مجلة حكمة
الفلسفة والعلم

الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي-الإسلامي: بين الرؤية الإبداعية والاتباعية

الكاتبيونس موحيا

ملخص البحث

 إن العصر الوسيط لم يكن مرحلة غير مهمة في تاريخ الفكر الإنساني، بل كان عصرا غنيا بالمجادلات والتحليلات الفلسفية والعلمية، وطبعا لن نستثني ضمن هذه المرحلة الفلسفة في العالم الإسلامي. لقد كانت الفلسفة الإسلامية جامعة لكل العلوم العقلية، وأن ما أنتجته لم يكن إعادة تعريب الفكر اليوناني أو “أسلمة” تلك القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية وإضفاء طابع “الأسلمة” عليها، وهذا هو مقصدنا من هذا البحث الذي يتناول أهم التصورات التاريخية والفكرية لأهم الباحثين والمستشرقين..


 

تمهيد

      إن التراث العلمي والفلسفي للحضارة الإسلامية يمثل معلما بارزا  من معالم  شخصيتها وحضورها على المستوى الإنساني؛ فقد تمكّنت هذه الحضارة إبّان قرون ازدهارها الحضاري بالعبور من ثقافة التلقي إلى ثقافة الإبداع والابتكار ونقلها نقلة نوعية جعلتها تحتل الصدارة في البحث العلمي ردحا من الزمن، إذ تمكّنت من استقطاب العديد من المبدعين من كل الأعراق والحضارات والأديان والطوائف، مما أدّى ذلك إلى إحداث ثورة علمية وفلسفية كبيرة لم يشهد لها التاريخ القديم مثيلا، كما أنه مؤشر من مؤشرات تفردها وخصوصيتها، إضافة إلى حضورها على  المستوى الإنساني. وقد كان من مخرجات هذه الثورة؛ مخزونا تراثيا ضخما يمثل كنوزا علمية كبرى في كل المجالات وذلك بشهادة القريب والبعيد. ويتجلى هذا التراث الضخم في اهتمامهم بالعديد من القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية؛ وذلك بعد عودتهم إلى ما خلّفته الحضارات الأخرى ومحاولة الاستفادة منها، وقد كان من نتائج هذه العودة أن اتهمهم العديد بأنهم مجرد نقلة للعلم والفلسفة الموجودان في الحضارات الأخرى، بل راح البعض إلى اعتبار العصر الوسيط بأكمله عصر الجهل والظلام. فبأي معنى اعتبر هؤلاء بأن العصر الوسيط عصر الجهل والظلام؟ وما صحة حكمهم هذا؟ وهل فعلا العرب/المسلمين في السياق الوسيطي مجرد نقلة للعلم والفلسفة؟ وما دعواهم في ذلك؟ وما أهم تصوراتهم  والاعتراضات التي وجّهت لهم؟

1. العصر الوسيط: تحديدات تاريخية كمدخل لمعالجة إشكالية “الجمود الفكري”

        يعد العصر الوسيط مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الفلسفي والإنساني بشكل عام، حيث يلي المرحلة اليونانية.[1] ويبدأ العصر الوسيط -من الناحية الفكرية- انطلاقا من القرن التاسع الميلادي. وفي المقابل نجد اختلافات واضحة، وتباينات كبيرة لدى المؤرخين للتأريخ لهذه المرحلة -من الناحية التاريخية-. وبسبب هذا الخلط بين المرحلتين (التاريخية والفكرية) تعاطى العديد من المؤرخين المعاصرين على الفلسفة الوسيطية (الإسلامية والمسيحية) دون تدقيق بحثي ومعرفي، ولم يؤرخوا لها إلا باعتبارها واسطة بين المرحلتين، اليونانية والحديثة، ويظهر ذلك بشكل واضح في تسميتها ب”الوسيط” فهي بمثابة قنطرة نعبرها ولا نعمرها أو هي عبارة عن مرحلة تخزين فقط، ولهذا نجد أن المؤرخ الفرنسي (إيمييل برييه) يعتبر في كتاباته التأريخية لتاريخ الفلسفة بأن العصر الوسيط قد أخفى معالم العقلانية اليونانية، كما ”أدان هيغل فلسفة العصور الوسطى”[2] وفي عمله التأريخي نجده من ”بين ألف وثلاثمائة صفحة رصد فيها تاريخ الفلسفة رصدا زمنيا خصص مائة وعشرين صفحة فقط للحقبة الوسطى التي استمرت ألف عام، وأفرد ثمانمائة صفحة للفكر القديم الذي امتد عبر ألف ومائتي عام، وأربعمائة صفحة للفلسفة الحديثة التي استمرت لمائتي عام”[3] كما نجده أيضا (أي هيغل) قد أعطى صورة سيئة عن الفلسفة في السياق الإسلامي، حيث اعتبر أن لا أهمية لها من حيث المحتوى وأشار في المقابل إلى أنها ليست بفلسفة حقيقية،[4] والأكثر من ذلك اعتبار (أنتوني جواليب) أن ”النتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكل عام ليس أكثر إبداعا فحسب، بل أسهل فهما بالنسبة إلى القارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضِيق الوقت والمساحة، فمن الأفضل أن نترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غاباتها المظلمة التي تغطيها الأشواك”[5]. وبالتالي، فإن هؤلاء المؤرخين ينظرون إلى الفلسفة في السياق الوسيطي بنظرة تحكمها القطيعة الابستمولوجيا، واعتبار العصور الوسطى عصور الجهل والظلام، إلا أن الحقيقة التاريخية-الأكاديمية العلمية تؤكد عكس ذلك تماما، إذ لا يمكن الحديث عن وجود فراغ في التاريخ؛ لأن الإقرار بذلك لا ينسجم لا منطقيا ولا عقليا باعتبار أن تاريخ المعرفة الإنسانية هو تاريخ تراكمي عبر العصور؛ لأن كل استشهاد يتبعه اشتهاد وتقود تلك الاشتهادات إلى اكتشافات ترغمنا بالضرورة عن اتخاذ مسارات أخرى.

