مجلة حكمة
مفهوم الشخص التراث الاسلامي

مفهوم الشخص في التراث الإسلامي – محمد أركون

الإطار النظري (مفهوم الشخص في التراث الإسلامي)


بإمكاننا أن نسلم بأن كل مجموعة بشرية وكل جماعة يتعينان على هذا النحو، يكونان عن أنفسهما رؤية لما ندعوه في المفهوم الحديث شخصا. هاته الرؤية تعبر عن نفسها ضمنيا في الاعتقادات والشعائر الجماعية والأعراف، أو صراحة في القواعد الأخلاقية والحكم والأساطير والنصوص الدينية والآداب العالمة. وفيما يتعلق بالمجتمعات التي لا تعرف الكتابة، وضع بيير بورديو مفهوم الحس العملي الذي يسمح بإبراز الطابع المعيش والمعنى العملي التجريبي اللامكتوب لـ”القيم” والمعايير و”الرأسمال الرمزي” وكل ما من شأنه أن يؤسس مكانة عضو من أعضاء المجموعة، ويضبط التكافل التلقائي الذي يربط جميع الأعضاء. إن الحس العملي المحدد على هذا النحو، لا يسمح ببروز شخص بعينه أو فرد مستقل ينفلت عن المجموعة أو يخرج عن الجماعة الدينية.

من المهم التذكير بهاته المعطيات لكي نطرح القضية الشائكة لمسألة الشخص في التراث الإسلامي. إن المجال التاريخي والجيوسياسي والأنتربولوجي الذي اعتمل فيه الحدث الإسلامي مجال شاسع متنوع معقد التحليل. وهو ما يزال، حتى يومنا هذا، يشمل شعوبا كثيرة أو مجموعات لا تعرف الكتابة، ترتبط بالتراث الشفوي أكثر مما ترتبط بالتراث المكتوب، كما تنشد بأنماط السلوك والمؤسسات والتكافلات التي تميز مرحلة الحس العملي وليس بتلك التي تحدد الدولة الوطنية الحديثة. علينا إذن أن نتساءل عن المواضع التي بإمكاننا أن ندرك فيها الانبثاق التاريخي، والتجليات القانونية والسياسية والثقافية للشخص؟ ما هي المنزلة التي تمكن من تبوؤها الشخص البشري بعد 15 قرنا من التجربة السياسية والممارسات القانونية والإنجازات المذهبية داخل ما سأحدده تحت اسم التراث الإسلامي؟

لماذا الحديث عن التراث الإسلامي بصيغة التعريف بدل الكلام عن الإسلام فحسب؟ وكيف نفحص هذا التراث بحيث يشمل فحصنا جميع التجليات التاريخية والاجتماعية بعيدا عن التحديدات الكلامية التي تواجه بين تراث أصولي تعترف به كل جماعة (أهل السنة والجماعة بالنسبة لأهل السنة، وأهل العصمة والعدالة بالنسبة للشيعة الإمامية) وبين مختلف البدع التي تعتبر ضالة محرفة. الإسلام هو الاسم العام الذي يطلق على مختلف المدارس الكلامية والفقهية والتفسيرية وعلى كل الشعوب التي تبنت هذا المذهب أو ذاك، على هذا النحو فإن الإسلام يتعدد بتعدد الأوساط الاجتماعية والثقافية واللغوية التي اقتسمت ذاكرة تاريخية طويلة، وعلى هذا النحو نتحدث عن إسلام أندونيسي وإسلام هندي وإسلام تركي وأزبيكي وسينغالي وإيراني الخ. وينبغي دراسة وجود الشخص وتطوره وحمايته أو قمعه داخل كل تراث محلي على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار بهيمنة التراث الإسلامي. إن التراث الإسلامي الذي يشترك فيه جميع المسلمين، مهما كانت مرجعيتهم اللغوية والثقافية والتاريخية، يشمل ثلاثة أصول كبرى: القرآن والأحاديث النبوية (التي يضيف إليها الشيعة تعاليم الأئمة 12 أو الـ 7 حسب الشيعة الاثني عشرية أو الإسماعيلية)، ثم الشريعة التي هي المظهر القانوني لأوامر الله والتي تبلورت بفضل اجتهاد الفقهاء. لقد تحددت هذه الأصول الثلاثة نظريا حسب الترتيب الذي قدمناها به خلال فترة تشكل الفكر الإسلامي (661هـ)، بعبارة أخرى فإن النصوص والتعاليم والمذاهب التي تندرج تحت هذا التراث المكتوب تنتمي جميعها إلى فترة من التاريخ العام للفكر يطلق عليها فترة وسيطية. سنعود فيها بعد إلى القضايا التي يطرحها تحقيب التاريخ العام للحضارات كذلك الذي فرضه التقليد التاريخي الأوروبي ابتداء من القرن السادس عشر. ولنكتف الآن بالقول إن بإمكاننا أن نتحدث عن التراث الإسلامي بصيغة التعريف لأنه سعى دوما لفرض سيادته متجاهلا، بل ولاغيا في بعض الأحيان الممكنة، التراثات المحلية السابقة عليه، لأنها تنتمي إلى ما ينعته القرآن الكريم بالجاهلية أي فترة الجهل بالديانة الصحيحة التي بعثها الله لنبيه خاتم المرسلين. إن هذا التعريف الكلامي للتراث الذي يقضي على غيره ويمحوه، يجهل بطبيعة الحال مفاهيم التقاليد والأعراف كما بلورتها الاثنوغرافيا والأنتربولوجيا الثقافية منذ القرن التاسع عشر. إن التوتر التقليدي بين التراث الكتابي كما هو عند علماء الكلام والفقهاء، وبين التقاليد المحلية يغتني اليوم بإعادات النظر التي بلورها التاريخ النقدي ومجموع العلوم الاجتماعية وأدخلتها في دراسة كل أشكال التراث الديني ابتداء من اليهودية والمسيحية اللتين لم تنفكا تواجهان تحديات الحداثة. كما أن صيغة التعريف التي أعطيناها للتراث تشير كذلك إلى المقاومات التي يبديها الفكر الإسلامي الحديث إزاء ما تمليه الحداثة باسم “دين حق” يرفض الأسئلة التي تطرحها عليه حتى التوترات التربوية لماضيه عندما كان ذلك الماضي يسمح بالتعدد المذهبي.

فلا التراث “السامي” ذو المسعى الكوني في نظر معتنقيه، ولا التقاليد المحلية التي تقلصت تحت التأثير المزدوج للدين “الأصولي” والحداثة المتوحشة، لا ذاك ولا هاته استفادت مما توفره الحداثة العقلانية النقدية (التي أضعها في مقابل الحداثة المتوحشة للدول ما بعد الاستعمارية التي تدعمها بنيات تقنية لا هدف سياسي لها، وطبقات تجارية لا مرمى اقتصادي لها. وهاته وتلك سجينة مجتمعات تعيش فوضى المعنى تحت رحمة قوى العولمة التي لا تقبل الضبط). وهكذا، فإن منزلة الشخص كما يحددها القرآن الكريم والسنة والشريعة لم تأخذ مؤخرا في الانفتاح على الأسئلة والجدالات التي قامت في أوروبا المسيحية منذ انبثقت في القرن السادس عشر عقلانية إنسية النزعة متفتحة على الثقافات القديمة اليونانية والرومانية ومنشغلة بتحقيق استقلالها الفلسفي أمام السيادة الدوغمائية للعقل اللاهوتي. وقد وجد هذا التطور امتداده مع عقل الأنوار وفلسفة حقوق الإنسان، وإقامة دولة الحق الديمقراطية المرتبطة بعقد متجدد مع مجتمع مدني هو مصدر السيادة السياسية. وهكذا ظهر الفرد المواطن المحمي سواء في علاقاته مع مواطنين آخرين أو في البناء الحر لشخصه الخاص كذات بشرية. ومن المسلم به أن الحريات القانونية التي تضمنها دولة الحق لا تتعارض مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية واللغوية التي تشرط نشأة كل ذات بشرية وتحدد تطورها.

