العيش على حدة معا
إننا إذا ما فحصنا التعريفات الخاصة بالإنسان على نحو ما ترد في المجرى الأساسي للفكر الأوروبي فسننتهي إلى نتيجة غريبة وهي أن البعد الاجتماعي -أو حقيقة العيش مع الآخرين- ليس مدركا بصورة عامة بوصفه ضرورة. وبرغم أن هذه “الأطروحة” لا تقدم عادة في كلمات كثيرة إلا أنها تعد افتراضا مسبقا، يبقى بغير صياغة. ويرجع إلى هذا بالتحديد تعذر إقامة الحجة عليها. إننا جميعا نتقبلها بيسر كبير، وبالإضافة إلى ذلك تشكل هذه الأطروحة الصفة العامة المشتركة لنظريات متعارضة في جوانبها الأخرى. ومهما يكن الموقف الذي نتخذه إزاء مثل هذه المناظرات فإننا نضطر إلى قبول تعريف الإنسان بوصفه كائنا معتزلا وغير اجتماعي.
ومع ذلك سيجانبنا الصواب إذا قلنا إن هذه الرؤية غير الاجتماعية تتجاوب مع مجمل المفاهيم الإنسانية، الحاضرة في التراث النفسي الغربي. إن هذه الرؤية سائدة، بلا شك، لكنها ليست وحيدة في هذا المجال. إننا نستطيع أن نعدد اتجاهات “الاعتزال” في الفلسفة الكلاسيكية وفي الدين المسيحي، لكن كلا المجالين يشتمل أيضا اتجاهات اجتماعية. وإذا كان الاكتفاء الذاتي قد ظل مثلا أعلى يتطلع إليه الشخص الحكيم، فإن فلاسفة اليونان كانوا يعتقدون أيضا أن الإنسان حيوان اجتماعي، وأنه لا بد أن يعيش مع أقرانه البشر، وأنه يزدهر في المدينة-الدولة. أما حل مشكلة التوتر بين هذين النزوعين الفكريين فإنه يتم عن طريق قبول “أساليب حياة” متعددة جديرة كلها بالاعتبار، مهما تكن قابلة للتقسيم التراتبي: حياة عملية أو نشطة، متاحة للرجل العادي الذي ينخرط في المجتمع، وحياة التأمل والاعتزال، المناسبة للرجل الحكيم بصورة خاصة. وعلى حين يسلم فلاسفة اليونان بصحة الحقيقة الأولية المرتبطة بالتعدد البشرى لأنهم، كقاعدة عامة، لم يروا أن وجود الأنت المتنوعة المختلفة عن الأنا يعد ضروريا لاكتمالها، ولهذا السبب لم يصبح اختلاف الموقع بين الذات والآخر محورا للموضوع. أما التعاطف الطبيعي بين الناس فينشأ بدافع الاستحسان من أجل الاستحسان. إن الذات تحتاج إلى الآخرين، ليس لأن كل شخص على حدة لا يكتمل وجوده إلا بهم، ولكن لأن الفضيلة تتجلى من خلالهم. لقد قال أرسطو “إن الخير، بالنسبة إلينا، يتضمن علاقة بالآخر” وكذلك فإن الصداقة تعد فضيلة وليست احتياجا. وبعبارة أكثر وضوحا يقول شيشيرون “لقد منحتنا الطبيعة الصداقة بوصفها عونا للفضيلة… وكانت تأمل في أنه إذا تعذر على الفضيلة منعزلة بلوغ أعلى مراتب الحياة، فإنها قد تحقق هذا الهدف إذا ما تم ارتباطها برفيق واقتسامها معه “(عن الشيخوخة والصداقة،81)
أما أرسطو فقد ترك بدوره عبارته المعروفة “إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يكون عضوا في المجتمع أو ذلك الذي يشعر بعدم الاحتياج إليه لأنه مكتف بذاته، لن يكون بوسعه بأي حال، الانتساب إلى المدينة – الدولة، ومن ثم فإنه إما أن يكون وحشا أو إلها” (السياسة، 1253 أ) إن الحيوانات والآلهة وحدها مكتفون بذواتهم. لذلك نستطيع تصورهم يعيشون على حدة. أما الإنسان فلا يصل قط إلى اكتمال ويظل في احتياج إلى الآخرين. لكننا نرى أن هؤلاء الآخرين ضرورة بوصفهم المجال الطبيعي لحياة الفرد، وليس لأداء وظيفة بعينها. إن العلاقة التي شغلت ذهن أرسطو تتمثل في أقران يعيشون في قلب مدينة، وليست علاقة اكتمال متبادل بين شخص يرنو إلى شخص آخر وذلك الآخر الذي توجه إليه تلك النظرة. لقد جاء في الأسطورة التي أبدعها أريستوفان ورواها أفلاطون في الندوة أن الكائن البشري يحتاج احتياجا حقيقيا إلى “نصفه المكمل” الذي يجده في كائن آخر (191 د)، ومن ثم فالإنسان غير مكتمل بصورة جوهرية. لكن ذلك الاكتمال المتبادل يفسر الانجذاب الجنسي أكثر من تأسيسه للحياة المشتركة، إذ إن ولوج عضو الذكورة في عضو الأنوثة يتخذ هنا صورة الاكتمال المشتهي. لقد افترض أفلاطون نفسه وجود المشاعر المشبوبة بوصفها طاقة كامنة في الروح، مرتبطة بحب التميز والانتصار. لكنه لم يزعم أن باستطاعة الآخرين وحدهم منحنا هذا الامتياز. أما الرواقيون فقد رأوا الغرور كلي الوجود، لكنهم اعتقدوا أن بوسع الأفراد تحرير أنفسهم من ربقته.
وإذا أغفلنا بعض العلامات الأخرى التي تشير إلى تطورات لاحقة لاستطعنا القول إننا قد شهدنا ثورة حقيقية في منتصف القرن الثامن عشر حين قدم جان جاك روسو للمرة الأولى صياغة جديدة لمفهوم الفرد بوصفه كائنا إنسانيا يحتاج إلى آخرين. ولا بد أن نضيف على الفور أن سمتين من سمات خطاب روسو قد حجبتا بصورة ما رسالته وحالتا دون استيعاب مغزاها كاملا. تتمثل السمة الأولى في أن طرحه الفلسفي لدراسة المجتمعات البشرية في كتابه الخطاب عن أصل اللامساواة قد اتخذ شكل محاجة تاريخية، فيما نبهنا روسو نفسه إلى الأضرار الناتجة عن إسقاط أبنية ذهنية خاصة به على التاريخ. إن حالة الفطرة الإنسانية، على نحو ما تصورها روسو في مستهل كتابه، “حالة لم تعد موجودة، وربما لم توجد قط، ولن توجد على الأرجح أبدا، لكننا نحتاج إلى تكوين فكرة مناسبة عنها من أجل تقويم حالتنا الراهنة” (الأعمال الكاملة، الجزء 3، 123). إن القارئ يجد صعوبة كبيرة في أن يتذكر على نحو متواصل أن “مراحل” الإنسانية الأولى، وفقا لتصور روسو، مستمدة فحسب من “افتراض استدلالي مشروط (الأعمال الكاملة، الجزء 3، 123) وأن المرحلة الإنسانية الراهنة هي المرحلة الحقيقية الوحيدة. ولكننا ينبغي أن نفعل ذلك إذا أردنا أن نكون مخلصين لفكر روسو.
