت القضايا القابلة للمعرفة (ويمكن إثارة الجدل هنا حول صوابية تصنيف راند للعقلانيين والتجريبيين).

وترى آين راند بأنّ اكتساب المعرفة هي عملية تمييز ودمج: تمييز بين الأشياء التي يلاحظها الإنسان في حالة الوعي على أساس فروقها، ثمّ دمج الظاهرات المميّزة ضمن بنية كلّية قابلة للإدراك. وهذه العملية تبدأ في مستوى الإدراك الحسّي (تقبل راند وجود شكل للوعي سابق للإدراك الحسي تدعوه “الإحساس”، لكنّها لا تسند إليه دورًا مهمًّا في نظريتها)، وذلك عندما تخضع الكيانات إلى التمييز عما يحيطها ثمّ دمجها كبنى موحّدة.

إنّ الأهداف الرئيسية للإدراك الحسّي هي (الكيانات)، وهي كذلك المكوّنات الرئيسية لرؤيتها الأنطولوجية أيضًا. أمّا الخصائص والأفعال فلها مكانة ثانوية، فلا معنى لها إلّا إذا كانت أفعالًا وخصائص (تابعة) لكيانات. لكنّ هذا لا يعني القول بأنّ الكيانات هي مجرّد بنية أساسية لخصائصها، فالوجود ليس إلّا أنّ هنالك جسمًا محدّدًا بهوية محدّدة؛ والهوية هي الشكل الذي يتّخذه الوجود، ولذلك فالكيان (هو) مجرّد مجموع خصائصه.

وتميّز آين راند بين معنيين لـ”الكيان” (Rand ITOE: 268–74) فبالمعنى الضيّق يعني (الكيان) جسمًا تستقلّ وحدته عن وعينا؛ وهنا تقارن راند بين الكيانات، وفقًا لهذا المعنى، وبين الموادّ الرئيسية في الطرح الأرسطي (وإن كانت لا تدعم تفاصيل حيوية الشكل hylomorphism لدى أرسطو)، وتعتبرها بمثابة المكوّنات الأنطولوجية الرئيسية للواقع. وبالمعنى الأوسع يعني (الكيان) أيّ شيء نختاره للتفكير فيه بمعزل عن محيطه، حتّى وإن لم يكن له من الوحدة سوى ما نمنحه له عند تفكيرنا به، كما هو الحال عندما نتعامل مع أجزاء من الكيانات أو مع مجموعات من الكيانات. والكيانات بالمعنى الضيّق تأخذ منزلتها الكيانية ميتافيزيقيًا، أو جوهريًا كما هو مفترض، أي كما شرحنا سابقًا: بمعزل عن علاقتها بوعينا (وإن كانت هذه مسألة تثير الجدل لدى الباحثين في فكر راند: Jilk 2003; Bissell 2007). ولا يمكن للكيانات، بالمعنى الواسع، أن تكون لها منزلتها الكيانية إلّا إبستيمولوجيًا، أي: إلّا في ما يتعلّق بالوعي؛ أمّا منزلتها كـ(موجودات) فتظلّ ميتافيزيقية، أي: إنّها موجودة حقًّا بمعزل عن طريقة اعتبارنا لها، حتى وإن كانت لا توجد كـ(كيانات) بمعزل عن طريقة اعتبارنا لها.

وبينما تشير آين راند أحينًا إلى الدليل القادم من الحواسّ كـ”بيانات”، لا تعتبر ما تقدّمه الحواسّ “بيانات حسّية” تُفهَم على أنّها من ميزات خبرتنا الذاتية؛ فهي ترى بأنّ بيانات الحواسّ كيانات تجريبية أصيلة مع خصائصها، وملكات الإدراك الحسّي لدينا تجعلنا في اتّصال مباشر بالواقع؛ وبهذا المعنى تصبح نظرية راند للإدراك الحسّي نسخة من الواقعية المباشرة، والتي تعتقد بأنّ الأشياء التي يدركها الإدراك الحسّي هي كيانات خارج نطاق الذهن (بدلًا من القول، مثلًا، بأنّها خبرات ذاتية نستنتج الكيانات على أساسها باعتبارها أسبابًا لها).

إنّ صلاحية الإدراك الحسّي ليست قابلة للبرهان، لأنّها مفترضة مسبقًا في كلّ برهان، انطلاقًا من أنّ البرهان ليس سوى تقديم الدليل الحسّي. كذلك لا يمكن إنكار هذه الصلاحية أو مساءلتها، لأنّ الأدوات المفاهيمية نفسها التي قد يتوجّب على المرء استخدامها في هذا الأمر مشتقّة من البيانات الحسّية، لذلك فهي تفترض مسبقًا صلاحية هذه البيانات. ولهذا فإنّ خطأ الإدراك الحسّي ليس ممكنًا بشكل محدّد بدقّة، لكنّ من الممكن ارتكاب الخطأ في تفسير الدليل، والظاهرات التي قد يعتبرها الكثيرون أوهامًا في الإدراك الحسّي تعرّفها آين راند بأحد أمرين: إمّا إدراكات حسّية أسيء تفسيرها (كالأوهام البصرية)، وإمّا إدراكات غير حسّية جرى اعتبارها إدراكات حسّية عن طريق الخطأ (كالأحلام والهلوسات).

