مجلة حكمة
هالسيون

هالسيون (محاورة)

الكاتبلوسيان
ترجمةناصر الحلواني

مقدمة هالسيون

يحكي سقراط لصديقه الحميم تشيريفون عن أسطورة هاليسون، التي تحولت، بواسطة بعض القوى الإلهية إلى طائر بحري، لتكون في حال يساعدها على البحث عن زوجها الذي غرق في البحر. يشك تشيريفون في حقيقة الأسطورة، لكن سقراط يجادله ليبرهن له على أن شكه غير صحيح، فنحن جهلاء بحدود القوة الإلهية، التي هي أعظم، بنحو لا يمكن تخيله، من قوة الإنسان، كما أنها أظهرت عن قدرتها على أمور هائلة.

إن موضوع وزمان ومكان، تلك المحاورة الشعرية القصيرة، يبدو مستوحى من محاورة فايدروس لأفلاطون، وفيها، أيضا، يفسر سقراط أسطورة عن تحول البشر إلى حيوانات (258e – 259d). إن العلاقة بين الأكوان، والسماء، والطبيعة، والقوى الإلهية من السمات المميزة للأعمال أفلاطون في المرحلة المتأخرة، وكذل نبرة الشك في حدود المعرفة الإنسانية، والتقارب بين البشر والحيوانات الأخرى. تتطور المحاورة بشكل متقن، في مفرداتها وبنائها، وهي مثال جيد للأسلوب المتكلف، والذي يُدعى “أسيوي” من جانب النقاد المتأخرين. من المحتمل أنه كُتبت بين عامي 150 ق.م. و 50 ق. م.

تشتمل نهاية محاورة هالسيون على إشارة ضمنية إلى قصة زوجتي سقراط: زينثيبي وميرتو، اللتين آمل سقراط أن تكونا متفانيتين له بمثل تفاني هالسيون لزوجها. وترجع قصة تعدد زوجات سقراط إلى القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل.

برغم أن عددا من المخطوطات تنسب محاورة هالسيون إلى أفلاطون، كما تذكرها قائمة كتب قديمة ضمن الأعمال التي تنسب إليه خطأً، فإنها لا توجد، بالفعل، بين مجموع أعمال أفلاطون. إذ تم عزوها مؤخرا إلى لوسيان، خطيب ومؤلف محاورات من القرن الثاني الميلادي، ربما من جانب الباحثين البيزنطيين، الذين لاحظوا التماثلات بينها وبين أسلوب وموضوعات لوسيان. حينما تم تجهيز مجموع أعمال أفلاطون في العصر الحديث، في القرن السادس عشر، في نسخة هنري إيستيين (ستيفانوس)([1])، لم يتم طبع محاورة هالسيون ضمنها، وكان من الطبيعي أنها لم تُطبع ضمن أي نسخ حديثة لأعمال أفلاطون. ويتم طبعها الآن ضمن مجموع أعمال لوسيان.

دوجلاس  هاتشينسون

(أستاذ الفلسفة الفخري بجامعة تورنتو ـ كندا)


محاورة هالسيون

تشيريفون: أي سقراط، ما ذاك الصوت الذي يصلنا من جهة الشاطئ البعيد، عند رأس اللسان البحري؟ لقد كان وقعه حلواً في أذني! أي مخلوق يمكن أن يكون، ذلك الذي يصدر عنه ذلك الصوت؟ مؤكدا أن الكائنات التي تعيش في البحر خرساء.

سقراط: هو نوع من طيور البحر، يُدعى هالسيون، وأغلب الظن أنه أطلق عليه بسبب نوحه وعويله. ثمة حكاية قديمة عن هذا الطائر، تناقلها الشيوخ كأسطورة عبر الأجيال. يذكرون أنه كان قبل ذلك امرأة، هي ابنة أيولوس ابن هيللين، أضناها حبها وأسفها على موت زوجها، كياكس التراخيسي، ابن إيوسفوروس نجم الصباح ـ ابن جميل لأب جميل. وحدث، بحسب بعض أفعال المشيئة الإلهية، أن صار لها جناحان مثل طائر، فهي تحلِّق فوق البحار، الآن، بحثا عنه، لأنها لم تعثر عليه في طوافها فوق الأرض.

