مجلة حكمة
مراسلات الفلاسفة الفلسفة

مراسلات الفلاسفة: نصوص من”الفلسفة الإنسانية” – عبد الوهاب البراهمـي


    كثيرا ما نقول بأنّ العالم اليوم هو بمثابة” قرية صغيرة” بفعل ثورة الاتصال التي جعلت من التبادل عملية سريعة وذات سيولة كبيرة ولكنّها غير مثيرة، بالرغم من نجاعتها الواسعة في تقريب المسافات وقضاء الحاجات. ففي عالم البريد الإكتروني وشبكات التواصل يكون التواصل، اتصالا سريعا بالتأكيد، ولكنّه عابر لا يترك أثرا عميقا في الذات. ولكن حينا يتعلّق الأمر برسائل بريدية ننتظر وصولها بلهفة ونقرأها مرارا وتكرارا ونحفظها حفظنا لأشيائنا الثمينة، فلا معنى للحديث عن الإثارة و لنجاعة الاتصال. وإذا كانت الرسائل على ألف لون وشكل، وتختلف قيمتها باختلاف كاتبها، فإنّ للرسائل المكتوبة منزلة خاصّة لبعدها الشخصي والحميميّ وبحكم صلتها بمعيش كاتبها، بفكره ووجدانه وتجربته اليومية. وإذا ما كان كاتب الرسالة “شخصيّة ممتازة” بعبارة برجسون، كان للرسالة وقعها الخاص من حيث أنّ قراءتها تمنح لذة خاصّة، وتفتح أفقا للتفكير لا في الرسالة ذاتها فحسب، بل في فعل التراسل وقيمة الرسائل المتبادلة بين هذه الشخصيات وغيرها شكلا ومضمونا… يقول شوفاليي دي جوكور:” ما من كتابة تمنحنا قدرا من اللذة مثلما تمنحه رسائل العظماء. إنّها تدغدغ قلب القارئ ببسطها ما في قلب الكاتب. فرسائل العباقرة والراسخون في العلم ورجال الدولة، كلّها موضع تقدير في اختلاف أجناسها”.(1) وإذا كان الفلاسفة من جنس هؤلاء العظماء، فإنّهم قد كتبوا رسائل عديدة نجد في قراءتها متعة، وتحمل المطلع على محتواها الفلسفي وحتى الشخصي على تغيير المشهد التاريخي لديه، بالارتحال في الزمن، إلى الآخر في أحواله الخاصة والعامة، في معيشه النفسي والاجتماعي والفكري؛ بل قد يجد الدارس للفلسفة في هذا محتوى ما يلبّي حاجته إلى الفهم أحيانا كثيرة، فهم ما التبس من معاني، وقد يعثر فيها القارئ على معنى عميق للصداقة التي تبنيها المراسلات وترعاها، وبعدا إنسانيا يقترن فيه الانشغال باليومي بالهمّ الفلسفي، وترتقي فيه الفردية في حميميّتها إلى الكوني المشترك. وإذا كان رهان الكتابة الفلسفية عمليا إنتاج “المؤلّف الفلسفي”، أثرا يقيم به الفيلسوف وجوده كفيلسوف ويمنحه استمرارية تاريخية، فإنّ كتابة الرسائل وتبادلها هو أيضا نشاط لا يقلّ ” فلسفية” عن ذلك، وإن بوجه خاص، وتجربة كتابة تأخذ غالبا من روح الفيلسوف وفكره ووقته أثمن ما فيها. فهذا ديكارت مثلا قد خصّص يوما لكتابة الرسائل سماه “يوم الرسائل” وكان يكتب الرسائل بانتظام ويوليها اهتماما كبيرا، ساعة كل يوم كما يقول. ومع ذلك فـ مراسلات الفلاسفة على أهمّيتها كما سنبيّن، ليست بالتأكيد بمنزلة مؤلفاتهم. فما من فيلسوف حمّل مراسلة ما كلّ العبء في تحليل فكرة فلسفية تفرّد بها. وليس هذا لأنّ المراسلة مجال محدود للقول ومتّصل بظرف ما فحسب، بل لأنّها لا تحتمل كجنس من الكتابة وكنصّ مخصوص عمق الفكرة الفلسفية وكثافتها واتساعها. فضلا عن أنّ ” من يكتب رسالة لا يكون في حيرة مَنْ يكتب كتابا، نتيجة خشيته من النص المطبوع، وانشغاله بالدفاع عن صورته أمام جمهور القرّاء، وخشيته من النقد، بل لكاتب الرسالة إحساس بحرية أكبر، ولديه جرأة أكثر “.