وانطلاقا من كل ذلك، فقد اعتدنا كثيرا السماع بأن العرب/المسلمين في السياق الوسيطي لم يبدعوا في أي شيء خاص بهم، وأن كل ما أنتجوه عبارة عن نقل وترجمة للعلوم التي كانت موجودة عند الحضارات الأخرى التي سبقت الحضارة الإسلامية، بل إن البعض قد اعتبر بأن هذه الحضارة قد فشلت حتى في شرح تلك المؤلفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. إلا أن الحقيقة التاريخية تخبرنا عكس ذلك؛ إذ أكد العديد من الباحثين والدارسين للعصر الوسيط الإسلامي بأن للعرب/المسلمين فضلا كبيرا في إحياء الفلسفة والعلم من جديد بعدما كانتا مهملتين -نوعا ما- في عصر الحضارة الرومانية لكونهم قد تألقوا في الجانب القانوني أكثر من جهة، ومن جهة ثانية لم تدعم هذه الإمبراطورية الفكر الفلسفي بشكل كبير؛ لأنها لم تكن مرغوبة لدى جميع الفئات، بالخصوص القادة السياسيين وبعض الأباطرة، باعتبارها كانت محط شبهة، وهذا ما يفسر غياب اهتمام رسمي بها[6]، ومن جهة ثالثة ما خلّفته هذه الإمبراطورية إثر سقوطها والتي نتج عنها  انقسام المجتمع الغربي بين القبائل الجرمانية وساد فيها نوع من الحروب وعدم الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي  انعكس بشكل سلبي على العلم والفلسفة بشكل عام، حيث تمتد هذه الفترة من النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي إلى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، وهي نفس الفترة التاريخية التي يمكن أن تسمى بعصر الفوضى والعشوائية وأحيانا يجوز لنا وصفها بمرحلة الجهل والظلام وبعصر الجمود الفكري؛ لأن الوضع السياسي والاجتماعي المضطرب أثر على المجال الفكري، وكان هذا التأثير واضح فيه الجانب السلبي أكثر، فانتقلت بذلك الفلسفة (وقد كانت الفلسفة آنذاك جامعة لكل العلوم العقلية) من مكانتها وأصبحت “مشردة” وما كان أمامها من حل سوى الرضى بالقبول بأن تكون خادمة للاهوت والاحتماء في الكنيسة ومدارسها التي كانت تسمى ب “الدير” (جمع أديرة) التي حاولت أن تقزّم من مهام الفلسفة فجعلتها حبيسة تفسير بعض القضايا اللاهوتية التيولوجية والاستغناء عن تلك الجرأة التي كانت تملكها الفلسفة بتحليلها للإشكالات في المرحلة اليونانية، ويعبر (أنتوني جواليب) عن هذه المسألة بالقول: ”فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق”.[7]  ويقول المؤرخ (ديفيز) عن بداية العصر الوسيط -من الناحية التاريخية- ”يبدأ التاريخ الوسيط بالانهيار الذي حل بالإمبراطورية الغربية وبخضوع العالم اللاتيني لغزاته الجرمان”[8] ويضيف قائلا: ”إن الأسباب المباشرة الواضحة التي أودت بالإمبراطورية الغربية هي أسباب عسكرية وإدارية، ترجع إلى نقائص وعيوب في نظام الجيش وفي نظام الموظفين الإداريين … إن بداية ونهاية تلك الكارثة التي حلت بالإمبراطورية هي الإغارات الموفقة التي قام بها الجرمان على إيطاليا.”[9]

2. المقاربة الاستشراقية للفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي

         إن من أهم المقاربات التأريخية التي تهمنا في موضوعنا هذا هي المقاربة الاستشراقية لإشكالية الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي، والتي حاولت أن تجيب عن التساؤل الآتي {هل فعلا هناك إضافة علمية إلى تلك العلوم التي أخذتها الحضارة الإسلامية من الحضارات الأخرى، أم إن الأمر يقتصر فقط على “نقل للأمانة العلمية”}. يمكن أن نميز في هذا التصور الاستشراقي بين مرحلتين أو بين مدرستين كبيرتين؛ فالمدرسة الأولى هي المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية التي اعتبرت بأن دور العرب/المسلمين في السياق الوسيطي قد انحصر على نقل التراث العلمي والفلسفي من الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إلى الحضارة الغربية في العصر الحديث، والمدرسة الاستشراقية الجديدة التي قامت على رؤية مخالفة للمدرسة الأولى وذلك بداية من خمسينات وستينات القرن الماضي، بحيث لامست هذه المدرسة جوانب من الإبداع والتجديد في الفلسفة والعلم العربي-الإسلامي وأن الأمر لا يقتصر على النقل والترجمة فقط. 

