مجلة حكمة
مستقبل الفلسفة السياسية 2

مستقبل الفلسفة السياسية

الكاتبكاترينا فورستر
ترجمةعلي الرواحي

مستقبل الفلسفة السياسية

منذ الاضطرابات التي حدثت في الأزمة المالية عام 2008م، والاضطرابات السياسية عام 2016م، بات جليا للكثيرين بأن الليبرالية، بطريقة أو بأخرى، قد فشلت. أوقفت هذه الاضطرابات الكثير من الاقتصاديين، أولئك الذين سعوا لتجديد بحوثهم حول اللامساواة والعلوم السياسية، وذلك منذ توجههم لبحث مشاكل الديمقراطية، الاستبداد، والصعود الكبير للشعبوية. لكن لم يكن لدى الفلاسفة السياسيين الليبراليين الأنجلو أمريكيين  الكثير ليقولوه في هذا الصعيد.

يعود هذا الصمت إلى طبيعة الفلسفة السياسية اليوم، والى تلك الأسئلة التي يجب طرحها أو يجب إهمالها. فمنذ أفلاطون، طرح الفلاسفة بشكل ٍ مستمر الكثير من الاسئلة حول طبيعة العدالة. غير أنه في العقود الخمسة الأخيرة، تصدر المشهد الفلاسفة السياسيين في العالم الناطق بالإنجليزية  عن طريق أجوبة محددة تطورت عبر أسئلة معينة طرحها الفيلسوف الأمريكي جون راولز.

هل الفلسفة السياسية، كحال الليبرالية، في ازمة وتحتاج لتجديد؟

دشن عمل جون راولز في منتصف القرن العشرين براديغم جديد أو مسارا ً فكريا ً جديدا ًفي الفلسفة السياسية، فعن طريقه بدأ الفلاسفة في إكتشاف معان ٍ جديدة للعدالة والمساواة في سياق دولة الرفاه الرأسمالية المعاصرة، وذلك من خلال استخدام مفاهيم مضنية ومؤثرة، لمجتمعات مهيكلة بشكل ٍ مثالي، تحولت بشكل ٍ كبير إلى نسخة للمجتمعات الديمقراطية لما بعد الحرب. وُضعت عملا بهذا النموذج مجموعة من المبادئ الأخلاقية المجردة التي توفر العمود الفقري للفلسفة الليبرالية المعاصرة. حيث صممت هذه الأفكار لمساعدة الطلب المتزايد على العدالة والمساواة في المجتمعات والمؤسسات الغربية، وللأفراد بحد ذاتهم.

هذه هي قصة الانتصار: فمشروع راولز الفلسفي قد نجح بشكل ٍ كبير. فالأمر لا ينحصر في الفلاسفة الذين لم يتفقوا، فالتركيز على الحجج الدقيقة والتفصيلية هي أفضل ما يقوم به الفلاسفة. غير أنه في العقود الأخيرة، قاموا ببناء اجماع قوي حول القوانين التأسيسية للعبة، وذلك من خلال الاشتراك في مشروع فكري ومفاهيمي مشترك. إذ تعتبر مفاهيم وأهداف الفلسفة السياسية الحاكمة ، على مر الأجيال ،من المسلمات تقريبا.

غير أنه إذا كانت الفلسفة السياسية ملزمة بالليبرالية المعاصرة، والليبرالية قد فشلت، فإنه قد حان الوقت للتساؤل حول مدى فائدة هذه الأفكار التي صمدت لفترة طويلة. فأفكار راولز قد تطورت خلال فترة مميزة من التاريخ الأمريكي، كما أن نظريته تبدو وثيقة الصلة بالديمقراطية الليبرالية لفترة ما بعد الحرب. والسؤال هنا: هل الفلسفة الليبرالية السياسية متواطئة في هذا السقوط؟  وهل الفلسفة السياسية بحد ذاتها  كالليبرالية في أزمة وتحتاج لتجديد؟ وإذا كان كذلك، فكيف يبدو مستقبلها؟

أصدر جون راولز عمله “نظرية العدالة” عام 1971م، والتي كان يعمل عليها لمدة 20 عاما ً، فالصفحات ال600، وفرت طريقة للفلاسفة للحكم على المجتمعات من خلال مفهومين للعدالة، مفهوم للحرية يرسم للمواطن الحقوق الأساسية والحرية، ومفهوم للمساواة الذي ينادي بمحدودية اللامساواة، وبأن تُحدد الموارد بطريقة نافعة بحيث يستفيد منها أقل أفراد المجتمع ثراء ً. كانت رؤية راولز عن مجتمع عادل مثالية – “ديمقراطية تملك الممتلكات” ، حيث كانت أوجه عدم المساواة مقيدة بشدة وكان لكل شخص مصلحة.