يتبنى الخطاب الإسلامي المعاصر قيم الحداثة ومواقفها عن طريق انتقاء اعتباطي لبعض الآيات القرآنية والأحاديث المنتزعة من سياقها التاريخي والثقافي خدمة لعمليات جدالية. وهذا ما يجعلني لا أسمح لنفسي بنهج هاته الطريقة لكي “أثبت” بعد آخرين، أن كل التطورات الحديثة للوضعية القانونية والسياسية والفلسفية التي عرفها الشخص في أوروبا قد وجدت واعترف بها داخل الأصول الثلاثة للتراث الإسلامي. صحيح أن الحالة الراهنة للأطر الاجتماعية للمعرفة داخل المجتمعات الإسلامية تردد صدى التمثلات الخيالية لإسلام “حق”، أكثر مما تعمل على النقد العلمي لجميع الخطابات الكلامية والإيديولوجية. ونحن نعلم المكانة والدور الذي لعبه الخطاب الذي تبنته حركات التحرر الوطنية منذ سنوات الخمسينات والذي أعيد ترديده وتضخيمه منذ الثمانينات من طرف الخطاب الأصولي. ومع ذلك فينبغي أن نسجل أن المسلمين ليسوا هم وحدهم الذي يمارسون هذا التلفيق الإيديولوجي للإبقاء على صلاحية التراث حيا أمام النموذج الذي تقدمه الحداثة التي تعنى بالشخص البشري نفسه. فنحن نلاحظ استباق كل المجموعات الدينية كي تفرض ماضيها الزمني، وفتوحاتها كوقائع حديثة مثل حرية الضمير والتسامح المرتبط بالحرية الدينية، وحرية التعبير وحرية الاشتراك في جماعات، وقدرة الشخص البشري على ممارسة استقلاله في تحقيق مصيره الروحي على وجه الخصوص. إن هذا الجدال كان منذ القديم بين الديانات التوحيدية الثلاث وبين العقل الفلسفي في صورته الإغريقية. وقد عرفه الإسلام خلال الفترة التي توافق القرون الوسطى الأوروبية في بداياتها. لكن ما يميزه عن المسيحية من جهة، وعن اليهودية بحدة أقل من جهة أخرى، هو أن العقل الفلسفي قد استبعد بعد القرن الثالث عشر الميلادي، بينما استمر في تأثيره وإنتاجه في أوروبا بفضل ارتباطه الدائم بالعقل العلمي والعقل السياسي لدولة الحق.

وقد أدى ذلك الارتباط إلى بعض المبالغات. وقد أخذ التاريخ المقارن للديانات والإيديولوجيات الحديثة يبين أن صفات في الاتجاه المعاكس قد وجدت فيما يتعلق بوضعية الشخص البشري: إن أفكار التآخي والمساواة والتفتح المعنوي والروحي للإنسان من حيث هو إرادة حرة، وبالتالي مسؤولة أخلاقيا فيما وراء الارتباطات الآلية والموالاة غير المشروعة، هي أفكار حاضرة في تعاليم ما ادعوه الخطاب النبوي الذي يضم التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي معا. هذه الجوانب من تاريخ الشخص مدروسة نسبيا في اليهودية و المسيحية أكثر مما هي مدروسة في الإسلام الذي تطبق عليه بشكل متأخر الأسئلة والانفتاحات المتجددة التي تطرحها العلوم الاجتماعية. من الضروري إذن سد هاته الثغرة وتدارك التفاوت المفاهيمي ورفع سوء التفاهم الذي يتغذى على ثقافتين إيديولوجيتين تتبادلان الرؤية بين كيانين خياليين يدعيان “الإسلام” و”الغرب”.

لنحاول أن نحدد الطريق الذي من شأنه أن يقود اليوم إلى إعادة النظر الشاملة في قضية الشخص من منظور نزعة إنسانية تتجاوز التقاليد الفكرية السابقة على المشروع المعرفي الجديد الذي من شأنه أن يواكب العولمة، دون أن تلغيها أو تنقص من قيمتها. من اللازم بطبيعة الحال، استعراض مختلف السياقات الإسلامية المعاصرة كي نعين إلى أي حد هي تخدم أو تعيق تفتح شخصية مستقلة حرة في اختياراتها والتزاماتها مع مجتمعها مواكبة لتطورات العالم المعاصر. وهذا يعني أن سبل اندماج الشخص في المجتمع، والعلاقات المتبادلة بين الشخص والجماعة (الأسرة العشيرة، القرية، الحي، الأمة)، والمنزلة المنوطة بالشخص داخل التراث الإسلامي، إن كل هذا قد خضع لهزة لا مرد لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية نضالات التحرر الوطني. هناك إذن ما هو سابق وما هو لاحق فيما يتعلق بتاريخ الشخص في السياقات الإسلامية، وذلك على المستوى المؤسسي والدلالي والسوسيولوجي والأنتربولوجي.

دراسة السابق تضعنا في منظور المدى الطويل الذي يبتدئ بظهور الحدث القرآني ويمتد حتى سنة 1940 تقريبا مع ما اتخذته من تنوعات ملموسة لكنه ظل يعرف استمرارا بنيويا ومعرفيا عميقا. أما اللاحق فإنه يرغمنا على العمل داخل المدى القصير حيث تعاقبت ثورات مفاجئة وانفصامات عنيفة وتفككات سريعة على مستوى كل القواعد العرفية والقانونية والدلالية والسيميولوجية والأنتروبولوجية التقليدية، وذلك دون سابق إنذار ودون تهيؤ ولا انتقال، في مدة وجيزة تتواجه فيها أنواع متباينة من الأزمنة. لن نتمثل الإسلام إذن تمثلا سكونيا لا يعرف التبدل كما تفعل كل التصورات الأصولية وكما لازالت بعض المقاربات الإسلامولوجية تنقله إلى اللغات الأوروبية مدعية وفاءها للروح العلمية.

إننا ننطلق من القرآن لا بحثا عما يوافق تصوراتنا الحديثة عن الشخص، وإنما تمييزا للمنزلة المعرفية للخطاب النبوي عن الاعتبارات المعيارية التي أدخلت لاحقا من طرف المذاهب الكلامية والفقهية والتطور الفكري والثقافي في الأوساط الحضرية. إن ظهور واتباع دولة أطلقت على نفسها دولة إسلامية (الخلافة الأموية، ثم العباسية). ساهما في تكوين ما أطلق عليه الحدث الإسلامي تمييزا له عن الحدث القرآني. هاته المصطلحات ترمي إلى أن تضع التصورات الموروثة من الفكر الإسلامي الكلاسيكي والمدرسي، والتي نقلتها الأبحاث الإسلامولوجية دون تفكيك انتقادي، في أزمة وتطرحها موضع سؤال. بما أننا نهدف إلى دراسة المشكل المركزي لمنزلة الشخص في الأوساط الإسلامية، فإن المهمة الأولى الملقاة على عاتقنا هي أن نعيد النظر، أو أن نطرح للمرة الأولى موضع تفكير، كل المسائل المتعلقة بالشخص والتي أهمل التفكير فيها أو اعتبرت من قبيل اللامفكر فيه. ومن المفارقة أن مجال غير المفكر فيه اتسع أكثر في مجال ما أطلقت عليه منذ قليل اللاحق، هذا في وقت تزايدت فيه تحديات الحداثة بل والعولمة، وهذا راجع إلى انتشار العنف المذهبي كنهج لإنتاج التاريخ في السياق الإسلامي.