وعلى النقيض ممّا سبق، فإنّ تشكيل المفاهيم والمعتقدات على هذا الأساس الحسّي هي عملية إرادية معرّضة للخطأ بكلّ تأكيد. وتقبل آين راند البيانات الحسّية كنقطة بدء أساسية لا يشكّ بها وتُفترَض مسبقًا في كل أشكال المعرفة، وبهذا المعنى تعتنق راند نسخة من “المعطى” إبستيمولوجيًا. لكنّ “المعطى” عند راند هو كيانات خارج-ذهنية وخصائص هذه الكيانات، وليس محاكمات عقلية قضوية بشأنها؛ فكلّ المحاكمات العقلية القضوية ناتجة عن مستوى إرادي للإدراك الحسي ضمن الوعي، ولذلك فهو غير معصوم من الخطأ.

وترفض آين راند الرؤية القائلة بأنّ بعض الإدراكات الحسّية تبدي خصائص الأشياء باعتبارها مستقلّة عنّا (الخصائص الأوّلية)، بينما تكون الخصائص الأخرى (الثانوية) ناتجة عن الخصائص الأوّلية، وتتواجد في الذهن بشكل كامل (Rand ITOE: 279ff). فعوضًا عن ذلك، تميّز راند بين (محتوى) الإدراك الحسّي وبين (شكله)؛ فعندما نقوم بالإدراك الحسّي لجسم ما على أنّه مربّع وأحمر، مثلًا، فإنّ (ما ندركه حسّيًا هو صفاته الجوهرية بشكل معيّن)، أي: شكل تحدّده طبيعة الجسم، وطبيعة أعضاء الحسّ لدينا، والبيئة. وهكذا فإنّنا ندرك حسّيًا بأنّ شكل الجسم مربّع، وأنّ صفة الضوء المنعكس عن سطحه هي الاحمرار، وكلا الصفتين ناتجة عن التفاعل بين أعضاء الحسّ لدينا وبينا ما هو أمامها؛ فلا هما (صفتا الشكل المربّع واللون الأحمر) تنتميان للجسم بمعزل عن نمط الإدراك الحسّي، ولا هما تنتميان لنمط إدراكنا الحسّي بمعزل عن الجسم ضمن بيئته. ومن هنا، فإنّ هذه الخصائص لا هي جوهرية ولا هي ذاتية، بل هي علائقية وموضوعية (Kelley 1986; Peikoff 1991).

وهكذا فبينما تتّخذ آين راند موقف الواقعية (المباشرة) بالمعنى الذي شرحناه، فإنّها مع ذلك لا تتّخذ موقف الواقعية (الساذجة) بمعنى اعتبار كلّ الخصائص المدركة حسّيًا ذات منزلة خارج-ذهنية متساوية؛ فمن الممكن أن نخطئ في إسناد صفة شكل إدراك حسّي لمحتواه (ومن المفترض أنّ العكس صحيح)، لكنّ راند لا تعتبر هذه الحقيقة تفنيدًا لموثوقية الحواسّ، انطلاقًا من أنّ المحاكمة العقلية التي ترى بأنّ صفة بعينها تعود لمحتوى إدراك حسّي، وليس لشكله، لا يقدّمها الإدراك الحسّي نفسه، بل تنشأ هذه المحاكمة العقلية كاستجابة مفاهيمية لهذا الإدراك الحسّي تتّصف بأنّها إرادية وتكوّنت بشكل معرّض للخطأ.

وعلى النحو ذاته، فإنّ وجود صفات تنتمي لشكل الإدراك الحسّي، لا لمحتواه، ليس مؤشّرًا لوجود أيّ عيب في ملَكات الإدراك الحسّي لدينا؛ بل على العكس من ذلك، فكلّ عملية يجب أن يكون لها طبيعة محدّدة وتحدث بوسيلة محدّدة ما؛ ولهذا فلا محيد، وفقًا لرؤية آين راند ، عن اعتماد كيفية ظهور الأشياء أمامنا على طبيعة أعضاء الإدراك الحسّي لدينا. وإنّ الحقيقة القائلة بأنّ (شكل معارفنا يتحدّد جزئيًا بالوسائل المستخدمة في اكتسابها) لا يلغي صلاحية وضعها كمعارف؛ وإذا أردنا الافتراض بعكس ذلك فسيعني أن نصل، فعليًا، إلى الاستنتاج بأنّه “لا يمكنك أن تعلم أيّ شيء، وذلك لأنك لا تعلم أيّ شيء إلّا بواسطة شيء ما” و”إنّك أعمى […] لأنّ لك عينين، وإنّك أصمّ […] لأنّ لك أذنين” (Rand 1997: 655). وأيضًا فإنّ الاكتشاف بأنّ الصفات (كاللون) ليست خصائص جوهرية للكيانات يجب أن لا يعتبر مؤشرًا ضمنيًا لذاتيتها، فما دامت الصفات لا تعتمد على الوعي وحده بل على العلاقة بين الوعي وأشيائه، فهي ليست جوهرية ولا ذاتية، بل موضوعية (وهكذا يمكن للكيان أن يوجد بشكل جوهري حتّى وإن كانت بعض خصائصه لا توجد إلّا بشكل موضوعي).