أما الصعوبة الثانية فقد نشأت بسبب مزاج روسو الشخصي، المتسم بالحساسية المفرطة و التشكك إلى درجة الإحساس بالاضطهاد، مما دفعه إلى تفضيل العزلة عن الصحبة، وهي عزلة مرغوبة إلى حد كبير لأنها كانت في عصره أقل يسرا مما هي عليه الآن. لكن روسو لم يخلط بين تفضيله للاعتزال واعتقاده أن الحالة تتسم بعزلة أساسية، أقام عليها البرهان. لقد ألقى روسو الضوء بوضوح على المسافة الفاصلة بين القاعدة العامة (توصياته إلى إميل) و الاستثناء (مصيره الخاص)، وكان حريصا، بعد أن حدثنا في الحواريات عن ميوله الانعزالية، على تذكيرنا بأن “العزلة المطلقة حالة محزنة ومناقضة للفطرة” (الأعمال، جزء 1، 813). إننا إذا ما بدأنا بتنحية الحجب التي تحول دون فهمنا الصحيح لفكر روسو فإننا سوف ندرك مدى جسارته.
صحيح أن روسو قد سلك بعض الطريق في صحبة من يمكن أن نطلق عليهم “علماء الأخلاق” (في تراث مونتين) وهم أولئك الذين أدانوا الحياة في المجتمع وقدموا عزلة الفرد في ضوء إيجابي. ولهذا السبب قدم روسو تمييزا اصطلاحيا بين (حب الذات) amour de soi و amour-propre، وهو المصطلح الذي سنحتفظ به مؤقتا بالفرنسية. يعد المفهوم الأول مفهوما إيجابيا، إذ يدل ببساطة على غريزة الحفاظ على الذات، وهي غريزة لا غناء عنها بالنسبة لأي مخلوق حي. وهي، وإن تكن سابقة على التوجهات الأخلاقية، إلا أنها تحسب في جانب الفضائل (بل تصبح قاعدة لها عندما تلطف الشفقة من غلوها) وذلك عكس الأنانية. أما المفهوم الثاني فيتسم لدى روسو بطابع سلبي: فهو عاطفة لا تنشأ إلا في المجتمع وتتكون من خلال مقارنة أنفسنا بالآخرين، ومن تصورنا لأنفسنا أكثر تفوقا منهم ورغبتنا أن يكونوا أدنى مرتبة منا. وبناء على ذلك فإن مفهوم روسو لمصطلح amour – propre لا يتطابق مع ما ذهب إليه لا روشفوكو الذي لم يفرق بين المفهومين، فيما يتجاوب المصطلح نفسه بصورة أوضح لدى روسو مع ما أطلق عليه علماء الأخلاق صفة الغرور، ويظهر في الاعتماد على حكم الآخرين . و “يعد هذا المصطلح (وهو مرادف لمصطلح “اجتماعي” لدى روسو) عاطفة تتسم بصفتها النسبية، وعن طريقها يقارن المرء نفسه بالآخرين.” وهذه العاطفة” تتطلب مفاضلات، يتسم التمتع بها بطابع سلبي خالص، إذ لا يرمي إرضاؤها إلى فائدة نجنيها لأنفسنا بل ينتج عنها إيقاع الأذى بالآخر فحسب. “(الأعمال، جزء 1، 669).
وإذا ما كان روسو قد توقف في استدلاله عند هذه النقطة لعد خصما فصيحا وعنيدا، لا يستهان به، صب هجومه على إدانة الغرور الإنساني والرغبة في التفوق على الآخرين. إن العلاقات الإنسانية التي يتصورها هنا لا تزال مستمدة-مثلما هي كذلك لدى غيره من علماء الأخلاق- من التماثل: يقارن نفسه بالآخرين، يود المرء لو أنه أخذ مكان الآخر، يحارب المرء منافسيه. إن الأمر برمته يدعو عند هذه النقطة إلى التساؤل عما إذا كان مثل هذا النوع من العلاقات يستغرق المجال الاجتماعي كله، على نحو ما ذهب أسلاف روسو، فأسسوا بناء على ذلك إدانتهم للحياة في المجتمع، أم أن هناك علاقات أخرى، اجتماعية بدورها، لكنها غير مستمدة من التماثل ولا تفضي إلى المقارنة أو الرغبة في الاستبدال أو المنافسة؟
تتضح السمة المميزة لفكر روسو بالتحديد في تصوره لذلك النوع الآخر من أنواع العلاقات الاجتماعية وفي تبينه لآثاره على تشكيل الهوية الإنسانية، وذلك برغم تعذر مقارنة المصطلح الذي استخدمه لتحديد هذا المفهوم في صفته العامة بكل من مصطلحي حب الذات amour de soi و الاعتداد بالذات amour – propre. إن تلك العاطفة الثالثة التي تقع في منتصف الطريق بين المصطلحين الآخرين تتمثل في “فكرة التقدير” (الأعمال، جزء 3، 169). فمنذ بدأ البشر الحياة في المجتمع (ذلك يرتبط دائما لدى روسو بنشأة الزمن التاريخي) شعروا بالاحتياج إلى أن يجذبوا إليهم نظرة الآخرين الرانية. فالعين هي العضو المحدد من أعضاء جسم الإنسان، الذي بواسطته: “يبدأ الفرد في توجيه نظرته إلى الآخرين فيما هو نفسه يريد أن تقع عليه نظرتهم “(الأعمال، جزء 3، 169). إن الآخر هنا لم يعد يحتل مكانا يقارن بمكاني، لكنه مكان مجاور ومكمل لي، تظهر الحاجة إليه كي أكتمل. يتشابه تأثير هذا الاحتياج مع تأثير الغرور: رغبة المرء في أن ينظر إليه، وأن يحصل على التقدير العام، وأن يجذب اهتمام الآخرين بمصيره. يرجع الاختلاف هنا إلى أننا نتناول هذا الاحتياج ليس كرذيلة ولكن بوصفه أحد المكونات الأساسية لنشأة النوع البشري على نحو ما نعرف. ولا تتمثل إضافة روسو الخلاقة في أنه قد رأى أن الدافع المحرك للإنسان هو رغبة الحصول على الشهرة والمكانة-فعلماء الأخلاق كلهم يعرفون ذلك-لكن لأنه جعل هذه الرغبة عقبة كأداء تفصل الناس بعضهم عن بعض. إن الاحتياج إلى أن يقع علينا نظر الآخرين، والاحتياج إلى أن نكون موضع تقدير، هما ملكتان إنسانيتان اكتشفهما روسو، فيما يمتدان إلى ما يمكن إدراكه حسيا وعقليا على نحو يفوق بكثير تطلعنا إلى التبجيل.