دعم راولز وجهة نظره عن طريق وجهات نظر كثيرة، ومعقدة، ففكرته الشهيرة كانت حول “الوضع الأصلي” او “الحالة الاصلية”، وهي التجربة الفكرية التي تقع فيها الأطراف خلف “حجاب الجهل” وهي مبادئ العدالة التي يمكن من خلالها تنظيم المجتمع، تقنينه، وحكمه. فمن خلال هذه المفاهيم وغيرها، رسم راولز واخترع لغة داخلية، استطاع من خلالها نقل مفاهيم ومفردات الفلسفة السياسية إلى درجة غير مسبوقة، وهو ما جعل الكثير من الكتب والأعمال في نهاية القرن العشرين تناقش هذه المسائل بناء ً على هذه المفردات والمفاهيم والتصورات.

أحد الأسباب الرئيسية وراء تأثير أفكار راولز بشكل ٍ عميق هو اعتقاد الفلاسفة بأنهم ملأوا فراغا ً مهما ً في الخيال الفلسفي، وذلك عندما اعتقد الكثير من الفلاسفة السياسيين خلال الحرب العالمية الثانية بأنه من غير الممكن التفكير في العدالة واليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، وذلك بسبب النظرة السائدة لمناهضة الاستبداد والتي ترى بأن كل حركة إصلاحية وتقدمية من الممكن أن تنزلق للاستبداد.في هذا السياق، نُشرت “نظرية العدالة” على أنها أحيت الفلسفة السياسية، وأعطت شكلًا فلسفيًا لحلم مجتمع عادل وجده الليبراليون متجسدا ً في الديمقراطية الاجتماعية لما بعد الحرب. ومن الملفت للنظر مدى نجاح كتاب راولز وافكاره، إذ وبعد 10 سنوات من إصداره أدرجت ببيلوغرافيا من 2512 كتابا ً ومقالة في توافق أو اختلاف معه، وهو ما يمكننا من القول بأن الفلسفة السياسية في السبعينات كانت مطبوعة بأفكاره ورؤاه.

تماسكت أفكار راولز وبعضا ً من طلابه في عقيدة أصبحت تعُرف “بالمساواة الليبرالية”. حيث في البداية تسائل قراءه إذا ما كانت حججه ورؤاه ناجحة وتعمل بشكل ٍ جيد، وما مقدار المساواة التي يطالبون بها، وما تعنيه بشكل ٍ عملي الليبرالية، والإشتراكية، أو أي شي آخر يتعلق بهما. ومع مرور الوقت، طُبقت نظريته في “العدالة كإنصاف” ومبادئ الحرية والمساواة على المواقف الأخلاقية، والمواضيع السياسية. دفع منطق الفلسفة الليبرالية الفلاسفة نحو مزيد من التجريد والتعقيد، والتطلع نحو مزيد من الألغاز الفلسفية المعُقدة، وجدوا الكثير منها في نظرية راولز، مثل: ما أنواع الظلم وعدم المساواة بين الناس( وما هي الأنواع المسموح بها؟). وكيف من الممكن هيكلة المؤسسات المختلفة، مثل: المحاكم، والإجراءات الديمقراطية لتسهيل الازدهار الفردي والجماعي، كالعلاقة المفاهيمية بين أفكار مثل المساواة والحرية، العدالة والانصاف، الأخلاق والمسؤولية، والأسئلة التي أصبحت كلاسيكية حول “العدالة التوزيعية”، مثل: من يحصل على؟ (ليس فقط الثروة والدخل، بل أيضا ً إحترام الذات)، ومن يدين بذلك، ولمن؟

في منتصف السبعينات، كانت أفكار راولز تتوسع في اتجاهات جديدة. حيث طالب البعض بالعدالة العالمية، التي ابتدأت في الجنوب العالمي لتحديث نظرية راولز لعصر جديد من الاعتماد الدولي المتبادل. في حين اتجاهات أخرى، مدفوعة بالأزمة البيئية، تناولت عددا ً من الالتزامات تجاه الأجيال القادمة وطورت نظريات جديدة للعدالة بين الأجيال. تنافست الأجيال اللاحقة من الفلاسفة السياسيين حول مفاهيم، ومناهج راولز، لكن بالنسبة للكثيرين سيواجهون ظهور الحس المشترك. وحتى أولئك الذين عارضوها، وساهمت بتشكيلهم. مع أواخر القرن العشرين، عمل المفكرون الناطقون باللغة الإنجليزية لفترة طويلة تحت ظلال نظرية العدالة، حيث أصبح راولز قديسا ً راعيا، صاحب رؤية تقود حلم المساواة والعدالة التوزيعية. في هذا السياق، كتب الفيلسوف الليبرالي روبرت نوزيك في عام 1974م، “يجب على الفلاسفة السياسيين الآن العمل تحت إما ضمن نظرية راولز، أو شرح لماذا لا”.