(2) ولذا تظل رسائل الفلاسفة بالنسبة إلى الفلسفات الأنساق وحتى إلى غيرها، نصوصا على “هامش” مؤلفاتها، أشبه “بحاشية” أو بالأحرى ” تعليقات ” commentaires تعضدها، بل قد تؤثّر في قراءتها وفهمها، ولكنّها تُلحق بها وأحيانا تهيؤ لوجودها. ولعلّ هذا ما يبرّر “إخراج” هذه الرسائل في ” ملحق” المتون الفلسفية في طبع و إصدار ” الأعمال الكاملة” للفلاسفة مثلا، وقد تختفي في بعضها. ومع ذلك فقد بات من المؤكّد اليوم، تبعا لتقدّم الدراسات والبحوث الفلسفية، أنّ لهذه المراسلات أهمّية قصوى وخطورة لا تقلّ أحيانا عن أهمية “مقال” أو “نصّ أساسي” كتبه الفيلسوف تحت تأثير رغبة حقيقيّة للكتابة لا بحكم ظرف طارئ، جوابا عن سؤال أو غيره. ولكن ماذا نعني بمراسلات الفلاسفة ؟ ما هي منزلتها النظرية من فلسفة الفيلسوف ؟ و ما هي قيمتها منظورا إليها من جهة الفيلسوف كفرد في يومه وعصره ؟

   من المعلوم أنّ الرسالة تقليديّا هي شكل من أشكال الكتابة والتفكير لعب دورا مميّزا في الأدب (حتى أضحت نوعا أدبيا ” أدب الرسائل”)، وفي نشر الأفكار في العصور الحديثة والكلاسيكية، وعرفه الرومان واليونان والعرب الذين فيهم من اشتهر ببراعته في كتابة الرسائل ومن امتهن ذلك ( مثل “عبد الحميد الكاتب وغيره ..). وقد كانت المراسلات الفلسفية شان غيرها من المراسلات ظاهرة قديمة (رسائل أفلاطون إلى دونيس Denys) واستمر وجودها إلى اليوم في أشكال مختلفة وبدرجة متفاوتة في القيمة والدور. ففي القرن السابع عشر مثلا برز دور الرسائل كنشاط أدبي وفكري” رسائل تكتب بعناية بغرض تبادلها وإظهارها ونسخها، وكانت بمنزلة “الصحف والمجلات ” عندنا اليوم..( ولنا أن ننظر في رسائل ديكارت مع اليزابيت أو هويجانس.. وهي كثيرة أو في رسائل وسبينوزا على قلّتها ..حتى ندرك قيمة هذه النصوص ودرجة العناية في كتابتها شكلا ومضمونا). وكذا الشأن في القرن الثامن عشر، في مراسلات ليبنتز- كلارك ( و”هي إحدى الآثار الجميلة للعلم” حسب فولتير) ورسائل مونتسكيو، والرسائل الفلسفية لـ فولتير أو رسائله مع دالمبار، ورسائل مونتاني وجولي وغير ذلك من الرسائل التي أضحت أثرا قائما بذاته. غير أنّه من الضروري أن نميّز قبل تحليل الرسائل في تنوّع مضامينها وأهدافها، علينا أن نميّز بين نوعن من الرسائل، بين الرسالة التي تطرح عنوانا لمؤلّف ( رسالة في التسامح لجون لوك مثلا ..) وبين الرسالة الخاصّة الحميمية  lettre  intime والتي كان الاهتمام بها كبيرا لدى عامّة الناس في العصور التي أشرنا إليها، وفي العصر الكلاسيكي بالذات. وهذا النوّع الأخير هو ما سنركّز عليه اهتمامنا، بالنظر في بعض من رسائل ديكارت وسبينوزا أنموذجا، وذلك لأنّهما يقدمان في نظرنا صورتين مختلفتين لعمق وطرافة المراسلات الفلسفية. أحدهما بكثرة رسائله وتنوّعها الشديد وثراء مضامينها في علاقة بمؤلفاته وعنايتة الشديدة بها بل ورهانه عليها أحيانا كثيرة في توضيح آراءه ورفع اللبس عنها لدى قراءه، فضلا عن رغبته في كتابتها لتخفيف الإحساس بالغربة المكانية والوجودية ومدّ جسور التواصل مع مجتمع العلماء والمثقفين ( ونعني هنا ديكارت)، والآخر بقلّة مراسلاته وعزوفه عن كتابتها إلا اضطرارا، لرغبة في العزلة وميل إلى الانقطاع عن الناس في أحوالهم ومعاشهم ..مع الحفاظ على روابط منتقاة تصله بالآخرين بقدر لا يعكّر صفو نفسه، (وأعني هنا سبينوزا).