إن النزعة الاجتماعية ليست حدثا عارضا أو احتمالا وإنما تمثل التعريف الصحيح للحالة الإنسانية. إننا نستطيع أن نفهم الآن مغزى العبارات الرصينة التي استخدمها روسو في مقال عن أصل اللغات حين قال: “إن ذلك الذي أراد أن يصبح الإنسان كائنا اجتماعيا قد شكل بلمسة من أصابعه زاوية التقاء محور الكرة الأرضية بمحور الكون. وبتلك اللمسة الهينة أستطيع أن أرى وجه الأرض يتغير ورسالة البشرية تتحقق” (الأعمال، جزء 4، 401). لكن تحقيق هذه “الرسالة” يتطلب احتياجا ملحا للآخرين، ليس بهدف أن نرضى غرورنا وإنما لأننا ندين لهم بوجودنا نفسه، ذلك الوجود غير المكتمل بصورة جوهرية. لقد كتب روسو في موضع آخر ” إن أي ارتباط يعد علامة على نقص، فلو لم نكن نحتاج إلى الآخرين لما فكرنا قط في الارتباط بهم” (الأعمال، جزء 4، 3، 5). هكذا نحن: نولد بذلك النقص، ونموت به، ونظل دائما فريسة لاحتياجنا للآخرين، كما نظل في بحث دائم عن اكتمال مفتقد. إن الإله وحده يسعد في العزلة. يلتقي روسو بأرسطو في هذه النقطة وذلك من حيث قبوله فكرة نشأة المجتمع نتيجة لضعف الفرد. لكن إضافته الأساسية تتمثل في دعواه أن الإنسان يأتي إلى الوجود حاملا نقصا خلقيا، ومن ثم فإن كلا منا يحتاج إلى أن يكون موضع تقدير. إنه “احتياج إلى ولع يسكن قلبه”.
ما الذي يمنح الإنسان العاطفة المميزة لوجوده الخاص؟ يستخدم روسو هذا التعبير أحيانا بوصفه معدلا لمصطلح حب الذات وغريزة الحفاظ عليها. لكنه عندما يستخدم منظور النزعة الاجتماعية فإنه يربطها على نحو مناسب بـ”فكرة التقدير”. ولقد تمثلت المحصلة النهائية لكتاب الخطاب عن أصل اللامساواة في قوله: “إن الرجل البدائي يعيش داخل نفسه، أما الإنسان الاجتماعي [ يجب ألا ننسى أن ذلك يعني الإنسان على نحو ما يوجد بالفعل ] الذي يعيش دائما خارج نفسه فإنه يعرف كيف يفعل ذلك قياسا على رأي الآخرين فحسب، بمعنى أنه يستمد من أحكامهم وحدها الشعور بوجوده الخاص” (الأعمال، جزء 3، 193). ولقد أكد روسو وجهة النظر نفسها في الحواريات. فالكائن الإنساني يتميز عن الحيوانات بسبب امتلاكه-بالإضافة إلى حساسيته الفيزيقية (تلك المرتبطة بغريزة الحفاظ على الذات)- حساسية اجتماعية، تتمثل في قدرة تعلق مشاعرنا بكائنات غريبة عنا” (الأعمال، جزء 1، 8-6). إن ممارسة هذه القدرة تفضي بنا إلى ما يجعلنا “نعزز الشعور بوجودنا وندعمه” (الأعمال، جزء1،805). فالارتباط بالآخر يضيف إلى الذات بدلا من أن ينتقص منها. وهذه الخصيصة لدى الإنسان تجعل منه إنسانا بالفعل، إنها منبع فضائله ورذائله، محنه المتوالية وسعادته الهشة في آن.
إن تأكيد روسو في تعريفه للإنسان على احتياجه لأن يرنو إليه الآخر قد جعله مجاورا للتراث الكلاسيكي، وذلك برغم أن جوانب متباينة من مبادئه الفكرية ظلت مرتبطة بذلك التراث. ما الذي قاده، إلى جانب عبقريته، إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة الحاسمة في فهم الحالة الإنسانية؟ قد يرجع الأمر، على نحو ما يقترح شارلز تيلور، إلى الدور الذي لعبه السياق التاريخي، إذ كان نظام الامتيازات القديم، والذي اقتصر على فئة قليلة محظوظة، قد بدأ في الاحتلال والتحلل، وكاد أن يصبح من حق أي فرد التطلع للحصول على نصيبه من الاعتراف العام، الذي يرفع من منزلة الفرد. فما كان شيئا طبيعيا بات مشكلة، ومن ثم لم يعد خافيا. لهذا السبب يعد روسو من بين السابقين إلى إدراك التغيير الذي حدث. لكن إسهامه كان مجاوزا بكثير للإطار التاريخي المحلي.
وإذا تعذر هنا متابعة التفاصيل الكاملة بالنسبة للتطورات اللاحقة التي نتجت عن نفاذ بصيرة روسو فإنه يجدر بنا الإشارة إلى نموذجين لاحقين زمنيا، إذ يتمثل فيهما قوة نفاذ هذه البصيرة وتعدد الأصداء التي خلفتها في آن.
لقد جاءت الاستجابة الأولى من جانب الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث و كانت متزامنة مع صدور الخطاب عن اللامساواة. لم يكن سميث قد تخطى-آنذاك- الثلاثين من عمره، وكان يدرس الفلسفة الأخلاقية بجامعة جلاسجو حين ظهر عمل روسو الذي استوقف نظره، فامتدحه في عرض كتبه عام 1756، موضحا فيه أن ما أثار إعجابه بصورة خاصة في فكر روسو هو المساحة التي خصصها لعاطفة الشفقة، ومن ثم للنزعة الاجتماعية. لقد كان عثور سميث على حليف يناصره في اعتراضاته على النظريات غير الاجتماعية التي قدمها هوبز ولاروشفوكو و ماندفيل باعثا على شعوره بالسعادة. وكان سميث نفسه يعتبر أن هوبز لم يستطع أن يولي التعاطف أهمية، فيما يشكل هذا الملمح عماد نظامه الفكري. لقد قدم سميث تعريفا بالغ العمومية لمفهوم التعاطف بوصفه قدرتنا على مشاركة الآخر مشاعره، مهما تكن طبيعة هذه المشاعر، وكذلك فقد رأى التعاطف يتحقق عن طريق خبرة كل منا اليومية.
لم يرجع سميث مرة أخرى إلى روسو بصورة صريحة، عندما نشر كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية في عام 1759، لكن أطروحة روسو المركزية في الخطاب عن اللامساواة، والتي أسست ارتقاءنا الإنساني على النظرة الفاحصة التي نرنو بها إلى الآخرين ونتبادلها معهم، كانت هناك تلعب دورا أساسيا، خصوصا من حيث تفسير دوافع الأفعال الإنسانية. ما الهدف الذي نسعى إليه في الحياة ونتطلع جميعا إلى تحقيقه؟ وما الذي يفضي إلى تحسين ظروفنا؟ “أن نكون موضع اهتمام وعناية، وأن يتم الالتفات إلينا بتعاطف واستحسان ورضا، تلك هي المزايا التي نستطيع أن نستمدها من الحياة” (نظرية 50) فأن نكون موضع تقدير يعد في آن “أكثر الآمال بهجة” و “أشد رغبات الطبيعة الإنسانية توهجا” (نظرية 51). فما من أحد سوى حكيم بلغ حد الكمال أو رجل تدنى إلى مرتبة الوحوش يستطيع أن ينأى بغير اكتراث عن إغواء الاعتراف العام. وما من ثمن لسنا على استعداد لدفعه لكي نحصل على ذلك الاعتراف، فالرجال يقبلون طواعية على التضحية بحياتهم من أجل الحصول على ذكر طيب، لن يتسنى لهم التمتع به بعد الموت” (نظرية 116. تقدم هذه النقطة النموذج الكلاسيكي لتفوق العاطفة على المصلحة).