الحدث القرآني (مفهوم الشخص):

يحمل لفظ القرآن شحنة كلامية كثيفة لا تجعله كفيلا بأن يكون مفهوما إجرائيا يستخدم من أجل مشروع نقدي وإعادة تحديد للتراث الإسلامي في مجموعه. عندما أتحدث عن الحدث القرآني على غرار الحديث عن الحدث البيولوجي أو الحدث التاريخي، فإنني أرمي من ذلك إلى استبعاد كل البناءات المذهبية، وكل التحديات الكلامية والفقهية والأدبية والخطابية والتفسيرية… التي تؤخذ عادة على أنها غير قابلة للنقاش منذ انتقالها من متن قرآني مفتوح إلى متن رسمي مغلق. وهو انتقال يصعب تحديد تاريخه بدقة، وليس بإمكاننا إلا الإشارة إلى بعض المراجع الكرونولوجية كتاريخ الطبري وتفسيره ورسالة الشافعي وصحيح البخاري ومسلم والكليني وابن بابويه وأبي جعفر الطوسي. كل هؤلاء المؤلفين قد خلفوا لنا مؤلفات تعد معلمات في التطور التاريخي البطيء لبناء الأصول الإسلامية التي عرفت جدالا كلاميا وتناحرا سياسيا. وسرعان ما أصبحت الصحاح بدورها متونا رسمية منغلقة على ذاتها تحتل المرتبة الثانية ضمن الأصول التي حددها الشافعي لبناء شريعة يوقن بتفاسيرها. ومن حيث إن هاته المؤلفات السنية والإمامية إبداعات جماعية، فإنها تعكس التطورات اللغوية والثقافية والسيكو-اجتماعية لوضع إيتوس إسلامي بالمعنى الأنتربولوجي لكلمة ethos كما حدده C.Geertz الذي ذكرناه في المقدمة. كما أنها تشهد على تبادل التفاعل بين تعاليم القرآن والمعطيات الأتنية الثقافية الخاصة بمختلف الأوساط التي دخلها الحدث القرآني. لم يحدث الإيتوس الإسلامي وهو في طريقه إلى التكوين التأثير نفسه على مختلف الجماعات التي تنتمي إلى مجموعة شاسعة الأطراف تمتد من إيران القديم إلى المناطق الآهلة بالبربر إلى الجزيرة العربية والمجال التركي الشاسع الخ. وحتى بعد أن تحددت المتون الرسمية وتوقف انفتاحها وأخذت تذيع كتابة ومشافهة فإن انتشار الإيتوس الإسلامي لم يعمم على الجماعات كلها امتدادا وعمقا، كما أنه لم يتحدد دوما وفقا للتعريف الأصولي النموذجي الذي حافظ عليه التراث المكتوب.

إن التحديد الأصولي النموذجي للشخص في “الإسلام” لا يأخذ بعين الاعتبار المقاربة التاريخية والاجتماعية ولا الإشكالية الأنتروبولوجية التي أشرت إليها منذ حين. والحال أن القرآن الكريم الذي تقرؤه أجيال المؤمنين كمتن رسمي مقدس لا يعمل لغويا وثقافيا وسيميولوجيا كما كان في مرحلة الوحي ولا كما غدا في المرحلة الثانية مصحفا مكتوبا مغلقا. تلك مراحل في تكوين الإيتوس الإسلامي. إذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه القواعد المنهجية، فإن كل محاولة لتحديد مفهوم الشخص في القرآن لا يمكن أن تؤدي إلا إلى بناء اشتقاقي لغوي لا يتبع لا قواعد القراءة البنيوية، ولا قواعد القراءة التطورية. والحال أن هذا ما قامت وما زالت تقوم به القراءة المؤمنة التي لا تخضع إلا إلى التمثلات التي يفرضها الإيمان. الأصولي، أي إلى ما يستلزمه حشر الذات في إطار هوية تحددها محتويات ذلك الإيمان ولكن إذا كانت القراءة المؤمنة تأخذ على هذا النحو أسبقيتها السوسيولوجية والسيكولوجية، فإنه لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا كلفتها الفكرية والاجتماعية التاريخية من حيث إنها تبقى على عوامل استلاب الشخص وعلى شروط انفتاح ثقافة سكولائية وثوقية من شأنها أن تبقي على الجهل وتحفظه في جهاز مؤسس. هذا ما حصل في كثير من الأوساط الإسلامية ابتداء من القرن الخامس والسادس عشر. أؤكد بهذا الصدد على القلب الذي عرفته ظروف انفتاح الشخص في الأوساط الإسلامية. فالصورة الإنسية للأديب المنفتح على مختلف التيارات الفكرية بين القرنين التاسع والحادي عشر اختفت باختفاء الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي جعلتها ممكنة(1)؛ مثلما أن صورة المتصوف، في نفس الفترة التاريخية قد كانت تجمع ما بين تجربة شخصية غنية وبين تمكن من اللغة الشعرية والثقافية لصهرها في مؤلفات عظمى (أذكر على سبيل المثال المحاسبي 243هـ الذي يدل اسمه على العودة النقدية ومحاسبة النفس) لكنها سرعان ما تحولت ابتداء من القرن الثالث عشر إلى مجموعة من الدعاة الذين سينتشرون في المعمور لدعوة مجموعات تعتمد الحديث الشفوي فيلتف حولها إخوان سيشكلون فيما بعد زوايا يزداد تأثيرها أو يقل.سنرى فيما بعد ما إذا كان بإمكاننا الحديث عن تدهور أو عن أزمة تحول فيما يخص مكانة الشخص في مرحلة النضال التحرري والمعارضات الإسلامية للاستيلاء على السلطة.

لنتعرض الآن إلى التقديم السريع للطرق والأدوات الذهنية التي أدخلها الخطاب القرآني لتكوين انسان جديد يعارض أشد المعارضة الإنسان القديم، إنسان الجاهلية، المفهوم الجدالي الذي يذكرنا، في الشكل الذي يقدمه به القرآن جاهلية / علم-إسلام، بالمفهوم الأنتربولوجي للفكر المتوحش الذي يقابل الفكر المدجن. يستعمل القرآن ألفاظ النفس والروح والإنس والإنسان، كما يستعمل قاموسا غنيا يدل على الدور العقلي والفعالية الاستدلالية(2) كي يبني مفهوم الإنسان حسب منظوره. وسنتبين أن الجانب الروحي للإنسان وتحديده الأخلاقي السياسي في مستوى القرآن يشمل مضامين متجانسة، إن لم تكن متطابقة مع تلك التي نجدها في نص الإنجيل والتوراة. لذلك أدخلت مفهوم الخطاب النبوي الذي يستعمل في مرحلته الشفوية الأصلية الآليات اللغوية ذاتها. وهاته نماذج من الآيات التي غالبا ما يوردها المدافعون عن القراءة الكلامية لأنها تسمح باعتناق قيم حديثة توضع تحت سلطة كلام الله:

“وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (29. 2)

ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض (249. 2).

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(2.135)

فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم. إن الله غفور رحيم(9.5).

بإمكاننا أن نعدد الأمثلة على هاته الآيات التي يتم فيها الحوار بين الله والإنسان، وبين الإنسان والله على جميع مستويات الخطاب وحول جميع موضوعات المعرفة والعمل. فالأوامر العشر لا تفتأ تتكرر بلا هوادة كي تنقذ الأنا من الظلمات والعنف والجاهلية وضغوط الجماعة بمن فيها الأبوان اللذان يرفضان الدخول في الميثاق الجديد “ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة (17.39). إن هاته الآيات التي اقتبسنا بعضا منها على سبيل التمثيل لا يمكنها أن تدل على معانيها ما لم توضع ضمن الملابسات التي أوحيت فيها لأول مرة في مكة والمدينة. هاته القواعد التي تلزم المؤرخ لا يأخذها المؤمنون بطبيعة الحال بعين الاعتبار لأنهم لا يأبهون إلا بالقواعد التي تحدد سلوكهم مباشرة. فحسب ما تمليه الظروف وما تفرضه الجدالات ومستلزمات الحجاج يوردون بنفس درجة الاقتناع الآية(9.5) للدفاع عن الجهاد، كما يوردون الآيات الأخرى الأكثر مهادنة والمتجهة إلى تفتح الأبعاد الدنيوية للشخص. لقد كان للقرآن المعيش دوما السبق على القرآن المفسر والمعروف؛ إلا أن هذا الأخير ينبغي أن يحتفظ بالسبق كي نحد من مزالق الخيال الاجتماعي والديني، ونوقف من مد التوظيفات الإيديولوجية، هذا الصراع بين السبق والأفضلية يوجد في قلب تاريخ جميع النصوص المؤسسة، كما يوجد بالتالي في قلب تاريخ المعنى ومفعولاته التي تشرط على الدوام أفعال الشخص. ولكن، إذا استثنينا قراءة الفقهاء لكي يستخرجوا القواعد التي أصبحت تكون الشريعة الملزمة للجميع، فإن المفسرين لم يؤثروا كبير التأثير على الاعتقاد الشائع والإدراكات الفردية لمعاني القرآن الكريم، تلك الإدراكات التي ترتبط بالتشيعات والمطامح والضغوط التي يفرضها التعبير عن التمتع عبر المجموعة أكثر مما ترتبط بتفسيرات الفقهاء. إن الآيات المحفوظة عن ظهر قلب هي في متناول الجميع وهي تذكر تلقائيا دون اعتبار للسياق الأصلي إما لأداء الصلاة أو طلب المغفرة أو تأمل المطابقة العميقة بين وضعية معيشة وبين التعبير عنها كما يرد في كتاب الله جميلا كثيفا حقا. أما الشخص، بما هو ذات بشرية في مواجهة الوجود وتحولاته، فإنه يتشكل وينفتح على المستقبل أو هو يغرق في الاستلابات وذلك حسب مدى قربه من الخطاب القرآني في مجموعه (ملايين من المسلمين لا يعرفون اللغة العربية، وحتى الناطقون بالعربية منهم فإن أغلبهم لا يستطيع فهم اللغة العربية القديمة) وحسب التوظيف الذي يوظف به النصوص عندما يربطها بتقلبات الحياة اليومية.