تشيريفون: هل تلك هي هالسيون من تتحدث عنها؟ فلم يسبق لي أن سمعت هذا الصوت، ولقد فاجأني بغرابته. على أية حال، فمن المؤكد أن ذلك الطائر ينوح بصوت حداد. كم يبلغ حجم ذلك الطائر يا سقراط؟

سقراط: ليس كبيرا جدا. لكنها عظيمة بما شرفها به الآلهة لحبها لزوجها. إذ حينما يحين أوان بناء عشوشها، يمنحنا الكون ما نسميه “أيام الهالسيون”، في منتصف الشتاء، أيام تتميز بجوها المعتدل ـ واليوم هو مثال جيد، بشكل خاص، لتلك الأيام. ألا ترى كيف هي السماء ساطعة في الأعالي، وكيف هو هادئ البحر، ومنبسط في سكون، مثل مرآة، إن صح التعبير؟

تشيريفون:  أنت محق، فاليوم يبدو مثل أحد أيام الهالسيون، وكذلك كان أمس. لكن، بحق الآلهة يا سقراط! كيف يمكننا اعتقاد مثل تلك الحكايات القديمة، إنه كان يا ما كان، تحولت الطيور إلى نساء، أو نساء إلى طيور؟ كل ذلك النوع من الأشياء يبدو مستحيلا للغاية.

سقراط: نعم، عزيزي تشيريفون، نحن نبدو قصيرو النظر للغاية في أحكامنا حول ما هو ممكن أو مستحيل ـ إن تقييماتنا تقوم على حسب ما نراه الأقرب إلى قدراتنا البشرية، الجاهلة، وغير الموثوقة، والعمياء. الكثير من الأشياء التي يبدو من السهولة تحقيقها، بالنسبة لنا، غير قابلة للتحقق، وكثير من الأشياء يسيرة التحقيق تبدو صعبة التحقق ـ  غالبا ما يرجع ذلك إلى ضعف خبراتنا، وغالب ذلك مرجعه ما تتصف به عقولنا من حماقة طفولية. في الواقع، فإن كل الكائنات الإنسانية، حتى من كان شيخا كبيرا منهم، يبدون في حماقة الأطفال، ذلك أن دورة حياتنا ضئيلة حقا، لا تزيد عن فترة الطفولة إذا ما قورنت بالأبدية. يا صديقي الطيب، كيف يمكن لمن لا يعرفون شيئا عن قوى الأرباب والآلهة، أن عن الطبيعة ككل، أن يخبروا ما إذا كان شيء مثل ذلك ممكن أو مستحيل؟

هل لاحظت، تشيريفون، كم كان حجم العاصفة التي هبت أمس؟ إذا ما تأمل المرء في تلك البروق والصواعق، وقوة الريح المهولة، فقد ينتابه الرعب، وقد يظن المرء أن العالم صائر إلى دمار. لكن بعد قليل، يستعيد الجو اعتداله الرائع، والذي استمر حتى لحظتنا هذه. فهل تظن، إذن، أن مهمة استحضار ذلك الطقس المعتدل بعد تلك العاصفة الساحقة، والاضطراب، وإعادة الكون برمته إلى حالته الهادئة، أعظم  وأكبر مشقة من إعادة تشكيل طبيعة امرأة وتحويلها إلى طائر؟ حتى أطفالنا الصغار، الذين يعرفون كيفية عمل تلك الأشكال من الصلصال أو الشمع، يمكنهم، بسهولة، صنع ما يشاؤون من أشكال، جميعها بنفس المادة. وبما أن الإلهي يحوز قوة عظيمة، أعظم، بما لا يُقارن، من قوانا نحن، فلعل كل تلك الأشياء، فعلا، هي يسيرة بالنسبة له. في النهاية، كم تكون السماء ، في نظرك، أعظم منك أنت نفسك؟

تشيريفون:  أيا سقراط، مَن بين الناس جميعهم يمكنه تصور، أو أن يجد ما يعبر به عن مثل هذا؟ بل يمكن القول إن ذلك يتجاوز متناول الإنسان.

