مجلة حكمة
مفهوم أرنت للحداثة

مفهوم أرنت للحداثة في كتاب (الوضع البشري) – مورازيو باسيرن دينتريفيز


  • مفهوم أرنت للحداثة

قامت حنة أرنت بإيضاح مفهوم سلبي، إلى حد ما، عن الحداثة وذلك في عملها الفلسفي الرئيس (الوضع البشري)،. وفي مجموعة بعض من المقالات التي نشرت تحت اسم (بين الماضي والمستقبل.) في هذه الكتابات، سلطت أرنت اهتمامها بشكل أساسي على الخسائر التي وقعت نتيجة تفوق التقاليد، الدين،. والسلطة، لكنها قدمت عددا من الاقتراحات التنويرية فيما يتعلق بالمصادر التي ما يزال بإمكان العصر الحديث توفيرها لمعالجة أسئلة المعنى، الهوية، والقيمة.

ترى حنة أرنت أن الحداثة تتسم بخسارة العالم، وتعني بذلك أنها تقيّد أو تحصر مجال الفعل والخطاب العام لصالح العالم الخاص للتأمل والسعي الخاص للمصالح الاقتصادية. إن الحداثة هي عصر المجتمع الجماهيري، وصعود الاشتراكية جراء التمييز السابق بين الخاصة والعامة، وانتصار الإنسان العامل على الإنسان الخلاق[i]. والمفهوم الكلاسيكي للإنسان باعتباره كائن سياسي. إن الحداثة هي عصر الإدارة البيروقراطية والعامل المجهول، بدلا من الفعل والسياسة، وهيمنة النخبة والتلاعب بالرأي العام. إنه العصر الذي تبرز فيه أشكال شمولية السلطة مثل النازية والستالينية كنتيجة على مأسسة العنف والإرهاب. وهو العصر الذي يحلّ فيه التاريخ كـ “عملية طبيعية” بديلا للتاريخ الذي تُنسج فيه الأحداث والأعمال، حيث يحلّ التجانس والانسجام بديلا للتعدية والحرية، وحيث يتآكل التكافل الإنساني وكافة أشكال الحياة العفوية جرّاء العزلة والوحدة. إن الحداثة هي العصر الذي لا يعود الماضي يحمل أي يقين للتقدير، ويفقد فيه الأفراد المعايير والقيم التقليدية ليبحثوا عن أسس جديدة لمجتمع بشري مثله.

هذا مفهوم أرنت للحداثة، وهي رؤية تبدو للوهلة الأولى صارمة وغير قابلة للاستهلاك. ومن الجدير أن نشير إلى أن تقييم أرنت السلبي للحداثة قد تشكل عبر تجربتها للشمولية في القرن العشرين،. وأن عملها يوفر عددا من الرؤى المهمة التي من الممكن أن تساعد في معالجة بعض السمات المُشكلة في العصر الحديث. تزعم في كتاباتها السياسية، خاصة في كتابها (أصول الشمولية) أن ظاهرة الشمولية قد كسرت استمرارية تاريخ الغرب، وجعلت تصنيفاتنا الأخلاقية والسياسية بلا معنى. أصبح إفلاس التقاليد أمرا يتعذر إلغاءه بعد الأحداث المأساوية في القرن العشرين وانتصار الحركات الشمولية شرقا وغربا. لقد فجرت الشمولية في شكل الستالينية والنازية التصنيفات الراسخة للفكر السياسي،. والمعايير المقبولة للحكم الأخلاقي، وبالتالي، كسرت استمرارية تاريخنا. في مواجهتنا الأحداث المأساوية للهولوكوست والغولاغ، لم يعد بإمكاننا العودة إلى المفاهيم والقيم التقليدية لشرح الجديد عن طريق السابق أو فهم الوحشية عبر المألوف. يجب أن نواجه عبء زماننا دون استعانة بالتقاليد، أو كما صاغته أرنت مرة: “دون درابزين”. إن المفاهيم ومعايير الحكم الموروثة لدينا قد حُلّت تحت تأثير الأحداث السياسية الحديثة، والمهمة الآن هي إعادة بناء الماضي خارج إطار أي تقليد،. مادام أن أي منها لم يحتفظ بشرعيته الأصيلة. وعلى ذلك، ترمي أرنت إلى الحفاظ على الماضي إذن، وليس التقليد، من التمزق في وعي العصر الحديث. ويمكننا عن طريق استعادة الماضي بواسطة ما سمته أرنت “التأثير المميت للأفكار الجديدة”، أن نستعيد المعنى للحاضر، ونلقي الضوء على الوضع المعاصر.