أ- التصور الاستشراقي الإتباعي

        يعتبر المستشرقون الكلاسيكيون التقليديون أن لا فضل للعرب/للسلمين ليشكروا عليه إلاّ فيما يتعلق بنقل وحفض الأمانة العلمية وردها لأصحابها. فهؤلاء المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين يقرّون بأن العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي كانوا مجرد نقلة وسعاة بريد بلغتنا المعاصرة، ويستدلون على ذلك بأن فكرهم ومنهجهم لا يتضمن أي جديد وتجديد، باعتبار أن دورهم الأساسي قد انحصر على تقديم مجموعة من الترجمات للعديد من المؤلفات العلمية والفلسفية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، اليونانية خاصة، إلى اللغة العربية والحفاض عليها. فرغم اعتبارهم أن الحضارة الإسلامية كان لها فضل كبير في الحفاض على هذا التراث العلمي والفلسفي الضخم والتي ساهمت في بناء وتأسيس العلم الحديث وقضاياه، إلا أنهم بالرغم من ذلك يحاولون تقزيم دور هذه الحضارة في اعتبارها مجرد مرحلة تخزين فقط. وقد عبّر عن هذه النزعة الباحث في العلوم العربية (رشدي راشد) بما يمكن تسميته ”بالنزعة الغربية”، بحيث لخص موقفهم من خلال القول بالنزعة الغربية التي تدعي بأن العلم علم غربي ولا يمكن أن يكون إلاّ غربي. ويتجلى هذا بشكل واضح فيما عبّرت عنه الباحثة (يمنى طريف الخولي)[10] بالقول ”وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حفظ الأمانة العلمية الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة”[11]

ولعل من بين الأسماء البارزة في هذا التيار الاستشراقي الكلاسيكي ذو الرؤية السلبية اتجاه العصر الوسيط الإسلامي، نجد (أرنست رينان Ernest Renan) الذي تعتبر أطروحاته من بين الأطروحات التي أثّرت في العديد ممن عاصروه وقد ساروا على نهجه، خاصة بعد إحدى المحاضرات التي ألقاها بجامعة السوربون عام 1883م  والذي أعلن فيها بصريح العبارة أن ”العرق السامي لم يشتهر إلاّ بخصائص سلبية تقريبا فهو لم ينتج لا ميثولوجيا، ولا ملحمة، ولا علم، ولا فلسفة، ولا أدب، ولا فن تشكيلي، ولا حياة مدنية”،[12] ويضيف في كتابه “ابن رشد ومذهبه“ قائلا ”ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتهم لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلاّ اقتباسا صِرفا جدِيبا وتقليدا للفلسفة اليونانية”.[13] فتصوره هذا قد انعكس على مجموعة من أطروحات المستشرقين الأوائل ممن عاصروه، حيث صرّح في كتابه ”تاريخ اللغات السامية” أنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري، لذلك وثق به بعض ممن عاصره بسبب معرفته باللغات السامية وزيارته لبلدانها.[14]

كما نجد (بيير دوهيم Pierre Duhem) الذي أرخ لمسيرة تطور العلم لم يعطي للعلم في السياق الإسلامي أهمية كبيرة. وقد توقف (مصطفى عبد الرازق) عند مجموعة من هذه الأطاريح الاستشراقية وخصّ منها قدرا كبيرا ل (أرنست رينان) باعتبار أن أطروحاته قد تلقت تأثيرا كبيرا على الدراسات اللاحقة. غير أنه لم يسلم من الانتقادات سواء من قِبل بني جلدته أو غيرهم، إذ اتهموه بكونه يحمل معاداة للسامية (وهذا واضح من خلال ما أشرنا إليه سابقا) وللإسلام، كما اعتبروا أن حكمه هذا ناتج عن جهله لِما للعرب/المسلمين من مصنفات ومؤلفات وإبداعات غير ما ترجموه وشرحوه.

وإلى جانب هؤلاء، نجد أطروحة المستشرق (تينمان Tennemann) الذي اعتبر أن المسلمين قد فشلوا حتى في شرح مؤلفات أرسطو نفسه وأن شرحهم هذا شرح مضعف، بل مشوّه لمذهبه. ويخلص إلى كون المسلمين قد عجزوا عن إبداع فلسفة خاصة بهم وذلك راجع لِما يتضمنه القرآن الذي يعوق النظر العقلي الحر وسيطرة حزب الأغلبية، أي حزب السنة، إضافة إلى سيطرة سلطة أرسطو المستبدة على عقولهم وميلهم نحو التأثر بالأوهام.[15]

كما نجد المستشرق الهولندي (دي بور) قد أصدر حكما قاسيا نوعا ما على الفلسفة الإسلامية، فقد نزع عنها القدرة على الإبداع والابتكار، ويعتبر أنها لا تتجاوز مستوى النقل والاقتباس من الفلسفة اليونانية.[16]

إن هذا المشروع الفكري ل(مصطفى عبد الرازق) من خلال كتابه <<تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية>> تمكّن من الوقوف عند العديد من أطروحات المستشرقين بل حتى أطروحات المسلمين التي تنفي عن الفلسفة الإسلامية أي إبداع وتجديد واعتبارها مجرد <<علوم دخيلة>> حيث قام بتفنيدها عبر توسله بعدة مناهج مختلفة وبمنهجية صارمة ودقيقة،[17] ولعل أهم منهج اعتمده (مصطفى عبد الرازق) في مشروعه الفكري هذا هو منهج المقارنة وذلك عبر استحضاره لعدة أراء استشراقية ومقارنة بعضها مع بعض، ليبدي بعد ذلك رأيه وملاحظاته بخصوص أوجه التشابه والاختلاف والتناقض بين كل تلك التصورات.