    تكشف لنا رسائل الفلاسفة عموما ولدى ديكارت وسبينوزا بالخصوص عن تنوّع في المضامين أو في الموضوعات وإذا كان من العسير ربّما تصنيف هذه الموضوعات لشدّة تنوّعها، لدراستها في أبعادها المختلفة، فإّنه يمكن تناولها إجرائيا في مستويين : مستوى ما يتّصل بما أسميّه الجانب الشخصي والحميمي أو بالأحرى ” المعيش اليومي” للفيلسوف ومستوى يتّصل بالجانب الفلسفي (على معنى ما تطرحه هذه الرسائل من مسائل فلسفية أو فكرية )، علما بأنّه لا معنى للفصل حقيقة في هذه الرسائل ،بين هذين البعدين المتداخلين.

   وإذا ما صرفنا اهتمامنا أولا إلى البعد الشخصي في هذه الرسائل الحميمية، وقفنا على مادّة غنيّة  للتحليل على صعيد شخصيّة الفيلسوف في بعدها النفسي والخلقي والاجتماعي، في علاقة الفيلسوف بنفسه وبغيره وبعصره. ذلك أن المراسلات الفلسفية تطرح مادّة متنوّعة تختلف بحسب الظروف التاريخية العامة و الظروف الشخصية لكاتبها أيضا. فلا نجد فيها تصريحا بالمودّة واعترافا بقيمة الصداقة ولا التعبير عن مشاعر الغربة والألم و الانزاع أو حالات السعادة ومتعة الكتابة الخ فحسب، بل نجد فيها أمورا من قبيل المزاح والفكاهة والخدعة واللعب بالكلمات والملاحظات اللبقة وحتّى الثرثرة ..ذلك أنّ الرسائل في هذا المستوى، بمثابة فضاء “شخصي” حميميّ، يتحرّك فيه الكاتب بحرية أكبر وبجرأة يفسح فيها المجال لقلبه وعقله ووجدانه، فينكشف فيها الفيلسوف – الإنسان قلبا ولحما ودما؛ انكشافا لن نظفر به في مؤلفاته ” الرصينة” ” الدقيقة”، خلاصة التأمّل والتفكير. وهو ما يجعل من رسائل الفلاسفة “وثيقة” ذات أهمية قصوى، تفتح نافذة على مضامين فلسفية هامّة ،كما على شخصية الفيلسوف، على إنسانيته، وأثرا ” ثقافيا” مهمّا لما يسمّى “بالفلسفة الإنسانية” أو الإنساني في الفلسفة. إنّ رسائل سبينوزا مثلا على قلّتها (84 رسالة جمعت ونشرت) (3) قياسا برسائل ديكارت (735 رسالة منشورة بنصف كتاباته تقريبا)(4)، تكشف عن شخصية ” انطوائية” لا تجد “متعة” في كتابة الرسائل ولا رغبة في ذلك. وبخلاف ديكارت لم يكن لسبينوزا وقتا مخصّصا لكتابة الرسائل، بل على العكس كان “كثيرا ما يعتذر عن تأخره في الردّ، ويقدّم أعذارا وجيهة ولكنها ليست مبرّرات: مشاغله وهمومه (الرسالة 37 من الرسائل المنشورة في مكتبة لابليآد “الأعمال الكاملة” حيث يقول في بدايتها :” لم استطع الرد على رسالتكم سريعا وقد وصلتني منذ وقت طويل ، وقد منعني عن ذلك انشغالي بأمور متنوعة وهموم لم أقدر على التخلّص منها إلاّ بصعوبة “…) أو استحالة الردّ (الرسالة 34 و36) ، أو بموجب مثلا رحلته إلى امستردام ( الرسالة 13) وعزلته في “الريف وحيدا” حيث يعيش، في قرية ريجنزبرغ حيث لا يمكن بعث الرسائل ولا وصولها في وقت عادي (الرسالة 32). ومهما يكن من مبررات لقلة ردود سبينوزا على ما يصله من رسائل كثيرة، فإنّ ذلك يعبّر عن عزوفه عن كتابة الرسائل عموما وعن نزوعه إلى الانطواء أكثر. ومع ذلك فإنّ ما كتبه سبينوزا من رسائل يكشف عن عنايته بها عناية شديدة وتقديره لمُرْسلها ، منتبها إلى مكانته وخاصّة، وإلى ما يعرفه