وترفض آين راند فكرة كانت حول الكلّيات المفاهيمية الفطرية على أساس أنّها تخلط بين شكل الفكرة حول الجسم وبين محتوى الفكرة، فتؤدّي إلى فصلنا عن الواقع (Rand ITOE, Ch. 8). لكنّ بعض المنتقدين ينظرون إلى تمييز راند نفسه باعتباره شديد الشبه بما جاء به كانت من قبل (Walsh 2000). ويحاجج المنتقدون أيضًا بأنّ راند تجعل موثوقية الإدراك الحسّي بلا معنى (بما أنّ كلّ ما يعدّ إدراكًا حسيًا يجب أن يكون دقيقًا قبل ذلك)؛ وأنّها تتبنّى مقاربة أسسية تخلط بين عملية الإدراك الحسّي التي تتشكّل المحاكمات العقلية بواسطتها وبين كيفية تعليل هذه المحاكمات العقلية؛ وأنّها لا توضّح كيف أنّ المحاكمات العقلية ذات البنية القضوية يمكن المصادقة على صلاحيتها بواسطة بيانات حسّية تفتقر إلى مثل هذه البنية (Dipert 1987; Long 2000). ومن الجانب الإيجابي، هنالك عدد من الفلاسفة الذين طوّروا نظرية راند حول الإدراك الحسّي على نحو يتناول مشاكل في الإبستيمولوجيا التحليلية المعاصرة (Kelley 1986; Ghate 2013; Salmieri 2013).

أ. 2. نظرية للمفاهيم

إنّ عملية التمييز والدمج التي تبدأ عند مستوى الإدراك الحسّي تستمر عند مستوى تشكيل المفاهيم، حيث نقوم بالاهتمام الانتقائي لخصائص بعينها من كيان ما، ونميّزه عن كيانات تفتقر لهذه الخصائص، ونجمع هذا الكيان سويّة في الذهن مع كيانات تشاطره الخصائص نفسها، ممّا يتيح التعامل مع الكيانات كوحدات، أي: كأعضاء في مجموعة ما (Rand ITOE; Kelley 1984; Kelley and Krueger 1984; Peikoff 1991). وإنّ حلول الكيان منزلة الوحدة ليس من صفاته الجوهرية، لأنّ أساس منزلته هي عملية التمييز والدمج الذهنية التي نقوم بها. لكنّ هذه المنزلة ليست ذاتية أيضًا، لأنّ العملية تقوم على أوجه للشبه والاختلاف قائمة فعليًا، ولذلك فإنّ هذه المنزلة موضوعية. ونتيجةً لذلك ترفض آين راند الجدل بين أنصار الواقعية وأنصار الإسمائية (nominalism) حول طبيعة الكلّيات وتعتبره بديلًا زائفًا (“الواقعية”، كنظرية حول الكلّيات، يجب تمييزها عن واقعية الإدراك الحسّي التي تقبلها راند). وتساوي راند بين الكلّيات والمفاهيم، وتفهمها على أنّها خصائص للوعي، ولهذا ترفض النزعة الجوهرية لدى الواقعيين؛ إذ ترى بأنّ مشكلة الكلّيات مضمارها الإبستيمولوجيا، لا الميتافيزيقيا. لكن بما أنّ راند تعتبر المفاهيم موضوعية، فإنّها تميّز بالطريقة نفسها بين نظريتها وبين الإسمائية، والتي تفسّرها بأنّها مقاربة ذاتية للكلّيات.

ويمكن أيضًا أن نجعل للخصائص منزلة الوحدات، فيمكّننا ذلك من القيام بعملية (القياس)، والتي تتضمّن ربط الوحدات ذات الخصائص القابلة للإدراك الحسّي بكمّيات أكبر أو أصغر، بما فيها التي تبلغ من الضخامة أو الضآلة حجمًا يستعصي على الإدراك الحسّي، ممّا يسمح لنا بتوسيع معارفنا إلى ما وراء مستوى الإدراك الحسّي. و(القياس) هنا يجب أن يُفهَم بمعناه الواسع، أي: إنّه يغطّي العلاقات الترتيبية والأصلية كليهما، ممّا يجعله قابلًا للتطبيق على كلّ المفاهيم، دون الاقتصار بشكل ضيّق على المفاهيم الكمّية. والمفاهيم توسّع مدى معارفنا من خلال تقليص عدد الوحدات التي يجب أن نتعامل معها.

وتعتقد آين راند بنظرية تجريد بـ”استبعاد القياسات”، أي: إنّها تعتبر تشكيل المفاهيم مسألة تتعلّق بتجميع الوحدات على أساس صفات قابلة للقياس مع استبعاد قياسات بعينها (مثلًا: تجميع الأجسام الحمراء مع استبعاد درجات بعينها من اللون الأحمر). وهذا النوع من التجريد لا يزيّف ما يطبّق عليه، لأنّ استبعاد قياسات محدّدة لا يعني الادّعاء بعدم وجودها، بل مجرّد استبعاد تحديدها. وإنّ أوجه الشبه التي نشكّل على أساسها مفاهيمنا الأولى هي أوجه شبه محدّدة بواسطة الإدراك الحسّي؛ أمّا المفاهيم الأكثر تعقيدًا فتتضمّن أوجه شبه محدّدة بواسطة المفاهيم.