وقد كان غرضه الأساسي من كل ذلك؛ تأكيده على أن الفلسفة الإسلامية لم تكن مجرد إتّباع للفلسفة اليونانية وغيرها، بل هناك فعلا فلسفة إسلامية خالصة، وهذه الفلسفة الإسلامية تتضمن كل من تلك الفلسفة بمعناها التقليدي و علم الكلام ثم علم أصول الفقه إضافة إلى التصوف، وهذا ما يؤكده بالقول ”وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما فإن <<علم أصول الفقه>> المسمى أيضا: <<علم أصول الأحكام>> ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثا يسمونها <<مبادئ كلامية>> هي من مباحث علم الكلام، وأظنّ أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شُعَبها”[18]

إذن، فالمقاربة المنهجية المتّبعة من قِبل (مصطفى عبد الرازق) هي مقاربة تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ إحداهما هي نقد التصور الاستشراقي المجحف في حق الفلسفة الإسلامية الذي حاول -كما وضحنا- نزع الاصالة والإبداع عن الفلسفة العربية الإسلامية واعتبارها مجرد تقليد واستنساخ للفلسفة اليونانية، أمّا الثانية فتتعلق بإثبات الأصالة للفلسفة الإسلامية من خلال اعتباره أن الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بالترجمة والشرح والتلخيص للمؤلفات اليونانية بل أضافوا عليها عدة إضافات إبداعية مهمة من جهة، ومن جهة ثانية اعتباره أن العرب/المسلمين قد أبدعوا فلسفة إسلامية خالصة وهم لم يطّلعوا بعد على التراث الفلسفي اليوناني، وتتجلى هذه الفلسفة في كل الإنتاجات الفكرية للمذاهب الفقهية والكلامية والصوفية، حتى وإن تأثّرت هذه المذاهب فيما بعد بالإنتاجات اليونانية (المنطق، الإلهيات، …) فإن ذلك لم يمحو جوهرها وروحها. 

ب- التصور الاستشراقي الإبداعي

      إن هذه التصورات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية ذو الرؤية السلبية اتجاه الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي ستبدأ أطروحاته في الاضمحلال شيئا فشيئا وذلك ابتداء من خمسينات وستينات القرن الماضي بظهور جيل جديد من المستشرقين، إذ ما يميزهم بشكل عام هو محاولتهم ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون” أو بعبارة أخرى ”دراسة العلوم العربية لذاتها”[19]. فقد قامت هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بدراسة العلم والفلسفة في الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط في سياقاته الثقافية، الاجتماعية، السياسية، الدينية … وذلك بمعزل عن مقارنتهما بما أنتجته الحضارة الغربية في الأزمنة الحديثة، باعتبارها ليست المعيار الذي من خلالها نقيس به علمية وفلسفية القضايا والإشكالات، إضافة إلى أن البيئة الحضارية والسياق التاريخي مختلفين، لذلك فمن الغير المعقول إقامة مقارنة بينهما، بل حتى وإن كانا في سياق زمني واحد فإن تلك المقارنة لا تجوز أيضا لأن الحاجة الفكرية هي من تفرض علينا البحث عن إشكالات ومحاولة حلها دون غيرها. وما ميّز هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بشكل خاص؛ كونها قد انتقدت نزعة التمركز الغربي للعلم واعتباره نتاج له فقط. فقد أصبحنا نتحدث لأول مرة -مع هذه المدرسة- عن تعميم هذا العلم وإعطائه بعدا كونيا، ومحاولة ”رد الاعتبار” للحضارات الإنسانية جميعها لكونها قد ساهمت في تطور هذا الصرح العلمي والمعرفي الضخم الذي وصل إلى العصر الحديث بشكل أو بآخر. ومنه، لا يمكننا الحديث عمّا يسمى بالقطيعة الإبستمولوجيا مع العصر الوسيط بشكل عام، ومع السياق الوسيطي الإسلامي بشكل خاص، وانتقال المعرفة والاجتهاد الفلسفي والعلمي من الحضارة اليونانية مباشرة إلى العصر الحديث، لأن ذلك يصعّب علينا فهم هذين العنصرين [أي الفلسفة والعلم] في السياقين الحديث والمعاصر، إذ لا يتم هذا الفهم إلا في ضَوء ما أنتج في العصر الوسيط الإسلامي، وفي ارتباطها بسياقاتها وشروطها الحضارية وخصوصيتها الثقافية.