عنه من أخلاق وحسن معاملة. لذا تختلف رسائله باختلاف مراسليه لا باختلاف موضوعاتها فحسب ( كتابة متأنّية وأحيانا رسائل مطولة أطول من رسالة مراسله (رسائله الأولى إلى أولدامبورغ )، ورسائل قصيرة من باب المجاملة وأدب اللياقة، ورسائل أخرى هي عبارة عن حوار شخصي (رسالته لأولدامبورغ حول فيزياء بويل رسالة مطولة ومضنية في القراءة( الرسالة 6) ورسالة قصيرة للفيلسوف “ليبنتز” حول البصريات،(الرسالة 46) والتي يبرّر قصرها بحذر سبينوزا من ليبنتز ” الانسان المريب في تصرفاته وفي نشاطاته” كما يبدو في حديثه عنه في الرسالة 72 ( لأحد أصدقاءه) حيث قال:” أعتقد أنّني أعرف بالمراسلة ليبنتز هذا الذي تتكلّم عنه، ولكنني أجهل سبب ذهابه إلى فرنسا وهو مستشار في فرانكفورت. و قد بدا لي في رسائله صاحب فكر حرّ ومتمكّن من سائر العلوم، ولكنني أجد أن من غير المناسب الاستعجال في مبادلته كتاباتي. أودّ أولا معرفة سبب وجوده في فرنسا وما يصنعه هناك، وأخذ رأي صديقنا الذي عاشره طويلا وعرف عن قرب طبعه”. نلمس من هذا الكلام شخصية سبينوزا الحذرة والكتومة، التي لا ترغب في الإفصاح عما في ذاتها إلى الآخرين ممّا يفسّر قلة صداقاته على أهميّتها وقلة رسائله وردوده على مراسليه، وهم كثر، ممّن يود التعرف عليه وربط صداقات معه، صداقات لا يرغب على يبدو سبينوزا في توسيعها لشخصيته  “الإنطوائية “. ولكنه بالرغم من ذلك كان إذا ردّ على رسالة عبّر عن لباقة ورهافة حسّ واحترام بقدر لباقة واحترام مراسله. يقول في إحدى رسائله:” إنّ كرمك يحملك على التماس العذر بدل الاتهام” (رسالة 63). وإذا كان سبينوزا قليل الكتابة للرسائل، فإنّ يتحرّى الصدق والنزاهة فلا يكتب إلا حينما يجد رغبة صادقة في قول الحقيقة فهو ودود ومتفهّم ولكن ليس دائما، إلا حينما يكون المراسل خالص النية وحسن الإرادة فتجده يعامل المراسل بمثل ما يعامله به دون أن يعني تملق ولا محاكاة لما يقول. يعبّر عن احترامه الشديد لألدمبورغ المحترم في أولى رسائله له، ولكن حالما يعتذر هذا الأخير عن تأخير في الرد تجد لسبينوزا عذره في التأخير وهكذا. فهو يودّ أن يعامِل بالمثل تعبيرا بهذا كما يقول علماء التحليل النفسي عن”حذر يقظ” أو عن ” حذر يسعى إلى أن لا يتخلّى عن نفسه أبدا”. وقد يؤول هذا الحذر أيضا، لا بانطوائية سبينوزا فحسب، بل بذكائه الشديد وتقديره للظروف والسياقات. فهو يدرك خطورة أفكاره عن” الإله ” مثلا وعن فكرته ” وحدة الوجود” والمعجزات وغيرها، ويدرك أثرها على معاصريه وخاصّة على أبناء ملّته من اليهود في هولاندا وهو المتّهم بالإلحاد، ولذلك تجده حذرا في رسائله حتى مع صديقه ألدمبورغ وهو يحثّه على نشر مؤلّفاته في أكثر من رسالة ردّ عليها سبينوزا ببرودة بأعذار جانبية دون أن يفصح عن ” خشيته” من ذلك، حتى أدى به الأمر إلى انقطاع مراسلاته مع صديقه هذا.  بيد أنّنا لن نلمس هذا الحذر الشديد في كتابه عن “الإيتيقا” أو في مؤلّفه “رسالة في اللاهوت والسياسة ” وهذا أمر ملفت للإنتباه. ففيه يعبر بوضوح ودون مواربة عن نقد لللاهوت والدين، وعن نقده للكتاب المقدس والمعجزات الخ.