نسجل هنا أهمية المفهوم الذي اقترحناه أعلاه وهو فهم الخطاب النبوي الذي يسمح بتطبيق هاته التحليلات على جميع الأشخاص الذين نشأوا في إطار الهوية التي يقيمها التقليد الطويل لتعاليم الأنبياء ابتداء من إبراهيم حتى محمد، ذلك التقليد الذي يعبر عن نفسه لغويا في الخطاب نفسه ذي البنية الميتية التي توظف الرموز الدينية ذاتها والانتظام الاستعاري نفسه لكي يجعل إنسان الميثاق يقف أمام الله الحي المتكلم الفاعل في التاريخ الدنيوي بغية إغناء علاقة الإنسان بالله وعلاقة الله بالإنسان. بفضل ما يتمتع به الخطاب النبوي من غنى، فإن الإنسان يرقى إلى مستوى الشخص بوقوفه أمام الله في الصلاة عند طلب المغفرة وتأمل آيات الخلق وتلك العناية التي تخص الإنسان من بين المخلوقات ليتلقى الأمانة باعتباره خلفا لله في الأرض. كل هذا يخلق وعيا بالذات في علاقة مع المطلق كمعيار أسمى وكمرجعية لكل التحولات التي يعرفها الشخص المخلوق. إن التحول الذي ستحمله الحداثة لهذا النمط من الوعي بالذات وتحقيقه، سيتمثل في الانتقال من الشخص الذي خلقه الله، والذي يرتبط به ارتباط عشق وتعلق بأوامره، إلى الشخص الفرد المواطن المرتبط بالدولة عن طريق تعاقد اجتماعي وقانوني.

 

من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي وإلى “الهوية الحديثة”:

ليس هناك تعاقب زماني بين هاته “الأحداث” التاريخية والثقافية الثلاثة، خصوصا إذا اعتبرنا أن الحداثة ليست قضية تحقيب لتاريخ الأفكار بقدر ما هي قضية موقف للعقل من السؤال: كيف تعرف الواقع معرفة مطابقة، وإن نحن بلغتنا هاته المعرفة، كيف نبلغها دون المساس بالوعي بالذات لأي متلق من المتلقين؟ لا يمكنني أن أتوقف هنا عند التحليلات والتدقيقات التاريخية التي يقتضيها هذا التحديد للحداثة، وأنا أحيل هنا إلى ما سبق أن قلته مطولا في كتابي نقد العقل الإسلامي. أن الحدث القرآني، والحدث الإسلامي، وبروز موقف حديث للعقل، كل هاته الأمور تتواجد في جميع مراحل تاريخ الفكر مؤثرة بعضها في بعض، بل ومتواجهة وفي علاقات توتر تحول مفعوله حسب الظروف والعصور. لتوضيح هاته العلاقات المتشعبة والمتطورة ربما وجبت كتابة تاريخ مقارنة لهذه المركبات الثلاثة التي تحدد الدلالات وأساليب العمل وتقرير مصير الشخص في السياق الإسلامي والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والحديث. وما زلنا بعيدين عن كتابة مثل هذا التاريخ ما دام المسار الفكري الأوروبي هو الذي يفرض تحقيبة لتاريخه ومقولاته وموضوعاته، وتقطيعه للواقع باستبداله بنماذج معرفية لا بديل عنها.

وفي إطار “الإسلام”، إن الجدل القائم بين الحدث القرآني والحدث الإسلامي ما زال لم يحدد بعد؛ وهو يفترض إعادة تحديد الحدث القرآني بعيدا عن التطورات الكلامية والفقهية والصوفية والأدبية والتأريخية التي تعود أساسا للحدث الإسلامي الذي لا يمكن فصله هو بدوره عن عمليات تملك القرآن الذي يقرأ كمصحف رسمي مغلق إرضاء للدولة الإسلامية وللأمة المؤولة التي تربط مصيرها الدنيوي وخلاصها الأبدي بما تدعوه كلام الله أو الوحي أو القرآن.

في مرحلة الحدث القرآني يخاطب الله الإنسان بلغة عربية. كشخص يتمتع بصفات لا يستطيع الإنسان أن يرقى إليها إلا عن طريق ما دعاه المتصوفة والفلاسفة “تألها”، وأعني العمل المتواصل بهدف التقرب من الكمال الذي يجسده الله والذي يظل هدى يهتدي الإنسان به عشقا لله وهذا هو المبتغى الأخلاقي والروحي والفكري للشخص البشري. لقد كان الخطاب النبوي المعين الذي لا ينضب الذي نهل منه القديسون وأولياء الله وعبيده واستقوا الاستعارات الحية والرموز الخصبة والأساطير المنظمة لتجربتهم الإلهية. وقد استمر هذا الخطاب فاقتحم المجتمعات والحضارات وقاوم التشجيعات السياسية التي لا تقوم على “الدين الحق” واستند أساسا على السعي المتواصل للتقرب من الآخر المطلق.

يستفيد الحدث الإسلامي من هذا البعد الذي يميز الحدث القرآني كفضاء تتخذ فيه جميع التشكلات المذهبية وجميع القواعد الفقهية والأخلاقية والثقافية طابعا قدسيا وروحيا وميتيا وإيديولوجيا. لا ينفصل الحدث الإسلامي، شأنه شأن الحدث المسيحي واليهودي والبوذي… عن ممارسة الحكم السياسي، بمعنى أن الدولة، بما اتخذته من أشكال تاريخية، تسعى إلى أن توجه لصالحها البعد الروحي المرتبط بالحدث القرآني، هذا بينما تظل أنماط حضور هذا الأخير في الحدث الإسلامي تقاوم كل ذوبان وانصهار كليين. في خضم هذا التوتر المستمر، وفي أشد لحظاته قوة، تندرج احتجاجات ومقاومات أكثر الشخصيات وعيا بعناصر المواجهة التي تزداد حدة مع ظهور مستلزمات “الهوية الحديثة” كما يحددها شارل تايلور Charles Taylor (Sources of the Self. The making of Modern IdentityH. V.P. 1996).

ينبغي ربط التكون التاريخي لما ندعوه الشرع الإسلامي، خصوصا في جانبه الفقهي، بالحدث الإسلامي، أما الدور الذي يقوم به الحدث القرآني فيقتصر على أن يضفي على نصوص القواعد التي أصبحت شريعة طابعا قدسيا. ونحن نعلم اليوم أن تشكل المذاهب الفقهية قد استمر حتى القرن الرابع الهجري، وابتداء من القرن الثالث فرض إضفاء القدسية نفسه كضرورة دينية للحد من تشرب الأعراف والتقاليد المحلية. وإن كل المحاولات التي سعى عن طريقها الخطاب النبوي إلى نهج سبل تحرر قانوني للشخص لم تجد إلا تطبيقات جزئية عبر الأزمنة والأمكنة ما دامت تحالفات القرابة مازالت اليوم تثقل بكاهلها على محاولات بناء حديث للروابط الاجتماعية وظهور المجتمع المدني ودولة القانون والشخص -الفرد- المواطن كعوامل فعالة في السير التاريخي نحو الحداثة الفكرية والروحية والسياسية. سقت مثالا عن الكيفية التي يوظف بها الفقهاء أنفسهم الخطاب القرآني لحصار ما يرون أن من شأنه أن يهز أسس النظام العرفي الذي كان يضمن آليات التضامن الأسري والتآزر العشائري في الفضاءات العرفية والثقافية التي يمتد فيها حكم الدولة الإسلامية الناشئة(3). بعد أن فرض ما دعوته المتن الرسمي المنغلق نفسه كرس التراث الإسلامي الأمر الواقع الذي فرضته التفاسير والمصادر التي اعتبرت أصولا. لهذا لا يمكننا اليوم أن نرجع القهقرى ولا أن نحرر الشخص من الأوضاع التي حددت في ما دعي قانون الأحوال الشخصية. وبالفعل، فإن هذا الأمر الواقع أمر لا رجعة فيه، وما زالت الشريعة بالنسبة لأعضاء الأمة ينظر إليها على أنها أحكام تفرعت عن الآيات القرآنية.