إذن، إذا كان الجيل الأول من المستشرقين يتميّزون بنزعة “غربية العلوم” واعتبارهم القرون الوسطى، الإسلامية خاصة، مرحلة فراغ عبارة عن واسطة لانتقال العلم والفلسفة من المرحلة اليونانية إلى الحديثة، واعتبارها مرحلة تخزين فقط بالرغم ما فيها من حركة علمية، فإن هؤلاء المستشرقين الجدد قد نفوا ذلك تماما. إذ اعتبر الأوائل [في سياق دفاعهم عن نزعة غربية العلوم] أن العلم الحقيقي هو ذلك العلم التجريبي الذي يمكن أن نتحقق من فرضياته ونتائجه تجريبيا، ويؤكدون على كون هذه الخاصية لم تعرف في العصر الوسيط الإسلامي وأنها موجودة فقط في العلم الحديث والتي تمتد جذورها مباشرة إلى العلم اليوناني، غير أن (رشدي راشد) على لسان (باسكال كروزيت Pascal Crozet) يرفض هذه الأطروحة ويعتبر أن حتى هذه المقارنة ليست بالمقارنة العلمية، وقد أكد على وجود مجموعة من مظاهر العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية، كما يؤكد على أن هذه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية لهذه الحقبة الزمنية وما أبدع فيها من علوم ومعارف، كان الغرض الأساسي منها اكتشاف الأصول الهيلينينية والهلنستية لهذه العلوم،[20] أي ما معناه أن هذه العلوم لم تتم دراستها دراسة موضوعية، أو كما عبرنا عنها سابقا بأنه يجب ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون: أي دراسة العلوم العربية لذاتها”[21] كما أن هذه الحقبة الزمنية تمت دراستها بخلفية مسبقة وذلك يتعارض مع الشروط العلمية للأبحاث والدراسات الأكاديمية المحكمة. وبالتالي فإن (رشدي راشد) يرفض من جهة اعتبار العلم ذو نشأة القرن السابع عشر الميلادي وما بعده من جهة، ومن جهة أخرى يرفض حصر البعد العلمي في العلوم الغربية فقط.

تركيب

       عموما، يمكن القول بشكل عام بأن أطروحات المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين كانت متهافتة في جوهرها وأساسها من جهة، ومن جهة ثانية كونها قد طرحت في فترة زمنية كان الشائع فيها حول الفلسفة الإسلامية أنها مجرد نقل وترجمة وشرح للفكر العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، لذلك انساق العديد من المستشرقين في تلك الفترة وراء هذه المغالطة التي كان أساسها مبني على تهافت عرقي وإيديولوجي، ومن جهة ثالثة صعوبة الوصول إلى تلك الإبداعات الإسلامية الخالصة في تلك الفترة إلى جانب تلك الشروحات والتعليقات على العلوم والفلسفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. وبالتالي يجوز لنا أحيانا أن نقول بأن موقفهم -نوعا ما- مبررا باستثناء بعض الأطروحات ذات البعد الإيديولوجي والعرقي أكثر منه علمي. فهذه الدراسات كان لها دور سلبي على مجال التأريخ للعلوم، لكونها تضع إسهامات الحضارة الإسلامية في العلم والفلسفة خارج التاريخ، وهو أمر يصعّب علينا فهم العلم والفلسفة في السياق الحديث باعتبار أن العديد من الفلاسفة والعلماء قد عالجوا مجموعة من القضايا والإشكالات التي طرحت بالأساس في العصر الوسيط الإسلامي، حتى وإن لم تطرح فيها فإن إشكالاتها قد تبلورت بشكل واضح في تلك المرحلة، لذلك فإن تلك القضايا والإشكالات في العصر الحديث هي امتداد لتلك الإشكالات التي طرحت في العصر الوسيط الإسلامي، ولابد من وضعها في سياقها التاريخي من أجل فهم مضمونها جيدا.