إن الخصائص خارج-الذهنية التي نشكّل على أساسها مفاهيمنا يُفترَض بأنّ آين راند كانت تعتبرها جزئيات لا كلّيات (وإلّا لكانت راند من أنصار الواقعية التقليدية)؛ لكنّ راند لا تفيدنا إلّا بالقليل حول المنزلة الميتافيزيقية لأوجه “الشبه” أو “التماثل” التي نحدّدها ضمن هذه الجزئيات الخصائصية. وفي العادة تسعى نظريات الكليات لتفسير كلّ من: الهوية الشاملة عبر اختلاف بعينه (مثلًا: كيفية انطباق صفة الحمرة على درجتين متمايزتين من اللون الأحمر)، والهوية المحدّدة عبر اختلاف ترتيبي (مثلًا: كيفية انطباق صفة درجة محدّدة من الحمرة على حالتين جزئيتين من التلوّن بهذه الدرجة). ويبدو أنّ نظرية (استبعاد القياسات) لدى راند تستهدف قبل كلّ شيء التعامل مع القضية الأولى، إذ لا تفيدنا إلّا بالقليل حول القضية الثانية. وإنّ إصرار راند على أنّ (كلّ شيء في الواقع هو جزئية) ينظر إليه المنتقدون على أنّه يقوّض إمكانية وجود أوجه الشبه المستقلّة عن الذهن التي نحتاجها لإثبات موضوعية المفاهيم (إذ كيف يمكن لجسمين أن يتشابها إذا لم يكن هنالك شيء حقيقي مشترك بينهما؟). لكنّ من الممكن أن راند ربّما تعتبر أوجه الشبه هي نفسها جزئيات خصائصية علائقية أو مجازات، وليست كلّيات؛ كما أنّ وجه الشبهة في صفة الكلبية بين الكلبين (فايدو) و(لاسي) قد يكون جزئية مختلفة عن وجه الشبه في صفة الكلبية بين الكلبين (لاسي) و(سنوبي).

إنّ التجريد يصبح “مفتوح النهاية” منذ بداية تشكيله، فلا ينحصر تطبيقه بالأجسام المحدّدة المدركة حسّيًا التي تمّ تشكيل التجريدات منها وحسب، بل يشمل تطبيقه أيضًا كلّ الأجسام المدركة حسّيًا من النوع نفسه. أمّا المميّزات التي يتمّ على أساسها تجميع المفردات مفاهيميًا فيجب أن تتّصف بأنّها (ضرورية)، أي: أساسية من ناحية التفسير؛ لكن بما أنّ آين راند تعتبر التفسير صنفًا إبستيمولوجيًا، وليس ميتافيزيقيًا، فالماهيات موضوعية وليس جوهرية. وهذه المميّزات الضرورية تقوم أيضًا بتحديد تعريف المفهوم؛ فكلّ من عملية تشكيل المفهوم (الطاولة، مثلًا)، وعملية التوصّل إلى تعريف، يتوافقان مع الوظيفتين الرئيسيتين للوعي: الدمج والتمييز (Rand ITOE: 41). فجنس الطاولة يدمجها مع موجودات أخرى من النوع ذاته (الكراسي، والخزائن، و…إلخ) بينما يفرّقها تمييزها عن الموجودات الأخرى من النوع ذاته (وعن الأنواع الأخرى، طبعًا). لكنّ معنى المفهوم لا يكمن في تعريفه، بل في مدلوله، فلا تتحدّد العضوية في صنف من المدلولات تبعًا لأيّ معيار يشبه “المعنى” لدى فريگه، بل تبعًا لأوجه الشبه الأساسية لعضو محتمل (سواء كان معروفًا أو لم يعرف بعد) مع الأجسام الأصلية المدركة حسّيًا التي يقوم عليها المفهوم. وإنّ التعريفات تتعلّق بالسياق ويمكنها أن تتغيّر على نحو يستجيب للمكتشفات الجديدة دون تغيير المفهوم نفسه. وهنا نصل إلى السؤال: إذن ما هو التعريف الموضوعي الصالح للجميع؟ إنّه التعريف القائم على “أوسع سياق للمعرفة متاح للإنسان في ما يخصّ المواضيع المتعلّقة بوحدات المفهوم المعطى” (Rand ITOE: 46). وبما أنّ المفاهيم لا تتغيّر عندما تتغيّر تعاريفها مع نموّ المعرفة فهذا يعني أنّ لدينا استمرارًا في الدلالة؛ بل إنّ نموّ المعرفة البشرية ما كان له أن يكون ممكنًا لولا هذا الاستقرار والنهاية المفتوحة للمفاهيم (Rand ITOE: 27–8, 66–67). ولهذا فإنّ تطوّر العلم لا يهدّد موضوعيته أو تقدّمه، كما يزعم البعض (Feyerabend 1965; Kuhn 1970)، بل إنّ تطور البنية المفاهيمية للعلم يجسّد لنا نظرية راند بشأن المفاهيم وتطوّر الإدراك (Lennox 2013). وترفض راند التمييز التحليلي-التركيبي، أي: إنّها تنكر وجود أيّ فرق مهمّ، في المنزلة الميتافيزيقية أو الصيغية، وكذلك في وسائل التحوّل إلى معلوم، بين هذه الميّزات التي يذكرها التعريف وبين نظيرتها التي لم يذكرها. وعلى الرغم من كلّ الفروق المتنوّعة، فإنّ المناقشة الإجمالية للدلالة عند راند تحمل أوجه شبه مثيرة للانتباه مع نظريات الدلالة عند أنصار الواقعية، والتي طوّرها سول كريپكي وهيلاري پوتنام إبّان سبعينيات القرن الماضي، لكنّ راند طوّرت أفكارها بشكل مستقلّ، وعبّرت عن أولى أفكارها هذه في أعداد العامين (1966-1967) من مجلّتها (الموضوعاني).