على ضوء هاته التفسيرات يمكننا أن نفهم على نحو جيد ضرورة استرجاع ما أجرؤ على تسميته المسؤولية الروحية كمقاومة من طرف الفكر البشري لعمليات العقل نفسه الذي يصارع اللامفكر فيه وما لم يفكر فيه بعد لكل وسط سوسيوثقافي وكل فترة تاريخية. لست أجهل أن مفهوم الروحي يتعذر إخضاعه للفكر العلمي الذي يرمي إلى التفسير الوضعي للوجود البشري. ولكن إيمانا مني بضرورة إعادة النظر التاريخية والاجتماعية والأنتربولوجية والفلسفية للبعد الروحي للشخصية الإنسانية فإنني اقترح مفهوم المسؤولية الروحية كمجال مفضل للبحث، بهدف استعادة هم فكري لم يعد يستثير لا الفكر الإسلامي ولا الفكر الحديث، وأعني الشخص كبعد أخلاقي. وأنا أحدد هذا المفهوم على النحو التالي: يعني تحمل المسؤولية الروحية هو أن يمكن الفكر البشري نفسه من كل الوسائل، وأن يتمكن من مقاومة كل ما من شأنه أن يجعله ضحية استلاب واستعباد أو أن يعطل إحدى قدراته قصد العمل ضد ما يجعل منه مركز كرامة الشخص الإنساني والمدافع عنها والعلامة عليها.

إن تطبيق هذا التعريف على مفهوم الشخص كما كرسه الفقه سيمكننا من الوقوف على حدود وضع نجده ذائعا في الفضاء الذهني الوسطوي حتى بزوع الحداثة القانونية التي ظهرت بفضل تقدم الفكر العلمي والدراسات الفلسفية حول الذات البشرية. في الشرع الإسلامي تقتصر مرتبة الشخص على المسلم السني الذكر الحر المكلف وفي متناول الطفل أو العبد أو غير المسلمين أن يرقوا مبدئيا إلى هذه المرتبة (عندما يبلغ الطفل سن التكليف وعندما يحرر العبد ويسلم غير المسلم)، أما المرأة، فحتى وإن كانت توعد بكرامة معنوية تعادل تلك التي يتمتع بها الرجل، إلا أنها ما زالت تحت القيود التي كانت تثقل كاهلها منذ الجاهلية. يشهد الواقع التاريخي على أن جميع الديانات حافظت على اللامفكر فيه وما لم يفكر فيه بعد فيما يتعلق بالمنزلة المعنوية والقانونية للشخص الإنساني، بل إنها كرست أوضاعا ما زالت حتى اليوم تغذي أشكالا من القهر والاستبعاد والتهميش والعنف والإدعاءات وهذا باسم دين ربطه ما يدعى بـ التراث الحي بآليات ميكانيكية واستراتيجيات السلطة وكل إكراهات الإنتاج الخيالي للمجتمعات. إذا كانت الحداثة قد ألغت الاستعباد وفتحت فضاء المواطنة الذي لا محل فيه للتمايزات المرتبطة بالعقيدة، فإنها لم تكمل بعد المجهود البطيء لتحرير الوضعية النسائية وحماية حقوق الطفل.

فضلا عن ذلك فإن علماء الكلام الذين يدافعون عن الدين الحق (وهو مفهوم قرآني، إلا أننا نلفيه في الكتاب المقدس كما نجده في اللاهوت اليهودي والمسيحي وفي علم الكلام الإسلامي بل إننا نجده عند هيجل الذي حاول أن يعطيه مكانة فلسفية)، ما زالوا ينشرون تعاليمهم ويثقلون بوزنهم على الحدود التي تفصل المفكر فيه عن اللامفكر فيه فيما يتعلق بمنزلة الشخص. أما الفكر الفلسفي والعلمي فهو لا يسعى إلى أن يدخل في حقله النقدي المواقف المتشنجة للفكر الكلامي لمعرفة قيمتها وتحديد وظائفها الحالية، بقدر ما يرمي إلى فرض اختياراته وتبريرها. فحتى في أعرق المجتمعات قدما، ما زال التنافس مفتوحا بين نزعة إنسانية متمركزة حول الإله الذي يتوقف مصير الإنسان عليه في الحياة والدنيا والآخرة، وبين نزعة إنسانية تتمركز حول الإنسان. وفي إمكاننا أن نسجل أن النزعة الأولى تأخذ من الثانية أكثر مما تأخذ هاته من الأخرى؟ إلا أننا ينبغي أن نضيف أن الثانية تزداد بعدا عن المفهوم الكلاسيكي للنزعة الإنسانية بمقدار ما يسود مفهوم “العقل التليتيقنو علمي” (ج.دريدا) الذي يوجد وراء مسلسل العولمة، ويفرض نفسه على مختلف المراحل اللاهوتية والفلسفية للعقل. وهكذا تجد وضعية الشخص نفسها محل تنازع مرجعيات متعددة قديمة وتقليدية أو حديثة دون أن تسعفها العلوم الاجتماعية والأبحاث الجارية بالتوضيحات الضرورية.

وفي السياق الإسلامي المعاصر، فإن حل الأزمة التي تعرفها وضعية الشخص يطرح صعوبات أكثر حدة. إن قواعد التآخي والتضامن والتكافل واحترام حياة الأشخاص وممتلكاتهم، التي يوصى بها القرآن ويؤكدها التراث “تطبق” بكيفية مأساوية في السياق المعمم للعنف على الصعيد الوطني أو الدولي. أفضل الامتناع عن التعليق فيما يخص ظاهرة تطعن في جميع أشكال المشروعية قديمها وحديثها: يتعلق الأمر بالعنف والرعب الذي يقدم اليوم على أنه السبيل الوحيد الذي تجده جماعة معينة لاسترجاع “هويتها” التي قضت عليها جماعات أخرى أو سلطات مهيمنة. إن مختلف أشكال المحن التي فرضت زمان الوثوقية اللاهوتية تستعاد اليوم عن طريق ظاهرة العنف، وتعطى لها التبريرات ذاتها. في الحالتين كلتيهما نلاحظ أن التعارض بين التأويلات يقوم على التناقض نفسه: يقضى على أشخاص في أرواحهم البريئة دفاعا عن حقوق يدعيها أشخاص آخرون. لا أهمية كبرى هنا للحركات السياسية والتيارات الإيديولوجية والعشائر والانقسامات والشعارات والأسباب التي تؤدي إلى إلغاء جذري للشخص البشري؛ أمام ظاهرة في مثل هذا الثبات عبر التاريخ فإن اتخاذ أي موقف سياسي لا يقوم على التزام ديني وفلسفي وإيمان بضرورة الدفاع عن الشخص الإنساني من حيث إنه يجسد مصير الوضعية البشرية ذاتها، من شأنه أن يجعلنا نتقبل مبدأ الحرب كسبيل وحيد لإقامة المشروعية التي تضمن تحرر الشخص!