       وبخلاف سبينوزا نجد ديكارت، برغم ميله هو الآخر إلى العزلة “حتى لا يعكّر صفو تأمّلاته شيء “، وتجده “يتجول في الطرقات لا يأبه لمن حوله كما لو كان يتجوّل في حديقة بين الأشجار” كما يقول، يولي أهميّة للتواصل عبر الرسائل، حريصا على الردّ على جميعها وفي وقت عادي وإذا ما تعذّر ذلك، طلب من مراسله وقتا كافيا للردّ ( راسلته إلى الأب مارسان نهاية نوفمبر 1633). وإذا ما عبر أحيانا عن انزعاجه من بعضها فيما صرّح به لإليزابيت، فليس من كثرتها وإنّما من سؤال بعضهم عن كلّ ما يرغبون في معرفته “كما لو كان عالما بكل شيء”على حدّ قوله. إذ تجده يُسأل عن “الإله” كما عن موجب تصاعد الدخان في “المدخنة” و حتّى عن طريقة طبخ “السمك”. ولكنّه مع ذلك يردّ بلباقة وأدب، ويتحاشى الخصومة والتصادم، حريصا على المجاملة. كيف لا وخصومه كثر بقدر اتساع شهرته وانتشار أفكاره وكثرة أتباعه أيضا. لذا تجده شديد ” الخشية من كلّ الناس: من أتباعه وإمكان تشويهم أو سوء فهمهم أفكاره، ( مثل ما كان مع ريجييسRégius)، ومن الأرسطيين الذين ينظرون إلى مؤلفاته بخلاف، ويبحثون عن تكذيب ما جاء فيها، وخاصة من اللاهوتيين الذين قد يحكمون على أفكاره الفيزيائية خاصة بالزندقة ويمنعون من نشرها ونفاذها إلى المدارس” (5). ولعلّل هذا ما يفسّر حذره المبالغ فيه أحيانا، في نفس الوقت الذي تجده يزيح عنه قناع البرودة وهدوء العقل في كثير من رسائله خاصّة مع من وثق بهم مثل اليزابيت ليعبّر عن مشاعره و”عن قواعد حفظ صحّته، عن ذكاءه وعن سلوكه، عن صداقاته وعن حياته، وعن مشاعر السعادة والألم، عن مشاغله اليومية، عن عزمه الرحيل إلى بلد وعن رغبته في البقاء، وعن مرضه الخ. يقول ديكارت في إحدى رسائله لإليزابيت:” لقد تشرفت بتسلّمي رسالة جلالتكم، وما جاء فيها من رغبتكم في أن أعلم بواسطته، بنجاح سفركم ووصولكم بسرور إلى مكان، فضلا عمّا تحفلون فيه من الاحترام والتبجيل من لدن أقربائكم ، يبدو لي أنّ لكم فيه من الخيرات ما نستطيع أن نأمله في حد معقول في هذه الحياة” ( رسالة الى اليزابيت نوفمبر 1646) ويضيف في معرض رسالة أخرى :” أدع نفسي هنا للذّة محاورتك” (رسالة 29 نوفمبر 1649) أو أن يتحدّث إليها عن مرضه:” لقد ورثت من أمّي سعالا حادّا واصفرارا لازمني حتى بعد سن العشرين وقد نبّهني الأطباء إلى موت مبكّر”( رسالة ماي او جوان 1645).

