مجلة حكمة
المعاد عند ابن عربي فلسفة

المعاد عند ابن عربي: دائرة الوجود والصعود – وليام تشيتيك


المعاد عند ابن عربي

  • المعاد عند ابن عربي

يوجد -بعد التوحيد- ركنان أساسيَّان من أركان الإيمان الإسلامي؛ هما النبوَّة والمعاد، ويتَرْجِم العبض كلمةَ المعاد بشكل غير دقيق إلى eschatology علم الآخرة. ركَّز الفلاسفة والصوفيَّة كلاهما -أثناء تناولهم مَبْحَث النّبوَّة- على التَّأَلّه الإنسانيِّ، وقد قادتِ القضايا التي عالجوها علماءَ الكلام والفِقه إلى أنْ يتَّهموهم بادِّعاء أنهم يَفْضلونَ الأنبياء، وقد كان لـ ابـن عربي النصيب الأكبر من هذا الاتهام على وجه الخصوص، بل كان مَحَلَّ جَدِل طويل بسببِ كلامه المتَعَلِّق بالنّعوت التي يختصّ بها كلٌّ من النبي والوليِّ (شودكيفيتش Chodkiewicz 1993)

ولكلا المدرستين الكثير لتقوله حول مبحث المعاد الذي عولِجَ عن طريق وجهتي نظر؛ الأولى تقول بالرّجوع الاضطراريّ والأخرى بالرّجوع الاختياريِّ. يرى القائلون بالرّجوع الاضطراري أنَّ الكون يتجلَّى عن طريق قانونه الحتْميِّ الخاصِّ، وفيه يعود الإنسان إلى الله في سلسلة من المراحلِ التي تعكس مراحل التَّطوّر الكونيِّ. أما القائلون بالرّجوع الاختياريِّ، فيرونَ أنَّ حريَّة الإرادة تجعل الإنسانَ قادرا على أنْ يلعبَ دَوْرًا في تحديد مَسَار صيرورتِه الخاصَّة؛ فالإنسان يشارك -إلى حدٍّ ما- في خَلْق روحِه الذَّاتيَّة وعَوَالِم ما بعد الموت، بل يمكن له اختبار ذلك، بلغة الكارما، عن طريق سلسلة من الأسباب التي تتأَسَّس على أفهامِهم الفردية الخاصَّة وأخلاقِهم الشخصيَّة وسلوكيَّاتِهم.

ويمثِّل ابن عربي نقطة تحوّل في معالَجَة كلا النوعين من العَوْدَة، وليس أقلّها تفسيراتِه لعالَم الخيال الذي مكَّنَه من طرْح حجَج عقلانيَّة لقضايا مثل البعث الجسماني الذي لا يمكن فهمه عن طريق العقل، بل لا بد من قبولِه عن طريق الإيمانِ ليس غير، فيما يرى ابن سينا. (ابن سينا، الشفاء، 347-48 – ابن سينا، النجاة، 3:291). وقد توسَّعَتْ أطروحات ابن عربي على يد المفكِّرين فيما بعد، لا سيّما معالَجَة ملا صدرا المسْهَبَة في كتابه الرابع من رائعَتِه: الأسفار الأربعة، عندما تعرَّضَ لموضوع النَّفس وانبساطها.

المعاد عند ابن عربي

  • دائرة الوجود والمعاد

عندما عالَج المتكلمون المعادَ، حاولوا إثباتَ دِقَّة التَّصوير القرآنيِّ ليوم البَعْث، الجنة والنَّار فقط، عن طريق التوسّل بسلْطَةِ الكلام الإلهي. ولم يكن في حوزتِهم الكثير لقولِه حول الطَّبيعةِ الحقيقيةِ للنَّفس، أو قِوَام هذا العالَم، أو الحالة الأنطولوجيَّة لعوالِم ما بعد الموت. وفي مقابل هؤلاء، كان الفلاسفة والصوفيَّة؛ هؤلاء الذين مثلتْ لهم مثل هذه القضايا محورَ اهتماماتِهم جنبا إلى جنب مع السؤال التَّكميليِّ المتَعَلِّق بالمَبْدَأ.