هاته المسارات وهاته الأطر التي يتم فيها إرساء دعائم الشخص البشري ما زالت تفرض نفسها في الأوساط الإسلامية من حيث إن احتضان الدولة للحدث القرآني تأكد منذ العشرين سنة الماضية تحت أسماء الإسلام والشريعة الإسلامية حسب تعبير المناضلين، وتحت أسماء الأصولية والنزعة الإسلامية والإسلام السياسي حسب تعبير المحللين السياسيين. هاهنا لا مجال للتمييز الذي وضعته بين الحدث القرآني والحدث الإسلامي، بل إن مصطلحات الإسلام والشريعة الإسلامية تتضمنان معيارية لاهوتية توظف لتوجيه الشعب وتأطير السلوكات الجماعية، وتأسيس الالتزامات السياسية والممارسات النضالية التي يراعى في تطبيقها الحرص نفسه الذي يراعى عند تطبيق الشعائر الدينية. وهكذا نكون أمام منظومة متكاملة فعالة من الناحية الاجتماعية والنفسية، لتكوين فاعل بشري يعتبر نفسه مسلما على النحو الصحيح، وحاملا لنداء الخلاص بالنسبة للبشرية جمعاء، ومسؤولا عن الفعل التاريخي الضروري للوقوف ضد قوى الشيطان التحديثية.

هاته هي الدعائم التي يستند إليها ما أطلقت عليه المعيارية اللاهوتية ذات التوظيف الشعبوي، هاته التسمية لا يمليها العقل الكلامي، ولا العقل الفلسفي أو العلمي الذي يدعي أنه المعيار المطلق، فلا يتعلق الأمر إلا بمحاولة وضع نمذجة للفاعلين الاجتماعيين والخطابات التي ينتجونها وسياسات الحقيقة التي يسعون إلى تكريسها وبلورتها في مؤسسات سياسية وقانونية واقتصادية.

سبق أن أشرت إلى أن الثقافة الشعبوية والمعيارية اللاهوتية التي تنطوي عليها قد تقدم لها أن عرفت نجاحا سياسيا يجعل ما ندعوه الثقافة العالمة ومواقف العقل الفلسفي والعلمي عرضة للسخرية. هذا القلب لـ”القيم” الروحية والأخلاقية والفكرية من جهة، والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية من جهة أخرى، هو معطى من معطيات التاريخ الفكري، وبالتالي من شروط تكوين الفاعل منذ أن فرضت “المدنية والحضارة المادية” بالمعنى الذي يعطيه المؤرخ بروديل لهذه العبارة، سيادتها على العالم.

من الضروري تحديد المضامين الدقيقة والمكانة المعرفية للمعيارية اللاهوتي ذات التوظيف الشعبوي، حينئذ سيتضح الامتداد السوسيولوجي لمفهوم الثقافة الشعبوية كما أحاول أن أستعمله هنا.

أنطلق من برنامج غني بثته قناة التليفزيون القطرية “الجزيرة” تحت عنوان الشريعة والحياة, كان المدعو لحلقة 28/12/97 هو الأستاذ عدنان زرزور، صاحب عدة مؤلفات حول الفكر الإسلامي. وقد أعطى تعريفا مركزا لا يحيد عن المعنى المقبول عند المسلمين المعاصرين عن المكانة الكلامية للقرآن الكريم وعن طريق تفسير آياته بهدف تأصيل أفكار المؤمنين وسلوكاتهم في كلام الله، ولكن أيضا بهدف ضمان الصلاحية المعرفية لجميع الآيات أمام جميع أشكال المعرفة العالية والمستقبلة إلى يوم القيامة. إن القرآن، باعتباره آخر تجل للوحي، قد قسم الزمان التاريخي إلى ما قبل وما بعد، فبعد سنة 632م أصبحت الوضعية الكلامية القانونية لجميع الأفعال البشرية تتحدد وفق حدود يعينها الله في الآيات التشريعية؛ أما الآيات الأخرى وهي أكثر عددا، والتي تتحدث عن خلق العالم وباقي المخلوقات هي آيات تعرض على التأمل الروحي للمؤمنين كي يتشربوا في وعيهم الفردي طبيعة الألوهية ودلالات أعمالها والمعاني الخالدة لأحكامها. من خلال هذا المنظور اللاهوتي يدل لفظ التراث، الذي يستعمل للدلالة على الموروث الثقافي الكلاسيكي الذي خلفه ما يدعوه المؤرخون حضارة الإسلام الكلاسيكية، يدل على ما يطلق عليه اللاهوت المسيحي التراث الحي، أي مجموع النصوص المقدسة -من قرآن وحديث- التي يصادق عليها الفقهاء القدماء وكذا جميع التفاسير التي اعتبرت صحيحة كل هذا يشكل المرجعية التي تستند إليها إنتاجات الفعالية البشرية في هاته الحياة الدنيا قصد تحدد مكانتها الكلامية والقانونية حسب الدرجات الخمس المعروفة للشريعة (الواجب، المحرم، المندوب والمباح والمكروه) هذا الخضوع للتاريخ البشري في هاته الحياة الدنيا لحكم الإله، رغم أنه ينطبق على أناس ارتقوا إلى مرتبة الأئمة (الشيعة)، أو إلى علماء (وصفوا بأنهم (أئمة المجتهدين من طرف أهل السنة)، فإنه سيفرض نفسه دون انقطاع إلى يوم القيامة.

تنطوي هاته الصيغة على تناسق داخلي لا شك فيه يرضى نوعا من العقل الذي لا ينفصل عما يدعوه الأنتربولوجيون المتخيل الاجتماعي. إن العقل الذي استند إليه خلال المسار اللاهوتي لا شأن كبير له بكل أشكال الاستدلال الذي تستند إليه علوم الإنسان والمجتمع؛ وهو يهتم على العكس من ذلك، بكل العمليات الاستدلالية التي يقتضيها جميع النصوص الرسمية والبحث في صحتها بهدف حصرها وإقفال باب الاجتهاد بصددها. وبمجرد أن يتم ذلك ويتحقق الانغلاق العقائدي، فإن هذا العقل ذاته يستعمل، صونا لهذا “الإيمان” ودفاعا عنه العدة المنهجية المتوفرة، وأساليب الانتقاء والتبني والرفض والإلغاء لكل الوقائع التي لحقت عملية الإغلاق أو سبقتها. حينئذ، فإن كل ما تدعوه علوم الإنسان والمجتمع تمثلات وصور تتمثل بها الذات الفردية أو الجماعية نفسها، سيبقى من قبيل المستحيل واللامفكر فيه. ها نحن نرى أن هذا اللامفكر فيه وما لم يخضع للتفكير يرسمان هنا خط حجب نفساني بين نظامين ذهنيين تحددهما ممارستان معرفيتان تمكنان من إعادة إنتاج إطارين متمايزين لتكون الشخص وتطوره.

لست أعلم إلى أي حد يشاطر الأستاذ زرزور هاته التحليلات التي تسعى إلى أن تثير القضايا التي تطرحها ممارستان معرفيتان متنافستان دون أن تؤكد على الإطلاق أفضلية إحداهما على الأخرى. فأنا أتحدث مرة بلغة العلوم الاجتماعية وأخرى بلغة العقل التقليدي كي أنقلهما إلى ممارسة معرفية ستتضح مشروعيتها ومردوديتها من خلال تطور هاته المواجهة. إن الموقف الوثوقي التقليدي لا يعطي الحق بالطريقة نفسها للخطابات المتنافسة؛ وهكذا فعند ما حاول ع. زرزور نفسه تقديم المعيارية اللاهوتية من خلال أداة التواصل القوية التي هي قناة التلفزيون، فإنه أغفل كل الجدالات التي أثيرت بين مختلف المدارس والفرق قبل تدوين النصوص الرسمية وإقامة تراث يستند إليه، كلاميا وعلميا، لتدعيم نظام الحقيقة الدينية كما يعمل عند ملايين المسلمين المنتشرين عبر العالم (وقد تدخل عدد من المستمعين في المناقشة انطلاقا من أوروبا). نتبين حينئذ البعد السوسيولوجي والوزن السياسي والحمولة التاريخية لما دعوته المعيارية اللاهوتية ذات التوظيف الشعبوي. ما هو الشكل الذي كان البرنامج التلفزيوني سيتخذه (وهذا يصدق على كثير من البرامج من نفس ذاك الذي قدمه ع. زرزور) لو كان إلى جانبه محاور يدافع عن المشروع الذي ما زال في مهده وأعني نقد العقل الإسلامي كما مارسته في كل كتاباتي انطلاقا من سنوات 1970؟ حينئذ سيطرح مشكل التواصل بين المنظومتين الذهنيتين والأنظمة المعرفية التي تستند إليها وتعيد إنتاجها. إذا تبين أن التواصل ممكن حتى مداه البعيد، فحينئذ فإن اللامفكر فيه وما لم يفكر فيه بعد سيفحصان على ضوء فضاء جديد من المفكر فيه، وسيأخذ العقل والخيال والمتخيل والذاكرة معاني جديدة وستدخل ضمنه منظومة سيكولوجية لتوليد نظام جديد للحقيقة. إلا أنني أسجل باستياء وحزن أنه لا وسائل الإعلام الغربية ولا تلك التي توجد في البلدان الإسلامي، ولا الجامعات ولا مؤسسات البحث تفكر في تنظيم أنشطة من شأنها أن تسارع بميلاد فاعل بشري جديد.