لم تصبح الأدوات التي بنتها نظرية راولز عقيدة يمكن إستشارتها على ضوء مشاكل جديدة، ولكنها أصبحت المعمار الفلسفي لإيديولوجيا مرنة للغاية، وقابلة للتكيف، لتصبح أيديولوجيا الليبرالية الحديثة. حيث أن مرونتها كانت مصدر جمالها الفلسفي، فهي وفرت إطارا ً عاما ً للإجابة على أسئلة كثيرة، في تزايد مستمر. وبهذه الطريقة، أصبحت الفلسفة الليبرالية مرادفة لراولز، وجاءت الفلسفة السياسية لتقف على نوع ٍ من الليبرالية.

ولكن كانت هناك مفارقة في إمكانية هذا التجديد الراولزي للفلسفة. حيث شهدت السبعينات أيضا ً انهيار الليبرالية الإجتماعية التي هيمنت بعد الحرب العالمية الثانية، مدفوعة بالنجاحات السياسية والاقتصادية لدولة الرفاه الرأسمالية. ففي الوقت الذي واجهت فيه تلك الدول أزمات مالية، وتتعلق بالمشروعية، اكتسب الأيديولوجيون النيوليبراليون، وصانعو السياسات، الكثير من السلطة، كما تفتت أفكار المصلحة العامة والصالح العام. وفي هذا السياق، من الواضح أن برنامج راولز جاء في توقيت سئ بشكل كبير. ذلك أن دفاعه الفلسفي الكبير عن دولة الرفاه، جاء بعد أزمتها؛ فبالنسبة للبعض بدا وكأنه جاء من حقبة ماضية، أو نشهد احتضار آخر الصيحات الأيديولوجية. في المقابل، أدى عدم نجاح نظرية راولز إلى ترسيخ انها جاءت في غير أوانها: فكلما تحطمت الرفاهية في السياسة، كلما أصبحت حجج راولز أكثر رسوخا ً في الفلسفة.

وبالتالي، فإن قصة الفلسفة السياسية الليبرالية الأنجلو أمريكية ليست قصة نجاح فلسفي. بل أيضا ً قصة شبح، عاشت فيه نظرية راولز كحضور طيفي بعد فترة طويلة من زوال الظروف التي وصفتها، والتي ظهرت فيها. حيث كان راولز يسعى إلى أن تكون نظريته ديناميكية، وحيوية، ولكن في الممارسات العملية تطاردها إدعاءات الليبرالية بعد الحرب، التي فقدت قبضتها على الواقع مع تحول الواقع نفسه.

في هذا الجانب، تمت صياغة نظرية المساواة الليبرالية في مجتمع ٍ مختلف تماما ً عن مجتمعنا، مجتمع بنمو مطرد، إنخفاض التفاوت الاقتصادي، وكثافة نقابية كثيرة، تزايد عدم المساواة الجندرية والعرقية، حيث تتمتع أنظمة الرفاهية بشرعية كبيرة حتى عندما كانت مستبعدة، مجزأة، وغير مستقرة. كما أن هذا المجتمع يصاغ ويشكل عبر الحرب والسياسات الإمبراطورية، ومهيكلا ً من خلال الحرب الباردة، ومستدام عن طريق تسويات بريتون وودز.لم تكن ليبرالية بعد الحرب والتي ظهرت فيها نظريو راولز هي الديمقراطية الاجتماعية الوردية التي يصور البعض انها كذلك.

وفي الواقع، لم تكن “ديمقراطية تملك الممتلكات” التي قام بها راولز دفاعا ً بسيطا ً عن دولة الرفاهية. حيث تكشف الاوراق التي لم ينشرها راولز عندما كان شابا ً في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، دفاعه عن ليبرالية أكثر بساطة من تلك التي يذكرها الآن. كان قلقا ً من تركز السلطة (خاصة في الدولة)، وقلق من الإكراه (وبشكل ٍ خاص من الشركات والنقابات)، ومتلهف للإستقرار الإجتماعي. بدا راولز أقرب لبعض الليبرالين الجدد منه الاشتراكيين الديمقراطيين، على الرغم من انه انتقل تدريجيا ً إلى اليسار.