شكَّل المَبْدأ والمعاد الموضوعَ الأساسيَّ في كلا المدرستين، إلا أنَّ الصوفيَّة سلَّطوا الضَّوء على الدور المثاليِّ لمحَمَّد، خلافا للفلاسفة. لذلك، على سبيل المثال، قاموا برسم تلك الصّورة الأَثِيرَة، اعتمادا على آية قرآنيَّة تتعلَّق برِحلة النبي الليليَّة؛ المسمَّاة برحلة الإسراء والمعراج،. عندما عرِجَ به إلى السماوات العلَا لرؤية الله؛ “فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى” (53:9) والقَوْس في العربية يعني نِصف دائرَة؛. تماما مثل الكلمة اللاتينيَّة arcus، والكلمة الإنجليزيَّة bow؛ لذا يمكن فهم القوسين في الآية على ظاهرهما. وقد سمِّيَ القَوْس الأوَّل بالقَوْسِ النّزوليّ، ويعني الطريق الذي فيه يزداد القَيْد والظّلْمَة، وبه يتمّ الابتعاد عن المَبْدَأ، أمَّا القَوس الصّعوديّ؛ فيعني التجرّدَ الخالِصَ وإشراقةَ الرّوح في طريقها إلى المَعاد.

المعاد عند ابن عربي

  • مراتب الصعود وطريق المعاد

ذكرنا من قبل أنَّ ابن عربي يصِف العالَمَ عن طريق ثمانية وعشرين حرفا تكَوِّن الكلماتِ المنطوقة في نفس الرَّحمن، وأنَّ هذه الرؤية تعَدّ طريقا واحدا من الطّرق التي يفهم بها ابن عربي العالمَ. يَتَطَابق واحد وعشرون حرفا مع مَرَاتِبِ القوس النزولي، والذي يصِل إلى أدنى مَرَاتِبِه مع العناصر الأربعة. وتدلّ الحروف المتبقية على مَرَاتِبِ القوس الصّعوديِّ،. بَدْءًا بالمعادِن مرورا بالنَّباتات والحيوانات والملائكة والجنِّ ثمَّ الإنسان أخيرا، وهو الحرف السابع والعشرون. والحرف الثامن والعشرون هو الحرف الأخير الذي يدلّ على المراتب والمراحل والمقامات؛ درجاتِ الكمال غير المرئيِّ المتَحَقَّق عَبْرَ انبساط النفس الإنسانية في طريق المعاد.

إنَّ الفرق الحقيقيَّ بين الإنسان والحيوان لا يكمن في النّطق أو العقل، بل في حقيقةِ أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ على صورة الله؛ الله كما يَدلّ عليه الاسم الجامع. وكلّ ما سوى الإنسان قد خلِق تحتَ عناية أسماء في مرتبة أدْنى من الاسم الجامع. إنَّ صورةَ آدمَ الإلهيَّةَ هي الوَجْه الكلِّيّ لله؛ حقيقة الحقائقِ التي يَنْدَرِج تحتها النِّطاق الكامل للتَّعَيّنات الممكِنَة لمطلَق الوجود.

والإنسان -كعالَم صغير- يملك القدرة على الإدراك، والتَّحقّق بحقيقةِ أنَّ كلَّ شيء حاضرٌ في كتابِ العالَم والكتاب النَّصِّيِّ. ومثلما خرج العالَم المرئيّ المادِّيّ إلى الظهور من خلال مراحل عِدَّة من التَّعّيّن، بَدءًا من حقيقة الحقائق،. نزولا إلى طريق العوالِم الخَفِيَّة، وصولا إلى المعادن، .تأتي المراحل والمراتب والمقامات إلى حيِّز الوجود عن طريق الاستمرار في التَّجَلِّي الذاتيِّ للموجود الحق، في عوالم القوس الصّعودي الخفيَّة،. ومن ثمَّ يمكن جَنْي ثمارِه من خلال العَوْدَة إلى المبدأ. تلك هي النّقْطَة التي تكتمل عندها الدَّائِرة، حيث يختفي الخطّ الإلهيّ، وحيث ينمحي الفصل المتَوَهَّم بين الحقِّ والخلق. إنَّ الأمر كما يقول ابن عربي :

“فكان قاب قوسين، وما أظهر القوسين من الدائرة إلا الخطّ المتَوَهَّم. وكفى بأنَّك قلتَ فيه المتَوَهَّم، والمتَوَهَّم ما لا وجود له في عينه…. فالعالَم في جَنْبِ الحقِّ متَوَهَّم الوجود، لا موجود؛ فالموجود والوجود ليس إلا عين الحق. وهو قوله: أو أدنى؛ فالأدنى رفع هذا المتَوَهَّم، وإذا رفِعَ من الوهم لم يبق سوى دائرة، فلم تتعين القوسان” (ابن عربي، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 4:40.9).