في انتظار أن يجد هذا الحلم تحقيقه ينبغي أن نفسر لماذا اتخذ الخطاب الإسلامي السائد مدى هذا الاتساع، ولماذا يجند هذا العدد الهائل من المناضلين المتحمسين. وسأكتفي هنا بحصر أكثر العوامل تحديدا من جملة العوامل الداخلية، أخص بالذكر النمو الديمغرافي الذي وسع، في مدة زمنية قصيرة، الأسس الاجتماعية لمتخيل اجتماعي تغذي في الوقت نفسه على خطاب قومي للتحرر من الاستعمار، وخطاب إسلامي لتأصيل “هوية” لم تكن لها النخب الوفاء اللازم، استعمال وسائل الإعلام والمدارس العمومية لأهداف التوجيه الإيديولوجي من طرف الدولة والأحزاب المناضلة التي لا تتوفر على ثقافة ديموقراطية؛ نهج سياسة تكريس التقليد الذي من شأنه أن يزيد من حدة القطيعة بين البناء الحديث للفاعل البشري وبين التنشئة القديمة؛ انفصام الساكنة الفلاحية وهجرتها نحو المدن حيث تتفكك الأعراف والتقاليد الثقافية كي تفسح المجال لميلاد متخيل اجتماعي شعبوي لا رابطة تشده إلى النخب في المدن ولا إلى ما يشهد على امتداد تراث إسلامي لا يأتمر إلا بحكم الله أي لا يخضع لأية سلطة أخرى كيفما كان نوعها. أضع هنا تمييزا عن “العلماء” الذين يستعملون وسائل الإعلام ويساهمون في سياسة تكريس التراث كما يؤثرون كبير التأثر على المتخيل الشعبوي، وبين المثقفين ورجال التعليم والباحثين والكتاب والفنانين الذين يسعون لنشر ثقافة حديثة يتفاعل فيها تراث إسلامي متجدد وحداثة تضع ذاتها موضع انتقاد. هذا الاتجاه الثاني لا يعرف بكل أسف انتشارا كبيرا لأن المعتنقين له مبعثرون هنا وهناك، وغالبا ما يدعون المجال فارغا للتفاعل الآلي بين العوامل آنفة الذكر.

أما العوامل الخارجية فتتلخص في الضغوط المستمرة للحداثة الاقتصادية والتكنولوجية التي تمارس على جميع المجتمعات التي لم يكن لها دور في مرحلة معينة من إنتاج الحداثة وبنائها في جميع “النخب” السياسية التي استولت على الحكم في هاته المجتمعات منذ سنوات 1950 قد أعطت الأولوية للتمكن من وسائل القوة (التنظيمات العسكرية، الشبكة الأمنية لمراقبة التراب الوطني، الصناعة التقليدية والأدوات التكنولوجية) على تنمية وسائل البحث عن المعنى. وإن الخلل الذي تولد عن نهج هاته السياسة سرعان ما تزايدت حدته عندما تسارعت وتيرة التحديث في جميع مجالات الإنتاج التاريخي للمجتمع. على هذا النحو فإن البحث التاريخي حول ماضي كل مجتمع هو في الوقت ذاته مهمة مستعجلة للحد من الاستخدامات الإيديولوجية وهو كذلك مسألة مهملة، وإن النتائج السلبية للتحديث المادي ما زالت تزكي أشكال الرفض الكلي للحداثة كمشروع لتحرير الوضعية البشرية، هذا بينما تتطلب الحاجيات المشروعة لقسم هائل من الساكنة نهج أحدث السبل في الإنتاج والتوزيع.

لا تعمل هذه العوامل الخارجية في انفصال عن العوامل الداخلية، وإن الجدل التاريخي لقوى الحداثة يحدث تأثيرا مضاعفا على تفاعل تلك العوامل فيما بينها.

لعلني أوضحت بما فيه الكفاية كيف أن الحدث القرآن والحدث الإسلامي والهوية الحدثية تتواجه وتتعارض ويلغي بعضها الآخر، ويشرطه ويحدد صراعاته من أجل البقاء أو الهيمنة؟ ولعلني أوضحت اللاتكافؤ الصارخ الذي يفصل بين دعاة المنافسة المفتوحة بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي للإنتاج التاريخ البشري خلال القرن الألف الثالثة؟ ويتبقى علينا أن نحدد مصادر الهوية الحدثية وتوجهاتها الحالية كي نفتح الطريق أمام تاريخ بشري يطبعه التآزر، وكي نضع حدا لأساليب الإلغاء المتبادل التي مازالت تعطي المشروعية للحروب الأهلية والعنف البنيوي ومنظومات الفروق الاجتماعي غير المتكافئة وعمليات الهيمنة تحت غطاء الضرورات التاريخية التي تفرضها العولمة.

إن الهوية الحدثية معطى تاريخي يتسم بالكثافة والوزن والشمولية سواء في تحديداته أو تطبيقاته كتلك التي اتسمت بها الهوية الدينية في مختلف تجلياتها. لذلك فإن هاتين الهويتين تدخلان في صراع من أجل قيادة الإنسان نحو مصيره “الحق”. ولعل القارئ قد خمن أن موقفي إزاء هذه المنافسة القديمة التي اتسمت بالحروب والثورات الدامية، يتلخص في ثلاث كلمات، الاختراق والزحزحة والتجاوز لطالما وصفت النتائج المنهجية والإبستمولوجية لهاته العمليات المعرفية الثلاث إذا هي طبقت على تاريخ المجتمعات التي أثر عليها الحدث الإسلامي وأنا أحيل القارئ إلى الدراسة التي ظهرت في مجلة 1/1996 ARABICA. وأكتفي بأن أذكر أن اللاهوت المسيحي يرسم حركات ذات دلالة في اتجاه زحزحة وتجاوز القضايا والحلول التي خلفتها ممارسة عريقة للتراث الحي الذي اخترقت حدوده. يخطر ببالي على وجه الخصوص كتاب جديد للأب J.Dupuy (نحو لاهوت مسيحي للتعددية الدينية، منشورات cerf 1997) إن أهمية هذا التوجه الفكري أمام تحديات الهوية الحديثة، هو أنه يبين الإمكانيات والآفاق التي من شأن المواجهة، الإشكالية بين الهويتين أن تتمخض عنها. لا ينبغي أن ننسى أن العقل الأنواري قد حررنا مما كان يدعوه فولتر “الوحش الضاري” (العقل اللاهوتي الدوجماتي الوثوقي الذي جعلت منه مؤسسة الكنيسة سلطة على النفوس والأجسام)، إلا أنه كرس بالفعل ذاته اللجوء إلى العنف لفرض مشروعية سياسة جديدة. إن هذا الحدث التاريخي ليس بعيدا عن أشكال العنف الوحشية التي عرفها القرنان التاسع عشر والعشرون، ولا عما قلته سابقا عن العنف “الحديث”. إن الاستعاضة عن الجهاز الرمزي الديني بالعنف الثوري للجهاز الرمزي السياسي قد قبر جانبا لا مفكرا فيه لعدة قضايا أنتروبولوجية وفلسفية وكبتها ورمى بها “في ظلمات القرون الوسطى” أي في الجهل. إن عودة الديني لا تعني الرجوع إلى “قيم” مصبوغة بالطبائع الأسطوري ورؤى توهيمية للإنسان الكامل، وإنما الانفتاح على فضاءات جديدة من المعقولية العلمية وطرق أكثر ضمانا لتحرير الوضعية البشرية.