أما غياب التقدير فيمثل أعظم الشرور التي يمكن أن تحيق بنا: “إن الشرور الخارجية كلها يمكن تحملها بسهولة إذا ما قورنت بازدراء الناس” (نظرية 61). فالرجل العظيم في هذا العالم يصبح “محط اهتمام العالم أجمع” (نظرية 51)، بينما يتحقق مصيره التعس، المهدد له دائما، عندما ينفض من حوله “جمهرة المعجبين الحمقى والمنافقين والأتباع.. فلا يصبح موضع النظرة الفاحصة التي ترنو بها الجماهير الغفيرة إليه” (نظرية 56). لقد اتسم وصف سميث لاعتمادنا على الآخر باستخدام مصطلحات بصرية مثل: موكب، حجب، منظر، عيون، تحديق، بصر، إشارة، معاينة، نظر، رمق…
إن الاحتياج لأن نكون موضع نظرة رانية لا يعد باعثا إنسانيا من بين بواعث أخرى، بل إنه يمثل حقيقة الاحتياجات الأخرى، وكذلك الأمر بالنسبة للوفرة المادية: فالأشياء ليست هدفا في ذاتها، لكنها وسيلة تضمن لنا تقدير الآخرين. “ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل أن السعي لجمع الثروة وتجنب الوقوع في الفقر إنما ينبع أساسا من الحرص على اهتمام الناس” (نظرية 50). فالرجل الغني يشعر بالسعادة لأنه نجح في اجتذاب اهتمام المجتمع والأمر لا يختلف أيضا بالنسبة إلى المتعة فأكثرها كثافة يتمثل في نظرة بعينها يرنو بها الآخرون إلينا.. إن الطبيعة حين شكلت البشر من أجل أن يتلاءموا مع المجتمع… قد علمت الإنسان أن يشعر بالمتعة فيما يرونه مستحبا، وأن يشعر بالألم فيما يجدونه مستهجنا” (نظرية 116). أما المتع الأخرى فتافهة، تحتل مرتبة تالية: “إن الرجل الطموح لا يحرص على الراحة أو المتعة، بل يسعى في حقيقة الأمر للحصول دائما على هذا النوع من التميز أو ذاك، برغم إساءة فهم معنى التميز في كثير من الأحيان” (نظرية 116).
ولقد ترتب على ذلك-على نحو ما لاحظ جان-بيير دوبوي في تعقيبه على سميث-أن “موضوع سميث يعد ناقصا بصورة جذرية”. فمادام الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن النظرة الفاحصة التي يرنو بها الآخرون إليه فسيظل “في حاجة ماسة إلى أقرانه البشر كي يتسنى له تكوين هويته” (التضحية والحسد، 76). إن سميث يعد حقا، في هذا الصدد، تلميذا لروسو.
إن التمييز لا يشكل هنا -على نحو ما سيحدث فيما بعد لدى كانت- سلسلة من الرغبات المتماثلة(رغبة الثروة أو القوة أو التميز). فالتميز – بالمعنى الواسع الذي يحيل إلى النظرة الفاحصة التي يرنو بها الآخرون إلينا وإلى أحكامهم – هو حقيقة الرغبات الأخرى. وهكذا يرجع إلى سميث فضل التغلب على التعارض الذي انتقل من قرن إلى قرن بين تطلعاتنا غير المتحققة من جانب، و تطلعاتنا النفعية من جانب آخر، أو بين العواطف والمصالح، بعبارة ألبرت هيرثمان الموجزة. إننا نعرف أن تصور مثل التقسيم يرد بكثرة، فيوضع كل ما يفعله الناس لأسباب قوية، كجمع الثروة على سبيل المثال، جهة اليمين، فيما توضع جهة اليسار حماقاتهم، وسعيهم إلى الشهرة، ولاؤهم للرموز. ولا يرى سميث في هذا التقسيم سوى وسائل عدة لبلوغ الغاية نفسها. ويخلص دوبوي إلى أن “سميث قد رفض الوقوع في فخ دعاوى الفردية البرجوازية أو أنانية المصلحة الذاتية” (102). وفي هذه النقطة الفارقة بالتحديد يتقدم سميث خطوة للأمام مجاوزا روسو. فالأخير ينسب حب الذات، على نحو ما رأينا، إلى الكائنات الحية كلها، أما فكرة التقدير وتحريفها، الاعتداد بالذات، فينسبها إلى الكائنات البشرية فحسب. أما سميث فقد تخلى عن أي فكرة ترجع حب الذات لدى الإنسان إلى نشأة تلقائية: فالاعتداد بالذات يدل بصورة حقيقة على حب الذات، فليس السعي الأناني لمضاعفة الثروة سوى وسيلة لضمان تقدير الآخرين.
قد يقودنا التفكير، بناء على ما سقناه من نماذج سابقة، إلى أن سميث يصدر حكما سلبيا على مثل هذا الاعتماد الأساسي للكائن البشري على غيره من حيث النظرة التي يرنو بها الآخر إليه. لكن هذا الاستنتاج ليس ضروريا، إذ ينبغي علينا تقبل الحالة الإنسانية كما هي. غير أن ذلك لم يحل مطلقا دون تمييز سميث الفضيلة عن الرذيلة. فهو مثل روسو، الذي فصل الاعتداد بالذات عن “فكرة التقدير”، لم يخلط الغرور بالاعتماد الإنساني المتبادل. وفي ذلك بالتحديد يتمثل مأخذ سميث على كل من لا روشفوكو وماندفيل. فهما قد أنكرا منذ البداية وجود ثمة اختلاف بين النظرات التي نتلقاها عن الآخرين، لذلك استطاعا الزعم فيما بعد أن المصلحة الذاتية حاكمة لنا. لقد عالج ماندفيل الغرور بوصفه دافعا لكل شيء له أدنى علاقة بما تكون عليه مشاعر الآخرين أو ما يجب أن تكون عليه” (نظرية 457). إن الرغبة في الشهرة ينبغي ألا تختلط بالغرور، وكذلك فإن الرغبة في أن نكون موضع استحسان يجب ألا تختلط بمتعة تلقى المجاملات.
إن العواطف الإنسانية التي تدفع كلاّّ منا باتجاه الآخر ليست مدانة في ذاتها. فما يمكن أن يصبح مصدرا للفساد يمثل، في بداية الأمر، احتياجا للحياة في المجتمع، أي الحياة الإنسانية. إننا لا بد أن نحمد “خالق الطبيعة، ذا الحكمة الواسعة [ الذي ] علم الإنسان، بواسطة هذا الطريق، أن يحترم مشاعر إخوانه وأحكامهم”. “لقد جعل الإنسان، إذا جاز لي القول، القاضي المباشر الذي ينظر في أمر البشرية” (نظرية 128-30) وما دام مصدر أي حكم، لدى سميث وروسو في آن، يستمد مرجعيته من شخص آخر، فإن القيم، الأخلاقية والجمالية، لا يمكن أن تنشأ إلا في مجتمع. إننا لن نستطيع أن نصدر حكما على أنفسنا بغير أن نخرج من أنفسنا ونراها بعيون الآخرين. وإذا ما تصورنا كائنا إنسانيا ينشأ في عزلة، فإن ذلك الشخص لن يستطيع الحكم على أي شيء، حتى على نفسه، لأنه سيكون مفتقدا لمرآة يرى فيها هذه النفس. أما إذا “وضعناه في مجتمع فإنه سيحصل فورا على المرآة التي أرادها من قبل” (نظرية 116). ولقد سبق أن تحدث مونتين عن نفسه مستخدما مثل تلك العبارات: “دربت نفسي منذ مرحلة الشباب على أن أنظر إلى حياتي متمرئية في حيوات الآخرين” (مقالات جزء 3، 13، 1076).