3. الإرث العربي الإسلامي مساهما في تشكل الفلسفة الغربية المتأخرة

             إن تلك الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية تسقط عن الحضارة الإسلامية مساهمتها في النهضة العلمية الحديثة من خلال ما قدمته من ترجمات وشروحات وتعليقات وتأويلات للمؤلفات الفلسفية والعلمية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إضافة طبعا للنقد والتشكيك والتصويب والتصحيح والترميم الذي رافق هذا الشرح. لأن البومة[22] بعدما فشلت بالمرور عبر روما وعبر بيزنطا بمضيق البوسفور إلى باقي بلاد أوروبا لكونها قد اصطدمت بموانع كثيرة أبرزها الحروب بين القبائل الجرمانية إثر سقوط الحضارة الرومانية -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- حيث صعّب عليها ذلك المرور بارتياح، لذلك عادت للانطلاق مجددا بالعبور من البلدان الإسلامية رغم أن المسافة طويلة، حيث تطلّبت قسطا غير يسير من الزمن لأن الحكمة كما يقول الباحث (محمد اشو) ”لا تمر في أي مكان كان، وإنما تسير في المسالك الآمنة، والحضائر العامرة، والمراكز الثقافية النشيطة”[23] وبسبب مرورها على البلدان الإسلامية فقد توقفت عند العديد من المحطات، وداخل هذه المحطات تعرّضت للترجمة والشرح والتأويل والتعليق والتجديد … لتنتقل بعد ذلك إلى الغرب الأوروبي في صورة جديدة قابلة للفهم والإدراك بعكس ما كان متصورا في ذهن الأوروبيين. ولعل أبرز هذه المحطات التي ترجم من خلالها هذا الإرث العربي/الإسلامي إلى اللغة اللاتينية نجد صقيلية التي اهتمت بشكل كبير بما هو علمي، ثم طليطلة التي ترجم من خلالها العديد من المؤلفات الفلسفية وعن طريقها وصلت إلى أوروبا، وكان هذا سببا رئيسيا للأوروبيين في فهم بعض الفلسفات ذات البعد العقلاني والمنطقي، خاصة الفلسفة الأرسطية التي اعتبروها فلسفة صارمة غير قابلة للتأويل لكونها تتعارض مع المبادئ المسيحية، وفي هذا الصدد يقول (أنتوني جواليب) ”… لم يكن ألبرت ليجد الكثير ليقوله لو اتّفق دائما مع ارسطو. فالعقيدة المسيحية جعلت الاتفاق التام ضربا من المستحيل. لقد قال أرسطو إنّ العالم كان موجودا على الدوام، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنه لم يكن موجودا. وقد قال أرسطو إنّ الرّوح لا تبقى بعد الموت، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنها تبقى. وما قاله أرسطو عن المادة تضمّن أن القربان المقدس كان أمرا مستحيلا من الناحية المنطقية، وهو ما لم يكن مقبولا. ولم يكن ربّ أرسطو مهتما تماما بما يفعله الإنسان، ومن الواضح أن هذا كان مشكلة في حدّ ذاته” ويضيف بالقول أنه ”دائما ما كانت أفكار أرسطو يتلقاها الجمهور بحذر وجدّيّة، فقبل كل شيء كان يجب توفيقها مع تعاليم الإيمان، ولم يعْنِ هذا حذف بعض الفقرات المسيئة فحسب بل التوفيق بين مبادئ المسيحية والمبادئ الأرسطية“[24] ولهذا السبب تبنّت الكنيسة الأفلاطونية في زيّها الأوغسطيني كمذهب رسمي لها لحوالي ثمانية قرون متتالية لكونها تتميز بالمرونة في فكرها وبالتالي فهي قابلة للتأويل بما ينسجم مع اللاهوت. غير أن هذا الغموض الذي كان يكتنف حول الأرسطية سيزول بدخول الترجمات والشروحات والتأويلات العربية الإسلامية على الفكر الأرسطي إلى الغرب الأوروبي، يقول (أنتوني جواليب) في هذا السياق ”وصلت مقالات أرسطو إلى الغرب الأوروبي مصحوبة بتعليقات ضخمة ومثيرة ألفها الباحثون العرب. وبالكاد شرَع أساتذة الجامعة المسيحيون في تعلّم كل هذه الحكمة ونقلها دون أن يكون لهم رأيهم الخاص؛ ولذلك لم تُسْتَقْبَل أفكار أرسطو وتُقَدَّم كما هي بأي شكل”.[25] والمقصود بالعبارة الأخيرة (لم تستقبل أفكار أرسطو وتقدّم كما هي بأي شكل) أي أن الأوروبيين لم يتعرفوا على الأرسطية مباشرة ممّا قاله أرسطو نفسه، بل تعرفوا عليها من خلال تلك الترجمات والشروحات العربية الإسلامية التي حاولت أن تخفف من حدة وصرامة الفكر الأرسطي. وانطلاقا من ذلك سيعتبر العديد من الدارسين للعصر الوسيط أن دخول الأرسطية للغرب الأوروبي فجر القرن الثالث عشر الميلادي بمثابة نهضة علمية وفكرية حقيقية ثانية بعد النهضة الفكرية والأدبية الأولى بزعامة القائد (شارلمان) والتي تُعرف ثورته بالثورة الكارولينجية بداية من القرن التاسع الميلادي. ودخول هذه الأرسطية بواسطة الحضارة الإسلامية إلى الغرب الأوروبي؛ مهّدت الطريق ومكّنت هذه المجتمعات بالعبور إلى الأزمنة الحديثة.

كما ساهم العديد من علماء الفلك العرب/المسلمين في هذه النهضة العلمية في العصر الحديث من خلال ما قدموه من تشكيكات وتصحيحات وتصويبات وترميمات على العديد من النماذج الفلكية التي تعود إلى الحضارات الأخرى منها الهندية والفارسية وخاصة اليونانية من خلال كل من نموذج أفلاطون وأرسطو وخصوصا النموذج الفلكي الذي قدّمه (بطليموس) في كتابه “المجسطي”، إذ حاولوا التأكد من صحة المعطيات الفلكية الواردة فيه فلجأوا إلى المراصد، وقد كان من نتائج ذلك؛ أن صاغوا العديد من النظريات الفلكية كمحاولة منهم لإصلاح المجسطي وقد قادهم ذلك حسب بعض الدارسين للعصر الوسيط الإسلامي أن مهدوا الطريق لما أصبح يُعرف بالثورة الكوبرنيكية، ويُمكن العودة إلى بعض النماذج الفلكية في هذا الإطار كالنموذج الذي قدّمه ابن الهيثم في كتابه “الشكوك على بطليموس”، نصير الدين الطوسي في كتابه “التذكرة في علم الهيئة”، مُؤيد الدين العُرضي، ابن الشاطر، ثابت بن قرة وغيرهم العديد. وهكذا يتضح لنا كيف ساهمت هذه الحضارة الإسلامية في النهضة العلمية الحديثة، وهي الفكرة التي انطلقنا منها لعرض هذه المعطيات التي تؤكد على الإسهام الكبير الذي لعبته هذه الحضارة في بناء الحضارة الغربية.[26]