سقراط: حينما نقارن بين الناس بعضهم ببعض، ألا نرى أن هناك اختلافات شاسعة بين قدراتهم وعجزهم؟ إذا ما قورن البالغون بالأطفال، الذين لا يزيد عمرهم عن خمسة أو عشرة أيام، فإننا نلحظ تفوقا مذهلا للبالغين في قدرتهم الفعلية في كافة الشئون العملية للحياة، تلك التي تحتاج لتنفيذها إلى مهارات راقية، وكذلك التي تتطلب لإتمامها قدرات جسدية وروحية، لا يمكن لهذه الأشياء، كما أقول، حتى المرور على عقل أولئك الأطفال الصغار. وكم قدر التفوق الذي لا يقاس للقوة البدنية لرجل بالغ تام النمو، مقارنة بأولئك الصغار، إذ يستطيع رجل واحد التغلب بسهولة على آلاف من مثل هؤلاء الأطفال، ومن الطبيعي، بنحو مؤكد، أن الإنسان، في مراحل عمره الأولى، يجب أن يكون عاجزا تماما، وغير قادر على القيام بأي شيء. فإذا كان شخص واحد، كما نرى، بمثل هذا القدر من التفوق على آخر، فكيف نتصور ما عليه قوى السماء، مقارنة بقدراتنا، بأولئك القادرين على استيعاب مثل هذه القضايا؟ قد يفكر بعض الناس، بأنه من المعقول، بمثل ما يتفوق به حجم الكون على حجم سقراط وتشيريفون، فإن قوته وحكمته وعقله سيكون بمثل هذه الدرجة من التفوق عن قوتهم وحكمتهم وعقلهم. بالنسبة لك، ولي، وللكثيرين غيرنا، هناك العديد من الأشياء المستحيلة، بينما يمكن لآخرين القيام بها. فما داموا يفتقرون إلى المعرفة، فإن استحالة أن يعزف من لا يستطيعون العزف على الناي مهما حاولوا، وأن يقرأ الجاهل أو يكتب، تكون أكبر من تحويل الطيور إلى نساء، أو تحويل الطيور إلى نساء.  تضع الطبيعة في خلية النحل حشرة لا أقدام لها ولا أجنحة، ثم تجعل له أقداما وأجنحة، وتزينه بكل أشكال النقط والخطوط المبرقشة والألوان الجميلة، وهكذا تتخلق نحلة، المنتج الحكيم للعسل السماوي، ومن بيض هامد لا حياة فيه، تشكل العديد من المخلوقات: المجنحة، والتي تدب على الأرض، والتي تعيش في المياه، مستعينة في ذلك (كما يقول البعض) الفنون المقدسة للأثير. نحن مخلوقات فانية، وتافهة تماما، لا نقدر على الرؤية بوضوح، سواء ما كان عظيما أو ضئيلا من الأمور، وفي هذا الظلام، الذي تحدث لنا فيه  معظم الأشياء، فربما لا نستطيع أن نبدي أي موقف ثابت وقوي حول القوى العظيمة للخالد، سواء فيما يتعلق بالهالسيون، أو فيما يتعلق بطيور العندليب. ([2])

أوه يا طائرٌ من نحيبِ موسيقي، سأحكي لأولادي عن الأسطورة الشهيرة لأغنياتك، بمثل ما سمعتها من أسلافي، وأداوم على أن أغني لزوجاتي؛ زينثيبي، وميرتو، عن تقواكِ وإخلاصك المتفاني في حب زوجكِ، مؤكدا على ما نلتهِ من شرف من الآلهة. هل ستفعل أنت أيضا مثل ذلك، تشيريفون؟

تشيريفون:  يقينا، سيكون ذلك ملائما، سقراط، وما تقول هو عظة مزدوجة تخص الرابطة بين الأزواج والزوجات.

سقراط: حسنا، حان الآن وقت وداع هالسيون، والعودة إلى المدينة من خليج فاليرون.

تشيريفون:  بالتأكيد، لنفعل ذلك.

المصدر


الهوامش

([1]) هنري إيستيين، أو هنريك ستيفانوس(1528 or 1531 – 1598) باحث فرنسي من القرن السادس عشر، نشر في عام 1578 الطبعة الشهيرة للأعمال الكاملة لأفلاطون، التي ترجمها جان دي سير، وأضاف لها بعض التعليقات، وقام بترقيم المحاورات وفقراتها، فصارت هي الطبعة الأساسية التي يرجع إليها الباحثون، بترقيمها المعتمد حتى الآن، والمعروف بترقيم ستيفانوس. [المترجم]

([2]) تذكر الأسطورة أن الشقيقتين بروكني وفيلوميلا تحولتا إلى طيور؛ إحداهما إلى عندليب والأخرى إلى هدهد.