المعاد عند ابن عربي

ويشكل التجسّد الإنسانيّ في مرحلتِه المَرْئِيَّة مرحلةً جَوْهَرِيَّةً في ظهور حقيقة الحقائق، ولكنَّ فهمَ هذه الحقيقة يحدث داخل النَّفس على المستوى الخياليِّ والرّوحيِّ. وتعدّ الإمكانات المتَمَثَّلَة عن طريق النباتات والحيوانات مقَيَّدَةً نِسْبِيًّا؛ فالشَّكْل الخارجي يكشف أسرارَه للملاحِظ،. ولا نجد من يحتار مثلا في تمييز الملفوف من الجزر، أو الحصان من الحمار. أما الوجود الإنسانيّ، فلا نجد مثل هذا؛ لأنَّ المَظْهَر الخارجيَّ الواحِد للإنسانِ يخفي تنوّعًا داخليًّا لا حَدَّ له.

ولا يمكننا أنْ نحَاكِمَ المعالِمَ الرّوحيَّة والخياليَّة للنَفْس الإنسانِ، ووعيه وسِماتِه الذاتيَّة كذلك عن طريق المَظْهَر الجسمانيِّ؛ لأنَّ الفضيلة والرَّذيلة الإنسانيَّة يتعلَّقان بالعوالِم غير المَرْئِيَّة. وليست الثقافة والفنّ والأدب والسياسية والعلوم والتكنولوجيا وكلّ إنجازٍ إنسانيٍّ آخر إلا تجليات للرّوح. وابن عربي -رغم ذلك- لا يلقي بالا لكلِّ إمكان إنسانيٍّ؛. لأنَّ الطّرق التي تبعِد عن الإدراك الكامل والمتوازِن للصّورة الإلهيَّة متَكاثِرَةٌ جدا. يريد ابن عربي -بدلا من ذلك-  أنْ  يوَضِّحَ المعالِمَ الكلِّيَّة لكمالاتِ التَّألّه، والتي من خلالها يمكن التناغم مع الحقِّ في عوالِم ما بعد الموت. وفي هذا المستوى حتَّى، يستحيل بأيِّ حال حصر هذه الكمالاتِ، المعطاةِ في نماذج يبلغ عددها 124000 كما يخبرنا ابن عربي نفسه؛ تماشيا مع عدد الأنبياء مذْ آدم.

المعاد عند ابن عربي

  • الأمران

يشير ابن عربي -غالبا- إلى التفرّد الكونيِّ للإنسان عن طريق مفهوم الأمر،. والذي يعَدّ مفهوما قرآنيَّا له حضوره القويّ عند المتكلِّمين والفلاسفة إذا ما عالجوا قضايا مثل الجبر والحرية، أو الطَّبْع والتَّطَبّع. قلنا سابقا أنَّ الأمر التكوينيَّ هو الكلمة الخلَّاقة “كن”، وأنَّها تحيل ما هو معدوم إلى موجود. يوجِّه الله هذا الأمرَ إلى كلِّ الموجوداتِ دونَ استثناء، وما منْ شيء إلا وله طائعٌ. ولا يمِدّنا هذا الأمر بأيِّ وسيلة يمكن الفصل بها بين الحقِّ والباطل، والخير والشر، والأصلح والأسوأ؛. لأنَّ كلَّ شيء موضوع بالتَّمامِ على الوجْه الذي لا بدَّ أن يكونَ عليه. وكلَّ شيء مظْهِرٌ الحقَّ، وليسَ كلٌّ إلا وَجْها معَيَّنًا من وجوه الله، له حقّه. وعلى هذا، ليس في الوجود باطل أو خطأ أو شَرٌّ أو زَيْف.

 وعلى الرغم من حقيقةِ أنَّ الإنسان مخلوق على صورة اسم الله الجامع إلا أنَّه مواجَه بالخيارات دائما. يعجز التَّحقيق العقلانيّ عن اختيار الخير على الشَّر، و الصواب على الخطأ،. والجمال على القبح، والحقِّ على الباطل؛ لأنَّ العقل دون مَدَدٍ خارجيٍّ يستحيل عليه أنْ يتعالى على صوَرِ العالَم الزَّائلة التي تشَكِّل  مظهرَه.

المعاد عند ابن عربي

ويستحيل عليه الوصول إلى الشّروط الكاملة التي من خلالها يملك قدرةَ التعرّفِ على حقِّ الأشياء وصوابها وصدقها وحقيقتِها، وتناسبها في الوقت نفسه، وجْهًا لوَجْهٍ مع الحقِّ. وبتعبير آخر: يستحيل فهم الكتبِ الإنسانيَّةِ والكونيَّةِ بالحقِّ دونَ هدايةٍ من الحقِّ؛ صاحبِ الأمرِ التكوينيِّ. هداية الخلق بواسطة أوامر الله ونواهيه الصَّادرة عنه هي وظيفة الأنبياء على وجه التَّحديد. ويسَمَّى هذا الصّدور الإلهي باسم “الأمر التَّكليفي”؛ لأنَّه يضع المبادىءَ والإرشاداتِ التي لا بدَّ من اتِّباعها من أجل معرفةِ حقائقِ الأشياء، ومن أجل أن نسلك مسلكا سديدا.