4. إنصافا للتاريخ

قبل ختم هذا الموضوع لزام علينا أن نوضح ثلاث نقاط أساسية، إذ يتعلق الأمر:

النقطة الأولى: اعتبار العلم والفلسفة في السياق الإسلامي مجرد نقل للتراث العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، وإعادة البحث في قضاياه وإشكالاته، هي في آخر المطاف مسألة عادية باعتبار أن المعرفة الإنسانية بشكل عام ليست ذو نشأة محددة، ويمكننا الاستدلال على ذلك من خلال نموذج الحضارة اليونانية نفسها؛ إذ أكد العديد من الباحثين في حقل الفلسفة أن الحضارة اليونانية قد استفادت بالكثير من حضارات الشرق القديم بحيث حاولت تكييف تلك العلوم والمعارف وفق خصوصياتها الحضارية وشروطها الثقافية وظروفها السياسية، وهو  نفس الأمر الذي قامت به الحضارة الإسلامية، ولكننا نجد بعض المؤرخين يعتبرون أن الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي مجرد نقل وتقليد للفلسفة والعلم اليوناني ولكنهم لا يقولون ذلك عن الحضارة اليونانية، وهذا نوع من التناقض. إضافة إلى كون أن المعرفة الإنسانية مرتبطة في سياقها التاريخي وأن الأمر لا يقتصر على أن كل حضارة أو مرحلة بحثت في إشكالات مخالفة للأخرى، بل هي مرتبطة في جوهرها وأساسها، لأن كل إبداع معرفي هو نتيجة للعديد من الأسباب التي سبقته وهو رهان للإشكالات التي ستأتي من بعده، وهذا ما يؤكده المؤرخ (ديفيز) حين حديثه عن الأحداث التاريخية بالقول “إن أي تقسيم للتاريخ إلى عصور أو فترات لهو تقسيم غير طبيعي، وكلما زاد التقسيم دقة، كلما بعد عن أن يكون طبيعيا، فكل حدث تاريخي هو نتيجة لعدد لا يحصى من الأسباب، وهو بالتالي نقطة بداية لعدد لا يحصى من الآثار المترتبة عليه. فاللغة والفكر ونوع الحكم والسلوك والعادات- كل هذا يطرأ عليه تغير تدريجي غير محسوس، حتى لنستطيع القول بأن كل عصر هو مرحلة انتقال للعصر الذي يسبقه، ولا يمكننا فهمه فهما تاما إلا إذا نظرنا إليه على أنه وليد الماضي ووالد المستقبل”[27]

إن عودتنا للتصورات الفلسفية القديمة مثل عودة الفلاسفة المسلمين للإبداعات الفلسفية، اليونانية خاصة، لا يعني كما يقول (إتيان جيلسون) أن الفلاسفة حراس المقابر لأن العودة المتكررة إلى الماضي لا يعني إخراج الموتى من قبورهم، وإنما مرد ذلك إلى أن في فلسفتهم أجوبة لأسئلتنا في الحاضر، وهذا ما يفسر عودة الفلاسفة المسلمين إلى الفلاسفة الذين سبقوهم للاستفادة منهم لأن الأفكار الفلسفية لا تموت بموت أصحابها.

لقد أكد العديد من الباحثين والدارسين على أصالة الفلسفة الإسلامية من جهة، ومن جهة ثانية التأكيد على وجود فلسفة عربية إسلامية، مثل الباحث (محمد اشو) الذي اعتبر أن الفلسفة العربية الإسلامية أسهمت، بشكل أو بآخر، في صناعة التاريخ الفكري للبشرية، وأن الأمر أصبح بمثابة مسلمة.[28]

النقطة الثانية: تتجلى أساسا في اكتشاف العديد من المستشرقين الجدد المحايدين لعدة نصوص تؤكد فعليا على وجود لمسة إبداع عربي إسلامي على تلك العلوم والفلسفات. والمفارقة العجيبة في هذا السياق تكمن حينما يتم اكتشاف بعض المخطوطات والكتب، بل حتى بعضا من صفحات كتاب ما يعود إلى العصر الوسيط بشكل عام، يتهافت عليه الجميع حتى أصحاب الدعوة القائلة بظلامية وسوداوية القرون الوسطى، الإسلامية خاصة. لذلك لا يجب علينا أن ننساق وراء هذه المغالطات الإيديولوجية والادعاءات الباطلة، وأن نحتكم في المقابل للدراسات الأكاديمية العلمية.

