مجلة حكمة
نظام التفاهة

مقدمة المترجم كتعبير عن ذاتيته: كتاب “نظام التفاهة” نموذجا

الكاتبمحمد وليد قرين

مقدمة

لقد عارض فريق من المنظرين تعبير المترجم عن وجوده في النص المترجم واعتبروا أن الناقل يجب أن يختبئ للقارئ. أطلقت جوليان هاوس Juliane House على هذا الاتجاه Covert Translation “الترجمة المغطاة” كنقيض لـ”overt translation” (الترجمة المكشوفة) عندما قالت: ” Der Übersetzer hat die Aufgabe, sich selbst hinter der Verwandlung des Originals zu verbergen. » (House, 2002 : 106). يحثّ اللساني جورج مونان Georges Mounin أيضا على اختباء الناقل ويرى أن المترجم المثالي هو الذي يصبح “un verre si transparent qu’on croie qu’il n’y a pas de verre“، يعني أن ينمحي المترجم تماما من النص المترجم حتى يعتقد القارئ أنه لا وجود لترجمة وأنّ النص كتب مباشرة باللغة المترجم إليها.

من زاوية أخرى، ذهب فريق آخر من المنظرين إلى تشجيع المترجمين على إبراز وجودهم في الترجمة، وأذكر في هذا الاتجاه لورانس فينوتي  Lawrence Venuti الذي ندد بثقافة تهميش واستغلال المترجم عندما يدور الحديث عادة عن الأعمال المترجمة فيدعو المترجمين إلى تحطيم هذا التهميش فيقول: Translators must also force a revision of the codes […] that marginalize and exploit them.

يحدث أحيانا أن يعبّر المترجم عن وجوده في المتن الذي ينقله، بواسطة تعليق، ملاحظة على هامش الصفحة أو مقدمة يكتبها لعرض منهجه/فلسفته في الترجمة، التقنيات التي استعملها أو الصعوبات التي واجهها مثلا، للحديث عن علاقته بكاتب النص الأصلي وتقديمه. مقدمة المترجم هي كذلك فضاء يتحدث فيها عن عمله. يجب القول من الآن إنّ كتابة المترجم لمقدمة عمله ليست عادة في فضاء نشر الترجمات، لأنّ في أغلب الأوقات لا تتضمن الأعمال المترجمة مقدمة، وعندما تتضمنها فمن يكتبها هو في الغالب كاتب/كاتبة معروف(ة) أو شخصية مشهورة (سياسية أو فنية مثلا) ويمكنني أن أذكر في هذا السياق مثلا ترجمة مُنوّر أنداتش Münevver Andaç لرواية ناظم حكمت “Hayat güzel be kardesim” التي كتب مقدمتها الرسام عابدين دينو Abidin Dino ، Green  أو ترجمة كاترين مالامود Catherine Malamoud لكتاب إدوارد سعيد “L’Orientalisme” التي قدّمها الفيلسوف تسفيتان تودوروف Tzvetan Todorov . ثم يجب أن أشير أيضا إلى أنّ خيار كتابة أو عدم كتابة المترجم لمقدمة عمله متوقفة على قبول الناشر أو رفضه Risterucci-Roudnicky, 2008 ))؛ أي أنّه خاضع للخط التحريري لدار النشر. وعلى كل حال، لا يختار المترجم الكتب التي ينقلها في 80 بالمائة من الحالات (محمد عبد النبي، 2020). كل ما قلته للتو يقودني إلى الاعتراف بأنني واجهت بعض الصعوبات لإيجاد نموذج عن كتاب مترجَم وردت فيه مقدمة المترجِم. 

فيما يخص هذا المقال، سيسلط الضوء على تعبير المترجم عن ذاتيته في المقدمة التي يكتبها، لكن يجب أن أوضح من الآن أنني لن أهتم هنا بالمقدمات التي تعرض فقط موضوع العمل المترجم وحياة كاتب المتن الأصل، بل ما يهمني هو عندما يعبّر المترجم أيضا عن ذاتيته المباشرة، أقصد عندما يعطي رأيه الشخصي في قضية/قضايا معينّة، سياسية بالدرجة الأولى أو عندما تتجلى عاطفته الناتجة عن تفاعله مع الكتاب الذي نقله. 

ترجمة كتاب أدبي أو غير أدبي هي نتاج قراءة المترجم للكتاب، فهي إذا تعبّر عن قراءة ذاتية وتفاعل وانطباعات ذاتية مع الأحداث المحكية في المتن الأصلي، والتفاعل هذا قد يكون إيجابيا أو سلبيا وهو يختلف في النهاية من قارئ إلى آخر، حسب مخزونه المعرفي وتطبّعه الاجتماعي ورأسماله الثقافي. يبقى المترجم قارئا بالدرجة الأولى قبل أن يكون ناقلا.