بالأمر التكوينيِّ يأتي العالم إلى الوجود، ولكنَّ الأسماءَ الإلهيةَ تَطْلب ما يعلو على مجرَّدِ الحياة والوَعي والرَّغبة والقوَّة،. وكلِّ صفة أخرى يمكن افتراضها إذا ما تعلَّق الأمر بوجود المعادن والحيوانات والنباتات. ومن بين الإمكاناتِ الأنطولوجية -التي لها وجودٌ حقيقيٌّ في الجَوْهَرِ، وظهورٌ حقيقيٌّ في العالَم-. الرحمة والحبّ والعطف والمغفرة والعدل والإِنصاف والحِكمة وسِمَاتٌ أخلاقيَّةٌ وخلقِيَّةٌ أخرى، لا تظهر أهمِّيَّتها جَلِيَّةً إلا في النَّشاطِ الإنسانيِّ وتفاعلاتِه.

ولا يَتَأَتَّى ظهور كامل لكلِّ هذه الصفات الأنطولوجيَّة إلا عن طريق الأمر التكليفيٍّ. الذي  يرشِد الناس إلى حقِّ الحبِّ والرَّحمة والإِحسان والعَطْف، وغيرِ ذلك من السِّمات. ولا يكون التَّحَقّق بالأسماءِ الإلهيَّة بمجَرَّدِ الاستسلام لمجرى الأمور، ولكنَّه يَتَطلَّب تدخّل الإرادة الإنسانية. وعن طريق اختيار الحقِّ على الباطل، الصواب على الخطأ، الخير على الشر، يمكن للإنسانِ أن يدرك الإمكاناتِ الكاملة لتَألّهِهِ الخاصِّ.

ولأنَّ الهداية جائِزَة، يتضمَّن الأمر التَّكليفيّ جوازَ الخطأ والضَّلال. وبعبارة أخرى: تلك هي الحالة المناسبة من أجل تحقيق إمكاناتٍ عديدةٍ للوجود والصَّيْرورة التي تَتَطَلَّبها . الصِّفات الإلهيَّة مثل الشِّدَّة والغضب والفخر والانتقام؛. فالحديث هنا لا يتعلَّق بالعَفْوِ والمغفرة مثلا. على أيِّ حال، يلعب الإنسان دورًا في تحقيق الإمكاناتِ الإلهيَّةِ المطلقة عن طريق حرِّيَّتِه الخَاصَّة،. ولولا ذلك ما كانت هناك عِلَّةٌ لهذا الوجود، والجنَّة والنَّار هما أوضح مثال على هذا الأمر. والتمييز بين الأمرين الإلهيَّين يسمح لنا أنْ ندرك الفرقَ بين الحقيقة والقيمة، بين الشَّيء على ما هو عليه، وما ينبغي أن يكون عليه.

هذا وجهان لتَجَلٍّ ذاتيٍّ واحدٍ للحقِّ. يقَدِّم الحقّ عواملَ سببيَّةً للإنسان عن طريق إصدار الأوامر والنَّواهي التي تجبر الإنسانَ على أن يحمِلَ على. عاتقه مسؤوليَّةَ ما سيكون على المستويين؛ الأخلاقي والرّوحي. ولذلك قال ابن عربي أنَّ الإنسان “مجبور في اختياره”. والدرجة التي تتلاءم مع الحرف وروح الأمر التكليفي هي التي تحدِّد المراتبَ، المقاماتِ، المراحلَ التي سيصلون إليها . في القوس الصّعودي للمَعاد، وبذلك تتمايز درجاتهم ومراتبهم فيما بعد الموت في مراتبِ القوس النّزوليِّ للجحيم. وبدون الإنسان أو الشَّبيه، الجامع، حرّ الإرادة، ما وَجَدَتِ الإمكانات الأنطولوجية لغير المتناهي تَحَقّقَها، أو كما يقول ابن عربي:.

 

“ولولا نحن، ما تميَّزتْ آخرة عن دنيا” (ابن عربي ، الفتوحات المكية، طبعة 1911، 3:253.21).

المعاد عند ابن عربي: دائرة الوجود والصعود – وليام تشيتيك