        وإذا كان ديكارت بخلاف سبينوزا، يجد في الرسالة مناسبة للتحرّر من ضوابط التفكير المنهجي والانسياق في القول وفي فنونه بحريّة وجرأة والسماح لنفسه بالحديث في مواضيع شتّى، الأمر الذي يجعل رسائله حميميّة لا يتردّد فيها عن الحديث عن مشاغل اليومي (عن نظام يومه وإيقاعه الرتيب، عن طعامه وغيره) ولكن في إطار احترام الآداب العامة وبلغة لبقة وجميلة ومنتقاة، وكان كثيرا ما يعبّر لإليزابيت عمّا تمنحه رسائلها من الراحة والتنفيس (ملمّحا بهذا إلى وظيفتها العلاجية النفسية إذ يقول لها :” تصلح رسائلك دوما ترياقا لكآبتي” ويضيف :” باعترافي بك أفضل طبيب لروحي، أكشف لك بكلّ حريّة تخيّلاتي، وأرجو،كما جاء في قسم ابيقراط، أن تمنحيني الدواء دون نشرها ” رسالة بتاريخ 21 ماي 1643)، لكنّه مع ذلك تجده شديد الحذر في كتابة مؤلفاته الفلسفية أو العلمية منتبها إلى صرامة المنهج وإلى مقاصد القول حتى لا يساء فهمه أو يؤول تأويلا يجلب له الويلات وتأجيج عداوات كثيرة يتحاشى مجابهتها، حتى يبلغ به الأمر أحيانا إلى الوقوع في “اشتباهات”( وهو رجل المنهج الرياضي الصارم) ربّما كانت، من باب التقيّة و التضليل لخصومه عن إدراك نتائج أفكاره، كما في شأن منزلة “الإله”، الذي تؤسّس الذات يقينها به بفعل التفكير في نفسها لا بفعل الإيمان، حتّى لكأنّها في النهاية لا تحتاجه حقّا، مبدأ لليقين وهي التي لا تتردّد عن الشكّ في كل شيء. إنّ شخصية ديكارت الفيلسوف في مؤلفاته هي غيرها في رسائله، وقد تحرّر أكثر وامتلك من الجرأة ما يسمح له بقول ما لا يقدر على قوله في كتبه التي تنشر وتتداول ويراقبها العدوّ والصديق. وبغضّ النظر عن هذا، فإنّ رسائل ديكارت كما سبينوزا تمثّل مادّة غنيّة لمعرفة أحوال الرجلين في سكونها وتقلّباتها، ومعيشهما النفسي والاجتماعي، في إيقاعه اليومي المتراوح بين الاضطراب والمعاناة حينا وبين الهدوء والسكينة حينا آخر، شان أيّ الإنسان في يومه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. و تفتح رسائلهما أيضا نافذة على الفلسفي عند كليهما، على محتوى فلسفي على غاية من الأهمّية. ذلك أنّ ما يفسّر كثرة رسائل ديكارت، والتي تقدّر بنصف مقدار مؤلفاته تقريبا، ليس حديثه عن مشاغل اليومي فحسب، بل أيضا حرصه الشديد على الشرح و” التعليق” إن شئنا، على ما يطرح في مؤلفاته من أفكار وإجاباته عما يرد إليه في الرسائل من أسئلة أتباعه وأصدقاءه، وردوده على بعضها. نلمس هذا في أغلب رسائله مع هويجانزHuygens  في مسائل علمية  فيزيائية وغيرها أو رسائله مع الأب مارسان وخاصّة رسائله مع إليزابيت والتي خصّها بنصيب كبير تضمّن قولا في شتى المسائل الفلسفية والعلمية والفنية والأخلاقية …إلى حدّ يجعل من  رسائله عموما، نصوصا لازمة لفهم مضامين مؤلفاته، من أفكار ربّما بدت ملتبسة أو عسيرة على الفهم عند البعض. فتجده يستغل الرسالة مناسبة لتفصيل القول فيها وتبسيط الشرح والتفسير.