تشير مريم سلامة كار Myriam SalamaCarr إلى أهمية ذاتية المترجم ومخزونه الأيديولوجي في عملية الترجمة الأدبية فتكتب:

 Ce ne sont pas seulement les compétences linguistiques, cognitives et le savoir-faire du traducteur qui entrent en jeu mais ce sont également son bagage idéologique et sa subjectivité qui seront pris en compte. (Myriam Salama-Carr, 2007)

بقدر ما يعبّر الكاتب عن ذاتيته في كتاباته يمكن القول إنّ ذاتية المترجم تتبيّن أيضا في الكتاب الذي ترجمه، وذلك من خلال المقدمة التي يكتبها، أي عبر المصطلحات والعبارات التي يستخدمها في مقدمته، أو أحيانا عبر ملاحظاته التي يدرجها على هامش الصفحات كما أشرت سابقا. وتعرّف ساردان ملاحظة المترجم بأنها “تمظهر صوت ذات المترجم” فتقول عنها: « Elle est Le surgissement de la voix propre du traducteur, elle trahit au plus près du texte, la nature dialogique du traduire et le conflit d’autorité qui s’y trame »  (Sardin, 2007). أمّا مقدمة المترجم فهي في الغالب الفضاء الذي يعرض فيها هذا الأخير منهجه/تجربته في ترجمة العمل المنقول أو علاقته بكاتب المتن الأصلي. يكتب ميشال بالار Michel Ballard:

Si l’on considère l’histoire de la traduction et de la traductologie on constate (…) que ce sont les traducteurs eux-mêmes qui éprouvent le besoin, de façon compulsive, de parler de leur travail. De Cicéron à Yves Bonnefoy, en passant par Luther, Etienne Dolet, John Dryden, George Campbell, André Gide ou Vladimir Nabokov, les traducteurs n'ont cessé de pratiquer les formes de traductologie. (Hersant Patrick, 2018)

نلاحظ من خلال كلام بالار أنّ حديث المترجم عن منهجه ليس ظاهرة جديدة في عالم النشر وأنّ مترجمين معروفين تكلموا في القدم عن ترجماتهم في المقدمة التي دوّنوها، مثل شيشرون ومارتن لوثر وفلاديمير نابوكوف.

يكتب باتريك إيرسان Patrick Hersant متحدثا عن مقدمة المترجم فيعرفها كالتالي: “la préface est un lieu d’observation privilégié où se pratique, avec une acuité particulière, le commentaire d’une œuvre dont le traducteur est souvent le plus fin connaisseur et le plus ardent défenseur » (Hersant Patrick)

تصف ريستروتشي رودنيكي Risterucci-Roudnicky مقدمات المترجمين بأنها عبارة عن “مخابر للعمل المترجَم ولشاعرية الترجمة في آن واحد” وتكشف عن “حيثيات عمل معين وعن قلم المترجم” (Céline Letawe, 2018)

تكتب جينات ميشو في مقالتها Psychanalyse et traduction (علم النفس والترجمة)، في السياق نفسه إنّه لا يمكن تصور الترجمة دون اللاشعور، دون أن تظهر آثاره في الترجمة (Ginette Michaud, 1998) وتعتبر ميشو تعليقات المترجمين أسفل الصفحة من آثار لاشعور المترجم التي تبرز في النص الذي يترجمه إذ تكتب ما يلي:

C’est sans doute l’une des raisons qui font des commentaires des traducteurs-qui se glissent notamment dans ces fameuses notes infrapaginales laissant revenir le refoulé de la traduction- des lieux particulièrement intéressants pour saisir ces rapports transférentiels à l’œuvre dans l’opération traduisante. (Ginette Michaud, 1998).

التوافق الفكري والسياسي بين المترجم ومؤلف المتن الأصلي

صدرت الترجمة العربية لكتاب آلان دونو Alain Deneault المعنون بـــــ La Médiocratie” سنة 2020 عن دار سؤال للنشر اللبنانية ونقلته إلى العربية مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي رئيسة تحرير مجلة الحقوق في جامعة الكويت وأستاذة القانون الخاص في كلية الحقوق بنفس الجامعة.

آلان دونو هو فيلسوف كندي معاصر وأستاذ جامعي يكتب مؤلفات تتمحور موضوعاتها حول تعرية سياسات الشركات متعددة الجنسيات في العالم وتفكيك خطاب العولمة الرأسمالية كما تعرّي كتاباته سياسة الاستعمار الجديد التي تمارسها الدولة الكندية في علاقتها مع الدول الإفريقية.