يعود فضل الاستراتيجية التأويلية التي وظفتها حنة أرنت لإعادة بناء رابط مع الماضي إلى والتر بينجامين ومارتن هيدغر. فقد أخذت من بينجامين فكرة تاريخية مجزأة، تلك التي تسعى إلى تحديد لحظات التمزق، العزل، والاقتلاع في التاريخ. وإن مثل هذه الأجزاء التاريخية يمكن أن تمكّن المرء من استعادة إمكانات الماضي المفقودة على أمل. أن يجد الإدراك في الحاضر. وقد أخذت من هيدغر فكرة القراءة التفكيكية للتقاليد الفلسفية الغربية، التي تسعى إلى كشف المعنى الأصلي لتصنيفاتنا وتحررها من التشوه عن طريق إلباسها اللباس التقليدي. إن هذه التأويلات التفكيكية تمكّن من استعادة التجارب البدائية (Urphaenomene). التي أهملت من قبل التقاليد الفلسفية، وبالتالي استعادة الأصول المفقودة لمفاهيمنا وتصنيفاتنا الفلسفية.

تأمل حنة أرنت ، بالاعتماد على هاتين الاستراتيجيتين التأمليتين، استعادة “كنزها المفقود” أو المنسي من الماضي، أي تلك الأجزاء من الماضي التي ربما لا يزال لها أهمية بيننا. وترى أرنت ، أنه لم يعد بالإمكان إنقاذ الماضي كليّةً بعد انهيار التقاليد، وسوف تكون المهمة بدلا من ذلك استعادة عناصر الماضي والتي باستطاعتها إلقاء الضوء على وضعنا الحاضر. إن إعادة بناء الصلة بالماضي ليست ممارسة قديمة، بل على العكس من ذلك، فمن دون إصلاح نقدي للماضي فإن الأفق الزمني لدينا سيصبح ممزقا، وسوف تكون تجربتنا متزعزعة، وتصبح هويتنا أكثر هشاشة. فمن وجهة نظر أرنت ، من الضروري أن نستعيد تلك اللحظات الثمينة من الماضي، لإنقاذ تلك الأجزاء من كنز الماضي المهم لنا. ويمكن أن نكتشف الماضي من جديد ونمنحه ارتباطا ومعنى للحاضر، ونجعله مصدر إلهام للمستقبل، عن طريق وسائل الإصلاح النقدي فقط.

إن هذا الإصلاح النقدي سهل جزئيا، عبر الحقيقة القائلة بأنه بعد انشقاق الوعي الزمني الحديث، ربما ينفتح الماضي لنا بعذوبة غير متوقعة،. ويخبرنا بأشياء لم يكن لأحدنا أن يسمعها من قبل. في الواقع، قد يوفر انهيار التقاليد فرصة عظيمة للنظر في الماضي “بعيون غير مشوهة بأي تقليد، وبتوجّه متلاش من سمع وقراءة الغربي وذلك منذ أن خضعت الحضارة الرومانية إلى سلطة الفكر اليوناني.”

بهذا المعنى، تمثل عودة حنة أرنت للتجربة الأصلية لمدينة بوليس اليونانية،. محاولة لكسر تقييد التقاليد القديمة، وإعادة استكشاف الماضي، والذي من خلاله لا يعود للتقليد أي مطلب. بعكس التقاليد، تضع أرنت معيار الأصالة ضد التقاليد، وضد السلطة التي تُنسى وتُخفى على هامش التاريخ. من خلال العمل ضد التقليدية ومزاعم التأريخ التقليدي، وتوفير مصادر تنويرية للحاضر وتحصيل كنوزها لأولئك الذين يبحثون عنها “بأفكار جديدة” وينقذون إحياء الذكرى، عندها فقط يمكن أن يكون للماضي معنى من جديد.

تبين حنة أرنت مفهومها للحداثة باعتبار لعدد من السمات الرئيسة:. ألا وهي، الاغتراب في العالم، اغتراب الأرض، صعود الاشتراكية، وانتصار الإنسان العامل. يشير اغتراب العالم إلى خسارة عالم من الخبرة والنشاط الذي يتشكل فيه تفاعل مشترك عبر وسائل تمكننا من بناء هويتنا الشخصية، وحسّا كافيا بالواقع. ويشير اغتراب الأرض إلى محاولة الهرب من حدود الأرض مدفوعا بالتكنولوجيا والعلم الحديث،. وقد بحثنا عن طرق للتغلب على وضعنا المرتبط بالأرض عن طريق البدء في استكشاف الفضاء،. ومحاولة إعادة خلق الحياة عن طريق شروط مخبرية، وعبر محاولة تمديد فترة حياتنا التي وهبت لنا. أما صعود الاشتراكية فيشير إلى توسع اقتصاد السوق من الفترة المبكرة الحديثة والتكدس المتزايد للثروة الرأسمالية والاشتراكية. وبصعود الاشتراكية غدا كل شيء مادة للإنتاج والاستهلاك، الاكتساب والاستبدال، وزيادة على ذلك، أدى توسعها المستمر إلى وجود ضبابية في التمييز بين الخاصة والعامة. يشير انتصار العمالة الوحشية إلى انتصار قيم العمل على الإنسان الخلاق، والإنسان باعتباره كائن سياسي. وقد ضُحّي بكل السمات القيمة للتصنيع، والدوام، الاستقرار، والصمود، إضافة إلى سمات عالم الحرية، العمل، الخطاب، التعددية، والتكافل لصالح قيم الحياة، الوفرة والإنتاجية.