ولقد رفض المنتقدون ما جاءت به آين راند لأنّها لم تقدّم أيّ حجّة في نقض إمكانية أن يكون لـ(بعض) المفاهيم دلالات يحدّدها التعريف (Browne 2000; Long 2005a,b)؛ فعلى سبيل المثال: تصف راند معنى “الرأسمالية” بقولها “الامتناع الكامل للدولة عن التدخّل في الشؤون الاقتصادية بشكل كامل وصافٍ لا يخضع للسيطرة ولا للضوابط” (Rand 1964a: 33)، وبما أنّ راند لا تعتبر أنّ مثل هذه المنظومة قد وجد قطّ، فمن الصعب أن نتبيّن كيف أمكن تشكيل مفهوم “الرأسمالية” على أساس دلالاته (أيّة دلالات؟)، ولو كان تعريف راند لـ”الرأسمالية” يؤدّي، بدلًا من ذلك، دور (معيار) يحدّد ما يمكن اعتباره دلالة فعندها يمكن لبعض العبارات أن تكون “صائبة بالتعريف” في نهاية المطاف، وبهذا تمتلك إمكانية إعادة الحياة للتمييز التحليلي-التركيبي.

إنّ المفاهيم (أو محاولات تشكيل المفاهيم) التي تجمّع ما تزعمه من دلالات وفقًا للمميّزات غير الضرورية أو غير المنسجمة، أو التي تجسّد افتراضات مسبقة خاطئة عوضًا عن ذلك (“الفلوجستون” أو “التطرّف”، مثلًا)، والتي تتعامل ضمنيًّا مع أيّ اعتقاد منسجم أو عميق التكامل باعتباره أمرًا سيّئًا بغضّ النظر عن محتواه)، إنّما هي مفاهيم تفتقر للصلاحية ولا يمكن استخدامها بعقلانية. وترى آين راند بأنّ “المفاهيم المضادّة” أو “حزم المفاهيم الجاهزة” (كـ”التطرّف” أو “الأثرة”) توظّف كثيرًا كاستراتيجية أيديولوجية لعرقلة قدرة الناس على إدراك المفاهيم السياسية غير المريحة؛ ولهذا فإنّ نظرية راند ذات بعد معياري (Gotthelf 2013). وإنّ الأحكام العقلية التي تنكر افتراضاتنا المفاهيمية المسبقة هي غير صالحة على النحو ذاته. وعلى سبيل المثال: إنّ إمكانية (أن تكون كلّ تجربتنا في الحياة ليست سوى حلم) ترفضها راند باعتبارها تندرج ضمن مغالطة “المفهوم المسروق”، لأنّ امتلاك مفهوم “الحلم” يفترض مسبقًا القدرة على التمييز بين الحلم واليقظة؛ وهذا لأنّ الامتلاك الحقيقي لأيّ مفهوم يتطلّب كلًّا من القدرة على اشتقاق تجريد من أمور ملموسة والقدرة على المضيّ وتطبيقه على ملموسات جديدة، ولو كانت تجربتنا في الحياة بأكملها حلمًا فإنّ مفهوم اليقظة ما كان له أن يُشتقّ من أيّ أمر ملموس ولا أن يطبَّق عليه. وإنّ من يدّعون إدراكهم لمفهوم ما وعجزهم في الوقت نفسه عن ملاحظة أمثلة له “لم يؤدّوا أيًّا من جزئي الحلقة: لا التجريد، ولا ترجمة التجريد إلى ملموسات”، كما هو الحال في الدائرة الكهربائية التي “لا يمكن لأيّ جزء فيها أن يكون نافعًا حتّى، وما لم، تكتمل الدائرة” (تدوينة في دفتر مذكّرات بتاريخ 4 مايو 1946؛ Rand 1997: 481).

