مجلة حكمة
الإنسان الكامل عند ابن عربي

الإنسان الكامل عند ابن عربي: الحضرات الإلهية الخمس – وليام تشيتيك

الكمال الإنساني عند ابن عربي

فيما يتعلق بـ الإنسان الكامل عند ابن عربي، فإنه يرى –مثله مثل الفلاسفة- أنَّ للرّوح الإنسانيَّة إمكانٌ مطْلَقٌ، وفَهِمَ أنَّ غايةَ الحياة تكمن في تحقيق ذلك الإمكان. لخَّصَ ابن سينا هذه الرّؤيَةَ الفلسفيَّة في فقرة وجِدَتْ في عملين من أعماله الهامَّة، يقول:

“إنَّ النَّفسَ النَّاطِقَة، كمالُها الخاصُّ بها أنْ تصير عالَما عقليَّا، مُرْتَسِمًا فيها صورة الكلِّ، والنظام المعقول في الكلِّ، والخير الفائِض في الكُلِّ…. فتَنقلِب عالَما معقولا، مُوازيا للوجود كلِّه؛ مشاهِدا لما هو الحُسْن المُطلق، والخير المطلق، والجمال الحق، ومتَّحِدا به، ومُنْتَقِشًا بمثاله وهيئته، ومُنْخَرِطا في سِلكه، وصائِرا من جوهره” (ابن سينا، الشِّفاء، 350، النجاة، 3:293).

يوافق ابن عـربي على هذه الصّورةِ العامَّة، ولكنَّه يعدّها قاحلة في نفس الوقت؛ لأنَّها لا تضع في اعتبارها أبعادَ تلك الحقيقة؛ أعني هذا الكمَّ الهائلَ من الأَبْعَادِ، كما هي في ناظِرَيْه، والتي لا تنتمي كثيرا إلى عالم التَّعَقّل؛ فالعوالم الوسيطة كلّها -هي في أساسها- خياليَّةٌ لا مَعْقولَة، وليس حديثنا هنا عن العالمِ المحسوسِ نفسِه.

يصِرّ ابن عربي -في الحقيقة- على أنَّ “الخيال أوسع المعلومات”؛ لأنَّه ” يحكم بحقيقتِه على كلِّ شيء وعلى ما ليس بشيء، ويتَصَوَّر العَدَمَ المَحْضَ والمحَالَ والواجِب والإِمكان، ويجعل الوجودَ عدَمًا، والعدمَ وجودًا” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 1:306.17، 306.6).

يصف ابن عربي -في أكثر من فقرة- صعودَ الروح إلى الله عَبْر المِعْراج. ومن ذلك، الباب السابع والستون ومائة من فتوحاته، والذي عنونه باسم “في معرفةِ كيمياء السَّعادة”. يقارن ابن عربي في هذا البابِ بين معراجينِ متوازيَيْنِ لصاحبِ نَظَرٍ وتَابِعِ نَبِيٍّ. يقابل المقلِّد – في كلِّ سماء- ما قابله محَمَّدٌ في رحلة الإسراء والمعراج، أمَّا صاحب النَّظر؛ فإنَّه لا يجد إلا ما يسمح له به علمه بالعالَمِ الطَّبيعيِّ.

نقول باختصار: عندما يسْعَى السَّالِكون خلالَ عوالِم صّعودِ عالَمِ الخيال، فإنهم يحَصِّلون ما يتوافق وتَهَيّئَهم المعْرفيَّ الخاصَّ. على سبيل المثال، تَلَقَّى المقَلِّد آدمَ في السَّماء الأولى، الذي علمه الله الأسماءَ كلَّها؛ فتَعَلَّم منه عِلمَ ما دونه وعِلمَ ما فوقَه من الأَمْكِنَة، أمَّا صاحِب النَّظَر، فإنَّه لم يتلقَّ غيرَ روحانيَّة القمر. وفي كلِّ سماء يتلقَّى التابع نبيَّا، ويحوز عِلمَه، أمَّا صاحِب النَّظَر؛ فإنه لا يتلقَّى إلا جِرما سماويَّا (ابن عربي ، الفتوحات المكية 1997).

تجدر الإشارة إلى أنَّ ابنَ سينا نفسَه قد دوَّنَ تفسيرا لرحلة الإسراء والمعراج بلغة فلسفيَّة تَتَشَابَه كثيرا مع ما ينسبه ابن عربي إلى صاحبِ النَّظر هنا، لكنْ، يستحيل أنْ يكون ابن عربي قد طالَعَه؛ لأنَّ هذا النصَّ قد دوِّنَ بالفارسيَّة (هيث Heath 1992).