سادت أيديولوجية الإجماع الليبرالي في سنوات ما بعد الحرب، فهناك افتراض على نطاق واسع من قبل الليبراليين الأثرياء البيض أن المجتمع الأمريكي مبني على جوهر الإجماع، أو على الأقل الإحتمال الأكبر. في حين أن راولز كان مختلفا ً. ذلك أن فلسفته عكست العديد من التناقضات الليبرالية لفترة ما بعد الحرب، سواء في نجاحاتها أو محدوديتها. في الستينات، وعندما وضع راولز لمساته الأخيرة على نظريته، كان عصر الثراء، الحقوق المدنية، والمجتمع العظيم، ولكنه أيضا ً فترة الأزمة الحضرية، والسجن الجماعي، وبداية عهد جديد من عدم التصنيع والرأسمالية المالية التي تم فيها قطع الإستثمار العام، وسحق الحركة العُمالية.

فالفلاسفة الذين يعملون في إطار راولز إفترضوا الإنتصارات ولكنهم لم يتوقعوا التكاليف. عندما صاغ راولز نظريته لأول مرة، اعتقد أن الأمور تتحسن: بعد أن انتهت حركة الحقوق المدنية جاءت الليبرالية العنصرية. حيث يمكن احتواء تجاوزات الرأسمالية، كما أن اللامساواة أصبحت محدودة. وبحلول الوقت الذي نشر فيه أفكاره عام 1970م، عكس ذلك التفاؤل في وقت مبكر. لكن عدم تروي راولز كان جزءا ً من نجاحه: ذلك أن الحركات الإجتماعية حطمت في الستينات الإجماع الليبرالي بعد الحرب، كما أن نظرية راولز – التي لم تنشر بعد –  نجت من الإضطراب دون أن تصاب بأضرار. عندما ظهرت، قدمت الأساس لتوافق جديد في الآراء، وفي نفس اللحظة كانت النظريات الليبرالية الأخرى في أزمة.

ولدت النظرية السياسية من تفسير راولز لليبرالية ما بعد الحرب بشكل ٍ مرن: فقد بدت على أنها ليبرالية بسيطة، ولكن من الممكن أن تصبح كمبرر للإشتراكية الليبرالية. ومع ذلك كان لها طابع مميز، حيث كان لها تأثير على مستقبل، وشكل الفلسفة السياسية. كما ركزت على المؤسسات القانونية والتشريعية، ولكنها أسندت أدوارا ً بسيطة، وقيمة أقل للمؤسسات السياسية، الاجتماعية، والدولية الأخرى. لقد استندت إلى رؤية متداولة للسياسة والتي اعتبرت الديمقراطية نموذجا ً للمناقشة. كما قام إطارها التوزيعي بالضغط على طرق أخرى للتفكير في آليات وتنظيم الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية.

هذه الجوانب من رؤية راولز قيدت أنواع السياسة التي يمكن أن تتضمنها أو تتعاون معها. فعندما تم تناول هذه النظرية على نطاق ٍ واسع، تم وضع الأفكار غير المتجانسة مع هذه المعايير جانبا ً أو انسحبت من الخطاب الفلسفي السائد تماما ً. كما استغنى الفلاسفة الليبراليون عن الحجج والمخاوف القديمة، حول طبيعة الدولة، السيطرة السياسية، العمل الجماعي، الشخصية المؤسساتية، واستئناف التاريخ. غالبا ً ما كان لخياراتهم المفاهيمية آثارا ً سياسية، بغض النظر عن الدوافع السياسية للمنظرين أنفسهم، الذين أصبحوا أحيانا ً محُاصرين في الهياكل المفاهيمية لعملهم الجماعي الخاص بهم. كما بنت الأجيال اللاحقة على حجج أسلافهم، حيث اتخذ النموذج الفلسفي شكلا ً سياسيا ً لم يكن أي من المنظرين المستقلين يقصدونه. كان لديها منطقها الخاص، وسياستها الخاصة، مما ساعد على تحديد المشاكل الأخلاقية، والسياسية، التي تؤخذ بعين الاعتبار بشكل ٍ كاف ٍ بما يستدعي الإهتمام الفلسفي.

