مجلة حكمة
أعمال ابن عربي ستانفورد

أعمال ابن عربي وأهميتها الفلسفية – وليام تشيتيك


  • مقدمة

ربما يُعَدُّ ابن عـربي أعظم فيلسوف مسلم على الإطلاق، ولكنْ، شرط أنْ نفهمَ الفلسفة بمعناها الواسع والحديث، وليس على أنها مجرّد التزام فلسفيّ معيّن، كما نجدها ممثَّلَة عند فلاسفة مُبَرَّزين من أمثال ابن سينا، وملا صدرا كما عند كثيرين. ابن عربي رجل صوفي في تصنيف كثير من الدراسات الغربية والتقاليد الإسلامية، رغم أنّه نفسه لم يفعل ذلك، وإذا نظرنا إلى أعمال ابن عربي فإننا نجدها تغطِّي سلسلة طويلة من العلوم الإسلامية، لا سِيَّما تفسير القرآن الكريم، والحديث النبوي، والفقه وأصوله، والعقيدة، والفلسفة، والتصوُّف. ورغم تشابه الغزالي مع ابن عربي في كثرة التصنيف إلا أنَّ ابن عربي عادة ما يكتب في فروع بعينها لا يتعدّاها إلى غيرها، أمّا الغزالي فإنه كان يميل في كتُبه إلى التأليف بين العلوم والجمع بينها في نسق موضوعيّ واحد، والذي يتراوح طولُه بين ورقة واحدة أو ورقتين إلى عدَّة آلافِ صفحة. لاحقا، لقَّبه الوسط الصوفيّ بالشيخ الأكبر، وكان يُفْهَم هذا اللقبُ على أنَّه لا يمكن لأحد -حاضرا أو مستقبلا- أن يُحلِّل حقائقَ المصادرِ التراثيّة للإسلام بمثل هذا العمق والتَّفصيل.

بقيتْ كتاباتُ ابنِ عربي غيرَ معروفة عند الغرب حتى العصر الحديث، رغم أنَّها جابتْ العالم الإسلامي وأخذتْ في الانتشار خلالَ قرن واحد من وفاته. بدايةً، لم يُعِره المستشرقون الأوائلُ اهتمامًا، عدا واحد أو اثنين؛ ذلك لأنه لم يكن له تأثير ملموس في أوروبا. أضِفْ إلى ذلك أنَّ أعمال ابن عربي شديدةَ التعقيد جعلتْ من السَّهل جدا أنْ يُتَجَاوَز عن طريق القول أنّه كان صوفيا أو ممن يقول بوَحْدة الوجود وكفى، دون أدنى محاولة لقراءته وفهمه. بقي الأمرُ هكذا حتى جاءتْ كتبُ هنري كوربان Henry Corbin (1958) وتوشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu (1966)، وبسببها تجاوزتْ شُهْرَتُه الآفاق، واعتُرِف به؛ أنّه مُفكِّر من طراز أصيل، وله مساهمة عظيمة في الفلسفة العالميَّة. وقد انحصر اهتمامُ هذين العالِمين انحصارا شبه كامل في نص واحد فقط من أعمال ابن عربي الصغيرة؛ أعني (فصوص الحِكَم). وكان اهتمامُهم لا يتعدَّى بعضَ التعليقات التقليديَّة عليه، ممّا لا يمثِّل إلا قَدْرا صغيرا جدا ممَّا كان يُعالِجُه في كتابه الضخم (الفتوحات المكّيّة). بدأ العلماءُ -مؤخّرا- النَّظرَ في هذا العمل الذي يملأ ما يقرب من 15000 صفحة في طبعته الحديثة، ولم يُترجَم منه إلا ما يقلُّ عن عشرة في المائة إلى اللغات الغربيَّة، وحتى هذا الجزء المُترجَم لم يُشرَح ولم يُفسَّر بشكل مُرْضٍ.