الكمال الإنساني ومقام اللامقام

يمَثِّل كل مقام ومرتبة ومنزلة تحقيقا لإمكانِ التَّأَلّه، أو شاهدا على التَّخَلّقِ باسمٍ واحدٍ أو عِدَّةِ أسماء إلهية. وتشَكِّل كل صفة إلهية، وكل مِثَال نبويٍّ مقامًا يستطيع الإنسان من خلال التوقّف فيه أن يراقبَ طبائعَ الأشياء. ولا تَنْحَصِر مقامات العِلمِ والكمال الروحي، بل إنَّ كلّ مَقَام يَهَب سماتٍ شخصيَّة معيَّنة، ويمنح وجهات نظر أيضا. يخبرنا ابن عربي -أحيانا- أنَّ هذا الباب أو ذاك من الفتوحات المكية يتعلَّق بموقف موسى أو عيسى أو إبراهيم.

وهكذا، يقَسِّم ابن عربي فصوصَ الحِكم إلى سبعة وعشرين فصلا؛ كلّ فَصْلٍ مكَرَّسٌ لنبيٍّ أو وليٍّ، ويقوم بتقديمِه على أنَّه كَلِمَة (لوجوس) تضمَّنَتْ حِكْمَةَ اسمٍ إلهيٍّ معَيَّن. والغاية الرئيسَة من وصف هذه المواقِفِ المتعَدِّدَة تَسْليط الضَّوْءِ على “مقام اللامقام” والذي أسماه أيضا “المقام المحَمَّدِيّ”. في هذا المقام يحدث تحقّقٌ كامِلٌ لحقيقةِ الحقائقِ التي ينضوي تحتها كلّ مَقَام وموقف دون أن تحَدَّ أو تعَرَّف.

“أهل الكمال الذين تحقَّقُوا بالمقامات والأحوال، وجاوزوها إلى المقام الذي فوق الجمال والجلال؛ فلا صفة لهم ولا نعت” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 2:133.19).

يقف الإنسان الكامل في مَقَامِ اللامقام، وهو أثر الشَّبَه الإنسانيِّ للموجود المٌطلَق؛ الذي به يتقيَّد كلّ شيء دونَ أنْ يتقيَّدَ هو. يسَمِّي القونوي هذا المقامَ أحيانا باسم “نقطة مركزِ دائرةِ الوجودِ”؛ لأنَّه لا بعد له في نفسِه، وكلّ ظهورٍ حقٍّ يَتَرَتَّب بالرَّجوع إليه. يشْرح القونويّ هذا المفهومَ -أحيانًا- عن طريق المقَابَلَةِ بين الحقِّ والجوهر (العين الثَّابِتَة). وكلّ ما سوى الإنسان الكامل له ماهيَّة محَدَّدَة، تمَيِّزه عن غيره؛ لذا يمكن القول أنَّ الواحدَ منَّا منْحَصِرٌ في مرتبة، ومقام، ومنزلة. أما الإنسان الكامل، فرغم أنَّه يظهِر الحقَّ في حَدِّ ذاتِه؛ إلا أنَّ ماهيَّتَه تطابِقه، ولا تطابق هذا أو ذاك، يقول القونويّ:

“ولا يذوق هذا السفر، ويصل إلى محتده إلا من انطلقتْ ذاتُه؛ فانحلَّتْ قيودُ الأحكام الإمكانيَّة والأحوال والصفات والمقامات والنشآت والأفعال والاعتقادات، ولم ينحصر في شيء منها؛ فسرى بذاته في كلِّ شيء سريان الوجود في حقائق الأشياء التي قلنا أنها الشُّئون الذاتيَّة المسمَّاة بحقائق الممكنات، سراية أبديَّة بأحكام أزليَّة…. ورأيتُ في هذا المشهد العظيم لمَّا أشهدنيه الحقُّ سبحانه أنْ ليس لصاحبِ هذا المَشْهَدِ عين ثابتة ولا حقيقة” (القونوي، النفحات، 265)

الإنسان الكامل

ويمثِّلُ الإنسان الكامل النَّموذَجَ الأمْثَل للإمكانِ الإنسانيِّ؛ فـ الإنسان الكامل هو الفرد الذي اجتازَ دائرةَ الوُجود، ووَصَلَ إلى مُنْتَهَى مقامِ القوسين، وعادَ إلى مَبْدَئِه؛ حقيقةِ الحقائق. والتَّحَقُّق بمقام اللامقام يعني أن يكون هو/ لا هو، قديما/مُحْدَثا، أبديَّا/لا أبديًّا. الإنسان الكامل وحده هو القادر على شَغْلِ وظيفةِ خليفةِ اللهِ أو مُمَثِّلِه؛ أنْ يكون الوسيط بين الحقِّ والخَلْق، وهذا هو الدور نفسُه الذي من أجله خُلِق آدمُ (القرآن 2:30). يقول القونويُّ:

” إنّ الإنسان الكامل الحقيقيَّ هو البرزخُ بين الوجوب والإمكان، والمرآةُ الجامعةُ بين صفات القِدَمِ وأحكامه وبين صفات الحدثان، وهو الواسطة بين الحقِّ والخلق…. ولولاه من حيثُ برزخيَّته التي لا تغاير الطَّرَفين لم يَقْبَل شيء من العالَم المَدَدَ الإلهيَّ الوحدانيَّ لعدم المناسبة والارتباط” (القونوي، الفكوك، 248)