هل يعني هذا أننا يجب أن نتطلع بكامل قوانا للحصول على حكم إيجابي من جانب الآخرين؟ إننا نعرف إلى أي حد يمكن أن يكون مثل ذلك الحكم سطحيا وهشا. نستطيع، إذا كنا مؤمنين، أن نلجأ إلى الله العليم بالغيب ولا نركن إلى التقدير الإنساني. لكن نظرة آدم سميث الصارمة إلى عالم إنساني لم تجعله يأخذ في حسبانه أمرا كهذا. إن البديل الذي يقترحه يتحقق في بناء ذهني، يكون متاحا لكل فرد “بوصفه مشاهدا محايدا، لديه معلومات كافية” يتمثل داخله نموذجا خالصا من الشوائب لـ”لآخرين” كلهم، ممن سوف نلتقيهم في الحياة (وهو ما سوف يطلق عليه جورج هيربرت ميد في القرن العشرين” الآخر الذي يكتسب صفة عمومية”، ويسميه ميخائيل باختين “المخاطب الأعلى”). ويتميز هذا المشاهد بأنه إنساني تماما، كما يتميز بتحرره من النقائص الشخصية في آن. هكذا نستطيع الإفلات من الغرور فيما نواصل سعينا للحصول على تقدير الآخرين.
إن هذا المشاهد المستنير المحايد ليس مجرد خيالا فلسفيا، فكل منا يشتمل على شيء داخلي نسميه الضمير. وهذا الضمير ليس سوى الآخر الذي يكتسب صفة عمومية، أو هو استبطان للنظرة التي يرنو بها الآخرون إلينا. إن سلوكنا يعتمد، في التحليل الأخير، على حكم هذا الآخر العام. ولهذا السبب يتضح خطأ هؤلاء الذين يمتلئون بالنوايا الطيبة فيرون بواعث الإنسان تنبع من حبه للبشرية، وأولئك الذين يدفعهم عشقهم القاسي للصدق، فيؤكد كل فريق من جانبه هيمنة المصلحة الذاتية على بواعث الإنسان. فالإنسان لا يستطيع أن يرضي نفسه وحدها، لكنه لا يخضع أيضا بالضرورة لواجب يمليه عليه المجتمع. “إن باعث استجابتنا في مناسبات كثيرة لممارسة تلك الفضائل السامية ليس حبا لجارنا، وليس حبا للبشر، فما يحدث في مثل هذه المناسبات يعد حبا أكثر قوة، وعاطفة أقوى وجودا. إنه الأخذ بما هو شريف ونبيل، وبما يتواءم مع سمو شخصياتنا، وكرامتنا وعلو منزلتنا” (نظرية 137). إن أقوى دوافع الإنسان ليست المتعة، أو المصلحة، أو الطمع من جانب، وليست الكرم، أو حب الإنسان، أو التضحية بالذات من جانب آخر، وإنما هي الرغبة في تحقيق السمعة الطيبة والتقدير، وتحاشي مواطن الخزي والذنب، والخوف من فقد الاحترام، والاحتياج إلى العرفان بالجميل، وجذب نظرة الآخر الرانية…
لقد تقبل آدم سميث فكرة روسو الملهمة وعمل على تطويرها دون أن يخونها، على حين تناولها هيجل بصورة مختلفة إلى حد كبير. لقد قرأ هيجل روسو وآدم سميث وكان من المعجبين بهما، كما أقدم على معالجة مشكلة العناصر المكونة للنزعة الاجتماعية في صفحات شهيرة من كتابه ظاهراتية العقل (1807)، وهي الصفحات التي خصصها لمناقشة “جدل (السيد-العبد)”، وسوف أقوم بقراءتها -مثل صفحات كثيرة غيرها أمامي- على ضوء التفسير الذي قدمه ألكسندر كوجيف في عام 1930 في كتابه (مقدمة لهيجل). ولا يرجع ذلك إلى تفسير كوجيف يلتزم بالأصل بصورة كاملة، فهو مثل أي مفسر آخر يلوي النص الذي يقرأه ويحوله. وبرغم ذلك فإن تفسير كوجيف يمتلك مزية تفوق الأصل من حيث وضوحه بصورة لافتة، أما التحولات التي قدمها فتعد -جزئيا- إسقاطات تعرض لها فكر هيجل بدءا من القرن التاسع عشر، على نحو جعل هذا الفكر يتخذ مساره في العالم كما لو كان متوائما مع تفسير كوجيف.
والواقع أن هيجل (الذي لم يشر في تلك الصفحات من كتاب ظاهراتية إلى أي من روسو أو آدم سميث) قد قام بتفسير فكر روسو وتحويله في اتجاهين. فقد عمل من جانب على توسيع آفاقه وتأكيدها، فبدلا من الاحتفاظ بـ “فكرة التقدير” بوصفها مرحلة انتقالية بين حب الذات (amour de soi) والاعتداد بالذات أو الغرور ((amour – propre فقد جعلها السمة المميزة للنوع الإنساني. وبدلا من إدانتها لارتباطها بـ “حب الذات”، و “الكبرياء”، و “الغرور”، قدم وصفا للفكرة نفسها عن طريق مصطلحات أخلاقية محايدة. فما الذي يشكل -إذن- الاختلاف بين الإنسان والحيوان؟ يقدم الحيوان على الفعل بدافع من غريزة الحفاظ على الذات، ولتحقيق هذا الهدف يأخذ لنفسه الأشياء الضرورية (الطعام على سبيل المثال) ويعمل على إزاحة العقبات (المنافسين على سبيل المثال). الإنسان يفعل ذلك بدوره، لكنه لا يقنع بتحقيق ذلك فحسب، فهو ينشد ما هو أكثر من تلبية مطالبه المادية. إنه يتطلع إلى اعتراف بقيمته، لن يناله إلا عن طريق نظرة فاحصة، يرنو بها الآخرون إليه. الاعتراف (Anerkennung): هو المصطلح الذي استخدمه هيجل لتحديد ما أطلق عليه روسو “التقدير”، وما أطلق عليه سميث “الاهتمام”.