ولهذا فإن الكثير ممّن يبدو بأنّهم يعملون ضمن المستوى المفاهيمي ربّما ليسوا كذلك في الحقيقة؛ وتلجأ راند إلى “الذهنية المضادّة للمفاهيم”، الناتجة عن الكسل أو التعليم الخاطئ، لتفسير هيمنة الانسجام الاجتماعي المفتقر للتفكير السليم، انطلاقًا من أنّ من لم يبرع في صياغة تجريدات أعلى مجبر على الإبحار في عالم المجتمع عبر محاكاة السلوك الملموس للآخرين. وبعبارة أخرى: إنّ الذهنية المضادّة للمفاهيم ترى بأنّ مفهومًا كالعدل لا يشير سوى إلى ممارسات ملموسة ينخرط فيها أفراد مجتمع ما باستخدامهم للمصطلح، وبذلك يعيقون إمكانية أيّ تفكّر ناقد بشأن المستوى الحقيقي للعدل في هذه الممارسات (Rand 1982a: ch. 4; 1999a: ch. 3).

أ. 3. الوجود، والهوية، والوعي

يمكننا أن نجد أهمّ المفاهيم، من الناحية الإبستيمولوجية، فيما حدّدته آين راند بتسمية المفاهيم “البديهية” (والبديهيات نفسها ثانوية، لأنّها تعبيرات قضوية للمفاهيم الموافقة، وهي بدورها غير قضوية). والمفاهيم البديهية الثلاثة التي تحظى بالقسم الأكبر من اهتمام راند هي: (الوجود، والهوية، والوعي)؛ وهي تخبرنا بأنّ هذه المفاهيم الثلاثة تبطّن المعرفة بأكملها، ولا يمكن رفضها دون الاعتماد عليها أثناء محاولة الرفض؛ وهي، بخلاف المفاهيم المعتادة، غير قابلة للتعريف (إلّا زعمًا)، وذلك لأنّه ليس هنالك بعدها أيّة مفاهيم رئيسية يمكن الاستناد إليها في تعريفها، بل إنّ البديهيات التي تستخدم للتعبير عنها غير قابلة للبرهان أيضًا، لأنّها مفترَضة مسبقًا في كلّ البراهين (Rand ITOE; Peikoff 1991).

يعرَّف مفهوم الوجود بأن وجود الشيء الموجود هو حقيقة أساسية غير قابلة للجدل؛ وإذا أردنا الحصول على سبب أو تفسير لوجوده غير (لا شيء) فهذا يعني ارتكابنا لخطأ في فهم موقع الوجود ضمن هرمية المفاهيم (وهذا هو أحد الأسباب التي دفعت آين راند لرفض فكرة الخالق الإلهي كسبب لوجود الكون؛ وعلى الرغم من أنّه يبقى مثارًا للنقاش ما إذا كان رفضها هذا صالحًا في حالة كون هذا الخالق لا يفترض به غير أن يكون مسؤولًا عن وجود أيّ شيء ما عداه هو). وتعبّر راند عن هذا المفهوم بشكل قضوي كبديهية تقول “الوجود موجود”، وهي لا تعني بها مجرّد ملاحظة تحصيل الحاصل التي تقول: “ما يوجد فهو موجود”، بل الاعتراف بأنّ شيئًا ما موجود فعلًا.

أمّا مفهوم الهوية فيحدّد حقيقة تقول بأنّ كلّ ما هو موجود يعتبر (نوعًا ما) لشيء ما؛ أي: إنّه ذو طبيعة محدّدة غير متناقضة. وهذا المفهوم (كثيرًا ما تعبّر عنه راند بشكل قضوي باسم قانون الهوية “أ هو أ”) يستتبع مفهومًا آخر هو مبدأ السببية: فبما أنّ لكلّ شيء طبيعة محدّدة، فلا يمكن لأيّ شيء أن يعمل إلّا على نحو ينسجم مع طبيعته.

وثالث المفاهيم، مفهوم الوعي، يحدّد حقيقة مفادها أنّ الوعي موجود؛ وتتّفق آين راند مع الرؤية الديكارتية التي ترى بأنّ المرء لا يمكنه أن ينكر بشكل مترابط منطقيًا وجود وعيه، لكنّها تخالف ديكارت في إنكارها لـ”اليقين المسبق بوجود الوعي”، أي: الفكرة التي تقول بأنّنا نستطيع أن نكون واعين بمحتوى أذهاننا دون أن نعلم ما إذا كان هنالك أيّ واقع خارج-ذهني يتطابق معها؛ إذ ترى راند بأنّه لا يمكن أن يكون هنالك أيّ محتوى ما لم يكن هنالك واقع خارجي. وتعتبر راند الوعي علائقيًا في أساسه: فأن تكون واعيًا يعني أن تكون واعيًا بشيءٍ ما خارج وعيك، أمّا وعيك بوعيك نفسه فليس له إلّا مكانة ثانوية.

وللوجود أولوية على الوعي من الناحيتين الإبستيمولوجية والميتافيزيقية معًا (والناحية الثانية تشرح الأولى): فالأولوية من الناحية الإبستيمولوجية مردّها إلى أن الوعي يجب أن يكون واعيًا بجسم محدّد قبل أن يكون واعيًا بذاته، والأولوية من الناحية الميتافيزيقية مردّها إلى أنّ الوعي هو استجابة لأجسامه ولذلك لا يمكنه أن يسبقها؛ وبهذا يجري استبعاد النظريات الميتافيزيقية المشابهة للربوبية والمثالية لأنّها، كما ترى راند ، تجعل الوجود معتمدًا على الوعي.