أشارَ عديدٌ من العُلَمَاءِ إلى أَوْجُهِ الشَّبهِ بين ابن عربي وبعضِ الشخصيَّات الأخرى مثل إكهرت Eckhart ونقولاس الكوزاني Cusanus  (سيلس Sells 1994، شاه كاظمي Shah-Kazemi 2006، سميرنوف Smirnov 1993، دوبي Dobie 2009)، واقترح آخرون أنَّ ابن عربي يملكُ نزعةً توقُّعِيَّةً تقارُب اتِّجهاتٍ فيزيائيَّة (يوسفYousef   2007)، والفلسفة الحديثة كذلك (ألموندAlmond  2004، كواتيسCoates  2002، دوبيDobie  2007). وكانتْ أكثرُ المحاولاتِ جِدِّيَّة لمحاولة وضع ابن عربي في النَّسَقِ الفلسفيِّ للتاريخِ الغربيِّ تطرحُ أنَّ فكرةَ البرزخ التي قال بها، تمثِّل حلًّا حيويَّا لمشكلة تعريف ما لا يُعَرَّف؛ تلك المُعْضِلة التي وَقَفَتْ حَجَر عَثْرة في طريقِ نظريَّة المعرفة منذُ أرسطو، وأدَّتْ إلى حالة من اليأس بين فلاسفة معاصرين أمثال روتيRorty  (بشير Bashier 2004). وقام آخرون بمقارنته ببعض المفكِّرين المشرقيِّين من أمثالِ شانكارا Shankara وجوانغ زي Zhuangzi ودوغين Dôgen (شاه كاظمي Shah-Kazemi 2006، إيزوتسو Izutsu 1966، إيزوتسوIzutsu  1977). ولم تكن أوجهُ التشابهِ مع الفكر المشرقيِّ مُهْمَلَةً عند علماء ما قبل العصر الحديث؛ فقد أسَّس مُسْلِمُو الصِّين -خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر- مدرسة صينيَّة (كتاب هان the Han Kitab) وكانتْ تستمدُّ أفكارَها من تراث ابن عربي ، كما أنَّها قدَّمَتْ رؤية إسلاميَّة للعالَم من وجهة نظر الفكر الكونفوشيوسي (مُرْتا Murata 2008). وقد قام عددٌ من العلماء والمريدين بدراسة تأثيرِه الفكريِّ على القضايا المعاصرة في مجلَّة مجتمع محيي الدين ابن عربي Journal of the Muhyiddin Ibn ‘Arabi Society، والتي نُشِرَتْ عام 1983. والآن، هذه خطوط عريضة لبعض الموضوعات التي عالجها ابن عربي .

  • أعمال ابن عربي

كان ابن عربي يوقِّع أعمالَه باسمه الكامِل؛ أبي عبد الله محمد بن عليّ بن العربي الطائي، (تُشير الأسماء الثلاثة الأخيرة إلى شرفِ نَسَبِه العربيّ). وُلِد عام 1165 في مدينة مرسية لأسرة تعملُ في خِدْمة الدَّوْلة، وتلقّى تعليمًا مدرسيَّا عاديا ليس فيه ثمَّ اهتمام كبير بالعلوم الدينيَّة.

وفي سنِّ المراهقة وقع تحتَ تحوُّل كشَفيٍّ على يد يسوع؛ يسوع القرآنيّ لا شك، وقد قادَه هذا إلى فَتْحٍ روحيٍّ تُجاه المَمْلَكة الربانيّة. اصطحبه والده -حوالي عام 1180- لمقابلة صديقِه ابنِ رشد. وقد حكى ابن عربي ملخَّص هذا الحوار الذي حاول فيه أن يوضِّح للفيلسوف حُدُودَ الإداركِ العقليِّ. فَهِمَ كوربان Corbin هذا الحَدَثَ على أنَّه اختلافٌ رَمْزِيٍّ بين طريقَي الإسلام والغرب؛ فقد قامتْ الرُّشديّةُ اللاتينيَّة Latin Averroism ومفكِّرو الغرب باتِّباعِ مَسْلَك عقلانيٍّ خالَص، قادهم إلى صِراع بين اللاهوت والفلسفة، بين العلم والإيمان، بين الرمز والتاريخ (كوربانCorbin  1969، 13). وكان مثقَّفو المسلمين على الطَّرفِ النَّقِيضِ، حيث ُكانَ الميْل إلى تَجَاهُل ابن رشد، رغم أنَّ فلاسفة غيره ظَلُّوا يُقْرَؤون، وبقيتْ أعمالُهم تُحَقَّق، ويُعمَل على تطويرها، مثل ابن سينا والسُّهروردي وغيرهما. ولا يمكن لأحد أنْ يفوتَه أنَّ التحدِّيَ العقليَّ لابن عربي وكثير من فلاسفة المسلمين لم يكن إلا التوفيق بين العقل، والحدس الصوفيّ، والوحي.

دَرَسَ ابن عربي العلومَ الإسلاميَّة على يد عدد كبير جدا من أشياخ الأندلس وشمال إفريقيا. وسافر لأداء الحج في مكّة عام 1201 تارِكا المغربَ الإسلاميَّ الذي لم يَعُدْ إليه مرة أخرى. سافرَ مُدَّة طويلة إلى العراق والأناضول، واستقرّ به المقام أخيرا في دمشق عام 1223، حيثُ كان يربِّي مريديه، ويكتبُ بغزارة حتى توفِّي في نوفمبر عام 1240.

تعدّ الفتوحاتُ المكيَّةُ وفصوصُ الحِكَمِ أكثرَ أعمال ابن عربي وكتبه شُهرة. وقد أصبحتْ فصوصُ الحكم النصَّ المُعتمَد لنَقْلِ أفكارِه، ووُضِع عليها ما يزيد على مائةِ شرح وتعليق على مدارِ ستَّةِ قرون تَلَتْ. وقد كانَ صدرُ الدِّين القونوي (1210-74) أكثرَ تلامذتِه الموهوبين تأثيرا وحضورا. بدأ القونويُّ عمليَّة ترتيب وتبويب لأفكارِ أستاذِه، كما قامَ بشرح آرائِه للوَسَطِ الفلسفيِّ المعاصر آنذاك، درجةَ أنْ قام بمراسلة نصير الدين الطوسي؛ واحد من أهم مجددي الفلسفة السينويَّة (القونوي-المراسلات).