أختتم هذا العرض الانتقادي مذكرا بإحدى السبل الجديدة التي لم يطرقها لا الفكر الديني ولا الفكر الحديث بما يكفي من الإحاطة والعمق، يتعلق الأمر بالروابط القوية والدائمة التي تربط قوى إنتاج كل وجود بشرى وهي ثلاثة: العنف والمقدس والحقيقة. لست أجهل إن ما لا يحصى من التأملات والخطب والتحليلات والبحوث قد خصصت لهذه الموضوعات عند كل الاتجاهات الفكرية، كما أعرف المساهمات الأنتربولوجية والتحليلية المعاصرة في هذا المجال، وقد اهتم روني جيرار بالعلاقة التي تربط العنف بالمقدس كما أولى اهتمامه للموقف الذي تقترحه المسيحية بهذا الصدد، إلا أن كل هذا لا يبدو كافيا. وقد سبق لي أن تعرضت في دراسة سابقة(4) إلى القضية التي أطلق عليها القديس أوغسطين “الحرب العادلة” وما يسميه القرآن الكريم جهادا، وهو مفهوم أخذه الغربيون عندما قاموا ضد العراق في حرب الخليج. لقد أثيرت خلال تاريخ الإنسانية كله الحرب العادلة والصراع المقدس للدفاع عن المصالح العليا “للحقيقة” التي توجد عرضة لهجوم “الأعداء” الخارجيين عنها: إنه الدفاع عن التراب المسيحي وعن دار الإسلام وعن الدولة الوطنية الرأسمالية الحديثة وعن الأراضي المستعمرة وعن المجالات الجيوسياسية للدول العظمى. ولقد قدمت تحليلا مطولا لنص محمد عبد السلام فرج المعنون الفرائض الغائبة، وبينت كيف أن مجهودات الكاتب لإحياء الدعوة إلى الجهاد داخل مجتمع يشكل المسلمون غالبيته، أي في مصر السادات، وبصفة عامة عند مجموع الأمة، يتعارض مع تعاليم التراث الإسلامي حول كرامة الشخص الإنساني للانتصار للوجه الحربي والعنيف للجهاد، إن هاته الدراسة، ككثير من مثيلاتها التي يعرفها قراء اللغة العربية، لم تحدث أي رد فعل ذي دلالة لدى المثقفين ولا لدى الرأي العام الإسلامي المتنور. أما الجمهور الغربي فإنه يفضل أن يدعم نظرته ويزكي متخيله الذي يعتبر الإسلام بطل حروب الفتوحات ضد المشركين. وهذا يعني أن مسألة الشخص الإنساني لا تحظى باللعناية اللازمة ولم تتبوأ مركز الصدارة ما إن يتعلق الأمر بمواجهة حقيقة الذات التي يواجه بها كل منافس الآخر، دون أن يعمل أي واحد منهما على الحفر فيما تعنيه حقيقة الذات. إن منطق الحرب كامن ثاو في المنطق المؤسس لحقيقة الذات. وإن الثقافة التي تسمح بالخروج من هذين المنطقين اللذين يحيلان إلى عملية بناء الذات البشرية نفسها، لم تتوفر بعد حتى في الأوساط التي اكتسحتها الهوية الحديثة.

أشعر أنه ينبغي أن نذهب بالتحليل أعمق من ذلك والحفر الأركيولوجي وراء الوعي الإسلامي الذي لم يستفيد بعد من مكتسبات الدراسات الوضعية الحديثة. لذا فإنني أعمل منذ سنوات في البحث حول موضوع طموح هو، العنف والمقدس والحقيقة من خلال سورة التوبة. إذ لا يمكننا أن نواصل التذكير بنزعات إنسانية تدعو إليه النصوص الدينية والفلسفية الكبرى ونشير للعنف كتجل عابر شاذ وعرضي عرفته المجتمعات القديمة تقوم به قطاعات غير مندمجة في مجتمعات متحضرة أو أفراد ضالون سرعان ما يستبعدون أو يتلقون العقوبات الضرورية من طرف الأخلاق المهيمنة أو القانون المتبع. إن العنف بعد محايث للوجود البشري. وعند كل شخص هناك توترات تزداد حدتها أو نقل بين دوافع العنف والنزوع نحو الخير والجمال والحق. وتذكرنا الآية (251،2) بهذين الوجهين للإنسان، لضبط نتائج العنف لجأ الإنسان دائما إلى ما لا نزال ندعوه مقدسا للإحالة إلى واقع جوهري متوفر على قوى فعالة، هذا في حين أن الأمر يتعلق بشعائر وطرق للتقديس حفظا بعض الكائنات والأماكن والفترات من تدنيس العنف وتجديفه، وهكذا تقام تضحيات لتوجيه آثار العنف نحو أصناف من الكائنات البشرية، ونحو أجزاء من الجسم البشري، ونحو حيوانات أو عناصر من الطبيعة. وهكذا نسجت روابط وظيفية ومفهومية بين العنف والمقدس والحقيقة: هذا ما تذكر به الآية (5،9) المذكورة أعلاه. وحدها قراءة أنتربولوجية لهاته القوى الثلاث تسمح بالكشف عن الآليات الخفية التي تؤثر على الوعي الجماعي للأمة أو للقومية فتتحكم في اندماج كل عضو. هاته الصورة الموضوعية للتفاعل المتبادل بين وقائع كانت تعاش حتى اليوم كقوى خارجية عن الإنسان، تسجل في الوقت ذاته انتقال الشخص إلى مرحلة جديدة من المعرفة وتحقيق الذات.

إن النضالات من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل قد خيضت في كل البلدان الإسلامية وكل الأنظمة التي ما زال الإسلام والشريعة يشكلان فيها المرجعية الأساسية. إن الاكتمال الروحي والأخلاقي والثقافي للإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق نظام ديموقراطي وعن طريق دولة القانون وعن طريق مجتمع مدني معترف به كعنصر مشارك منه تستمد الدول سيادتها. وقد قامت الأدلة، منذ سنوات الخمسينات، على أن السير نحو بناء هاته المؤسسات مشروط أكثر فأكثر بالتشبع بثقافة الديموقراطية أكثر مما هو مشروط بالرخاء الاقتصادي الذي يظل عاملا فعالا إذا ما سير بالمساهمة الديموقراطية لجميع العناصر الاجتماعية الفعالية. وقد أوضحت الدور الحاسم الذي تلعبه الفرضيات الفلسفية التي تتحكم ضمنيا أو صراحة في كل فكر سياسي وقانوني وأخلاقي. لذا فأنا أؤكد أن لا وجود لأية ديموقراطية دون وجود جدالات مفتوحة وحرة وخصبة ونقدية داخل المجتمع. وهاته الجدالات لا يمكنها أن تتمكن من تحقيق الأهداف الإنسانية للديموقراطية إن هي لم تتبين السؤال الفلسفي. نعلم إلى أي حد يستبعد الموقف الوثوقي الهم الفلسفي، كما نعلم كذلك الضعف أو الغياب المطلق للتعليم الفلسفي داخل الأنظمة التربوية التي أقامتها الأنظمة التي جاءت بعد العهد الاستعماري. إذا أضفنا إلى ذلك الغياب المطلق لتعليم كلامي مبني على نقد للعقل الكلامي، فإننا سنتمكن من تكوين صورة واضحة عن البرنامج التربوي الذي ينبغي منه بأقصى ما يمكن من السرعة قصد توفير الشروط الثقافية والفكرية الحديثة لميلاد الشخص في الوسط الإسلامي وتطوره وتفتحه.

مجلة الجابري – العدد التاسع


الهوامش

1 – انظر: الوصف الذي أعطيناه للأدب الفلسفي خلال القرن الرابع الهجري في كتابنا:L’humanisme arabe au IV, 2ème éd. J.Vrin, Paris 1982.

2 – حول الأهمية المؤسسة لهذه المصطلحات. انظر دراساتنا حول العجيب في القرآن، وهي موجودة في:Lectures du Coran, 2ème éd., Tunis, 1991.

3 – انظر مقال: “من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي” ضمن: Lectures du Coran مرجع سابق الذكر.

4 – انظر: كيف يعرض مفهوم الشخص في الفكر الإسلامي ضمن: Ouvertures sur l’Islam, 2ème ed., Paris 1992.