على سبيل المثال، يميل أصحاب المساواة الليبراليون إلى الإصرار على أن ما يهم هو الحلول المؤسسية لعدم المساواة الحالية، ذلك أن المظالم السابقة لم تكن ذات صلة، ورُفضت الحجج التي اعتمدت على الآراء التاريخية. وهذا يعني رفض مطالب التعويضات عن العبودية، والأنواع التاريخية للظلم التي فرضتها القوة السوداء، والحملات المناهضة للإستعمار في أواخر الستينات والسبعينات. وهذا يعني أيضا ً بأن الفلاسفة السياسيين الذين ينطلقون من وجهة نظر راولز غالبا ً ما يقرأون هذه الاعتراضات اللاحقة على أنها افتراضات الكونية الليبرالية الأمريكية التي تعتبر كتحديات متطابقة للمساواة، بدلا ً من كونها انتقادات مهمة من تاريخ الامبريالية، وإنهاء الاستعمار.

عندما عُززت اهتمامات الفلاسفة، أصبحت المرونة الراولزية هي معيار القبول لدى النُخب المؤسساتية للفسفة السياسية. حيث رأى آخرون على الهامش، أنه من خلال تبني شكل من المساواة الليبرالية أو بدائلها السائدة، يمكن التفكير في أفكار أخرى، مثل: الماركسية، النسوية، العرقية النقدية، مناهضة الاستعمار، أو غير ذلك. وكما هو الحال في الكثير من الأحيان، لم يتم رفض الرؤى أو الحجج السياسية المتنافسة بشكل ٍ تام، ولكن تم استيعابها ضمن نموذج المساواة الليبرالي، وغالبا ً بطريقة تساعد في توسيع إنتشارهم. عندما تم تناول الأفكار المهُمشة من قبل الفلاسفة الليبراليين، تم تحريفها كثيرا ً لتتوافق مع النموذج الأكبر. في المقابل، شاركت الماركسية التحليلية بقدر ما يمكن تحويل الماركسية إلى نظرية لتوزيع الممتلكات، وبالتالي متوافقة مع تركيز الراولزية مع العدالة التوزيعية.

وينطبق الشئ نفسه على الأفكار الديمقراطية، التي يجب أن تكون متوافقة مع نظريات المناقشة، والمداولات. وكما أوضح الفيلسوف البريطاني بريان باري بشكل ٍ صريح في المناقشات المختلفة من أن أصول نظرية العدل العالمية تكمن داخل الفلسفة، من أجل إحتواء قوانين نظرية العدالة التي يحتاجها المرء “لتوطين” مطالب المنظرين للنظام الاقتصادي الدولي الجديد من أجل الاصلاح الشامل، ولتعديل العلاقات بين الشمال والجنوب العالمي.لقد أدت سعة الفلسفة الليبرالية إلى الحد من إمكانيات النقد الراديكالي.

في هذه اللحظة من الدمج المفاهيمي، مرَت الأزمات السياسية في السبعينات إلى حد ٍ كبير على فلاسفة الليبرالية الناطقة بالإنجليزية. حيث ان القليل منهم كتب عن أزمات الشرعية، وتحديات المجتمعات ما بعد الصناعية. كما كان العديد من المنظرين الاجتماعيين يحاولون معرفة أسباب إنهيار وتراجع الروايات الماركسية والليبرالية الكبرى، عن طريق إعادة التفكير في موضوع الطبقة العاملة، ونقل وتحليل العمل خارج نطاق المصنع، ليصل إلى المدرسة، السجن، العيادة، وغرفة النوم. لم تهتم الراولزية كثيرا ً بالتراجعات أو التغيرات الاجتماعية التي سعت هذه النظريات المتنافسة إلى تفسيرها، مثل: التغيرات في الطبقة، رأس المال، العمل، الدولة، أو حتى الموضوع. وعوضا ً عن ذلك، قدموا نظاما ً كبيرا ً في الوقت الذي تم فيه رفض العديد من الأنظمة الأخرى. كان هذا بشكل ٍ جزئي، بسبب رفض الانخراط في مواجهة التحديات الجديدة التي نجت من المساواة الليبرالية، ومن تفكك التسوية الليبرالية بعد الحرب.