إن الإنسان يبدأ عند النقطة التي تكون فيها “رغبة الإنسان البيولوجية للحفاظ على حياته” خاضعة ل “رغبته الإنسانية في الاعتراف به”(7) “لذلك فإن الرغبة الإنسانية لا بد أن تحقق الفوز على رغبة الحفاظ على الذات، أو بعبارة أخرى، إن إنسانية الفرد لا تبرز إلى الضوء إلا إذا خاطر بحياته [ الحيوانية ] في سبيل رغبته الإنسانية”(7). ولقد سبق أن لاحظ آدم سميث أن المرء يكون على استعداد لأن يفقد حياته من أجل أن يكتسب ذكرا طيبا. لذلك فإن أخيل، الذي فضل المجد على الحياة، لا يعد بطلا عظيما فحسب، بل إنه صار التجسيد الحقيقي الأول للإنسانية. فالاعتراف (بالقيمة) يمثل الحقيقة الإنسانية الأساسية. ومن هذا المنطلق لا يوجد الإنسان قبل وجود المجتمع، وكذلك ينبني ما هو إنساني على التفاعل بين البشر. “فالحقيقة الإنسانية لا تكون إلا اجتماعية”(9). “فلكي يصبحوا آدميين، لا بد أن يجتمع اثنان كحد أدنى”(43). والواقع أن هيجل لم يكن لديه الأسباب الخاصة التي جعلت روسو ينفر من الحالة الإنسانية، لذلك فقد ارتضى أن يصفها فحسب.
وعلى حين أدى فكر هيجل إلى ذلك التوسع فقد فرض تفسير كوجيف اختزالا واضحا على فكرة الاعتراف. ولقد تم الاختزال على امتداد مراحل عدة، بدأ أولها باستخدام صارم لقانون الوسط المستبعد. فمن أجل أن يسمو الإنسان على حالته الحيوانية ينبغي أن يسعى، ليس إلى ما يشبع غرائزه إشباعا فوريا، فهو لا يلبي غريزة الحفاظ على الذات لديه فحسب، وإنما يسعى أيضا للحصول على “شيء ما مجاوز للواقع المعطى. أما ذلك الشيء المجاوز للواقع المعطى فليس سوى الرغبة ذاتها”(5). وبعبارة أخرى: “إذا استخدمنا الأنثروبولوجيا التكوينية نجد أن الرغبة يجب أن توجه إلى رغبة أخرى وليس إلى كينونة، أي أنها توجه إلى خواء جشع آخر، إلى أنا آخر”(40). ولكن هل من الضروري أن تنقسم موضوعات الرغبة إلى قسمين منفصلين، موضوعات مادية ورغبات أخرى؟
أما المرحلة الثانية فتثير الدهشة بصورة أكبر. فلحظة أن أطلب اعتراف الآخر بي، يكون هو في اللحظة نفسها يطلب اعترافي به. لكننا لن نستطيع أن يمنح كل منا اعترافا متبادلا بالآخر. فلكي يحصل أحدنا على الاعتراف لا بد أن يفقده الآخر، إذ أن طلب الاعتراف يعد صراعا بالضرورة. و هو صراع حياة وموت، ما دام الاعتراف يمثل بالنسبة إلى البشر قيمة تعلو على الحياة. لم تغب هذه الفكرة، في حقيقة الأمر، عن روسو (أو عن المؤلفين السابقين عليه)، لكنها ارتبطت لديه بالجانب السلبي للاعتداد بالذات، وليس فكرة التقدير أو الاحتياج المحايد للآخرين. لقد كتب ” يجدر بي أن أشير إلى أي حد تستغرقنا جميعا هذه الرغبة العامة في تحقيق الشهرة والحصول على التبجيل و التميز… على نحو يجعل الناس جميعا متنافسين وخصوما، أو بالأحرى أعداء، فكم من أنواع النكوص، وكم من النجاحات، وكم من الكوارث تحدث يوميا، ويتسبب في وقوعها الدفع بعدد كبير من المتبارين لكي يدرجوا في القوائم نفسها “(الأعمال، جزء 3، 189). لقد قام تفسير كوجيف لهيجل على تطبيق هذا التصور على فكرة الاعتراف نفسها نتيجة لعدم تمييزه بين حالتين مختلفتين هما (حب الذات/الاعتداد بالذات). وما دام كل من الطرفين يفضل التضحية بحياته على الاستسلام، “فإن لقاءهما لن يكون سوى معركة حتى الموت” و “معركة حتى الموت من أجل الحصول على مكانة غير منقوصة”(7). إننا لا نستطيع إدانة ذلك التصور الذي يختلط بتعريف الحالة الإنسانية، فهي “معركة حياة وموت، معركة لأن كل طرف يريد أن يخضع الآخر، والآخرين جميعا، عن طريق فعل يتسم بالإنكار والتدمير” (140-41). فالفوز بالاعتراف يعني فرضه. لهذا السبب ترتبط فكرة الاعتراف ارتباطا وثيقا بفكرة الصراع من أجل القوة.
ولقد مهدت هذه المرحلة الثانية بدورها لاختزال ثالث، تمثل في تفسير أي اعتراف بوصفه معيارا للقيمة. فالاعتراف في قاموس تفسير كوجيف يعد مرادفا للإعجاب والاستحسان والمديح، ومن ثم فإنه يفضي إلى ما هو أعلى مرتبة. “فالرغبات كلها تجتمع في رغبة تأكيد قيمة”(6).
ولقد قدم تفسير كوجيف اختزالا أخيرا ظهر في تصوره لتبعات هذه المواجهة الصميمية. فحين ينجلي الصراع عن فوز أحد الأطراف فإن الآخر -الخاسر- يصبح العبد أو الخادم، إذا لم يكن قد فقد حياته, (لقد فضل النجاة على الحصول على الاعتراف). لكن الخادم حين يقدم على ذلك الموقف يكون قد تخلى عن حالته الإنسانية بالتحديد، مما يفضي، بواسطة الضربة القاضية نفسها، إلى إحباط الفائز بدوره، فهو قد حصل بالتأكيد على الاعتراف، لكنه ليس الاعتراف الذي كان يصبو أن يمنحه له إنسان آخر. لذلك تكتسب الرغبة صفة جوهرية فاجعة، فالإنسان إما أنه لا يحصل على الاعتراف لأنه قد هزم، أو أن ما يحصل عليه يصبح بغير قيمة لأنه ينتزع من المهزوم. إن السيد “ينال الاعتراف من شخص لا يعترف هو نفسه به … ومن ثم يمثل موقف السيد مأزقا وجوديا”(19).
لعلنا نلاحظ هنا أن كل طلب للاعتراف لا يعد صراعا فحسب، بل إن كل صراع ليس سوى طلب للاعتراف. فالنصر لا يجلب الرضا لأنه لن يتوج باعتراف وإعجاب في آن. وعندما ذكر كوجيف في تفسيره لهيجل عبارة “فلكي يصبحوا آدميين، لا بد أن يجتمع اثنان كحد أدنى”(43) فقد كان يعني “اثنين فقط. “ووفقا لهذا السيناريو لا يوجد في العالم في أية لحظة من اللحظات سوى غالب ومغلوب. إننا نستطيع التشكك في صحة مثل ذلك الاختزال بالنسبة لهذه النقطة أيضا. فمن المؤكد أن رجل الأمن الذي يقتل سجينا في معسكر اعتقال أو يعامله معاملة العبد لن يستطيع الاستمتاع بلذة يستمدها من اعتراف قد يمنحه له ضحيته. لكن ألن يكون بوسعه في الوقت نفسه التماس اعتراف زملائه الذين يعجبون بـ “خشونته” أو إعجاب رؤسائه بإخلاصه و تجرده؟ لكن طرح هذا التساؤل الاعتراضي يقتضي منذ البداية افتراض وجود ثلاثة أطراف وليس اثنين فحسب. فهناك المتصارعان وشاهد يرقب المعركة الدائرة.