تُميّز حنة أرنت ظهور الحداثة بمرحلتين، الأولى من القرن السادس عشر والتاسع عشر، والتي تنسجم مع اغتراب العالم وصعود العالم،. أما الثانية، فمنذ بداية القرن العشرين، والتي تنسجم مع اغتراب الأرض وانتصار الإنسان العامل، وتحدد أيضا عددا من الأسباب مثل:. اكتشاف أمريكا والتقلص الملائم للأرض، وموجات مصادرة الملكية التي بدأت مع حركات الإصلاح،. اختراع التلسكوب والذي يتحدى كفاءة الحواس، صعود العلم الحديث والفلسفة، وبالتالي صعود الإنسان كجزء من عملية التاريخ والطبيعة، اتساع النطاق الاقتصادي، إضافة للتوسع في الإنتاج وتكدس الثروة الاجتماعية.

بإمكاننا أن نستند في نقدنا لـ مفهوم أرنت للحداثة على عدة أسباب. لكننا سنركز انتباهنا هنا على فئتين، وهما الطبيعة والمجتمع. ففيما يتعلق بالطبيعة، تقلبت أرنت بين تفسيرين متناقضين. فوفقا للتفسير الأول للعصر الحديث، عند رفع مستوى العمل لأكثر أنشطة طبيعية للإنسان إلى أعلى مركز في الحياة العملية، فإن ذلك يقربنا جدا إلى الطبيعة. بدلا من الحفاظ على مهارة الإنسان أو بناءها، وخلق مساحات عامة للعمل والتشاور،. نجد أننا نتقلص لنشارك في نشاط البقاء المطلق، وفي إنتاج أشياء يمكن أن نقرّ بأنها هالكة وفانية. أما بالنسبة للتفسير الثاني، فيتميز العصر الحديث على أي حال بتزايد التكلف، وبرفض أي شيء ليس من صنع الإنسان. تنوّه أرنت بحقيقة أن العمليات الطبيعية، بما فيها الحياة بنفسها قد أعيد تكوينها من جديد وبشكل مصطنع عبر التجارب العلمية،. وأن بيئتنا الطبيعية قد تبدلت على نحو واسع، وفي بعض الحالات بدّلت تماما من قبل التكنولوجيا،. وأننا نبحث عن طرق للتغلب على وضعنا الطبيعي كمخلوقات مرتبطة بالأرض عبر القيام باستكشاف الفضاء وتصور إمكانية الإقامة بكواكب أخرى.  سيقودنا ذلك إلى التحوّل لوضع لا يوجد فيه حدث، أو كائن، أو عملية تتم بشكل طبيعي، وبدلا من ذلك سيكون من إنتاج أدواتنا وسيعيد تشكيل العالم بصورتنا.

يصعب التوفيق بين هذين التفسيرين، لأن لدينا في السابق تدخل طبيعي يدمر صناعة الإنسان،. بينما أصبح لدينا لاحقا الفن (التقني) الذي يتوسع ويستبدل كل شيء موهوب أو طبيعي. والنتيجة أن مُنحت الطبيعة مكانة غامضة، لأن الحالة السابقة تشير إلى خضوعنا إلى العمليات الطبيعية،. بينما، تشير الحالة التالية من التوسع في المعرفة العلمية والسيطرة التكنولوجية إلى قهر كافة الحدود الطبيعية. بالتالي، يظهر العالم الحديث طبيعيا ومصطنعا للغاية، خاضعا بقوة لهيمنة العمل والعملية الحياتية للجنس البشري، وسوف يظهر أيضا خاضعا تحت سيطرة التقنية.