هذا لا يعني بأن الفلسفة السياسية لم يطالها التغيير السياسي. ففي الثمانينيات من القرن الماضي، طور عددا ً من الفلاسفة الليبراليين والماركسيين، نظرة المساواة التنافسية أو مساواة الحظ  كما أصبح معروفا ً، والتي صُممت لمعالجة محدودية التركيز المؤسسي لراولز، والتي اعتقدوا أنها تركت الأفراد بعيدا ً في خطر.حيث بحثوا أسئلة المسؤولية الفردية والسيطرة على الخيارات. كان الكثير منهم يساريين، لكنهم اتخذوا خطابا ً فرديا ً حول المسؤولية، التبعية، الاختيار، وحول السوق المحددة مع اليمين الجديد. في حين تحدى آخرون، الإجراءات الصارمة، والتسويق باسم المجتمع، وحقوق الإنسان. حيث ظهرت مدرسة فكرية عُرفت لاحقا ً باسم الجماعاتية او المجتمعية كبديل سائد.

أعطى مناصروها الأولوية للمجتمع على الفرد، والذات الاجتماعية على الذات الليبرالية الذرية (بالرغم من أن معظمهم عادوا عمليا ً إلى الأفكار التي بدأها راولز من قبل وتركها خلفه). ركز الراولزيين الليبراليين على المؤسسات، والأفراد، من النواحي التشريعية، القانونية، والديمقراطية. غير أن ما فاتهم هم ونقادهم المجتمعيون، هو التغيرات الكبيرة التي طرأت على الدولة من الناحية الإدارية، وصعود السياسات النيوليبرالية، تلك التي استعانت بمصادر خارجية، وخصخصة وظائف الرفاهية العامة، كما وسعت وظائف الدولة لضبط القانون وتنفيذه، للوصول إلى إدارة الشعب، وإدخال المنافسة، وتخفيف أو إلغاء القيود، وأشكال جديدة من الحوكمة والزبائنية عابرة للحدود.

هذه النقاط العمياء لم تمنع نظرية راولز من أن تبقى محكا ً لكل أبتاعه، ونقاده. وبالتالي فإن صعود الراولزية هو قصة انتصار، انتصار مجموعة من الفلاسفة السياسيين التحليليين الأثرياء، البيض، ومعظمهم من الذكور، الذن عملوا في عدد قليل من المؤسسات النخبوية في الولايات المتحدة وبريطانيا، وخاصة هارفارد، برينستون، وأكسفورد، كما بنى نظرية ليبرالية عالمية أخذت حياة خاصة بها. لقد بدأوا من حيثما كانوا، مع التركيز كليا ً تقريبا ً على دول الرفاه في أمريكا الشمالية، وأوروبا، باستثناء خيالهم حول العالم. ومع ذلك، أرادوا أن تكون فلسفتهم السياسية منتشرة، وواسعة النطاق. حيث حاولوا توسيع نظرياتهم لتشمل مجتمعات أوسع، وأمما ً، وعوالم دولية، وفي النهاية الكوكب كاملا ً. كما أنهم انتقلوا عبر الزمن، مستعينين بالماضي لإعادة تصور المستقبل، وجعل الفلسفة السياسية عالمية، وغير مقيدة قدر الإمكان. ولكن في النهاية، ظلوا ضمن تناقضات ليبرالية ما بعد الحرب.

ومع ذلك، تعرضت في السنوات الأخيرة بعض جوانب ورؤى راولز للكثير من الضغوط، في الوقت الذي يسعى جيل جديد لتجاوز حدوده. يبدو الافتراض السائد، وهدف التوافق في الآراء اليوم بعيدا ً عن التواصل في مواجهة هذا الانقسام الحاد. دفعت الشكوك الكثير من الفلاسفة إلى الأفكار التي تجاهلتها الأجيال القليلة الأولى من الراولزيين.في حين، قام البعض بتوسيع أفكار راولز إلى الشركات، أماكن العمل، أسواق العمل، الخوارزميات، الحدود، والنقابات كمواقع لنظريات العدالة. وقد أعاد آخرون تطبيق نظريات الاستغلال والسيطرة لتكملة مبادئ العدالة التوزيعية. كما حاول الواقعيون السياسيون، حسب وصفهم الذاتي، إعادة السياسة إلى الفلسفة السياسية عن طريق جعل نظريات الديمقراطية أكثر حساسية لطبيعة الصراع السياسي الفعلي.