وإنّ الحقيقة التي تقول بأنّ الوعي، كإدراك حسّي وكمفهوم، عملية معقّدة نشيطة وسببية، لا تستتبع القول بأنّها عملية خلّاقة أو مشوِّهة فيما يخص أجسامها. وترى راند بأن اقتراح ما يخالف ذلك (المطالبة بأن الوعي كي يتواصل مع الواقع لا بدّ له أن يكون منفعلًا بشكل كامل ولا يقوم بأيّ نوع من المعالجة) هو رفض للوعي على أساس واهن يرى أنّ له هوية محدّدة وأنّه يوظّف وسائل محدّدة، وهذا يعيدنا إلى ما أسلفنا ذكره: أن تكون أعمى لأنّ لك عينين، وأن تكون أصمّ لأنّ لك أذنين.

وترى آين راند ، كما أسلفنا، أنّ حواسّنا لا يمكنها أن تخدعنا؛ وأنّنا عندما نشكّل أحكامنا المفاهيمية على أساس الدليل الحسّي فلا مجال للانخداع حينها إلّا إذا سمحنا لأنفسنا بأن نستسلم للغفلة أو التهرّب. ومن هنا فإنّ اليقين متاح لنا دائمًا؛ لكن بينما ترى راند أنّ المعرفة تتطلّب اليقين، نجدها تميّز اليقين عن العصمة: فالحكم العقلي يمكنه أن يكون (متيقّنًا)، ضمن مدى معطى من المعرفة المتاحة، حتّى وإن كان يحتاج إلى التنقيح على ضوء المعلومات الجديدة. ويفسّر پيكوف ذلك بأنّ راند تعتقد بأنّه ما دام هنالك مؤهِّل سياقي يُفهَم وجوده الضمني في الأحكام العقلية للمرء وفي كلّ مرحلة (مثلًا: “إلى الحدّ الذي يمكن تحديده في ضوء المعرفة الحالية…”) فإنّ الأحكام العقلية المنقّحة لا تحتاج إلى التناقض مع الأحكام الأصلية (Peikoff 1991). لكنّ هذه الفكرة تنطوي على إشكالية، وراند نفسها لم تدلِ بأيّة عبارة بهذا المعنى.

إن آين راند ترفض كلًّا من الدوغمائية (التشديد على المعرفة والمطالبة بالموافقة عند غياب الدليل الكافي سياقيًا) والشكوكية (إنكار المعرفة، أو المطالبة بالإحجام عن الموافقة، عند غياب الدليل الكافي سياقيًا)؛ وكذلك ترفض الغيبوية (بمعناها الذي تدّعي به نمطًا من المعرفة غير عقلاني وغير حسّي) باعتبارها نوعًا من أنواع الدوغمائية؛ فالمحدّد الرئيسي والنهائي للاعتقاد يجب أن يكون تطبيق المنطق، أي: “فنّ التعريف غير المتناقض”، على البيانات الحسّية.

أ. 4. ميتافيزيقا الطبيعة البشرية

إن فهم آين راند لدور الميتافيزيقا يتّصف بأنّه على درجة كبيرة من الأدنوية (minimalist)، فمهمتها هي: التحرّي بشأن الميّزات الأعمّ للوجود كما هي (“الوجود كوجود” بحسب تعبير أرسطو). ولهذا فإنّ قدرًا كبيرًا من التحرّي الميتافيزيقي التقليدي بشأن الميّزات المحدّدة للكون وعناصره تعتبره راند خليقًا بأن يدخل ضمن حقل العلوم الخاصّة، لا الفلسفة. وبالإضافة لهذا، وانسجامًا مع اعتقادها بأنّ الكثير من المسائل المركزية في فلسفتها تعتمد على ظاهرات يقضي الفهم المناسب بأنّها موضوعية، وليست جوهرية، فإنّ راند تميل إلى إسناد دور أوسع للإبستيمولوجيا بالمقارنة مع الميتافيزيقا؛ إذ ترى راند بأنّ الميتافيزيقا تخبرنا بأنّ الكيانات ذات طبائع محدّدة، والإبستيمولوجيا تخبرنا بكيفية تحرّي هذه الطبائع، والعلوم الخاصّة تقوم حينها بإجراء التحرّي الفعلي.