إن التصور الذي يقدمه تفسير كوجيف لهيجل يتوازى مع ما جاء لدى روسو في الخطاب عن اللامساواة وغيره من التصورات التي تناولت أصول الإنسان. فما يصفه تفسير كوجيف يمثل قصة الرجال الأوائل، إبان مولد الأنواع. ويرجع إلى هذا السبب حديثه المتواصل عن “الأنثروبولوجيا التكوينية”(7)، فيتناول الإنسان “في حالة نشأته الأولى” و”أصول هذه النشأة”(8).
خلاصة القول: “لقد ولد الإنسان وبدأ التاريخ مع أول معركة انتهت بظهور سيد وعبد”(43). وليس تاريخ الإنسانية سوى تطور علاقة السيد/العبد هذه.
إن التأمل في أصول الحالة الإنسانية، وهو المجال الأثير للفلسفة حتى وقت قريب، يرتبط بالأسطورة، ويمكن أن يكون مثيرا للذهن إلى حد كبير، لكن هذه التأملات لا يمكن قط إثباتها أو دحضها بصورة نهائية، فهي تمدنا في أفضل الظروف بمهاد منطقي، أو نموذج تفسيري، بغير أن يعكس ذلك وجودا حقيقيا. إننا نستطيع ملاحظة ميلاد آخر، لا يتعلق بالأنواع بل بالفرد. ومهما نكن غير راغبين في منحه دورا مميزا فإنه يظل مثالا يحظى -على الأقل- بالأهمية نفسها التي نعلقها على الجوانب الأخرى المشكلة للهوية الإنسانية. ألم يكن المتقاتلان الباسلان في السيناريو الخاص بتفسير كوجيف لهيجل طفلين قبل أن يصيرا بالغين؟ ألم يأت كل منهما من رحم أم، وليس من ذهن فيلسوف؟ ولمزيد من الإيضاح فإننا إذا ما أخذنا في الاعتبار مولد الفرد، أثناء قراءتنا للأسطورة في هذا التفسير، لوضعنا عناصر عدة من تلك الأسطورة موضع مساءلة، وذلك إذا لم تكن صراحة مثيرة للسخرية. من هنا يتضح أن ذلك المهاد كان عقيما.
وعلى نحو ما نجد في أسطورة أصل الأنواع، فإن حقيقة مولد الفرد تقتضي أيضا كائنين على الأقل، لكي تظهر الحالة الإنسانية. لكن هذين الكائنين يختلفان عما جاء في تفسير كوجيف لهيجل، فهما ليسا ذكرين يتقابلان في مباراة للفروسية أو حلبة ملاكمة. إنهما أم وطفل (أو هما رجل و امرأة، إذا أردنا استخدام ذلك المفهوم).
إن تصور أصل أو نشأة “الأنثروبولوجيا التكوينية” بوصفها معركة حياة وموت لا ينطبق بالتأكيد على العلاقة بين الأم والطفل. فالإنسان لم يولد نتيجة لمعركة بل بسبب الحب. ولا يترتب على ذلك الميلاد ثنائية السيد/العبد بل علاقة أكثر ألفة تتمثل في والدة/طفل.
قد يظهر هنا اعتراض على أساس أن ميلاد الكائن الإنساني الصغير لا يحمل في ذاته صفة إنسانية محددة، إذ إنه يتشابه في هذا الجانب مع الثدييات الأخرى، برغم أن الآثار التي يتركها في ذاكرة الأم، وربما أيضا في ذاكرة الطفل، لا نظير لها في عالم الحيوان. وكذلك لا تتسم النزعات الأولى تجاه الآخر في حالة الوالدة والطفل بطابع إنساني بصورة خاصة. فالرضيع “يطلب” الحصول على الغذاء والدفء، أو أنه بعبارة واحدة يطلب الحماية. أما الأم ف”تطلب” أن تقوم بحمايته. وهذه العلاقة الأولى نجد نظيرها في عالم الحيوان. صحيح أيضا أن حدثا إنسانيا بعينه يقع بعد بضع أسابيع، إذ يبدأ الرضيع في تلمس نظرة أمه الرانية، ليس لكي تأتي الأم لتطعمه أو لتطمئنه ولكن لأن هذه النظرة الرانية نفسها تحمل إليه اكتمالا لا غناء عنه، وتؤكد له وجوده. بعبارة أخرى نقول إن الرضيع صار الآن “يطلب” اعتراف أمه به (أو الشخص البالغ الذي يقوم بدورها، الذي قد يكون الأب أو طرفا ثالثا). الأم تسعى إلى أن تمنح طفلها ذلك الاعتراف لكي تؤكد له وجوده. وهي في الوقت نفسه، بغير أن تعي ذلك في كل الأحوال، تجد اعترافا بدورها، فهي مانحة للاعتراف، حين تستجيب إلى النظرة الرانية المتطلبة لطفلها. إن وجود الفرد بوصفه كائنا إنسانيا على وجه التحديد لا يبدأ في ساحة قتال بل يبدأ بالتماس الرضيع لنظرة أمه الرانية، وهو موقف اقل بطولة بالتأكيد. ويقتضي تجنب احتمالات إساءة الفهم هنا إضافة ضرورية هي أن استخدام مصطلح “نظرة رانية” يمثل الأداة الأولى التي تكون في حوزة الإنسان وهي أفضل الأدوات جميعا لتحقيق الاتصال بالآخر. وفي حالة غياب النظرة الرانية (حالة المكفوف) تقوم حاسة أخرى من الحواس، وأهمها اللمس والسمع، بأداء الدور نفسه.
نستطيع الآن تبين قوة تأثير اختزالات تفسير كوجيف لهيجل على عملية الاعتراف وذلك مقابل ما يمكن ملاحظته بالنسبة إلى علاقة الأم/الطفل. أولا، هل يجوز اختزال كل طلب لما هو غير مادي (خصوصا ما هو غير التغذية) إلى رغبة أخرى؟ هل يرغب الرضيع رغبة أمه؟ هو يرغب في نظرتها الرانية وفي حضورها، أي اعترافها به. لكن هذا الاعتراف لا يمكن أن يسمى رغبة إلا في حالة إطلاق العنان تماما للخيال. ثانيا، هل يقتضي طلب الاعتراف هذا صراعا بالضرورة، يصبح حقا صراع موت وحياة؟ ذلك أمر يصعب التسليم به. قد ينشأ التنافس بين أحد الوالدين و الطفل في مرحلة لاحقة، فيقدم الطفل على محاربة والده أو والدته، لكن ذلك لا يحدث بالتأكيد خلال هذه المرحلة المبكرة، إذ تكون فكرة الصراع بعيدة عن ذهن كل منهما. فالرضيع لا يحارب والدته بل يلتمس منها. وكذلك فإن اللامساواة قائمة بينهما منذ البداية مما يجعل تصور اتجاه العلاقة نحو اللامساواة تصورا عبثيا، فتفاوت المراتب يحول دون الصراع، ومن ثم فإن الرضيع في طلبه الاعتراف من جانب الآخر(الأم) لا يتعرض في واقع الأمر لأية مخاطرة، فيما هو يؤكد إنسانيته بالفعل. ثالثا، لا يطلب الرضيع تأكيدا لقيمته (فهو لا يعرف ماذا تكون القيمة) بل يرضى بطلب اعتراف بوجوده فحسب (لكن ذلك أمر لا يستهان به).