النقطة الثالثة: تتعلق بتهافت الأطروحة القائلة بأن الحضارة الإسلامية قد انحصر دورها على الترجمة والشرح فقط، وهذه المسألة مسألة خاطئة لأن هذه الحضارة مرّت على ثلاث مراحل أساسية يتعلق الأمر ب:

المرحلة الأولى: هي مرحلة الترجمة فقط، وذلك بترجمة العديد من المؤلفات الفلسفية والعلمية حسب الحاجات الفكرية والحضارية التي كانت مطروحة آنذاك عبر العديد من المؤسسات العلمية الكبرى التي ستسهر على تقديم العديد من الترجمات العالية الدقة، أو بلغتنا المعاصرة اليوم؛ ترجمات علمية أكاديمية صارمة، من خلال رعاية هذه الترجمة من قبل العديد من الأمراء والسلاطين مما شجّع هذه الحركة العلمية وشيوع الفكر الفلسفي والعلمي عموما، وبذلك ساهمت في إعطاء دفعة للفكر الفلسفي العقلاني، ومن بين أشهر هذه المؤسسات نجد ”بيت الحكمة”.

المرحلة الثانية: تتعلق بمرحلة الاستيعاب، وذلك باستيعاب تلك العلوم والفلسفات التي ترجمت إلى اللغة العربية من الحضارات الأخرى.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة الإبداع، وذلك بعد التشكيك في تلك النظريات التي تمت ترجمتها واستيعابها وتصحيحها عبر ترميم هفواتها، فأدى ذلك بهم إلى تأليف العديد من الكتب والمؤلفات التصحيحية والتصويبية والتي تشكل لبّ وجوهر الإبداع عندهم.

خاتمة

          خلاصة القول، إن المسلمين في السياق الوسيطي قد اهتموا بالعلوم وبالفلسفة إذ قاموا بترجمة العديد من المؤلفات التي تعود للحضارات الأخرى، لكنهم لم يكتفوا بنقلها فقط، بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات علمية هامة والتي تعتبر أساس البحث العلمي الحديث. ولهذا السبب وجدنا في تحليلنا لهذا الإشكال العديد من المؤرخين المنصفين والمحايدين الذين اعترفوا بذلك رغم بعض التصورات التي حاولت جاهدة نزع الأصالة والإبداع والتجديد عن الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن هذه الحضارة تمثل حلقة مهمة في سلسلة الحضارات الإنسانية لكونها قد أسهمت في وضع أساس للحضارة الإنسانية الحديثة بنصيب موفور وأن فضلها عليها واضح غير منكور، والحق أن هذه الحضارة قد أحدثت ثورة علمية وفلسفية عمّ خيرها كل أرجاء العالم الإنساني ككل. وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نقول بأنه واجب علينا جميعا محاولة كشف أسرار تلك الدراسات والأبحاث التي أنجزت في العصر الوسيط الإسلامي، فهي تستحق أن ننفض عنها غبار السنين بالدراسة والفهم والتحقيق … لعلّنا نكشف بذلك عمّا تحتويه من كنوز لاتزال فاعلة حتى اليوم.

قائمة المراجع

باللغة الأجنبية

  1. Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.
  2. Pascal Crozet, <<les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d’un nouveau champ en histoire des sciences>>, 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l’occasion de la journée <<Hommage a Roshdi Rashid>>, le 15 juin 2004.

باللغة العربية

أ- الكتب:

  1. أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.
  2. مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021.
  3. ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958.
  4. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000.

ب- الأبحاث:

  1. محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر <<حمّى تاريخية>>، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023.
  2. محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

ت- الندوات:

  1. فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.
  2. محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

[1] إذا استثنينا المرحلة الهيلينينية والهلنستية ومرحلة الأباء وخطباء روما، باعتبارها كمراحل وصل بين المرحلتين الأساسيتين (اليونانية والوسيطية)

[2] أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص308

[3] نفسه

[4] فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022. =

= لمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.

[5] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 308-309

[6] محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر <<حمّى تاريخية>>، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023، ص 9

[7] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 307.

[8] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958، ص 13.

[9] نفسه، ص 14.

[10] أستاذة فلسفة العلوم ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد أسهمت في نشر الثقافة العلمية وأصول التفكير العلمي والعقلاني بالعشرات من المقالات والبرامج التلفزيونية والمحاضرات العامة.

[11] يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000، ص 34.

[12] Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.

[13] مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021، ص 16.

[14] نفسه

[15] مصطفى عبد الرازق، مرجع سابق، ص 12-13.

[16] محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

[17] من أجل معرفة موسعة وصارمة حول هذا الموضوع، يمكن مراجعة البحث المحكم ل: محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مرجع سبق ذكره.

[18] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مرجع سابق، ص 27.

[19] Pascal Crozet, <<les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d’un nouveau champ en histoire des sciences>>, 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l’occasion de la journée <<Hommage a Roshdi Rashid>>, le 15 juin 2004.

[20] نفسه

[21] نفسه

[22] ترمز البومة في الثقافة اليونانية القديمة وفي أوروبا إلى الحكمة والفلسفة.

[23] محمد اشو، غيوم المربكي وطوما الأكويني أصداقة أم مظاهر <<حمّى تاريخية>>، مرجع سابق، ص 8.

[24] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 314-315.

[25] نفسه، ص 315.

[26]  لابد من الإشارة أننا لا  نؤكد على ما يسمى بالأطروحة الإتصلانية التي تنفي القطيعة الابستمولوجيا  أو عن الأطروحة الإنفصلانية التي تدافع عن القطيعة الابستمولوجيا لأن هذا موضوع آخر ومختلف.

[27] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، مرجع سابق، ص 9.

[28] محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

لمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.