كان هناك أيضا ً الابتعاد عن الترطيز على التوزيع، من وجهة النظر التداولية الديمقراطية التي تشكلت في حلقات دراسية. توضح هذه الانتقادات حدود المراحل السابقة للمساواة الليبرالية. وقد لا يكون مفاجئا ً أن الفلسفة السياسية التي كانت معادية للأيديولوجيا، والمصالح، والسلطة القسرية للدول، والنقابات، ونظرية الخطاب المثالي المرتبك من السياسة، ولكنه وجد اليوم على أنه يريد الإنخراط في ذلك. إن المشاكل التي حالت ذات مرة بسبب الطبيعة غير التاريخية لنظرية العدالة يتم الآن استنطاقها من جديد، كما أن بعض القضايا الأخلاقية يتم إعادة النظر فيها – مثل التعويضات – التي أثارتها تركات الاستعمار. كما شهدت دراسة الأيديولوجيا وأخلاقيات المظلومين عادت للظهور مجددا ً، بعد نشر مرئيات عن نظرية العرق النقدي، النسوية، والماركسية.

لذا نجد أن الفلاسفة السياسيون قد تكيفوا، ووسعوا باستمرار إطار المساواة في اتجاهات جديدة. ولكن، هل هذا يكفي؟ حيث أنه ليس من الواضح ما إذا كانت أفكار راولز يمكن أن تساعدنا في مواجهة اللحظات الخاصة بنا. مثل الكثير من العلوم الإنسانية (والشكر الجزيل لقيود النظام الأكاديمي المحترف والمتغير بشكل متزايد) تستمر الفلسفة السياسية في التوجه نحو حل مشاكل معينة بدلا ً من بناء نظريات منهجية جديدة. حتى عندما بدأت الاهتمامات الجوهرية للفلاسفة السياسيين في التحول مع دخول موضوع جديد إلى المجال الفلسفي،

خاتمة

لا تزال هناك الكثير من النقاشات تحدث في ظل مجموعة من الأفكار التي تعكس توقعات عصر مختلف. غير أن هناك فوائد للعمل ضمن تقليد فكري، ولكن يمكن أن تكون هناك تكاليف ايضا ً إذا كافح هذا التقليد لإلقاء الضوء على الظروف المتغيرة. وبعد كل شيء، يستمد الراديكاليون في الولايات المتحدة الإلهام من الماركسية أكثر من الليبرالية. ويرجع ذلك جزئيا ً، إلى الإرث السياسي الغامض لنظرية راولز، ومن وجهة نظرنا على الجانب الآخر من الأزمة المالية، يمكن أن تبدو المساواة الليبرالية الآن هي الليبرالية اليسارية المثالية لـ”نهاية التاريخ” التي جلبتها نهاية الحرب الباردة. في تلك الفترة من الهدوء النسبي والتفاؤل الليبرالي، عندما اتخذت السياسة الشكل التكنوقراطي، واتسمت باجماع جديد، لم تبدو المساواة الليبرالية مختلفة تماما ً- فقط خطوة أو خطوتين فقط – عن مركزية بيل كلينتون، أو الطريق الثالث لتوني بلير.

في عرضه لنظريته، اراد راولز توفير طريقة للحكم على الإصلاحات التراكمية للمجتمعات التي تقترب من العدالة تدريجيا ً. وبحلول التسعينيات، بدت المساواة الليبرالية – مثل الديمقراطية الليبرالية – مهيمنة، وبدا أن فلسفة راولز قد تطمح ببساطة إلى إصلاح ليبرالية ناجحة بالفعل وإن كانت غير مكتملة. من هذا المنظور، تبدو المساواة الليبرالية إلى حد ٍ ما مسؤولة عن تضييق مخيال اليوتوبيا، والتواطوء لصعود النيوليبرالية التكنوقراطية، التي تعزز الظلم بدلا ً من المساعدة على تفكيكه. والآن، بما أن ادعاءات نهاية التاريخ تبدو غير مُرضية فحسب بل خاطئة، فإن الدور السياسي لهذه الليبرالية الفلسفية يصبح أكثر غموضا ً.

ومع ذلك، في الوقت نفسه، يمكن اعتبار نظريات راولز أيضا ً بمثابة ارتداد مرحب به لحظة دولة الرفاه في منتصف القرن، والتي اتخذتها الآن، في صحراء النيوليبرالية المتقشفة، جاذبية مختلفة كنوع من اليوتوبيا. في سياق اليوم، تعتبر ترتيبات التوزيع التي تتطلبها المساواة الليبرالية – من الرعاية الصحية الشاملة، إلى التعليم المجاني، والتوزع الواسع لرأس المال – جذرية. حيث يجادل البعض في أن هذه الترتيبات قد تقدم مخططات مؤسساتية، لإحياء الطموحات الاشتراكية الأخيرة في اليسار البريطاني والأمريكي، مثلما هو الحال في الكوربانية (نسبة إلى جيرمي كوربان البريطاني) والذي يعتبر من مناصريها أو المنظرين لها.