فيما يتعلق بالفئة الثانية، وهي الاجتماعية، لم تكن حنة أرنت قادرة على تشكيل بعض السمات المهمة للعالم الحديث. إذ تحدد أرنت الاجتماعية بكافة تلك الأنشطة التي كانت في السابق مقتصرة على النطاق الخاص للمألوف،. الضرورية في الحياة. وتزعم أن هذه الأنشطة العامة قد استولت، مع التوسع الهائل للاقتصاد نهاية القرن التاسع عشر،. على المجال العام وحولته إلى مجال يلبي احتياجاتنا المادية. وهكذا قام المجتمع باقتحام واحتلال المجال العام، ليحوّله إلى توظيف لما كان احتياجات واهتمامات خاصة في السابق، وبالتالي دُمرت الحدود التي تفصل بين الخاص والعام. تزعم أرنت أيضا أن توسع المجال الاجتماعي، قد قوّض التقسيم الثلاثي للأنشطة البشرية إلى درجة أنها أصبحت بلا معنى. فمن وجهة نظرها، عندما يبني المجال الاجتماعي احتكاره،. يضيع التمييز بين العامل، العمل، والفعل، مادام أن كل جهد يتوسع لإعادة إنتاج الأوضاع المادية للوجود. إن هوسنا بالحياة، الإنتاجية، والاستهلاك، قد حولنا إلى مجتمع عمّال وموظفين، لا يملكون قدرة لتقدير القيم المرتبطة بالعمل، ولا تلك المرتبطة بالفعل.

يتضح لنا، في هذا التفسير الموجز، أن مفهوم حنة أرنت للاشتراكية يلعب دورا حاسما في تقييمها للحداثة. مع ذلك، بودّي أن أجادل أن هذ المفهوم قد أعماها عن العديد من المسائل المهمة، وقادها إلى سلسلة من الأحكام المريبة. ففي المقام الأول، وصفت أرنت الاشتراكية بأنها مقيدة للغاية. وزعمت أن الاشتراكية هي مجال العمل الضروري المادي والحيوي لإعادة إنتاج أوضاعنا المادية للوجود. كما زعمت أيضا أن صعود الاشتراكية قد تزامن مع التوسع الاقتصادي منذ نهاية القرن الثامن عشر. مع ذلك، لا تستطيع حنة أرنت وصف تحديدها الاشتراكية مع النمو الاقتصادي في القرنيين الماضيين،. وفقا لنموذج استمراري لإعادة الإنتاج البسيط. (Benhabib 2003, Ch. 6; Bernstein 1986, Ch. 9; Hansen 1993, Ch. 3; Parekh 1981, Ch. 8). ثانيا، تحديدها الاشتراكية مع الأنشطة المألوفة هو المسؤول عن عيب ضخم في تحليلها للاقتصاد. في الواقع، هي قادرة على الاعتراف بأن الاقتصاد الرأسمالي الحديث يشكل هيكل قوة مع توزيع غير متماثل للتكاليف والحوافز. ومن خلال الاعتماد على التشابه المضلل للمألوف، تبقي حنة أرنت على أن كافة المسائل المتعلقة. بالاقتصاد هي قضايا ما قبل-سياسية، بالتالي تتجاهل المسألة الحاسمة للقوة الاقتصادية والاستثمار. (Bernstein 1986, Ch. 9; Hansen 1993, Ch. 3; Parekh 1981, Ch. 8; Pitkin 1998; Pitkin 1994, Ch. 10, Hinchman and Hinchman; Wolin 1994, Ch. 11, Hinchman and Hinchman). في نهاية الأمر، هي غير قادرة على تشكيل العلاقة الأساسية بين هذه المجالات والكفاح من أجل إعادة رسم حدودها،. عبر الإصرار على الفصل الصارم بين الخاص والعام، وبين الاشتراكية والسياسة. لقد أصبحت العديد من المسائل الخاصة اليوم مسائل عامة،. وامتد الصراع من أجل العدالة والحقوق المتساوية لعدة مجالات. ليس بمقدور حنة أرنت، من خلال عزل المجال السياسي من اهتمامات الاشتراكية،. وعن طريق الحفاظ على التمييز الصارم بين الخاص والعام، أن تشكل بعضا من أهم إنجازات الحداثة-. توسيع العدالة والحقوق المتساوية، وإعادة رسم الحدود بين الخاص والعام. (Benhabib 2003, Ch. 6; Bernstein 1986, Ch. 9; Dietz 2002, Ch. 5; Pitkin 1998; Pitkin 1995, Ch. 3, Honig; Zaretsky 1997, Ch. 8, Calhoun and McGowan).

مفهوم أرنت للحداثة


[i] خالص الشكر للأستاذ عبدالله المطيري في نحته لمصطلح الإنسان العامل والإنسان الخلاق عن الترجمة اللاتينية.

 animal laborans – homo faber