وبتعبير آخر: الإنسان الكامل هو الرُّوح التي تَسْرِي العالَم كلَّه. وهذا هو موضوعُ الفَصِّ الأول من فصوص الحكم لابن عربي؛ يشرح فيه الطريقةَ التي تَظْهَرُ بها حِكمةُ الاسمِ الجامعِ عن طريقِ آدَم؛ الإنسان. وبشكل موازٍ يكتُبُ في فتوحاته:

“العالم كلُّه تَفْصيلُ آدمَ، وآدمُ هو الكتابُ الجامع؛ فهو للعالَم كالرُّوح من الجَسَد، فالإنسانُ روح العالَم والعالَم الجَسَد؛ فبالمجموع يكونُ العالَمُ كلُّه هو الإنسانُ الكبير، والإنسان فيه، وإذا نظرتَ في العالَم وحده دونَ الإنسان وجدتَه كالجِسْمِ المُسَوَّى بغير روح” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 2:67.28)

الحضرات الإلهيَّة

يلخِّص أتباع ابن عربي -غالبا- فكرةَ الإنسان الكامل عن طريقِ اللجوء إلى منظومةٍ عرِفَتْ باسِمِ “الحَضَرَات الإلهيَّة الخمس”. يوظِّف ابن عربي كلمة الحضرة للدلالة على أيِّ عالَم يَظْهَر الحقّ فيه (إيجادا ووجودا) تحتَ عنايةِ الطَّبيعةِ العامَّة، وبهذا المعنى، فإنَّها تَتَرَادَف إلى حدٍّ كبير مع كلمة عالَم أو مَرتَبَة. على سبيل المثال، نجد ابن عربي في فقرة واحدة يشرح أنَّ الكونَ يتكوَّن من عالَمَيْن أو حضورَيْن؛ الغيب والشَّهادة، يقول:

“والحضرةُ حضرتان، وإنْ كان قد تولَّد بينهما حضرةٌ ثالِثَةٌ مِنْ مَجموعهما؛ فالحضرةُ الواحدةُ حضرةُ الغَيْب، ولها عالمٌ يُقَالُ له عالمُ الغيب” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 3:42.5).

والمشهور -كما نجد في الباب الذي يتناول فيه الأسماء الإلهية في فتوحاته- أنَّه يستخدم الحضورَ للدَّلالَةِ على تَأثيرِ عالَمِ الاسم، ثمَّ يتناول بالوَصْفِ الطّرقَ التي تظهر بها خصائص الاسمِ وآثاره في الكَوْن والإنسان، ولك أنْ تقول أنَّه يصف كيفيَّةَ تشاركِ الأشياء بمفاهيمَ أفلاطونيَّة. والحضرة الإلهيَّة هي أكثر هذه الحضرات شمولا، وهي العالَم القابِع تحتَ قَهْرِ الاسمِ الجامع، وعنه يكتب ابن عربي : “ما في الوجود إلا الحضرة الإلهية، وهي ذاته وصفاته وأفعاله” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 2:114.14).

يبدو أنَّ القونوي هو أول مَنَ تحدَّث عن الحضرات الإلهية الخمس، وسرعان ما أصبح هذا التعبير مَأْلوفًا رغم أنَّه طرِحتْ عدَّة أنساق أخرى تخالفة. والقونويّ يستخدم هذا المفهوم للإبانة عن الكيفيَّة التي تتضمَّن بها حقيقة الحقائق؛ التعيّن الأول، كلَّ تعيّن آخرَ، ولهذا يظهر في عوالمَ أساسيَّة خمسة. والحضور الأول هو حقيقة الحقائق في الألوهة، وتتضمَّن العلمَ الإلهيَّ للكون. أما الحضور الثاني والثالث والرابع، فهو هو نفس العوالِم الثَّلاثة التي تناولها ابن عربي من قبل وهي: الغيْب (الرّوحي)، الخياليّ، المَرْئيّ (المَادِّيّ).

أمَّا الحضور الخامس فهو الإنسان الكامل في انبساطِ اسم الله الجامع، ويتضمَّن الحضراتِ الأربعَ الأخرى معه في كلٍّ مرَكَّب؛ فعينه الثَّابتة تطابق حقيقةَ الحقائق، وروحه عالمَ الغَيْب، ونفسه عالَمَ الخيال، ومادَّته العالَمَ المرئيَّ (تشيتيك Chittick  1984). وفهم الإنسان على هذه الصّورة يوضِّح لنا الدَّور الذي تلعبه الكلمة في ولادة الكون. يلخِّص القونوي كل هذا في قوله أنَّ الإنسان الكامل هو “الحقيقة الإنسانيَّة الكماليَّة الذاتيَّة هي الألوهة من بعض مراتبها، والموجودات مظاهر كيفيَّاتها وأحكامها التفصيليَّة” (القونوي، النفحات، 66-67).