لتاخذ الرسالة أحيانا ( كما هو حال بعض رسائله إلى اليزابيت) بعدا تعلمّيا وبيداغوجيا. وهذا شأن كثير من الفلاسفة في مؤلفاتهم وفي مراسلاتهم (أفلاطون في حواراته على سبيل المثال). هكذا تصبح مراسلات ديكارت ( أغلبها على الأقلّ) أثرا “فلسفيا” قائما بذاته لا يمكن لدارسي فلسفة ديكارت الاستغناء عنها. فلا يمكن مثلا فهم التأمل السادس من “تأملات ديكارت” فهما سليما، حيث يتحدث فيه عن علاقة النفس بالجسد من دون ما جاء في رسائله لإليزابيت حول الموضوع ذاته (رسالته إلى اليزابيت ماي أو جوان 1645 ورسالته بتاريخ جويلية 1644 حول المرض) وقد لا نفهم جيدا محتوى كتابه عن “الانفعالات” من دون ما جاء أيضا في رسائله مع إليزابيت من حديث رائع عن الانفعالات وآثارها على النفس والجسد ( رسالة ديكارت باريخ جوان 1645 و15 سبتمبر 1645 ..)،بل إنّ كتابة “مقالته في الانفعالات” لديكارت لم تكن كما يقول الدارسون سوى ثمرة لمراسلات مع ايزابيت حول المسألة وسؤالها ديكارت عن الانفعالات وعن علاقة النفس بالجسد في رسالة بتاريخ ماي 1645 جاء فيها:” كيف يمكن للنفس وهي غير مادية أن تحرّك الجسد أو تتأثّر به؟”. و يشهد ديكارت بهذا، حينما يقول لإليزابيت وهو في خضم تحريره “لمقالته ” :” إنّها مادّة(أي الانفعالات) لم يسبق لي دراستها، وهذه المقالة الصغيرة التي أرسلها إليك ليست سوى النسخة الأصلية”. (رسالة بتاريخ ماي  1646، ورسالته الشهيرة لها بتاريخ 28 جوان 1643). وكذا الشأن بالنسبة إلى مسائل أخرى كـ”الموسيقى ” والتي ألّف عنها ديكارت كتابه ” موجز في الموسيقى” سنة 1618 ، تأثرا بلقائه ومراسلاته مع صديقه ” اسحاق بيكمان العالم الهولندي سنة 1617، الذي أعجب بآرائه وأعماله في الموسيقى. وبالمثل حينما يتعلق الأمر بالمسائل الاستيتيقية، فقد كان لرسائل الأب مارسان مثلا وما جاء فيها من أسئلة حول الموضوع، عن ” طبيعة الجميل ” (رسالة إلى مارسان بتاريخ 18 ماس 1630)، أثره في ما كتبه ديكارت ” في التأملات ” وتحديدا “التأمل السادس” حول المسألة. بل يصل الأمر بالدارس، لو طلب وجهة نظر ديكارت في بعض  الموضوعات، إلى الرجوع إلى مراسلاته فحسب أو بالأساس. مثلما هو الشأن خاصّة بتصوّر ديكارت “للأخلاق”، مثلا والذي ظلّ مشروعا غير منجز. ففي غياب مؤلف ديكارتي خاص بالمسألة، إلا من فقرات منثورة هنا وهناك عمّا سماه ” أخلاقا مؤقّتة” ( في ” التأملات” أو ” مقالة في الإنسان” أو ” مقالة في الانفعالات”)، تكون رسائل ديكارت لإليزابيت بالخصوص مرجعا أساسيا حول المسألة، حيث تضمنّت جوانب لهذا التصوّر أو مشروع “الأخلاق النهائية” بعبارته. ولا يجب أن تفوتنا الإشارة إلى ما بات يسمّى لدى الدارسين “بالمراسلات العلمية” لديكارت، مراسلاته حول مسائل الفيزياء والبصريات والفلك وغيرها ( مع هويجانز والأب مارسان وموران..). يقول أحد الدارسين عن هذا المراسلات :”لسنا إزاء نصوص أدبية بالمعنى الحرفي للكلمة (..) ومع ذلك فبعض من هذه المراسلات، لجاسندي وديكارت مثلا، قد نشرت بوصفها آثارا قائمة بذاتها (…) ولهذه الغاية قرأت بعناية وأعيدت دراستها” (6).