قسّمت المترجمة مقدمتها إلى فصول، فيها شرح لسبب ترجمتها كتاب “نظام التفاهة” وشرح لمنهجيتها في نقل هذا المؤلَّف وفي النهاية عرضت المترجمة قراءتها الشخصية لأطروحات الكتاب الكبرى. سأركّز في هذا المقال عن ذاتية مشاعل عبد العزيز الهاجري في فصل “لماذا أترجم هذا الكتاب، تحديدا؟” الوارد في مقدمتها، إذ تكتب:

"يتمثل سبب اهتمامي بترجمة هذا الكتاب بكونه يعرض أفكارا تكاد تطابق ما كنت أكتب فيه لسنوات". ومن بين المواضيع التي كتبت فيها مشاعل الهاجري تذكر في مقدمتها: "غياب العقل النقدي، الرأسمالية المتوحشة، التلوث، وهم الكاريزما، تسليع الحياة العامة، الفن الرخيص، العلاقة بين المال والسياسة، ثقافة الإدارة السطحية ومفرداتها الخالية من المعنى (الابتكار، التمكين، ريادة الأعمال)، الطبقية المالية، الاستعمار الاقتصادي، الأوليجارشية". (ص.15)

ثم تواصل الناقلة في الفقرة الثانية فتقول: “فهذا الكتاب ينقل بدقة ما أعتقده من الانتشار المستشري للتفاهة، مع الإيمان بأنها، وإن عرضت نفسها لغير المتمعن- على شكل فوضى متمثلة في حالات متناثرة، إلا أنها في واقع الأمر نظام مكين، يضرب بجذوره في تربة المجتمع شيئا فشيئا، بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين” (ص. 15)

تكتب المترجمة في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل ما يلي:

"هكذا أرى هذا الكتاب، كقارئ أولا وكمترجم ثانيا. لم يختلف عليّ شيء وأنا أخلع قبعة الأول وأرتدي قبعة الثاني" (ص.16)

بعد عرض هذه المقاطع الثلاثة، يتبين لنا أن مشاعل الهاجري تعارض هي أيضا نظام التفاهة الذي كتب عنه ألان دونو وتعارض الرأسمالية المتوحشة والأوليجارشية والاستعمار الاقتصادي والطبقية المالية فهي ترجمت الكتاب لأنّها تلتقي مع دونو في آرائه السياسية والاقتصادية ولم تُخفِ الهاجري توافقها الفكري والسياسي مع آلان دونو كاتب المتن الأصلي.

خلاصة

تمنح المقدمة للمترجم فضاء تعبيريا داخل الكتاب الذي ترجمه، فهي تمنحه فرصة لكي يسمع صوته، ليتحدث باسمه هو، ليعرض عمله ويشرح علاقته بالمتن الأصل وكاتبه أو يعبّر عن إعجابه بأسلوب المؤلف. كما تمنح المقدمة للمترجم أن يكشف عن موقف سياسي معيّن من قضية/قضايا معينة، وذلك حتى يخرج من دائرة اللامرئية التي تحدث عنها لورانس فينوتي ويصبح مرئيا للقارئ.

تبين من خلال دراستنا لمقاطع من مقدمة مشاعل الهاجري أنّها عبّرت عن ذاتيتها بطريقة واضحة، عبر المصطلحات أو النعوت التي اختارتها للحديث عن المتن الأصل، عن محتواه وعن كاتبه.. وحاصل القول إنّ المترجم يمكنه أحيانا أن يتحول في مقدمته إلى مؤرخ أو ناقد أدبي، إلى لساني أو إلى مناضل يدافع عن قضية سياسية يتبناها شخصيا. مقدمة المترجم تمزّق إذًا لامرئيته عند قارئ الترجمة فتجعل وجوده مرئيا وصوته مسموعا.  

المراجع

الكتب بالعربية

  • دونو آلان ، نظام التفاهة، ترجمة مشاعل الهاجري، دار سؤال، بيروت، 2020

الكتب باللغة الأجنبية

  • Hikmet Nazim, Les romantiques, trad. Munevver Andaç, Les Editeurs Français Réunis, Paris, 1964
  • Said Edward W., L’Orientalisme, trad. Catherine Malamoud, Editions du Seuil, Paris, 2005
  • Michaud Ginette, Psychanalyse et traduction : voies de traverse, in TTR : traduction, terminologie, rédaction, vol. 11, n°2, 1998, p.9-37       
  • Salama-Carr Myriam, Normes et subjectivité-réflexions sur les traductions anglaise et française de Ra’aytu Ramallah, in La traductologie dans tous ses états, Artois Presses Université, 2007, p.72-74-75-76.

المواقع الإلكترونية