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ راند تتّخذ موقفًا في عدد من المسائل الميتافيزيقية الأكثر تحديدًا من أولوية الوجود على الوعي أو أولوية الكيانات على الخصائص. وعلى سبيل المثال: تنكر راند إمكانية اللانهايات المتحقّقة (في مقابل اللانهايات المحتملة، بالمعنى الأرسطي للعمليات التي يمكن الاستمرار بها دون نهاية) وذلك انطلاقًا من أنّ بديهية الهوية تتطلّب من كلّ قدرة أن تكون ذات مدى محدّد قابل للقياس. ومن الجانب الآخر، تصرّ راند على أنّ اعتبار الوجود ذا طبيعة رئيسية لا جدال فيها فليس من المجدي بعدها أن نفكّر بالواقع ككلّ باعتباره داخلًا في الوجود أو خارجًا منه؛ فالكون حقيقة رئيسية لا يمكن خلقها أو تدميرها، وكان موجودًا دائمًا. وليس من الواضح ما إذا كانت راند تعتقد بأنّ الكون قديم بلا حدّ (وهو موقف قد يبدو أنّه لا يتلاءم مع إنكارها للانهايات المتحقّقة، على الرغم من أنّ أرسطو كان يعتقد بهذا الخليط من الرؤى)، أم أنّها كانت تعتقد فقط بأنّ الكون لم تسبقه مدّة زمنية من العدم (وهو ادّعاء ينطوي على شيء من التميّز إذا اعتقد المرء، كما هو حال راند، بأنّ مرور الزمن يقتضي التغيّر).

لكنّ معظم الأطروحات الميتافيزيقية الأكثر تحديدًا لدى آين راند هي التي تتعلّق بطبيعة نمط واحد بعينه من الكيانات: البشر. إذ تعتبر راند البشر، وبالفعل: كلّ الكائنات الحيّة عمومًا، منظومات مرتّبة غائيًا، على الرغم من أنّ غائيتها تأخذ شكلًا مطبَّعًا لا يحمل دلالة رئيسية للغائية؛ وتتلخّص رؤية راند في أنّ الكائنات الحيّة تعتمد في وجودها على النجاح في القيام بنشاطات الصيانة الذاتية (بوعي منها أو دون وعي)، ولذلك فلا بدّ لها من الانتظام حول هدف تعزيز وظائفها الحيوية. وترفض راند كلًّا من ثنائية المادّة (substance dualism) والمادّية الاختزالية (reductive materialism)، إذ تعتقد بأنّ الإنسان وحدة مدمجة من الذهن والجسد، فهو كيان موحّد ذو مميّزات ذهنية لا يمكن فصلها عن المميّزات الجسدية ولا يمكن فصلها عنها كلّيًا (ومن غير الواضح ما هو المصطلح الأفضل الذي ندعو به رأي راند هذا: ثنائية الخاصّية (property dualism)، أو الجسدانية اللااختزالية (nonreductive physicalism)، أو غيرهما).

وإنّ الوعي ليس ظاهرة مصاحبة، بل هو مؤثّر على نحو سببي، أو يمكن القول بشكل أدقّ: إن البشر مؤثّرون على نحو سببي بفضل امتلاكهم للوعي (من بين عوامل أخرى)؛ ونحن نعلم هذا بمقتضى التجربة المباشرة. وعلاوة على هذا، فبينما يحدث الإدراك الحسّي بشكل آلي، فإنّ عمل الوعي على مستوى الإدراك الحسّي لا يخضع للضرورات السببية. وإنّ من البديهيات: الواقع اللاتوافقي للإرادة الحرّة؛ وذلك لأنّ الأدوات المفاهيمية اللازمة لمساءلة واقعها تفترض مسبقًا سلطتنا الإرادية على عملياتنا الفكرية، وبالأخصّ: قدرتنا على رفع أو خفض مستوى التنبّه الذهني لدينا، نظرًا إلى أنّ قدرتنا على المحاكمة العقلية لصوابية التفكير تفترض مسبقًا أن لا يكون تفكيرنا موجّهًا بعوامل تتجاوز معارفنا وسيطرتنا (N. Branden 1971).

والخيارات الحرّة ليست دون سبب، انطلاقًا ممّا تعتقد به آين راند من أنّ الأفعال (بشكل عامّ، دون الاقتصار على أفعال البشر) تستمدّ أسبابها، لا من الأحداث السابقة لها، بل من طبيعة الكيانات المنخرطة فيها. بل إنّ هنالك طرح تصبح الخيارات الحرّة بموجبه من الضرورات، وبالتحديد: من الضروري للبشر، نظرًا لطبيعتهم ككائنات عقلانية واعية، أن يتّخذوا خيارات حرّة، على الرغم من أنّه ليس من الضروري أن يختاروا أمرًا دون آخر.

لكنّنا إذا ابتعدنا عن ميدان الخيار البشري نجد آين راند تعتبر كلّ الحقائق والأحداث بمثابة ضرورات و”معطيات ميتافيزيقية”؛ ويبدو أنّ راند تعتبر موقفها هذا نتيجة طبيعية لأولوية الوجود، على الرغم من أنّه ليس من الواضح، إذا أخذنا بعين الاعتبار استثناء راند للخيار البشري، السبب في أنّه لا يمكن أن يكون هنالك كيانات من النوع الذي تقضي طبيعته بأن يسلك سلوكًا احتماليًا، كما نصّت عليه الكثير من تفسيرات الفيزياء الكمّية (على العكس من ذلك، فإنّ الرؤية المميّزة التي تقول بأنّ “الحالة الراهنة” للجسيم الكمّي ذات طبيعة احتمالية تتناقض بوضوح أكبر بكثير مع أولوية الوجود).

المصدر