   وغير بعيد عن ديكارت الذي عرفه بالتأكيد و ناقش أفكاره، كان لـ سبيوزا نصيبا بارزا، على قلّة مراسلاته، في بسط كثير من آراءه الفلسفية في رسائله التي تبادلها مع “شوللر” Schuller مثلا ( الرسالة58 –  1674) ، والتي تناول فيها مسألة الحرية والاختيار الحرّ. آراء ضمّنها في كتابه ” الإيتيقا” ( 1675). وقد  كان لمراسلاته مع “وليام فان بليمبورغ”  ما بين  1664- 1665 أثرها في بلورة أفكاره حول اللاهوت والسياسة ، حيث تناولت هذه المراسلات مسائل لاهوتية ودينية ( مسألة الإله ووحدة الوجود …) في إطار نقاش عبر الرسائل في هذه الفترة وحتى بعدها 1667، أفضت إلى تأليف كتابه البارز “مقالة في اللاهوت والسياسة” (1668). ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى رسالة مطولة كتبها سبينوزا إلى ” بليمبورغ” (11 نوفمبر 1675) تناول فيها بالتحليل آراءه عن الكنيسة والكتاب المقدس مستندا إلى التاريخ. ثم رسالته الطويلة على غير عادته، إلى “جاكوب اوستان” حول ” النبوة والمعجزات ومسائل الدولة والمجتمع المدني،آراء توسّع في تحليلها في كتابة عن “السياسة” وفي ” مقالة في اللاهوت والسياسة”. ”  بالإضافة إلى ذلك ساهمت هذه المراسلات في تأليف سبينوزا كتابه عن “مبادئ الفلسفة الديكارتية” و” أفكار ميتافيزيقية”، نتيجة لأسئلة طرحها صديقه بليمبورغ و”هيود” Hudde عن أفكار ديكارت  ويمكن أن نشير هنا تحديدا إلى رسالة سبينوزا إلى  “هيود” بتاريخ 10 افريل 1666 ورسالته الى بولمبورغ بتاريخ 20 نوفمبر 1665 ، وخاصة الرسالة المطولة لبليانبرغ بتاريخ19 فيفري 1665، حول النفس والجسد وفكرة الماهية والأفكار الفطرية لدى ديكارت). وفضلا عن ذلك فقد بسط سبينوزا في رسالة مطوّلة  أفكاره الفيزيائية سواء من خلال مناقشه آراء ديكارت  حول البصريات ( رسالة إلى جاريك جاللاس بتاريخ 3 مارس 1667 مثلا)، أو بمناسبة أسئلة طرحت عليه حول ضغط الماء في الأنبوب مثلا (رسالة إلى جالاس بتاريخ 5 سبتمبر 1669). أو بمناسبة مناقشة كتاب “لبويل ” حول الفيزياء.

     وإذا كان المقام لا يسمح بتعداد أمثلة كثيرة عن القيمة الفلسفية لرسائل كل من ديكارت وسبينوزا، فقد بات من المؤكّد لدى الدارسين أهمية هذه الرسائل في فهم وتأويل المضامين الفلسفية لمؤلفاتهما. فضلا عن قيمتها البيوغرافية والوثائقية التي تسمح ” بمعرفة حسية لأصحابها” . فالرسائل ” وحدها تمنحنا سبينوزا أو ديكارت في شخصه”. إذ يكفي “وصف رسائل سبينوزا حتى نفهمه وحتى نرى “أنّ فلسفته هي دوما حوار وفي ذات الوقت عزلة”. ويكفي الاطلاع على رسائل ديكارت حتى نكتشف ديكارت الإنسان في نمط حياته وأصدقاءه وفي حالات قوته وضعفه في كآبته وفرحه في صحته وسقمه. إنّ المراسلات الفلسفية في تنوّعها وكثرتها قديما وحديثا، تمثل نافذة واسعة نطل من خلالها على ضرب من الكتابة متميزة في بناءها تطرح نصوصا بل آثارا لـ”فلسفة إنسانية”، يندمج فيها اليومي في عرضية مشاغله وسذاجتها، بالفكري والفلسفي وهمومه الإنسانية الكونيه. نصوصا تظل محافظة على راهنيتها وطرافتها في عصر البريد الإلكتروني، من حيث هي فضاء فريد للتفكير و الالتقاء بالفيلسوف– الإنسان ومشاركته همومه عبر القراءة والتأويل والترجمة والتعاطف.


  • الإحالات:
  • شوفليي دو جوكور ” رسائل العلوم”” الموسوعة الجزء 9 1765 ص 411
  • مقدمة “رسائل مختارة” من “الأعمال الكاملة” لديكارت – مكتبةلابلياد ص 905 قليمار
  • الأعمال الكاملة لسبينوزا ، لالبليآد ص1047
  • كتاب ” جنون ولامعقول القرن 17م 2010 كارين أنفو عدد 247 ص 192 puf
  • مقدمة الرسائل في الاعمال الكاملة لديكارت لا لبليياد ص 906
  • سيلفي توسيق  “المراسلات العلمية بوصفها إتيوبيا” الجزء 6 منشورات جامعة سان ايتيان 2002 ص38

المراجع:

  • الأعمال الكاملة لديكارت وسبينوزا مكتبة لابلياد 1953- 1954 نشر قاليمار.