هذه الجاذبية الطوباوية نفسها تتحدث إلى المدى الذي نقلل فيه من شأن المسافة السياسية التي قطعت بين الإجماع الليبرالي بعد الحرب الذي ولّد المساواة الليبرالية والوقت الراهن. ومع انسحاب مركز الجاذبية إلى اليمين، أصبح راولز وأتباعه يتبعون بشكل ٍ نهائي الليبرالية اليسارية. حيث كانت هذه الأفكار تعني شيئا ً مُختلفا ً في العقود التي تلت الكساد والحرب العالمية الثانية، عما كانت عليه في أعقاب اليمين الجديد ونجاح الإعتداءات النيوليبرالية على مؤسسات الدولة الديمقراطية.

لذا فإننا نواجه غموضا ً هنا، اذ بدت أجزاء من الفلسفة الليبرالية مُقيدة في البنية السياسية للنيوليبرالية التكنوقراطية، فإن البعض الآخر منها يبدو مناسبا ً تماما ً للحظتنا الخاصة من عدم المساواة الدرامية، مع رغبتها إلى مبادئ عالمية. ومن المؤكد أن المساواة الليبرالية تظل موردا ً لا مثيل له لخطط تنظيم، وتبرير، وتوزيع الممتلكات والحد من عدم المساواة، خلال سنوات لما أصبح يُعرف بالطريق الثالث، حيث غالبا ً ما تم تجاهل المساواة في السياسة، ولكن لم يتم تجاهلها من قبل الفلاسفة.

وفي هذا السياق، فإن حقيقة أن الفلسفة السياسية لم تتأقلم بشكل ٍ كامل مع حقبة ما بعد السبعينات يعتبر أحد نقاط قوتها. لقد قاومت الفلسفة السياسية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية بشدة، الحركات الفكرية التي تسببت في إضفاء الصفة الطبيعية على مناهضة التطبيع، وتحديدها بدقة، والتي اكتسبت أرضية في النصف الثاني من القرن العشرين. فاقت تطلعات راولز العالمية، والمعيارية، تحديات ما بعد البنيوية والنظريات النقدية ما بعد الماركسية. ولفترة طويلة بدا هذا التمرد وكأنه محُافظ، ولكن من الممكن اعتباره الآن كمورد، أو كمصدر. واذا تخلى بعض الفلاسفة السياسيين عن بعض افتراضاتهم المحايدة، ونظروا إلى بعض أشكال الجدل على انها مرتبطة بلحظة سياسية قد ولت، فربما يمكنهم القيان بعمل ٍ سياسي جديد للدفاع عن مبادئهم البعيدة للعدالة الاجتماعية – ليس فقط للتبرير – ولكن بهدف الإقناع.

ولكن يبقى السؤال قائما ً، إذا ما كان التقليد القائم على المساواة يمكن أن يحسب لأزمات مستقبلنا، ولكن الكثير من جوانب رؤية راولز ترى أنه لا يمكن أن يرتفع إلى مستوى التحدي. ذلك أن بعض أكثر مخاوفنا إلحاحا ً تكمن في النقطة العمياء. ففي السنوات التي تلت صعود المساواة الليبرالية، توسعت الدولة، لكن تمت خصخصتها أيضا ً. لقد تغيرت طبيعة الرأسمالية والعمل، وستستمر في ذلك على الأرجح بطرق ٍ دراماتيكية، وغير متوقعة. حيث تم اعادة تشكيل دائرة الأقل ثراء، ويجب تركيب مكوناتها، ومكانها كعامل تغيير بدلا ً من مستقبل للبضائع والسلع مرة أخرى. فالسياسة تتغير، حيث يتصارع السلطويون والحركات الراديكالية وحكم القلة (الأوليغارشيه) في مشهد ٍ دولي شكلته مؤسسات مالية غير خاضعة للمساءلة، ومنصات إعلامية جديدة، وتقنيات جديدة، وتغير مناخي.

يمتلك مناصرو المساواة الليبرالية بعض الأدوات للتعامل مع هذه التغييرات، لكن أسئلتنا تتطلب أيضا ً أطرا ً جديدة تخرج من تلك التي تم اختراعها في فترات الحرب الأيديولوجية، على عكس اليوم تماما ً. كما أن الوقت قد حان للسؤال عما يتطلبه وجود فلسفة سياسية مناسبة لعصرنا.

المصدر