رابعا وأخيرا، لقد لوحظ أن العلاقات الصراعية لا تتلازم في كل الحالات مع طلب اعتراف (العكس أيضا صحيح). فأنواع الصراع تعد جزءا من مواقف ذات أبعاد ثلاثية، حيث نجد إلى جانب المتنافسين شاهدا، هو نفسه القاضي أو الشخص الذي يقضي بالاعتراف أو يحجبه، ومن ثم فإن كلا من العمليتين، الاعتراف والاقتتال، يمكن أن تتم بصورة مستقلة. نستطيع أن نستمد برهانا آخر على إمكان فصل الاقتتال عن الاعتراف من خلال ملاحظة الحيوانات (الأمر الذي لم يكن ميسورا بالدقة نفسها في زمن هيجل). فالحيوانات التي تعيش في قطيع، تتواءم بصورة أقرب ما تكون إلى التصور الهيجلي، الذي يفضي إلى السيادة أو العبودية، إذ يشتبك المتنافسون في معارك حتى الموت، على حين يستطيع كل منهم فض الاشتباك إذا ما أظهر للغالب علامات الخضوع. لكن يكشف أن المخاطرة بالحياة من أجل الفوز بالسيطرة لم تقربنا بعد من مرتبة الإنساني. لقد تناولت دراسة أجريت منذ زمن بعيد كيف يتم تنظيم الحياة الاجتماعية على نحو ما يحدث في حظيرة دجاج، فهناك في البداية صراع، يليه الخضوع. فهل ينبغي أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن المجتمع الإنساني ليس سوى حظيرة دجاج هائلة الاتساع؟ الجواب بالنفي، ويرجع ذلك بالتحديد إلى أن الاقتتال يدور بغير أدنى طلب للاعتراف. إنه تجربة قوة محضة. وفضلا عن ذلك فإن الحياة في حظيرة دجاج لا يمكن اختزالها بأي حال إلى مجرد صراع فحسب، فالعلاقة الاجتماعية الأولى، عند الحيوانات مثلما هي لدى الجنس البشري، تقوم على وشائج القربى، و ليس على الصراع.
هل تقبل علاقة أحد الوالدين/الطفل المقارنة بعلاقة السيد/العبد؟ ذلك أمر يتعذر الدفاع عنه. أيجعلنا ذلك نسوي بين الرضيع والعبد (لأنه أدنى مرتبة) أم بينه والسيد (لأنه يطلب اعترافا به ويتلقاه)؟ إن التسوية بين العلاقتين لن يكون بغير جدوى فحسب، بل إنه سيفضي بنا إلى إغفال ملاحظة أن جانبا بعينه من علاقات أحد الوالدين/الطفل يمكن أن يدخل بصورة مؤثرة، خلال لحظات تطور بعينها، في سياق منطق علاقة السيد/العبد.
يقودنا ما سبق إلى نتيجة بارزة هي : إن تفسير كوجيف لهيجل، على الرغم من براعته الفائقة، لا يكشف حقيقة الحالة الإنسانية. إنه يصف علاقة خاصة ذات طابع نسبي: رغبة يحيطها تحققها ذاته، نزعة تنافسية يصحبها طلب ينطوي على تناقض لأنه طلب للاعتراف موجه إلى المنافس. إن ذلك الوصف لا يعد وصفا زائفا، لكن دعواه التي تكتسب طابعا عالميا تغدو فادحة الثمن، فحقيقة العلاقات الإنسانية أكثر ثراء بغير حدود، إذ لا ينحصر كل شيء لا مادي في رغبة، و كذلك فإن كل اعتراف ليس صراعا لامتلاك القوة أو طلبا لتأكيد قيمة، بينما لا يتلازم كل صراع مع طلب للاعتراف. إن العالم الإنساني يتسم بتعدد هائل، يفوق بكثير ذلك الذي يقودنا إليه الاقتناع بالشرح الذي قدمه كوجيف لهيجل، حيث تقتصر العلاقات الإنسانية على “جدل السيد/العبد”. ومن هذا المنطلق نفسه يصعب التسليم بالنتيجة التي انتهى إليها هيجل في قوله: “يتحقق الوجود الإنساني والتاريخي والوعي الذاتي حيث تكون هناك -أو على أقل تقدير- كانت هناك معارك دامية وحروب من أجل الحصول على التفوق(41).
إن التعدد الهائل في أنواع طلب الاعتراف ومنحه قد تم اختزاله هنا إلى أحادية صراع رتيب على القوة. لقد رد الاعتراف، على نحو ما عرضنا، إلى عنصر واحد من بين عناصره المتنوعة، وامتزج عمليا بذلك الجانب الآخر المنهك في الفلسفة الغربية، وهو الحرب الدائمة التي يشنها الجميع ضد الجميع. إن ذلك القيد المشوه للذات هو ما ينبغي أن نتغلب عليه اليوم.
مجلة الجابري – العدد السادس
New Literary History 27.1 (1996) 1-14. قامت بالترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية Marlyn Gaddis Rose
*تزفيتان تودوروف يعمل مديرا للأبحاث بالمركز القومي للبحث العلمي بباريس. ولقد نشر مؤخرا باللغة الإنجليزية Facing the Extreme (1996) وبالفرنسية La vie commune و Les abus de la mémoire (1995).
الأعمال المقتبسة
Works Cited
Cicero. On Old Age and Friendship. Translated by Frank O. Copley. Ann Arbor: University of Michigan Press, 1976.
Dupuy, J.P. Le sacrifice et l’envie? Paris: Calmann Levy, 1992.
Kojève, Alexander. Introduction à la lecture de Hegel. Paris: Gallimard, 1979.
…… Introduction to the Reading of Hegel. Translated by James H. Nichols, Jr. Ithaca: Cornell, 1980.
Montaigne, Michel Eyquem de. Essais, Edited by P. Villey. Paris: PUF, 1992.
…… The Complete Works of Montaigne. Translated by Frame. Stanford: Stanford University Press, 1957.
Rousseau, Jean-Jacques. Oeuvres complètes. Geneva: Gallimard, 1959.
…….. Emile. Translated by Allan Bloom. New York: Basic Books, 1979.
……. The First and second Discourses together with the Replies to Critics and Essay on the Origin of Languages. Translated by Victor Gourévitch. New York: Harper & Row, 1986.
….., Rousseau, Judge of Jean-Jacques: Dialogues. Edited by Roger by Roger D. Masters and Christopher Kelley. Translated byJudith R. Bush, Christopher Kelly, and Roger D. Masters. Vol. 1 of The Collected Writings of Rousseau. Hanover, NH: University Press of New England for Dartmouth College, 1990.
Smith, Adam. The theory of Moral Sentiments. Edited by D. D. Raphael A.L. Mache. Vol. 1 of The Glasgow Edition of the Works and Correspondence of Adam Smith. Oxford: Clarendon Press, 1976